ركائز القوة الأميركية بين هنتنجتون وجوزيف ناي

د. عصــام عبد الشافي
في عام 1775 بدأت حروب الاستقلال الأميركية، وصدر إعلان الاستقلال في الرابع من يوليو 1776، بعد اتحاد 13 ولاية أميركية، وفي عام 1789 تم إقرار الدستور الأميركي وانتخاب جورج واشنطن كأول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، ومع بداية الانطلاق، بدأ تأسيس الأساطير حول الدولة الوليدة.
واحدة من هذه الأساطير هي “الاستثنائية الأميركية” تلك الأسطورة التي تقوم على أن الولايات المتحدة دولة فريدة، دولة استثنائية، تحميها المحيطات، معزولة عن أوروبا وآسيا ومتربعة على عرش النصف الغربي للكرة الأرضية، وأن هذا التموضع الجيوبوليتيكي قد ضمن لها تفوقًا اقتصاديًا دون أن تسعى إلى تحقيقه، وعزز إيمانًا بقدرة الأميركيين على التحرك بحرية، وافتخارًا بقيم ومبادئ تجعلهم، وفق منظورهم الخاص بأنفسهم، مؤمنين بأنهم دوما على حق.
ومع بدايات الانطلاق نحو التوسع الداخلي، وضم ولايات جديدة للاتحاد الوليد، بدأت تظهر “ثلاثيات القوة” في الفكر السياسي والعقل الاستراتيجي الأميركي، بداية من ثلاثية “التاجر والعسكري والمبشر” التي تقوم على الجمع بين الاقتصاد والتجارة وتوسيع الأسواق والاستثمارات (التاجر) والقوة العسكرية والتصنيع الحربي وبناء ترسانات من القواعد العسكرية والأساطيل البحرية (العسكري) ونشر القيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات الأميركية (المبشر).
مرورًا بثلاثية “القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة الذكية” في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى ثلاثية “العصا والجزرة والعسل” في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
اختلفت المسميات لكن ظل الجوهر واحدًا، والرؤية الحاكمة واحدة، وهي ترسيخ الهيمنة الأميركية على العالم الجديد في القرن الأول من عمر الكيان الوليد، ثم الهيمنة على العالم، بداية من القرن الثاني من عمره وحتى الآن.
وفي إطار هذه الثلاثيات برزت أسماء عدد من المفكرين والمنظرين الأميركيين الذين رسخوا لهذا المفاهيم، وجمعوا بين القدرة على التنظير، ونقل المفاهيم والنظريات إلى خطط وسياسات عبر مواقعهم في دوائر صنع القرار الأميركي، ومن أهم هؤلاء المفكرين “صمويل هنتنجتون” (1927 – 2008) و”جوزيف ناي” ().
أولاً: صامويل هنتنغتون: من الجندي والدولة إلى صدام الحضارات
صامويل هنتنغتون هو واحد من أهم مفكري العلوم السياسية والعلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين، وأنه ليس فقط صاحب نظرية صدام الحضارات باعتبارها من أهم الركائز التي يقوم عليها المنظور الحضاري في العلاقات الدولية، لكنه أيضًا صاحب نظرية “السيطرة المدنية” أو “الاحتراف العسكري” التي تمثل إحدى أهم نظريات حقل العلاقات المدنية العسكرية، وأن هذه النظرية تم وضعها في أول كتاب قام هنتنتجتون بتأليفه في حياته عام 1957، وأنها ما زالت حتى اليوم محل اهتمام وتحليل من المتخصصين في هذا الحقل.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، حيث يعد هنتنغتون من أعمدة نظريات التحول الديمقراطي والنظم السياسية والسياسة المقارنة والتحديث السياسية والتنمية السياسية في العالم، كما أنه أحد أهم المؤسسين للمنهج المؤسسي في العلوم السياسية، وأهم مُطوري المؤسسية السياسية في القرن العشرين، وصاحب الاسهامات البارزة في الدراسات الاستراتيجية والقومية والهوية.
تقول السيرة الذاتية لصامويل هنتنغتون أنه ولد في 18 إبريل/ نيسان 1927 في مدينة نيويورك الأميركية، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة ييل في عام 1946، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وحصل على درجة الماجستير من جامعة شيكاغو عام 1948، وبدأ العمل بالتدريس عام 1949 في جامعة هارفارد وهو في الثانية والعشرين من عمره، وحصل على الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1951، وكان عمره 24 عامًا فقط.
شغل منصب المدير المساعد لمعهد دراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا، بين عامي 1959 و1962، ومنصب رئيس قسم الحكومة في جامعة هارفارد من 1967 إلى 1971، ومدير مركز الشؤون الدولية بالجامعة من 1978 إلى 1989، ورئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية من 1986 إلى 1987.
كما أسس معهد جون م. أولين للدراسات الاستراتيجية، وكان مديرًا له لمدة عشر سنوات من 1989 إلى 1999، ورئيسًا لأكاديمية هارفارد للدراسات الدولية والإقليمية من 1996 إلى 2004.
كذلك عمل هنتنغتون منسقًا للتخطيط الأمني في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر عامي 1977 و1978، وعضوًا في اللجنة الرئاسية للاستراتيجية المتكاملة طويلة المدى في ظل إدارة الرئيس ريجان في الثمانينيات من القرن العشرين، وتقاعد من التدريس عام 2007، بعد 58 عامًا من العمل الأكاديمي في جامعة هارفارد، وتوفي في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2008، عن عمرٍ يناهز 81 عامًا.
(1) صامويل هنتنغتون وعالم الأفكار
ألّف هنتنغتون وشارك في تأليف وتحرير نحو 17 كتابًا وأكثر من 90 مقالًا أكاديميًا، وتمحورت أبحاثه وأعماله حول الحكومة الأميركية، والتحول الديمقراطي، والدراسات الاستراتيجية، والعلاقات المدنية – العسكرية، والسياسة المقارنة، والتنمية السياسية والتحديث السياسي والمؤسسية السياسية.
وقد انطلق هنتنغتون في عالم أفكاره من واقع السياسة الأميركية كنقطة محورية في اسهاماته الفكرية، حيث كانت أطروحته للدكتوراه حول لجنة التجارة بين الولايات الأميركية، لكنه سرعان ما انخرط في دراسات معمقة لمجموعة واسعة من القضايا العالمية وطرح نظريات فكرية ومناهج بحثية واقترابات منهجية للتعامل مع هذه القضايا وما تشهده من تحولات وتطورات.
وأشرف على توجيه عدد كبير من أبرز المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين، كما ساهم في بناء مؤسسات فكرية راسخة، ساعده على ذلك قدرته على الجمع بين النظرية وتطبيقها، والدمج بين عالم الأفكار وعالم المؤسسات، فبعد أن عمل مستشارًا للسياسة الخارجية لنائب الرئيس هيوبرت همفري في حملته الرئاسية عام 1968، شارك هنتنغتون مع وارن مانشيل في تأسيس مجلة “فورين بوليسي” (السياسة الخارجية) الفصلية عام 1970، والتي أصبحت واحدة من أهم الدوريات العلمية في العالم في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية لأكثر من نصف قرن حتى اليوم.
(2) هنتنغتون بين الاحتراف العسكري وترسيخ الديمقراطية
كان كتاب هنتنغتون الأول بعنوان “الجندي والدولة: نظرية وسياسات العلاقات المدنية – العسكرية”، ونشره عام 1957، ويعتبر هذا الكتاب الأساس لنظرية “السيطرة المدنية” ونظرية “الاحتراف العسكري” في العلاقات المدنية العسكرية، وما زالت هذه النظرية حتى اليوم رغم مرور نحو 70 عاما على صدور الكتاب مصدر إلهام وبحث للعديد من المهتمين بهذا المجال في مختلف دول العالم.
ورعم ظهور العديد من النظريات في هذا الحقل مثل نظرية التوافق ونظرية التبعية، وسعي هذه النظريات لتفكيك مقولات هنتنغتون حول إدارة العلاقات المدنية العسكرية، إلا أن اسهاماته ما زالت صلبة ومتماسكة وصالحة للتطبيق في العديد من التجارب والحالات، بل ويمكن النظر إليها باعتبارها النموذج الذي تطمح إليه معظم النظم السياسية وخاصة في مراحل ما بعد النزاعات والأزمات، لأن من شأن تطبيق وترسيخ مقولات هذه النظرية ضمان سيطرة القوى المدنية على أركان العملية السياسية، وتفرغ القوى العسكرية للدور الوظيفي المنوط بها باحترافية في حماية الدولة وتأمينها في مواجهة الأخطار والتحديات التي تواجهها.
وبعد نحو 12 عامًا من صدور هذا الكتاب، جاء عمل آخر لا يقل أهمية لصمويل هنتنغتون صدر عام 1969 بعنوان “النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة” وهو من بين أكثر كتب هنتنغتون تأثيراً وانتشارًا وتأصيلا لنظريات التنمية السياسية والتحديث السياسي والسياسة المقارنة، وخاصة في نظم ما بعد الاستقلال.
حيث كان الكتاب بمثابة تحد للأفكار والنظريات والمعتقدات التقليدية السائدة التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حول التنمية السياسية والتحديث السياسي، ودور المؤسسات السياسية في تحقيق هذا التحديث، مؤكدًا على أن غياب النظام السياسي والسلطة كانا من أخطر العيوب في العالم أجمع، وأن درجة المؤسسية في النظام السياسي هي الأهم وليس شكل النظام السياسي.
وأكد هنتنغتون على أنه في كثير من المجتمعات المتغيرة، ليست المشكلة في إجراء الانتخابات ولكن في بناء المؤسسات السياسية الراسخة التي تشكل الضمانة الأساسية لبناء النظم السياسية، وأنه في كثير من الحالات، إن لم يكن معظمها، فإن الانتخابات الشكلية في البلدان التي تشهد تحولات سياسية جذرية، قد تُؤدي إلى تعزيز القوى الاستبدادية والتسلطية بل والرجعية التي يمكن أن تهدم هياكل السلطة العامة التي كانت قائمة قبل الانتقال، وانتهى إلى أن أسباب الاضطراب والعنف في الدول النامية لا ترتبط فقط بطبيعة النظام الحاكم، بقدر ما ترتبط في جزء كبير منها بالتغير الاجتماعي السريع وظهور مجموعات سياسية جديدة، وبطء تطور المؤسسات السياسية بالتزامن مع المتغيرات الاجتماعية.
وخلص هنتنغتون إلى أن المجتمعات السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفيما بعد النزاعات ومع السعي نحو التحديث السياسي، تزداد مؤشرات التعقيد والاضطراب وعدم الاستقرار أمام الفجوات التي يمكن أن تنجم عن سياسات التحديث، وأنه إذا لم تُواكب عملية التحديث الاجتماعي عملية تحديث سياسي ومؤسسي، من شأنها إنتاج مؤسسات سياسية قادرة على إدارة تداعيات وإشكاليات التحديث، فقد تكون النتيجة السقوط في دائرة العنف والفوضى والاتجاه نحو تعزيز قبضة الديكتاتوريات.
ومن هنا، وترسيخاً لتوجهاته فيما يتعلق بنظريات ومناهج واقترابات التحول الديمقراطي في النظم السياسية، حذّر هنتنغتون من خطر الانتقال السريع في الحكومات الجديدة نحو الديمقراطية، داعيًا بدلًا من ذلك إلى ضرورة الانتقال التدريجي وإطالة فترة الانتقال من الحزب الواحد إلى التعددية السياسية، ومن الديمقراطية الشكلية إلى الديمقراطية الكاملة، وهي مجموعة أفكار بدأت بورقة بحثية مهمة نشرها عام 1973 بعنوان “مقاربات لتخفيف الضغط السياسي”.
ثم جاء كتابه الصادر عام 1991 بعنوان “الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين”، ليكون بمثابة الرؤية الشاملة، القائمة على استعراض العديد من التجارب والخبرات، حول شكل النظم السياسية، وأنماط التحول بين الديمقراطية والديكتاتورية، والمسارات والسياسات التي من شأنها الإطاحة بالديكتاتوريات وبناء وترسيخ الديمقراطيات.
فقد تناول هنتنغتون نحو 60 تجربة انتقال سياسي في أوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا الشمالية، فيما اسماه الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي والتي كانت بدايتها، وِفقًا له، من الثورة الشعبية التي شهدتها البرتغال عام 1974، والتي تعرف بثورة القرنفل أو ثورة 25 إبريل/ نيسان 1974، والتي انهت حكما ديكتاتوريًا أرساه أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، امتد بين عامي 1932 و1974، وصولاً لسقوط سور برلين عام 1989، والانتقال الديمقراطي الذي شهدته دول أوروبا الشرقية، والجمهوريات السابقة التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي بعد انهياره.
(3) هنتنغتون من صدام الحضارات إلى سؤال الهوية
اشتهر هنتنغتون عربيًا وإسلاميًا بآرائه حول صراع الحضارات، حيث جادل بأن الصراع العنيف في عالم ما بعد الحرب الباردة لن ينشأ من الخلافات الأيديولوجية بين الدول القومية، بل من الاختلافات الثقافية والدينية بين الحضارات الكبرى في العالم، وقام بتقسيم العالم إلى 9 حضارات رئيسية سيكون بينها الصدام والصراع على مستويات مختلفة هي: الحضارة الغربية، الحضارة اللاتينية، الحضارة الإسلامية، الحضارة الأفريقية، الحضارة الأرثوذكسية، الحضارة الهندوسية، الحضارة البوذية، الحضاراة اليابانية، والحضارة الصينية.
وكانت بداية أطروحات هنتغتون حول صدام الحضارات في مقال نشره لأول مرة عام 1993 في مجلة الشؤون الخارجية، ثم قام بتوسّيع أطروحته والتعمق في الأفكار والمضامين الخاصة بها في كتاب “صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي”، الذي نُشر عام 1996، وتُرجم بعد ذلك إلى 39 لغة.
وفي أطروحته يرى هنتنغتون أن الاختلافات أو الخصائص الثقافية لا يمكن تغييرها كالانتماءات الآيديولوجية، ففي الصراعات الأيديولوجية، يمكن للناس أن يختاروا الاتجاه الذي ينتمون إليه كما يمكنهم اختيار الجنسية التي يحملونها، ويستطيع الشخص أن يحمل جنستين في وقت واحد، وينتمي لتيارات سياسية متعددة، لكنه لا يمكن أن يكون مسلماً ومسيحيًا في نفس الوقت، مؤكدًا على أن العوامل الثقافية يمكن أن تساعد في بناء تكتلات اقتصادية متماسكة وبالتالي نمو هويات إثنية وثقافية للحضارات لكن ذلك قد يصطدم مع الانقسامات والهويات الدينية.
واستشهد هنتنغتون بالنزاع في يوغوسلافيا السابقة، حيث أظهر الغرب دعمه لمواطني البوسنة أمام ما تعرضوا له من مجازر تطهيرية على يد الصرب، دون أن تقوم الدول الغربية بإجراءات عملية تمنع وقوع المجازر، هذا في الوقت الذي بذلت فيه هذه الدول جهودًا استثنائية للاعتراف بكرواتيا وسلوفينيا، كونهما دولتان بأغلبية كاثوليكية، بينما الصرب أرثوذكس، تدخلت روسيا للقتال بجانبهم استنادًا لهويتهم الدينية، كما تدخلت إيران وعدد من الدول الإسلامية لمساعدة البوسنة استنادًا لهويتها الدينية كذلك.
وانتهى هنتنغتون إلى أن النضال والسعي العسكري والاقتصادي للقوة هو الذي سيحدد شكل الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى، وأن قيم الديمقراطية وسيادة القانون والسوق الحر قد لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين أو الأرثوذكس ويمكن أن تؤدي لردود فعل سلبية، مؤكدًا على أن انتشار السلع الاستهلاكية الغربية ليس مؤشرًا على انتشار الثقافة الغربية، وليس ترسيخًا للحضارة الغربية على حساب الحضارات الأخرى.
ودافع هنتنغتون عن أطروحته حول صدام الحضارات، والتي رأى البعض أنها نداء للغرب لمحاربة الحضارات غير الغربية، ويقول إنه أراد منع اقتتال الحضارات وذلك عبر تذكير الغربيين بأن ثقافتهم ليست عالمية، وأن المجتمعات غير الغربية ستكون بحاجة إلى مجتمع عالمي متعدد الثقافات لضمان الأمن العالمي، فالمطلوب هو العالمية وليس الإمبريالية.
وذكر هنتنغتون أن الغرب فاز بريادة العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ليس لتفوُّق أفكاره أو قيمه، بل لتفوُّقه في تطبيق العنف المُنظَّم، وأنه غالبًا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسونها أبدًا، مؤكدًا أن العولمة ستولِّد الصراع وليس الوحدة، وأن القوة الصلبة ضرورية لدعم القوة الناعمة، وأن القوة الناعمة تكون قوة فقط عندما تكون مدعومة بالقوة الصلبة.
ووفقا لهنتنغتون، فإن التحديث والتغريب ليسا الشيء نفسه، فلا يقبل الأجانب الذين يستهلكون السلع الغربية بالضرورة القيم الغربية، مُشيرًا إلى أن جوهر الحضارة الغربية هو “الماغنا كارتا” وليس “الماغنا ماك” (في مقارنة بين أول عقد اجتماعي مكتوب في تاريخ الدول الغربية في بريطانيا وسلسلة مطاعم البرغر الأميركية الشهيرة ماكدونالدز)”.
مؤكدًا على أن تقدُّم الديمقراطية بعد الحرب الباردة لا يعزز القيم الأميركية، لكنه يفتح المجال للثقافات المتنوِّعة عبر صناديق الاقتراع مثلما حدث مع العديد من تجارب التحول الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية والعديد من العالم الثالث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
إلا أن صمويل هنتنغتون، وبعد التأسيس النظري والفكري المهم للمنظور الحضاري في العلاقات الدولية وموقع الحضارات من نظريات الصراع، وأمام ما تعرضت له الولايات المتحدة من هجمات في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، بدأ الاهتمام بتحديات الهوية الأميركية، وأصدر كتابًا بعنوان “من نحن: التحديات التي تواجه الهوية الوطنية الأميركية”، ودرس فيه مصادر الثقافة السياسية الأمريكية والتهديدات الناشئة للهوية الوطنية الموحدة.
وذكر أن العقيدة الأميركية هي جوهر الهوية الأميركية، ومبادئها هي تجسيد لقيم الحرية، المساواة، الفردية، الحكومة التمثيلية، والملكية الخاصة، وأنه من بين كافة الدول الأوروبية والمستعمرات التي قامت بتأسيسها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي طورت هذه العقيدة القائمة على أساس الإصلاح البروتستانتي وهو ما يعني أن الولايات المتحدة كانت مستعمرة إنجليزية، لإن المؤسسات السياسية والقانونية للمستوطنين ارتكزت على المؤسسات والممارسات الإنجليزية وخاصة البروتستانتية أواخر القرنين 16 و17 في إنجلترا، وهو ماعزز قيم الفردية والمساواة وحرية الرأي في الولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة نشأت على أسس التنوير والإصلاح البروتستانتي، وعلى الأميركيين استيعاب ذلك، وعلى المهاجرين إلى الولايات المتحدة، تعريف أنفسهم وفق هذه الثقافة لأميركية عوضاً عن مواطنهم الأصلية.
ويرى هنتنغتون أن مستقبل الهوية الأميركية سيتأرجح بين أربعة مسارات، الأول فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية، لكن هذا سيناريو مثالي يصعب تحققه، والثاني تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية، إنجليزي – إسباني ، أمام زيادة أعداد ونفوذ الهجرات من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، أم السيناريو الثالث فهو ثورة الأميركيين البيض لقمع الهويات الأخرى، وهذا السيناريو احتمال قائم، وقام بدراسة احتمالات وقوعه ودوافعه بالتفصيل، أم السيناريو الرابع فهو إعادة تأكيد الهوية الأميركية من قبل الجميع والنظر لأميركا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنغلو – بروتستانتينية والتراث الأوروبي والعقيدة السياسية الأميركية كأساس لوحدة كل الأميركيين.
وفي مواجهة هذه السيناريوهات طرح هنتنغتون رؤية بديلة لإعادة بناء الهوية الأميركية تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية على المجتمع الأميركي التي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأميركية، أولها عودة الأميركيين للدين المسيحي وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية، وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام في المجتمع الأميركي، من زاوية أن العداء للإسلام والمسلمين قد يدفع باتجاه توحيد الأميركيين، وترسيخ قيم هويتهم.
إلا أن السنوات العشرين التالية لصدور هذا الكتاب لم تشهد هذا الحجم من الصراع المتخيل بين المسلمين والأميركيين، بل إن أحداث طوفان الأقصى التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد عززت من اتجاهات الرأي العام الأميركي الداعم للحقوق الفلسطينية، والتعاطف مع الفلسطينيين في مواجهة سياسات الإبادة الجماعية، وكانت جامعة هارفارد التي عاش هنتنغتون في رحابها أكثر من نصف قرن، من بين البيئات الداعمة لهذا الحراك والفاعلة في توجيهه.
(4) من هنتنغتون إلى ترامب.. جدل النظرية والتطبيق
مع صعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة في الولاية الأولى يناير/ كانون الثاني 2017، أو عودته في الولاية الثانية، يناير/ كانون الثاني 2025، وتصريحاته المستمرة عن “أميركا أولا”، وسياسات الهيمنة الأميركية، والهوية الوطنية الأميركية، وسياساته ضد اللاجئين والمهاجرين سواء من أميركا اللاتينية أو من دول العالم الإسلامي، إلا وربط الكثيرون بين أفكار صامويل هنتنغتون وسياسات وممارسات دونالد ترامب.
فعندما يدعو ترامب دول الغرب إلى أنْ تستجمع الشجاعة، والإرادة للدفاع عن حضارتها وعندما يصرُّ على أنْ تقبل المهاجرين الذين يشاركونها قيمها ويحبون شعبها فحسب، وعندما يحث الحلفاء عبر الأطلسي على عدم نسيان من هم، فإن هذا وكأنه صدى لما ذكره هنتنغتون في كتابه عن صدام الحضارات 1996، وعن الهوية الأميركية 2004، وكذللك كتابه الأقدم المعنون “السياسة الأميركية: وعد التنافر”.
والذي تناول فيه الفجوة بين قيم العقيدة الأميركية (الحرية، والمساواة، والفردية، والديمقراطية، والدستورية) وجهد الحكومة للارتقاء إلى مستوى هذه القيم بوصفها مصدر أزمة الهوية في الحياة الأميركية، وأن هذا التنافر يكون كامنًا، وفي أوقاتٍ أخرى يصبح واضحًا بدرجة وحشية، يمكن أن تنال من أمن واستقرار المجتمع.
وأمام هذه المقولات وغيرها ذهب بعض المفكرين الأميركيين إلى درجة القول إن “هنتنغتون هو نبي ترامب” لأن رؤيته تنعكس جزئيًا في الكثير من تصريحات وسياسات وممارسات ترامب، ولأنه يفهم جيدًا خطر هذا النمط من ممارسات ترامب السياسية، هذا بجانب تلاقيهما معا في نقطة مركزية، هي وجهتي نظرهما لمفهوم “لتميز الأميركي”، فهنتنغتون مثل ترامب أراد لأميركا أنْ تكون عظيمة، وسعى لنحو نصف قرن لاستعادة القيم والهوية التي كان يظن أنها لم تجعل أميركا فقط “دولة عظيمة” لكن أيضًا “دولةً متميزة”.
ومع هذا التشابه في الأفكار، يبقى السؤال عن الواقع الأميركي اليوم بعد مرور نحو 70 عامًا على صدور كتاب هنتنغتون “الجندي والدولة” ودعوته للسيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية وما يقوم به ترامب من تفكيك لبنى وهياكل هذه المؤسسة؟
وكذلك بعد مرور نحو 30 عامًا على كتابه “صدام الحضارات”، وما تشهده أوروبا اليوم من تفكيك داخلي على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية من ناحية، ومحاولات ترامب تفكيك عرى التواصل عبر الأطلسي واستهداف العلاقات الأوروبية الأميركية، وركيزتها الصلبة المتمثلة في حلف الناتو؟
وأيضًا بعد مرور أكثر من 20 عامًا على كتابه “من نحن؟” وما يقوم به ترامب عمليًا من استهداف ممنهج للمهاجرين اللاتينيين والمسلمين، وإلى أي مدى يمكن أن ينعكس ذلك على مسارات الهوية الأميركية كما استعرضها هنتنغتون في كتابه؟
وهو ما يدفع للقول إن الإجابة الدقيقة على مثل هذه التساؤلات وغيرها تتطلب إعادة القراءة الدقيقة لكتابات صامويل هنتنغتون ليس باعتباره “أهم مُنظِّر لصدام الحضارات” ولكن باعتباره كذلك أهم مُنظِّر “للهوية الأميركية” في القرن العشرين، ومؤسس لواحدة من أهم نظريات العلاقات المدنية العسكرية، وربط هذه القراءة الدقيقة بما يقوم به ترامب من سياسات وممارسات، للإجابة على سؤال أهم: هل ترامب ما كتبه صامويل هنتنغتون؟
جوزيف ناي: القوة الناعمة وترسيخ الهيمنة الأميركية
في كثير من الأحيان قبل أن نقرأ لأحد الكتاب أو المفكرين نكون مهمومين بالبحث عن السير الذاتية حتى نتعرف على من يكتب، وفي المقابل وفي أحيان أخرى لكنها محدودة، نقرأ لبعض الكتاب والمفكرين دون البحث في سيرهم الذاتية، لأن الأسماء في ذاتها أصبحت مصدرًا للثقة ومحلًا الاهتمام بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما يكتبون، فنقرأ حتى تتسع المدارك والأفكار، ونقف على مداخل التحليل والتفسير العميق، ونعرف كيف كان لهؤلاء المفكرين هذا الحجم من الحضور والتأثير.
ومن بين هذه الأسماء تبرز قائمة تضم مجموعة من المفكرين وعلماء السياسة الأميركيين، مثل هنري كيسنجر، صمويل هنتنجتون، جون ميرشايمر، زبيغنيو بريجنسكي، جوزيف ناي، نعوم تشومسكي، فرانسيس فوكوياما، والقائمة طويلة.
ومن داخل هذه القائمة ييرز أحد أهم مفكري العلاقات الدولية في العلاقات الدولية، وصاحب الإسهام الفكري الأهم حول القوة الناعمة والقوة الذكية ودورهما في الدبلوماسية العامة للدولة، وفي تعزيز التعاون بين الدول، المفكر الأميركي جوزيف ناي، الذي توفي في السادس من مايو/ أيار 2025، عن عمر ناهز 88 عامًا.
وفي نعيها لرحيله، كتبت سوزان نوسيل (الرئيسة التنفيذية السابقة لمنظمة القلم الأمريكية) في مجلة فورين بولسي بتاريخ 9 مايو 2025: “لقد ساهم هذا الباحث المتميز، الذي صاغ مفهوم القوة الناعمة، في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية على مدى خمسة عقود، حيث كان ناي وحلفاؤه متمسكين بشدة بفكرة مفادها أن أميركا لا تستطيع أن تحقق الكثير إلا إذا لعبت بأوراقها بحكمة: حشد الحلفاء الأقوياء، والحجج المقنعة، والتمسك بالأرضية الأخلاقية العالية، والتغلب على الخصوم في لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد”.
(1) جوزيف ناي.. السيرة والمسيرة
وُلد جوزيف ناي في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1937 في بلدة زراعية صغيرة بولاية نيوجيرسي، حصل على درجة البكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف من جامعة برينستون، في نيو جيرسي، وتخرج بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى بدرجة البكالوريوس في التاريخ عام 1958، ثم حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد عام 1964، تحت إشراف هنري كيسنجر وجيه كيه جالبرث، وكانت أطروحته للدكتوراه حول التكامل الإقليمي في شرق إفريقيا.
وفي عام 1964، وهو العام الذي حصل فيه ناي على الدكتوراه، انضم إلى هيئة التدريس بجامعة هارفارد، ثم شغل منصب مدير مركز العلوم والشؤون الدولية في كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية (1985 – 1990) والعميد المساعد للشؤون الدولية في هارفارد (1998 – 1992) ومدير مركز الشؤون الدولية في هارفارد (1989 – 1993) وعميد كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية (1995- 2004).
وحكوميًا عمل ناي نائبًا لوكيل وزارة الخارجية للمساعدات الأمنية والعلوم والتكنولوجيا في ظل إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر بين (1977-1979) وترأس مجموعة مجلس الأمن القومي المعنية بمنع انتشار الأسلحة النووية، ومُنح جائزة الشرف المتميزة من وزارة الخارجية عام 1979، وكان رئيسًا لمجلس الاستخبارات الوطني (1993 – 1994) الذي ينسق تقديرات الاستخبارات للرئيس في ظل إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق بل كلينتون، وحصل على ميدالية الخدمة المتميزة من مجتمع الاستخبارات.
كما شغل ناي في ظل إدارة كلينتون أيضًا منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية (1994 – 1995) وحصل على ميدالية الخدمة المتميزة من الوزارة، وفي أكتوبر 2014، عيّنه وزير الخارجية الأميركي جون كيري (في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما) في مجلس الشؤون الخارجية، وهي مجموعة تجتمع دوريًا لمناقشة القضايا الاستراتيجية وتزويد الوزير وكبار المسؤولين في الوزارة بوجهات نظر وأفكار مستقلة.
ترك نحو 17 كتابًا وعشرات الأوراق والمقالات والمشاركات في الدرويات العلمية والمواقع المتخصصة، وتشمل قائمة الكتب التي قام بتأليفها: الوحدة الأفريقية والتكامل في شرق أفريقيا (1965) التكامل والصراع في التنظيم الإقليمي (1971) العلاقات عبر الوطنية والسياسة العالمية (1972) القوة والترابط – السياسة العالمية في مرحلة انتقالية (1977) العيش مع الأسلحة النووية (1983) الأخلاق النووية (1988) حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية (1992) فهم النزاعات الدولية (2007) مفارقة القوة الأمريكية (2003) القوة في عصر المعلومات العالمي (2004) لعبة القوة (2004) قوى القيادة (2008) مستقبل القوة (2011) القيادة الرئاسية ونشأة العصر الأمريكي (2013) هل انتهى القرن الأمريكي؟ (2015) هل للأخلاق أهمية؟ (2020) حياة في القرن الأمريكي (2023).
وتقديراً لاسهاماته العلمية، تم اختياره ليكون زميلًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وزميلاً في الأكاديمية البريطانية، وعضوًا في الأكاديمية الأمريكية للدبلوماسية، وصنفه استطلاع عام 2011 للتدريس والبحث والسياسة الدولية باعتباره سادس أكثر الباحثين تأثيرًا في مجال العلاقات الدولية بين 1991 و2011، كما تم تصنيفه كواحد من أكثر الشخصيات تأثيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية، وأدرجته مجلة السياسة الخارجية في قائمتها لأفضل المفكرين العالميين.
(2) فيلسوف القوة الناعمة
كان كتاب جوزيف ناي “القوة والترابط: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية”، مرجعًا تاريخيًا مهمًا في مضمونه وفي توقيت صدوره (1977) حيث كان بمثابة صرخة استنكار للواقعية التقليدية السائدة في الولايات المتحدة الأميركية والتي يقود لواء الدفاع عنها وزير الخارجية الأميركي الجمهوري هنري كيسنجر، وانطلق ناي في كتابه من تجربة الولايات المتحدة في فيتنام وتجربة حظر النفط العربي عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية عام 1973، ليُجادل بأن الترابط العالمي يطرح سلسلة من التحديات التي لا تخضع للقوة الاقتصادية أو العسكرية الجبارة، بل تتطلب التعاون وبناء المؤسسات الجماعية، وبدأ ناي التأسيس لعدد من المفاهيم البديلة التي يمكنها أيضًا أن تُعظِم من مصالح الدول بعيدًا عن الإفراط في استخدام القوة الصلبة والحروب المسلحة.
وبدأ ناي في تسليط الضوء على مفهوم “القوة الناعمة” الذي يُشير فيه إلي قدرة الدول على تشكيل سياساتها وبناء توجهاتها من خلال قوة القدوة والتأثير الثقافي والإقناع الأخلاقي، بدلاً من الإكراه الاقتصادي أو القوة العسكرية.
وفي كتابه الصادر عام 1990 بعنوان “حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية”، أكد على أن الولايات المتحدة بقيمها الدستورية وشغفها بالابتكار التكنولوجي والفني، تتمتع بموقع فريد يُمكّنها من الاستفادة من مصادر قوة أقل وضوحًا من تلك القوة الصلبة التي يتم حشد ترسانات الأسلحة من خلفها/ ودافع ناي عن القوة الناعمة طوال مسيرته المهنية، وكان يؤمن بأن الولايات المتحدة تمتلك موارد أيديولوجية وثقافية ومؤسسية فريدة تُمكّنها من قيادة حقبة ما بعد الحرب الباردة.
وأكد ناي على أن القوة الناعمة لأي دولة تنبع أساسًا من ثلاثة مصادر: ثقافتها؛ وقيمها السياسية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وسياساتها عندما تُعتبر شرعية، لأنها مبنية على وعي بمصالح الآخرين، وأن سلوك الحكومة في الداخل، وفي ممارستها الديمقراطية، وفي المؤسسات والتحالفات الدولية التي تتشاور فيها مع الآخرين، وفي تحديد أهداف سياستها الخارجية، كتعزيز حقوق الإنسان والاستجابة للمشاكل العامة العالمية كتغير المناخ، هو ما يحدد ما إذا كانت الدول الأخرى تشعر بالجاذبية والاقتناع أم لا.
وقال إن القوة الناعمة هي الوجه الآخر للعملة، إنها مُضاعِف للقوة، عندما تكون جذابًا، يمكنك الاقتصاد في استخدام العصا والجزرة، فقد حافظت الإمبراطورية الرومانية على استمراريتها بالاعتماد على قوتها العسكرية من ناحية، وبفضل جاذبية الثقافة الرومانية من ناحية ثانية، وكذلك انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية من ناحية، وأيضًا بفضل جاذبية أفكارها وقيمها من ناحية ثانية.
ولم يكن ناي مدافعًا نظريًا فقط عن دور القوة الناعمة ودور المؤسسات والمنظمات الدولية في تعزيز قدرات الدول، بل كان ممارسًا عمليًا يتمتع بالمهارة اللازمة لوضع أفكاره موضع التنفيذ، كما شغل مناصب رئيسية في الدفاع والأمن القومي والاستخبارات خلال إدارات جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما.
وكان عنوان العديد من أعماله البحثية ومساهماته الفكرية يتضمن كلمة “قوة”، ولكن في العقدين الأخيرين من حياته، وتحديدًا منذ عام 2004، في ظل إدارة جورج بوش الإبن أصبح مهموماً بقضية تراجع دور ومكانة الولايات المتحدة الأميركية، وخلص في مذكراته التي نشرها بعنوان “حياة في القرن الأمريكي”، إلى أن هيمنة الولايات المتحدة قد تستمر لبضعة عقود أخرى ولكنها ستبدو مختلفة عما كانت عليه في حياته، وكان مصدر قلقه الأكبر من العوامل الداخلية لهذا التراجع، التي قد تضر بالقوة الناعمة الأمريكية. حيث أشار ناي إلى أنه “حتى لو ظلت قوة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية مهيمنة، فقد تفقد الدولة فضيلتها الداخلية وجاذبيتها للآخرين”.
(3) من ناي إلى ترامب: ثلاثية العصا والجزرة والعسل
في التاسع من سبتمبر/ أيلول، وفي استطلاع لآراء الخبراء في العلاقات الدولية، حول ما يوجهونه للرئيس القادم في الولايات المتحدة، قبل إجراء انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 التي فاز بها المرشح الجمهوري دونالد ترامب، قال جوزيف ناي في رسالته “سيدتي أو سيدي الرئيس، بصفتك رئيسًا، ستحتاج إلى الاستثمار في القوة الناعمة الأمريكية، أي القدرة على تحقيق ما نريده من خلال الجذب بدلًا من الإكراه أو الدفع”.
وأضاف ناي “عندما نشرتُ لأول مرة مقالًا عن القوة الناعمة في مجلة السياسة الخارجية عام 1990، كان المفهوم جديدًا، لكن السلوك قديم قدم التاريخ البشري، فبينما تسود القوة الصارمة للإكراه عادةً على المدى القصير، فإن القوة الناعمة ضرورية لنجاح السياسة الخارجية على المدى الطويل. وكما يُقال إن تاليران، وزير خارجية نابليون، قال: “يمكنك فعل كل شيء بالحراب، إلا الجلوس عليها”.
وقبل أسبوع واحد من وفاته، كتب جوزيف ناي ما نصه: “أخشى أن الرئيس ترامب لا يفهم القوة الناعمة، إذا كنت تعتقد أن القوة هي العصا والجزرة والعسل، فإنك تتخلى عن العسل، ولكن إذا استطعت أن تجعل هذه العناصر الثلاثة تعزز بعضها البعض، فستنجز الكثير، يمكنك أيضًا الاقتصاد في العصا والجزرة إذا كنت تتمتع بجاذبية العسل، لذا، عندما تلغي شيئًا مثل المساعدات الإنسانية من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أو تُسكت صوت أمريكا، فإنك تحرم نفسك من إحدى أدوات القوة الرئيسية”.
وعن مسارات السياسة الخارجية لدونالد ترامب، قال جوزيف ناي: “نستطيع أن نضع ترمب في إطار التقاليد التاريخية المعمول بها في السياسة الخارجية الأميركية. لنتذكر خطاب تنصيبه الأول، عندما أعلن: “من هذه اللحظة فصاعدا، ستكون أميركا أولا… نحن لا نسعى إلى فرض أسلوب حياتنا على أي شخص، بل نجعله يتألق كمثال يحتذى به”. تتفق هذه النظرة مع نهج “المدينة على التل” في التعامل مع السياسة الخارجية الأميركية، الذي يضرب بجذور عميقة في التاريخ، وهو ليس نهجا انعزاليا، لكنه يتجنب مذهب الفاعلية”.
وقارن ناي بين ترامب وعدد من الرؤساء السابقين قائلًا “إنه على النقيض من توجهات ترامب سعى وودرو ويلسون في القرن العشرين إلى سياسة خارجية من شأنها أن تجعل الديمقراطية آمنة في العالم، وحث جون كينيدي الأميركيين على التفكير فيما يمكنهم القيام به من أجل بقية العالم، فأنشأ فيلق السلام في عام 1961، وجعل جيمي كارتر حقوق الإنسان من الشواغل الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية، واستندت الاستراتيجية الدولية في عهد جورج بوش إلى ركيزتين أساسيتين هما قيادة مجتمع عالمي متنام من الديمقراطيات والترويج للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية”.
(4) جوزيف ناي ومستقبل النظام الدولي
حملت آخر أربعة مقالات كتبها جوزيف ناي عام 2025، على موقع بروجيكت سانديكيت (الذي كان يكتب له مقالاً شهريًا) العناوين التالية، بترتيب آخر المنشورات، هل سنشهد مزيدا من الانتشار النووي؟، كيف يتغير النظام العالمي؟، مستقبل النظام العالمي، هل للعولمة مستقبل؟
فقد كان مهمومًا طوال مسيرته الفكرية والعملية بمستقبل العالم، وكيف للقوى الكبرى أن تساهم في تعزيز التعاون وترسيخ الجانب القيمي والديمقراطي في مسيرته، فقال في مقالته بعنوان “هل للعولمة مستقبل؟” (3 فبراير/ شباط 2025) “وجدت بعض الدراسات أن ملايين الوظائف فُقدت بسبب المنافسة الأجنبية، لكن هناك عامل آخر هو الأتمتة (التشغيل الآلي)، لكن يجد القادة الشعبويون أن إلقاء اللوم على الأجانب أسهل من لوم الآلات، كما يُلقون باللائمة أيضا على المهاجرين، الذين قد يحملون فوائد للاقتصاد في الأمد البعيد، ولكن من السهل تصويرهم على أنهم سبب التغيير الـهَـدّام في الأمد القريب، لذا أصبحت الهجرة في كل الديمقراطيات القضية التي يلجأ إليها الشعبويون الذين يسعون إلى الطعن في الحكومات القائمة، وكانت الهجرة عاملا رئيسيا في انتخاب ترمب في 2016، وفي 2024”.
وأضاف “سيظل الاعتماد المتبادل البعيد المدى حقيقة من حقائق الحياة ما دام البشر يتنقلون ومزودين بتكنولوجيات الاتصالات والنقل. ذلك أن جذور العولمة الاقتصادية تمتد عبر قرون من الزمن .. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، سيزداد نطاق وسرعة وحجم الاتصالات العالمية بدرجة هائلة.. وما دمنا نملك التكنولوجيات، فسوف تستمر العولمة”.
وفي مقالة بعنوان مستقبل النظام العالمي(4 مارس/ آذار 2025) قال ناي “ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب بظلال كثيفة من الشك حول مستقبل النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في خطابات وعمليات تصويت حديثة في الأمم المتحدة، انحازت إدارته إلى جانب روسيا، المعتدية التي شنت حرب غزو ضد جارتها المسالمة، أوكرانيا. وأثارت تهديداته بشأن الرسوم الجمركية تساؤلات حول تحالفات قائمة منذ أمد بعيد ومستقبل النظام التجاري العالمي، وتسبب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية في تقويض التعاون في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.
وختم المقال بقوله: “السؤال هو ما إذا كنا ندخل فترة جديدة تمامًا من التراجع الأميركي، أو ما إذا كانت هجمات إدارة ترمب الثانية على مؤسسات القرن الأميركي وتحالفاته ستثبت كونها انحدارا دوريًا آخر. قد لا نعرف قبل عام 2029؟
وجدَّد ناي مخاوفه من سياسات ترامب على الولايات المتحدة وعلى مستقبل النظام الدولي في مقاله قبل الأخير والذي جاء بعنوان “كيف يتغير النظام العالمي؟”، ونشره بتاريخ 1 إبريل/ نيسان 2025، وذكر فيه أنه بعد الحرب العالمية الثانية، استحوذت الولايات المتحدة على نصف الاقتصاد العالمي، لكن قوتها العسكرية كانت توازنها قوة الاتحاد السوفييتي، وكانت قوة الأمم المتحدة المعيارية ضعيفة. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، حظيت الولايات المتحدة بلحظة وجيزة باعتبارها “القطب الأوحد”، إلا أنها أفرطت في التوسع في الشرق الأوسط، في حين سمحت بسوء الإدارة المالية الذي بلغ ذروته في الأزمة المالية عام 2008.
وأضاف ناي أنه “من منطلق الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تعيش حالة من الانحدار، غيرت روسيا والصين سياساتهما، فأمر بوتن بغزو جورجيا المجاورة عام 2008، واستعاضت الصين عن سياسة دنج شياو بينج الخارجية الحذرة بنهج أكثر حزمًا، وسمح نمو الصين الاقتصادي القوي بتمكينها من سد فجوة القوة مع أميركا، فمن منظور الصين، انحدرت القوة الأميركية بالفعل؛ لكن حصتها من الاقتصاد العالمي ظلت في حدود 25% تقريبًا، وما دامت الولايات المتحدة حريصة على صيانة تحالفات قوية مع اليابان وأوروبا، فسوف تمثل مجتمعة أكثر من نصف الاقتصاد العالمي، مقارنة بنحو 20% فقط للصين وروسيا، فهل تصون إدارة ترمب هذا المصدر الفريد من نوعه لاستمرار قوة أميركا؟”
وختم المقال بقوله: “كانت الأعوام 1945، و1991، و2008 نقاط تحول (في تطور العلاقات الدولية)، وإذا أضاف المؤرخون في المستقبل عام 2025 إلى القائمة، فسوف يكون ذلك نتيجة لسياسة الولايات المتحدة، نتيجة جُرح أحدثته بذاتها، وليس نتيجة لأي تطور دنيوي حتمي”.
ورحل ناي في السادس من مايو/ أيار 2025، عن عمر ناهز 88 عامًا، وكانت آخر جملة كتبها على موقع بروجيكت سانديكيت (الذي يكتب عليه بشكل دائم منذ عام 2002) بتاريخ 1 مايو 2025 “بعد أن أضعفت إدارة ترمب التحالفات الدولية، تسببت أيضا في إضعاف الردع الموسع من جانب أميركا، الأمر الذي دفع آخرين إلى دراسة ما إذا كان ينبغي لهم امتلاك أسلحة نووية تخصهم، وهم يدركون تمام الإدراك أن أوكرانيا تخلت عن الأسلحة النووية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية التي كانت متمركزة على أراضيها، فقط لكي تغزوها روسيا”. ليصل إلى القول: “بعيدا عن تعزيز الأمن، قد تتمثل الآثار الأولى لامتلاك قدرة نووية في كثير من الظروف في زيادة ضعف الدولة وانعدام أمنها”.
وكأنه يقول بشكل آخر، ستبقى القوة الناعمة هي “العسل” الذي يجب أن يحافظ عليه الجميع من أجل بناء عالم أفضل في ظل قادة شعبويين لا يعنيهم أمن هذا العالم واستقراره بقدر ما يعنيهم حب الظهور والهيمنة والتسلطية.
(5) جوزيف ناي وترسيخ الهيمنة الأميركية
في كتابها الصادر عام 1999 بعنوان “الحرب الباردة الثقافية: الاستخبارات المركزية الأميركية وعالم الفنون والآداب” كشفت الصحفية والمؤرخة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز عن جانب من خفايا الصراع شنّته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، عن طريق القوة الناعمة، باستخدام جنود من الكُتاب والمثقفين، في ساحة معركة هي المسارح والجامعات وصفحات المجلات الأدبية، وهو النموذج الذي أشاد به جوزيف ناي في كتابته عندما تحدث عن بالون السلام في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي.
وكشفت سوندرز عن طبقة بارزة من المثقفين اليساريين صنعتها وكالة الاستخبارات المركزية إبان الحرب الباردة، وتم تمويل عملياتها في مجالات الأكاديميا والفن والأدب للعمل على إسقاط النموذج الثقافي السوفييتي.
وهو ما أكد عليه أستاذ التاريخ في جامعة أريزونا، ديفيد ن. غيبز، حيث ذكر أن هناك عددًا لا يستهان به من الأكاديميين يعمل على نحو منتظم مع وكالة الاستخبارات المركزية، وأن الأمر لم ينتهِ بانتهاء الحرب الباردة.
وهو ما يدفع باتجاه التأكيد على أن القوة الناعمة، هي في الأخير أداة من أدوات الهيمنة التي سعت إليها الولايات المتحدة الأميركية، وأن الهدف منها كان ترسيخ هذه الهيمنة، بعيدًا عن أدوات العصا (الجيوش والأسلحة) والجزرة (المال والتجارة)، وأن جوزيف ناي في الأخير، وبالنظر لمهامه الوظيفية في الأمن القومي والاستخبارات التي شغلها في إدارات كارتر وبيل كيلنتون وباراك أوباما، ما هو إلا أحد المنظرين لسياسات الهيمنة ولكن بأدوات أخرى أقل حدة وصفها تارة بـ “الناعمة” وتارة أخرى بـ “العسل” وطالب حكام أميركا بالجمع بين “العصا، الجزرة، العسل”.
وهنا تأتي أهمية التأكيد على مركزية عالم الأفكار في بناء الخطط والتوجهات والاستراتيجيات الأميركية، منذ تأسيس الدولة وحصولها على الاستقلال عام 1776، وحتى اليوم، ودور المفكرين والمنظرين في صياغة هذه الخطط وتلك التوجهات، في إطار ترسيخ الهيمنة الأميركية وتعزيز مصادر قوتها، وما صمويل هنتنغتون وجوزيف ناي إلا نموذجان من بين مئات النماذج التي شاركت في صياغة استراتيجيات الهيمنة الأميركية.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)