تحليلات و تقديراتسياسية

الحرب المؤجَّلة: غزو تايوان والحسابات الصينيَّة

هشام قدري أحمد

باحث في العلوم السياسيَّة والعلاقات الدولية، جمهورية مصر العربية

تتزايد حدة التوتُّرات بين جمهورية الصين الشعبيَّة وجزيرة تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي والتي تعتبرها بكين جزءًا لا يتجزأ من إقليمها وترفض أي شكل من أشكال الاعتراف الدولي بها. وتتجلَّى أبرز مظاهر هذا التصعيد في قيام الحكومة الصينيَّة بإجراء مناورات عسكريَّة باستخدام الذخيرة الحية بالقرب من مضيق تايوان الذي يفصل بين البر الصيني والجزيرة.

من بين هذه المناورات، ما شهده شهر أبريل/ نيسان 2025، عندما أطلق الجيش الصيني مناورات ضخمة باسم “رعد المضيق 2025″، تضمَّنت محاكاةً لحصار الجزيرة وتوجيه ضربات عسكريَّة ضد موانئ ومنشآت حيوية، والهدف من هذه المناورات، كما يرى مراقبون، يتمثل في توجيه رسائل تحذيريَّة للولايات المتحدة وحكومة تايبيه، والأهم من ذلك إظهار القدرات العملياتية المشتركة لقوات جيش التحرير الشعبي الصيني، وتعزيز الاستعداد لأي سيناريو مستقبلي لغزو تايوان أو حصارها.     

مناورات رعد المضيق الصينية (Strait Thunder 2025) (أبريل 2025)

أولًا: السياق التاريخي للصراع بين الصين وتايوان

تُشير المصادر التاريخيَّة إلى أنَّ جزيرة تايوان كانت جزءًا من دولة الصين وتخضع لسلطان حكامها منذ القرن السابع عشر، إلى أن اضطرت هذه الأخيرة، في أعقاب هزيمتها المريرة أمام اليابان في حربهما الأولى التي اندلعت عام 1895، إلى التنازل عن سيادتها على الجزيرة لصالح الإمبراطورية اليابانيَّة بمقتضى اتفاقية الاستسلام، وظل هذا الوضع قائمًا حتى هزيمة اليابان أمام الحلفاء في نهاية الحرب العالميَّة الثانية، حين استعادت الصين حكمها للجزيرة مرةً أخرى.

إلا أنَّ عودة الارتباط السياسي بين تايوان والبر الصيني لم يدم سوى أربع سنوات فقط (1945- 1949)، عندما باعدت بينهما مجددًا الحرب الأهليَّة الصينيَّة التي اندلعت رحاها بين القوات الشيوعيَّة المدعومة من الاتحاد السوفيتي والقوات القوميَّة الموالية للغرب؛ حيث انتهت الحرب الأهليَّة بقيام دولتين صينيتين، إحداهما شيوعيَّة بقيادة “ماوتسي تونج” في البر الرئيسي للصين، والأخرى رأسماليَّة تدعمها الولايات المتحدة، برئاسة “شيانغ كاي شيك” الذي تمكَّن، بعد هزيمة قواته، من الفرار إلى جزيرة تايوان واتخذها مقرًا لحكومته.

وكان طبيعيًّا أن تثار مسألة خلافية أخرى، بجانب الصراع السياسي على السلطة، وهي مسألة من يمثل الصين في الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ الصين الشيوعيَّة، أم الصين الوطنيَّة في تايوان؟

لقد أبدت الولايات المتحدة والقوى الغربيَّة رفضها للحكومة الشيوعيَّة في بكين واعتبرتها سلطةً غير شرعية ولا تمثل الأمة الصينيَّة، وترتب على هذا الموقف بطبيعة الحال انقطاع العلاقات الدبلوماسيَّة والقنصليَّة بين الطرفين وإغلاق مقار البعثات الغربَّية في بكين، فيما عدا المملكة المتحدة التي رفضت إغلاق قنصلياتها، بل وأعلنت اعترافها بالنظام السياسي في بكين.

وفي المقابل وطدت الولايات المُتحدة علاقاتها بحكومة الصين الوطنيَّة في جزيرة تايوان بقيادة شيانغ كاي شيك وشرعت في توقيع الاتفاقيات الثنائية معها، وتعهدت بحمايتها من أي اعتداء تتعرض له من جانب القوات الشيوعيَّة في البر الصيني، واتساقًا مع هذا الموقف الأميركي، أُسند مقعد الصين في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن إلى الحكومة الوطنيَّة باعتبارها ممثل الشعب الصيني في المُنظمة الأممية والأجهزة المرتبطة بها.

استمر هذا الوضع الدوَّلي حتى مطلع سبعينيَّات القرن العشرين، عندما لاحت في الأفق بوادر الانفراج في العلاقات الأميركيَّة/ الصينيَّة، إذ سعت إدارة الرئيس الأميركي “ريتشارد نيسكون” إلى استغلال القطيعة في العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي في بكين، على خلفية الهجوم الذي قاده الزعيم السوفيتي “نيكيتا خروتشوف” ضد السياسة الدكتاتورية لسلفه “جوزيف ستالين” ورغبته في انتهاج سياسة خارجيَّة تقوم على التعايش السلمي مع الغرب، الأمر الذي عده الصينيون انقلابًا على مبادئ الحزب الشيوعي وقيمه التي تأسس عليها.

وبلغ التوتر ذروته بين الجانبين، الصيني والسوفيتي، بنهاية الستينيَّات عندما كادت المناوشات الحدودية بينهما أن تفضي إلى صراع عسكري مسلَّح. وكان الأميركيون يستهدفون من وراء تقاربهم مع الصين تحقيق هدفين، الأول زيادة الضغط على الاتحاد السوفيتي، أما الثاني فكان يتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه حربها في فيتنام، حيث كانت إدارة نيسكون تفكر في وقف الحرب وترى بأنَّ الصين يمكن أن ترعى ترتيبات الانسحاب الأميركي.

توُّج هذا التقارب الأميركي الصيني باعتماد مشروع قرار من قبل الأمم المُتحدة في أكتوبر 1971 يقضي بقبول الصين الشعبيَّة في المُنظمة الأممية والاعتراف بحكومتها كممثل وحيد للأمة الصينيَّة، وطرد ممثلي حكومة تايوان من الأمم المُتحدة وأجهزتها.

وخلال هذه العُقود من النزاع، اكتسبت تايوان هويةً وطنيةً مُستقلة، وانخرطت في بناء اقتصادها ونظامها السياسي على أسس ليبراليَّة تتقاطع معالمها بصورة عميقة مع الأسس الاشتراكيَّة للصين الشعبيَّة، وهو ما زاد بدوره من هوة الخلاف السياسي والتنافر الإيديولوجي بين الطرفين.

ثانيًا: توحيد تايوان كخطوة لضمان هيمنة الصين الإقليميَّة

في حين تتجه الصين منذ عقود إلى إعادة ترتيب تموضعها على خارطة القوى الدوليَّة، باعتبارها قوةً سياسيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة صاعدة، لا تزال تايوان تفتقر إلى الشرعية الدوليَّة التي جردتها منها الأمم المُتحدة قبل أكثر من خمسين عامًا؛ بحيث لم يعُد لدى حكومة تايبيه حاليًا علاقات دبلوماسيَّة سوى مع عددٍ محدود من الدول، ما يجعلها تعيش عزلةً دبلوماسيَّة غير مسبوقة.

ولعلَّ تنامي القوة الصينيَّة وتصاعدها في عالم تتجه ملامحه مستقبلًا إلى التعددية القطبيَّة، يزيد من فرص ورغبة الصين في استعادة تايوان إلى سيادتها بالرغم من التهديدات الأميركيَّة، إذ يدرك النظام السياسي في بكين، بلا شك، أنَّ أحد مفاتيح الهيمنة الإقليميَّة التي تطمح الدولة الشيوعيَّة إلى تحقيقها في الشرق الأقصى ومنطقة بحر الصين يُكمن في تجريد تايوان من حكمها الذاتي وإعادة توحيدها مع البر الصيني، وأنَّ هذه الخطوة، إن تحققت، من المُمكن أن ترجح كفة الصين في صراعها مع الولايات المتحدة في منطقة المُحيط الهادئ.

ورغم التفوق الاقتصادي والعسكري للصين، إلا أنه لا يبدو ممكنًا التحقق من النوايا الراهنة للصين تجاه تايوان، لكن ما هو مؤكد أنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير 2022 كانت له تداعياته المؤثرة على صُناع القرار في بكين.

فعلى الرغم من أنَّ ميزان القوة العسكري يميل لصالح روسيا بشكل كبير، إلا أنَّ المعارك الدائرة في شرق أوروبا منذ ثلاث سنوات أبانت عن وجود مشكلات استراتيجيَّة أمام القوات الروسيَّة، تتعلق بالتمويل والتعبئة ونقص الذخيرة، ما دفع موسكو إلى الاستعانة بعسكريين من كوريا الشماليَّة واستقدام بعض الأسلحة من إيران. فضلًا عن ذلك، فإنَّ الأعباء الاقتصاديَّة المرتبطة بالحرب تجاوزت أطرافها الرئيسيَّة وألقت بظلالها على منظومة الاقتصاد العالمي.

ثالثًا: غزو تايوان- المخاطر والحسابات الصينيَّة

لا شك أنَّ طموحات الصين ورغبتها في استعادة تايوان إلى سيادتها باستخدام القوة العسكريَّة تقترن بمجموعة من المخاطر والحسابات السياسيَّة والاقتصاديَّة التي ستضعها القيادة الصينيَّة نصب عينيها في حال قررت تحريك أسطولها الجوي والبحري باتجاه تايوان.

فمن ناحية، نجد أنَّ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، كان ولا يزال، يشكل العائق الرئيس أمام طموحات الصين وآمالها في استعادة تايوان إلى حظيرتها مُنذ أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، فالاتفاقات الأمنيَّة المبرمة بين حكومة تايوان ونظيرتها الأميركيَّة تحتم على هذه الأخيرة الدفاع عن الجزيرة في وجه أي اعتداء تتعرض له من جانب الصين.

ومن هنا يمكن الاستدلال على أنَّ الولايات المُتحدة تُمثل الضامن الوحيد الذي تعوِّل عليه حكومة تايبيه لتأمين استقلالها.  

ولكن إلى أي مدى تبدو واشنطن مستعدةً للانخراط بنفسها في مواجهة عسكريَّة مفتوحة مع قوة كبرى كالصين، أم أنَّ الموقف الأميركي في حال أطلقت الصين عملية الغزو سيقتصر على تقديم المُساعدات العسكريَّة كما هو الحال اليوم في أوكرانيا؟ ربما تفكر الصين في القيام بحربٍ خاطفة ومكثفة تقوم على عنصري السرعة والمفاجأة، بحيث لا يُصبح هناك مجالًا لاشتباك أو انخراط القوات الأميركيَّة، إضافةً إلى أنَّ نجاح القوات الصينيَّة في تطويق الجزيرة وعزلها سيحول بالتالي دون وصول أي إمدادات إليها من الخارج.

ومن ناحية ثانية، فإنَّ العقوبات التي يُحتمل أن تطال الاقتصاد الصيني، في حال اندلعت الحرب على ضفتي مضيق تايوان، قد لا تكون ذات تأثر كبير أو طويل المدى، وتفسير ذلك أنَّ الاقتصاد الصيني ليس مركزيًّا مثل نظيره الروسي، بل هو اقتصاد شبكي يتصل بالأسواق والاقتصادات العالميَّة التي ستتأثر حكوماتها سلبًا مع استمرار تلك العقوبات، ما سيدفعها إلى اجهاضها وعدم التقيد بها.

فضلًا عن ذلك، ينظر إلى تايوان من جانب غالبية حكومات دول العالم على أنها أراض صينيَّة تتمتع بالحكم الذاتي، وليست دولةً مستقلةً ذات سيادة مثلما هو الحال بالنسبة إلى أوكرانيا؛ لذا سيكون موقف المجتمع الدولي أقل تشددًا وأكثر تحيزًا إلى الصين التي مارست طوال السنوات والعقود الماضية ضغوطًا كبيرةً في سعيها لعرقلة أي مساع دوليَّة للاعتراف باستقلال تايوان أو إقامة علاقات دبلوماسيَّة معها، مما حدا بالكثير من الدول إلى سحب اعترافها بالجزيرة في مسعى منها لتوطيد علاقاتها الاقتصاديَّة والتجاريَّة مع بكين.

لكن الأمر الأكثر خطورة ضمن حسابات الصين أنَّ نجاح مساعيها الرامية إلى استرداد تايوان وإعادة توحيدها مع البر الصيني عسكريًّا من شأنه أن يُهدد توازنات القوة في آسيا وفي منطقة الشرق الأقصى على وجه التحديد، والأهم من ذلك، سيضعف مصداقية واشنطن أمام حلفائها ويقوض ثقة شركائها الإقليميين، وهي التي تروِّج لنفسها دائمًا بوصفها الضامن الرئيس لأمنهم، وهو ما يعني عمليًّا نهاية الأحادية القطبيَّة؛ لذا ليس مُتوقعًا أن تقف الولايات المُتحدة مكتوفة الأيدي بينما يفعل خصمها الاستراتيجي ذلك. 

خاتمة:

تفرض هذه الحسابات المعقدة والتداعيات الخطيرة التي يحتمل أن يفضي إليها خيار الغزو العسكري لتايوان، على الحكومة الصينيَّة تفضيل تأجيل الحسم العسكري لمسألة تايوان، والاستمرار، عوضًا عن ذلك، في تطويق تايبيه دبلوماسيًّا واضعاف موقفها في التكتلات والمنظمات الإقليميَّة والدوليَّة، من خلال التأكيد على مبدأ الصين الواحدة وتقديم المحفزات الاقتصاديَّة لحكومات الدول الأخرى لمنعها مستقبلًا من اقامة علاقات سياسيَّة أو الانخراط في شراكات تجاريَّة مع حكومة الجزيرة.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى