أوراق و دراساتسياسية

التَّوَسُّعُ الإِسْرَائِيْلِيُّ والْمَصَالِحِ الأَمْيرِكِيَّةِ: من وعد بلفور إلى وعود ترامب

محمد محمود شحادة باحث في العلاقات الدولية (لبنان)، ماجستير في علوم السياسية الجامعة اللبنانية، ماحستير في العلاقات الدولية، الجامعة الاسلامية (بيروت).

تثيرُ سياساتُ التوسعِ الإسرائيليِّ في المنطقةِ جدلاً واسعاً حولَ انعكاساتها على الشراكةِ مع الولاياتِ المتحدةِ، إذ يمكنُ رصدُ مزيجٍ من المنافعِ والمخاطرِ التي تَطالُ الاقتصادَ الأميركيَّ بشكلٍ مباشرٍ.

فمن جهةٍ، قد يخدمُ هذا التوسعُ الصناعةَ العسكريةَ الأميركيةَ، لأنَّ إسرائيل ودول المنطقة وحركاتها تستوردُ أسلحتِها من واشنطن، كما أنَّ اتفاقياتِ التطبيعِ دفعت دولاً خليجيةً إلى تعزيزِ مشترياتِها الدفاعيةِ وفقاً للمعاهدة من اميركا، ما زاد من أرباحِ شركاتِ السلاحِ الأميركيةِ ، كذلكَ يفتحُ التعاونُ التكنولوجيُّ مع إسرائيل أبواباً واسعةً للشركاتِ الأميركيةِ في مجالاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ والأمنِ السيبرانيِّ والزراعةِ الحديثةِ.

لكن في المقابلِ، قد يتحوّلُ التوسعُ الإسرائيليُّ إلى عبءٍ اقتصاديٍّ على الولاياتِ المتحدةِ، فكلُّ صراعٍ جديدٍ في غزةَ أو لبنانَ وسوريا والخليج واليمن أو ضدَّ إيرانَ يهدِّدُ استقرارَ إمداداتِ النفطِ والغازِ، ويرفعُ أسعارَ الطاقةِ عالمياً، ما يضرُّ بالاقتصادِ الأميركيِّ، كما أنَّ سياساتِ إسرائيل على حسابِ الحقوقِ الفلسطينيةِ تُضعفُ صورةَ واشنطن وتُعرّضُ شركاتِها الكبرى لحملاتِ مقاطعةٍ في العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ

إسرائيل والالتزاماتِ الأميركية

حين صدرَ وعدُ بلفور من بريطانيا عامَ 1917، بدا وكأنَّ بريطانيا العظمى قد حَفَرَتْ في التاريخِ التزامًا استراتيجياً تجاهَ الحركةِ الصهيونيةِ، إذ وَعَدَ وزيرُ خارجيتِها آنذاك آرثر بلفور بإنشاءِ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطينَ، وقد حَظِيَ هذا الوعدُ بغطاءٍ دوليٍّ لاحقٍ حين أُدرِجَ في صكِّ الانتدابِ البريطانيّ على فلسطينَ، ليتحوّلَ من رسالةٍ سياسيةٍ إلى برنامجٍ تنفيذيٍّ، خلالَ ثلاثةِ عقودٍ تاليةٍ، تولّت بريطانيا الرعايةَ الكاملةَ للمشروعِ الصهيونيّ، مُمهِّدةً الأرضَ بالسياسةِ والسلاحِ والقوانينِ لولادةِ إسرائيل عامَ 1948.

لكنَّ المشهدَ الدوليّ بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ كان مُغايراًً ، فبريطانيا الخارجةُ من حربٍ مُكلفةٍ لم تَعُدْ قادرةً على الحفاظِ على إمبراطوريتِها المتراميةِ الأطرافِ، وكانت فلسطينُ بالنسبةِ لها عبئاً أكثرَ من كونِها ورقةَ نفوذٍ. ومع تصاعدِ المقاومةِ الفلسطينيةِ، واشتدادِ الضغطِ العربيّ، وجدت لندن أنَّ اللحظةَ التاريخيةَ قد حانت لتُسَلِّمَ ملفَّ إسرائيل إلى قوةٍ جديدةٍ صاعدةٍ: الولايات المتحدة الأميركية.

التحوّلُ لم يكن فجائياً، فمنذ ثلاثينياتِ القرنِ العشرين، بدأ اللوبي اليهوديّ في الولايات المتحدة يضغطُ على إداراتِ البيت الأبيض لدعمِ المشروعِ الصهيونيّ، ومع اقترابِ نهايةِ الحربِ الثانيةِ، تزايدت حدةُ هذا الضغطِ، خصوصاً مع تنامي التعاطفِ الأميركيّ تجاهَ اليهود بعدَ المحرقةِ النازيةِ،  وهكذا، كان الرئيسُ هاري ترومان عامَ 1948 أولَ من اعترفَ بإسرائيل بعد دقائقَ معدودةٍ من إعلانِ قيامِها، متحدِّياً تحذيراتِ وزارةِ الخارجيةِ والبنتاغون.

منذ تلك اللحظةِ، انتقلت الرعايةُ عملياً من بريطانيا إلى أميركا. فبينما كانت لندن تحاولُ إطفاءَ النيرانِ في فلسطينَ وتبحثُ عن مخرجٍ مشرّفٍ من مأزقِ الانتدابِ، كانت واشنطن تُقدِّمُ نفسها كحاميةٍ وراعيةٍ للمشروعِ الصهيونيّ، لا بدافعِ الأخلاقِ ، بل لاعتباراتٍ استراتيجيةٍ، فقد رأت الولايات المتحدة في إسرائيل قاعدةً متقدمةً لمصالحِها في الشرقِ الأوسط، وحاجزً أمامَ تمددِ النفوذِ السوفيتيّ.

حربُ 1956 شكّلت لحظةَ الحسمِ. فحين شنّت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوانَ الثلاثيَّ على مصرَ رداً على تأميمِ قناةِ السويسِ، وجدت لندن وباريس أنفسَهما أمامَ ضغطٍ أميركيٍّ وسوفيتيٍّ مشتركٍ أجبرهما على الانسحابِ المُهينِ، ومنذ ذلك التاريخِ، أدركت بريطانيا أنَّ عهدَها كراعٍ للمشروعِ الإسرائيليِّ قد انقضى، وأنَّ واشنطن باتت المرجعيةَ الوحيدةَ والضامنَ الأكبرَ لبقاءِ إسرائيل.

ومع حربِ 1967، دخلت العلاقةُ بين واشنطن وتل أبيب مرحلةً جديدةً: تحوّلت إسرائيل إلى حليفٍ استراتيجيٍّ موثوقٍ، وحصلت على دعمٍ عسكريٍّ ضخمٍ، وتغطيةٍ سياسيةٍ متواصلةٍ في مجلسِ الأمنِ والجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ.، هذا الدعمُ لم يكن عاطفياً فحسب، بل مُرتبطاً بمصالحِ أميركا في المنطقةِ: النفط، منعُ المدّ القوميّ العربيّ، واحتواءُ النفوذِ السوفيتيّ.

الولايات المتحدة ووعدِ بلفور

هذا الملف يتطلّبُ تمييزاً بين الشكلِ والمضمونِ. فالولايات المتحدة لم تُصدِرْ وعداً رسمياً مكتوباً كما فعلت بريطانيا، لكنها تبنّت جوهرَ ذلك الوعدِ وذهبت أبعدَ منه. فإذا كان بلفور قد وَعَدَ بـ”وطنٍ قوميٍّ”، فإن واشنطن ضمنت لإسرائيل ليس فقط الوطنَ، بل الأمنَ والتمويلَ والتفوّقَ النوعيَّ على جيرانِها العربِ.

إنَّ الولايات المتحدة ورثت الوعدَ وحوّلته من التزامٍ أدبيٍّ إلى سياسةٍ استراتيجيةٍ ثابتةٍ. وما زالت الإداراتُ الأميركية المتعاقبةُ  جمهوريةً كانت أم ديمقراطيةً  تُقدِّم لإسرائيل ما يشبه صكَّ الحمايةِ الدائمةِ، مانعةً أي قرارٍ دوليٍّ من أن يهدِّدَ وجودَها أو يُقيِّدَ حركتَها.

بهذا المعنى، يمكن القول إنَّ بريطانيا أعطت “الوعدَ”، لكنَّ أميركا هي التي “أوفَتْ” به، ليس حبّاً باليهودِ وحدَهم، بل دفاعاً عن مصالحِها العميقةِ في الشرقِ الأوسط. فالتحالفُ الأميركيّ الإسرائيليّ لم يَعُدْ مجردَ التزامٍ تاريخيٍّ، بل أصبح ركناً من أركانِ السياسةِ الأميركيةِ في المنطقةِ، حتى يومِنا هذا

ومع أنَّ السياقَ الدوليَّ اليومَ يختلفُ عن أجواءِ الحربِ الباردةِ، فإنَّ التزامَ واشنطن بأمنِ إسرائيل لا يزالُ ثابتاً، فحتى مع تحوُّلِ أولوياتِ الولايات المتحدة نحوَ آسيا والمحيطِ الهادئ، تبقى إسرائيل بالنسبةِ لصنّاعِ القرارِ الأميركيِّ ورقةً لا يمكنُ التفريطُ بها.،فهي قاعدةٌ استخباراتيةٌ متقدمةٌ، ومختبرٌ للسلاحِ الأميركيّ، وضامنٌ لاستمرارِ شبكةِ التحالفاتِ في الشرقِ الأوسط.

غير أنَّ التحدياتَ المقبلةَ قد تُعرِّضُ هذا الالتزامَ لاختباراتٍ قاسيةٍ. فالصعودُ الصينيُّ، والتحولاتُ في سوقِ الطاقةِ، وتصاعدُ أزماتِ المنطقةِ من غزةَ إلى لبنانَ وإيرانَ، كلُّها عواملُ قد تدفعُ واشنطن إلى إعادةِ النظرِ في حجمِ المواردِ المخصصةِ لإسرائيل، دونَ أن تُلغي جوهرَ التزامِها التاريخيِّ.

لذلك، فإنَّ مستقبلَ العلاقةِ يبدو مرهوناً بمدى قدرةِ إسرائيل على البقاءِ شريكاً يُسهِّلُ للولايات المتحدة تحقيقَ مصالحِها، لا عبئاً يُكلِّفُها صداماتٍ متكررةً مع العالمِ العربيّ والإسلاميّ وثانياً لا تتحول الى منافساً للمصالح التي تضع الولايات المتحدة الأمريكية في مكانة قيادة العالم، فالثابتَ حتى اللحظةِ هو أنَّ أميركا لم تَزَلْ تحملُ على عاتقِها إرثَ بلفور، وتترجمهُ إلى سياسةٍ ملموسةٍ تحفظُ لإسرائيل بقاءَها وتفوُّقَها، مهما تغيَّرت الظروفُ والوجوهُ في البيتِ الأبيض.

فمن جملةِ المخاطرِ انهُ قد يتيحُ الانحيازُ الأميركيُّ لإسرائيل مجالاً لقوى منافسةٍ مثل الصين وروسيا للتوغّلِ اقتصادياً في المنطقةِ، كما يُعزّزُ التوسعُ الإسرائيليُّ في مجالاتِ الأمنِ في السيبرانيِّ والطاقةِ منافستَهُ للشركاتِ الأميركيةِ نفسها.

بالنهاية انَّ توسعَ إسرائيل قد يمنحُ الولاياتَ المتحدةَ مكاسبَ قصيرةَ الأمدِ، لكنه يحملُ مخاطرَ طويلةَ المدى تهدِّدُ استقرارَ الأسواقِ وتفتحُ البابَ أمامَ نفوذٍ صينيٍّ وروسيٍّ متزايدٍ، ما يجعلُ الرعايةَ الأميركيةَ لإسرائيل معادلةً معقّدةً بينَ الفائدةِ والضررِ.

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF 

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى