الجيش الأوروبي الموحد: مسارات التكوين والتحديات المستقبلية

د. خالد التزاني
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. فاس. المغرب.
عززت الأزمات الأخيرة التي عرفتها أوروبا التفكير الإستراتيجي لدى العديد من قادتها في أنه لا يمكن الاعتماد كليا على الولايات المتحدة الأميركية أو حلف الناتو لحمايتها، وقد تصاعد هذا الاعتقاد بشكل كبير بداية منذ استيلاء روسيا على جزيرة القرم في العام 2014 وتزايد مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما دفع العديد من القادة الأوروبيين إلى التفكير فيما يجب فعله على المدى الطويل من أجل حماية الأمن الداخلي الأوروبي، وقد تعالت الأصوات مؤخرا مطالبة بإعادة إحياء الحلم الأوروبي القديم بإنشاء جيش أوروبي موحد قادر على ضمان أمن الإتحاد الأوروبي و قادر على مواجهة التحديات التي تواجه هذا الإتحاد خاصة بعد تزايد التهديدات الروسية، غير أن هذه الرغبة ما زالت تواجهها مجموعة من التحديات و هو ما يكرس الفشل الأوروبي المستمر في تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، و سنحاول في هذه الدراسة التوقف عند المراحل التي مر منها التخطيط الأوربي لإنشاء جيش أوروبي موحد،كما سنتوقف عند المعيقات التي مازالت إلى اليوم تحول دون تحقيق هذا الحلم الأوروبي.
المبحث الأول: إخفاقات المشروع الدفاعي الأوروبي: قراءة في تعثر بناء جيش موحد
تبنى الاتحاد الأوروبي عبر تاريخه عدة محاولات من أجل تحقيق التعاون بين أعضائه عسكريا لكن هذه المحاولات لم تكلل بالنجاج، مما أسهم في تراجع فعالية الجيوش الأوروبية بشكل عام، وأدت إلى تراجع قوة الجيوش الأوروبية[1]،ومع ذلك فما زال التفكير في بناء سياسة أمنية أوروبية موحدة قائما إلى اليوم([2]). وقد أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 إحياء الطموح الأوروبي القديم بإنشاء جيش أوروبي موحد، باعتباره ضرورة ملحة لمواجهة التهديدات الأمنية الجديدة وتعزيز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد.
المطلب الأول: فشل محاولات تأسيس جيش أوروبي موحد خلال فترة الحرب الباردة
يعد بناء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الهيمنة الأميركية من أبرز التحديات التي واجهت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد شكل الجانب الأمني الحلقة الأضعف في مشروع التكامل الأوروبي، رغم المحاولات المتكررة التي بذلتها عدة دول، وعلى رأسها فرنسا التي اضطلعت بدور محوري وقيادي في الدفع نحو صياغة سياسة خارجية وأمنية موحدة داخل الاتحاد ([3]).
ومع تزايد التهديدات الأمنية وتنوعها، برزت محدودية قدرات الدول الأوروبية منفردة في مواجهتها أو احتوائها ([4])، لذلك كان إنشاء جيش أوروبي موحد موضوع نقاش خلال البدايات الأولى لمشروع التكامل الأوروبي ([5])، حيث تُوج بتوقيع معاهدة بروكسل في 17 مارس 1948، التي جمعت كلا من فرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ. وقد تميزت المادة الرابعة من هذه المعاهدة بطابعها العسكري، بما يعكس الاهتمام المبكر بإرساء تعاون دفاعي مشترك بين الدول الموقعة ([6]).
نصت المادة الرابعة من معاهدة بروكسل على أن أي اعتداء مسلح تتعرض له إحدى الدول المتعاقدة يُعد اعتداءً على جميع الأطراف، ويلزم باقي الأطراف بتقديم المساعدة العسكرية وغيرها من أشكال الدعم للدولة المتضررة([7]). على الرغم من أن هذه المعاهدة لم تحظ بأهمية كبرى لدى الأوروبيين آنذاك، فإنها كانت ذات دلالة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، التي اعتبرتها مؤشراً على جدية الأوروبيين في بناء سياسة دفاعية مشتركة، ما دفعها إلى تسريع وتيرة إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 4 أبريل 1949، بمشاركة 12 دولة أوروبية.
في عام 1950أعيد النقاش مجدداً حول ضرورة تشكيل جيش أوروبي موحد حين طرحت فرنسا الفكرة ضمن سياق تصاعد التوتر بين الشرق والغرب واندلاع الحرب الكورية، ما دفع الولايات المتحدة إلى الضغط على الحلفاء الأوروبيين لتقبل فكرة إعادة تسليح ألمانيا ضمن قوة عسكرية موحدة تدافع عن المعسكر الغربي. غير أن هذا الطرح قوبل برفض واسع، خاصة من جانب فرنسا، التي تخوفت من إعادة عسكرة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وللخروج من هذا الموقف، اقترح رئيس الوزراء الفرنسي رينيه بليفن مشروع “مجموعة الدفاع الأوروبية” (EDC)، والذي كان يقوم على دمج الجيش الألماني مع قوات من الدول الأوروبية الأخرى في إطار فوق قومي يخضع لسلطة أوروبية موحدة. وقد شمل المشروع الدول الستة المؤسسة للتكامل الأوروبي، وهي: “فرنسا، ألمانيا الغربية، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، ولوكسمبورغ”. وكان الهدف المعلن من هذا المشروع هو تعزيز قدرات الدفاع الأوروبي الجماعي ضد التهديد السوفييتي، وإعادة تسليح ألمانيا الغربية ضمن إطار أوروبي يخضع للرقابة السياسية.
وفي 27 مايو من العام 1952 تم التوقيع على معاهدة باريس المؤسسة “لمجموعة الدفاع الأوروبية”([8])، غير أن المشروع فشل في مرحلته النهائية بعد أن رفض البرلمان الفرنسي المصادقة عليه، نتيجة مخاوف تتعلق بفقدان السيادة الوطنية الفرنسية في مجال الدفاع. وبناءً على ذلك، لجأت فرنسا إلى توسيع معاهدة بروكسل لتأسيس إطار أمني جديد تمثل في “اتحاد أوروبا الغربية”، الذي أُعلن عن قيامه في 23 أكتوبر 1954([9]).
بدت مجريات الأحداث خلال الفترة الممتدة من عام 1951 إلى عام 1953 وكأنها تنبئ بانطلاقة سريعة ومبشرة لمسار الوحدة الأوروبية، ما عزز الانطباع آنذاك بأن هذا المسار سيمضي قدما نحو تحقيق حلم “الولايات المتحدة الأوروبية” دون عوائق. غير أن هذا التفاؤل المفرط سرعان ما تراجع عقب انتكاسة عام 1954، التي شكلت ضربة قوية للتيار الفيدرالي الأوروبي، خاصة بعد فشل مشروع “مجموعة الدفاع الأوروبية.”
وبالرغم من ذلك لم تستطع هذه الصدمة وقف المسيرة التكاملية الأوروبية، بل بقيت نواته الصلبة ممثلة في “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”محافظة على تمسكها، وأثبتت قدرتها على تجاوز الأزمات. وقد دفعت هذه التجربة الأوروبيين إلى إعادة تقييم منهجية التكامل، بحيث تم تبني توجه جديد يقوم على إعطاء الأولوية للقطاعات الاقتصادية وتجنّب الخوض المباشر في المجالات السياسية والأمنية، التي أثبتت حساسيتها وخطورتها على مسار الوحدة.
وبما يتسق مع الرؤية الوظيفية للتكامل، تم التوقيع في عام 1957 على اتفاقيتي روما، اللتين أسفرتا عن تأسيس جماعتين جديدتين: “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” و”الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية”، وقد دخلتا حيز التنفيذ في 1 يناير 1958. وهكذا بدت مسيرة التكامل الأوروبي وكأنها قد تمكنت من تصحيح مسارها([10]) حيث اتجه التكامل الأوروبي إلى استكمال مساره الاقتصادي دون العسكري([11])، حيث اتخذت الدول الأوربية من التكامل الاقتصادي عاملا أساسيا في تحقيق السلام بينها([12]) بعد أن اتضح لها أهمية الترابطات الاقتصادية في ضمان الأمن داخل القارة الأوربية ([13]).
عقب فشل مشروع “مجموعة الدفاع الأوروبية”، اختفت فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد عن الأجندة الأوروبية لفترة طويلة([14])، إلا أن هذه الفكرة عادت للظهور مرة أخرى في ثمانينيات القرن العشرين، عندما طرح كل من الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران والمستشار الألماني الأسبق هلموت كول قضية تشكيل جيش أوروبي موحد ضمن سلسلة المشاريع التي اتفقا عليها الزعيمان والتي تم فرضها على أوروبا انطلاقًا من أن باريس وبرلين تشكلان قيادة القاطرة الأوروبية كونهما أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في الاتحاد الأوروبي، لكن الزعيمين الأوربيين لم يتفرغا من أجل تطوير الفكرة، وانصرفا إلى شؤون تعزيز الاتحاد الأوروبي وخصوصاً اتفاقية ماستريخت والعملة الأوروبية الموحدة،لذلك بقيت المسألة عند حدود تشكيل” الفيلق الأوربي”المكون من ألف جندي يتمركزون في مدينة ستراسبورغ الفرنسية ويشكلون نواة لقوة أوربية موحّدة([15]).
المطلب الثاني: تعثر جهود بناء جيش أوروبي موحد في ظل التحولات الدولية الراهنة
ظل قادة الاتحاد الأوروبي يتحدثون عن تكوين جيش أوروبي موحد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، في محاولة لاستعادة النظام في بلدان المعسكر السوفييتي السابق إذا لزم الأمر. وقد هيأت اتفاقية ماستريخت لعام1992 المجال الواسع لبناء سياسة أمنية مشتركة، لم تكن موجودة في نصوص المجموعة الأوروبية من قبل ([16])، إذ أسست هذه المعاهدة الاتحاد الأوروبي الذي هدف إلى تعزيز التعاون بين الحكومات الأوروبية في الشؤون الاقتصادية والمالية، كما أنشأت السياسة الأمنية والخارجية المشتركة للاتحاد، والتي يفترض أن تستكمل لاحقا بسياسة دفاعية مشتركة عندما تنضج الظروف ([17]).
ثم جاءت معاهدة أمستردام للعام 1997، التي تصورت أن “الصياغة التدريجية لسياسة دفاعية مشتركة ربما تؤدي إلى إقامة دفاع مشترك”،حيث حددت مجموعة من الأهداف التي يتعين على الإتحاد تحقيقها، وهي” تعزيز التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتوازن المستدام فيما بين دول أوروبا من خلال فتح الحدود وتأسيس اتحاد نقدي، وتنفيذ سياسة خارجية وأمنية مشتركة، يتم من خلالها وضع إطار نهائي لسياسة دفاع أوروبية مشتركة. وبذلك، جعلت معاهدة أمستردام، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1999([18])، من المهمات الدفاعية جزءاً لا يتجزأ من آليات الإتحاد([19]).
وكان الغرض من النص على الدفاع المشترك أن يشمل المهام الإنسانية، وحفظ السلام، و إدارة الأزمات، بما في ذلك صنع السلام([20]). وقد تطور النقاش بعد ذلك، حيث اقترحت بعض دول الاتحاد الأوروبي إنشاء هوية أوروبية للدفاع والأمن، إلا أن الفكرة لم تحصل على موافقة جميع الأطراف، إذ انقسمت الدول الأعضاء بشأن هذه المسألة، فبينما أبدت بعض الدول رغبتها في إنشاء هوية أوروبية، اعترضت دول أخرى على هذه الفكرة ورأت أن أمنها لا يزال يعتمد على حلف الناتو، وذلك من خلال السماح باستعمال الموارد العسكرية للناتو في العمليات التي تخضع للقيادة والرقابة السياسية والتوجيه الإستراتيجي لإتحاد أوروبا الغربية، وهوما استبعد إمكانية قيام دفاع أوروبي خاص ومستقل.
وعلى هذا الأساس، أبقت معاهدة أمستردام على احترام التزامات الدول الأعضاء الناشئة عن معاهدة حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، حاولت إدخال بعض الإصلاحات على مستوى السياسة الأمنية الأوروبية المشتركة، حيث نصت المادة J7منها على توثيق الصلة باتحاد أوروبا الغربية إلى حين إدماجه لاحقاً في الاتحاد الأوروبي. وبذلك، أدمجت مهمات “بترسبرغ”، التي كان يضطلع بها اتحاد أوروبا الغربية منذ1992 ، رسميا ضمن مجال السياسة الخارجية والأمنية المشتركة.
كما أوجدت المعاهدة أجهزة جديدة، من بينها “وحدة التخطيط والإنذار المبكر”، واستحدثت منصب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة([21]). وفي عام 1999، وفي ذروة حرب كوسوفو، ناقش الإتحاد الأوروبي فكرة إنشاء مجموعات قتالية مشتركة قوامها 1500 فرد، إلا أن هذه القوات الأوروبية لم تفعل([22]).
وقد تركت هذه الحرب آثاراً جديدة، إذ لم يكن لأوروبا خلالها سوى تأثير هامشي، رغم أنها اندلعت على أرض أوروبية. وفي المقابل تصرفت واشنطن على هواها وبقرار حصري في الخيارات التكتيكية والدبلوماسية([23]). كما كشفت هذه الحرب عن ثغرة كبرى في السياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي، تمثلت في عدم قدرته على مجابهة التحديات الأمنية والعسكرية في محيطه الجغرافي إلا عبر حلف الناتو، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. ثم كانت هناك محاولة أخرى لإنشاء جيش قوامه 50000 جندي بحلول عام 2003 لكن ذلك لم يحدث أبداً.
كانت”هوية الدفاع الأوروبية” تسير جنبا إلى جنب مع مسار تكامل اتحاد أوروبا الغربية ضمن حلف شمال الأطلسي، ومحاولة تحويله إلى منظمة أوروبية([24])،فقد وضعت قمة نيس في ديسمبر من عام 2000 القواعد العملية للنواة الأولى للقوة العسكرية الأوروبية،كما أقرت إنشاء لجنتين لتسيير هذه القوة وهما اللجنة السياسية واللجنة الأمنية.
وفي سنة 2007، استحدثت معاهدة لشبونة منصب رئيس الاتحاد الأوروبي، كما أقرت تنشيط السياسة الخارجية والأمنية المشتركة وتفعيلها، من خلال الإعلان عن إنهاء العمل الروتيني للرئاسة الدورية للاتحاد في مجال العلاقات الخارجية، والعمل على تحديد أهداف السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بشكل مبسط وواضح. وقد تم كذلك تأسيس مجلس الشؤون الخارجية الجديد وفصله عن مجلس الشؤون العامة.
ومن أبرز العوائق التي واجهت مشروع الجيش الأوروبي موحد، هو أن اتفاقية لشبونة، و رغم نصها على سياسة دفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي، فإنها أعطت الأولوية لسياسة الدفاع الوطني، وسمحت للدول الأعضاء حرية اختيار الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو البقاء على الحياد. وفي عام 2007 تم تشكيل مجموعتين قتاليتين من التكتل الأوروبي، إلا أنهما لم تستخدما مطلقاً ([25]).
لاحقاً، و في نوفمبر من عام ، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تأسيس جيش أوروبي موحد مستقل عن حلف شمال الأطلسي، حيث صرح صرح قائلا :”لن تحترمنا الولايات المتحدة كحلفاء إلا إذا كانت شؤوننا الدفاعية ذات سيادة، لهذا على أوروبا بناء استقلالها كما تفعل الصين” . وقد تمثلت الفكرة، كما طرحها ماكرون، في إنشاء جيش أوروبي موحد و موازي للناتو، يتولى مسؤولية تعزيز أمن القارة الأوروبية في مواجهة التهديدات المختلفة، سواء من جانب روسيا أو الصين أو حتى الولايات المُتحدة ذاتها، بما يمكن الأوروبيين من توفير الحماية لأنفسهم بعيداً عن مضلة الحماية الأميركية([26]).
وقد وقدم ماكرون مخططاً لتشكيل وحدة عسكرية أوروبية قوامها 5000 عسكري، مدعومة بسفن وطائرات حربية، ودبابات ومدرعات، وأسلحة ثقيلة، ويُطلق عليها اسم “قوة الدخول الأول”، وقد نال هذا المخطط موافقة 13 دولة أوروبية و في مقدمتها ألمانيا([27])، حيث خصص الاتحاد الأوروبي بنداً خاصا في ميزانيته لتفعيل هذا الجيش، بهدف نقل هذا الاتحاد من قوة اقتصادية إلى قوة عسكرية قادرة تنفيذ المهمات العسكرية تحت مظلة أوروبية خالصة.
وجاء هذا التوجه بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعرب فيها عن “ملل” واشنطن من تأمين الحماية للدول الأوروبية عبر حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، لم تتم ترجمة هذه المبادرات إلى إستراتيجية أمنية أوروبية مستقلة، إذ وجدت أوروبا نفسها مرة أخرى تحت وطاة الضغوط الإستراتيجية الناتجة عن “عقيدة الأمن القومي الأميركي”، والتي فرضت على الدول الأوروبية التقيد بالإجراءات المطلوبة في المواجهة مع روسيا في أوكرانيا([28]).
المطلب الثالث: تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية على مساعي تشكيل جيش أوروبي موحد
في ظل التحديات الجيوسياسية المتزايدة التي تحيط بالاتحاد الأوروبي، تظل فكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية موحدة مطروحة بقوة، خصوصاً في إطار مواجهة التهديدات الروسية وغيرها من المخاطر الاستراتيجية([29]). وقد كشفت الحرب الروسية–الأوكرانية عن واقع مقلق يتمثل في القصور الواضح ضمن استراتيجية الدفاع الأوروبي المشترك، إلى جانب ارتهان القدرات الدفاعية الأوروبية لحلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد أقر المفوّض الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بهذا الواقع في مطلع عام 2023، حين اعتبر أن “الحرب في أوكرانيا كانت بمثابة جرس إنذار لنا جميعًا بشأن قدراتنا العسكرية”([30]).
عادت هذه الحرب تسليط الضوء على فشل الدول الأوروبية، ولا سيما دول أوروبا الغربية، في بلورة جيش أوروبي موحد قادر على حماية القارة في أوقات الأزمات والصراعات. كما مثل الهجوم الروسي لأوكرانيا التحدي الأبرز الذي واجهه النظام الأمني الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945([31]).
وفي أعقاب خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي،رأى أنصار تعزيز السياسة الخارجية الأوروبية، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرصة مناسبة للنهوض بهذه السياسة نحو مستوى أكثر فاعلية وسرعة في اتخاذ القرار، مع تزويد الاتحاد بالأدوات اللازمة لتعزيز حضوره وتأثيره على الساحة الدولية، بما يضمن له دورا وازنا في المعادلات الاستراتيجية العالمية. وقد تصدّرت فرنسا جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى تعزيز قدراته العسكرية وبناء منظومة دفاعية أكثر استقلالا عن واشنطن([32]).
في منتصف عام ،2022 دعا الرئيس الفرنسي ماكرون إلى تطوير صناعة الدفاع الأوروبية لتصبح “أقوى بكثير وأكثر تطلباً”([33])، معتبراً أن حماية الأوروبيين لا يمكن أن تتحقق دون بناء جيش أوروبي قادر على مواجهة التهديدات الروسية، مشدداً على ضرورة تمكين أوروبا من الدفاع عن نفسها بشكل سيادي ومستقل عن الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق ، يعمل فريق من الخبراء القانونيين والمحللين الاستراتيجيين على بلورة تصور جديد للسياسة الخارجية الأوروبية، ترى المفوضية الأوروبية أنه سيفضي إلى ولادة مفهوم جديد للعلاقات الخارجية للاتحاد، يتماشى مع الامكانيات المتاحة والمبادئ التأسيسية التي انبنى عليها المشروع الأوروبي. ويستند هذا التصور إلى الحاجة الملحة لتجاوز حالة الشلل الناتجة عن قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات بشأن القضايا الحساسة، من خلال اعتماد آلية بديلة لاتخاذ القرار في السياسة الخارجية، تتيح تحييد الدول الأعضاء التي تعارض أو تتردد في تبني موقف أوروبي مشترك.
تهدف هذه الآلية الجديدة إلى تمكين الاتحاد الأوروبي من اتخاذ مواقف موحدة، واضحة، وسريعة بشأن الأزمات والقضايا الدولية التي تتطلب استجابات تتجاوز بطء وتيرة اتخاذ القرار داخل المؤسسات الأوروبية. وتأتي هذه الجهود في إطار سعي الاتحاد لبناء سياسة خارجية موحدة، تكون في جوهرها مدعومة بقوة عسكرية أوروبية قادرة على التعامل مع التحديات الأمنية دون الاعتماد الحصري على حلف شمال الأطلسي. وقد أسفرت تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية على الأمن الأوروبي عن نتائج بارزة، من أهمها:
– سعي دول الإتحاد الأوربي لإعادة النظر في النظام الأمني والدفاعي الأوروبي، فهذه الحرب أبرزت هشاشة الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة من خلال حلف الناتو، وكشفت محدودية القدرات الدفاعية الأوروبية الذاتية ، مما أدى إلى ظهور دعوات لتقوية السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة”.
-شكل الغزو الروسي لأوكرانيا متغيراً قد يدفع الدول الأوروبية لأحداث نقلة نوعية في ترتيبات الأمن الأوروبي، لاسيما فيما يتعلق بالتعامل مع التهديدات والمخاطر الأمنية المشتركة التي تواجههم.
– كشفت هذه الحرب عن أوجه قصور بنيوية في المنظومة الأمنية الأوروبية، على الرغم من الجهود التي بذلت سابقا لإرساء إجراءات ومؤسسات تعنى بحماية أمن الدول الأعضاء. وقد بدا جليا وجود ضعف في القدرات العسكرية الأوروبية ضمن هذه الترتيباتالأمنية([34]).
المبحث الثاني : صعوبات إنشاء جيش أوروبي موحد و السيناريوهات المستقبلية
حتى الآن ليس للإتحاد الأوربي جيش موحد بل هناك فقط مجموعة من مشاريع التعاون الدفاعي، وتواجه فكرة إنشاء هذا الجيش العديد من الصعوبات، و رغم ذلك فإن هناك العديد من السيناريوهات المتوقعة مستقبلا لتنفيذ هذا الهدف الحيوي والإستراتيجي .
المطلب الأول : الصعوبات التي تواجه إنشاء جيش أوروبي موحد
أثبتت المحاولات السابقة لإنشاء جيش أوربي موحد وجود عدة صعوبات حالت دون تحقيق هذا الهدف و من أبرزها:
– افتقار الإتحاد الأوروبي إلى عقيدة عسكرية موحدة، كما يفتقر إلى قوة عسكرية للتدخل السريع ولقيادة مشتركة.
– لا تزال دول البلطيق و عدد من دول أوروبا الشرقية وعلى رأسها پولندا ورومانيا، تبدي تحفظاً واضحا تجاه فكرة استبدال المظلة الأمنية الأميركية بمظلة أوروبية ضمن حلف الشمال الأطلسي بمظلة دفاعية أوروبية غير مكتملة المعالم. ويعود هذا الموقف إلى المخاوف الدائمة من التهديد الروسي، في ظل سعي موسكو إلى استعادة نفوذها السابق في المنطقة ([35])، وقد تعززت هذه المخاوف بعد ضعف الموقف الأوروبي إزاء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وتأكدت مجددا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 ([36]).
ويلاحظ أن العديد من الدول التي كانت خاضعة سابقاً للهيمنة السوفييتية لم تترسخ لديها بعد حالة الاستقلال الكامل والهوية الوطنية بالقدر الكافي، الأمر الذي يفسر تمسكها بالحماية الأميركية كضمانة أمنية. وتعد بولندا وعدد من دول أوروبا الشرقية أبرز النماذج في هذا السياق([37])،ففي الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى توحيد الصفوف، وتنسيق المواقف، واتخاذ قرارات جماعية بشأن القضايا الأمنية، بما يحقق قدرا من الاستقلالية عن التبعية العسكرية للولايات المتحدة، تتمسك دول أوروبا الشرقية بالاحتماء بالمظلة الأميركية، بسبب مخاوفها العميقة من التهديدات الروسية ( [38])،لذلك يرى كثير من الخبراء أن مشروع “الجيش الأوروبي الموحد” لن يتحقق في المستقبل القريب، ولن يشكل بديلا فعليا عن حلف شمال الأطلسي. وهذا ما يجعل من مسألة بناء منظومة دفاعية أوروبية مستقلة تحديا دائما في السنوات القادمة، نظرا لصعوبة تحقيق إجماع سياسي بين الدول الأعضاء حول هذا الملف في الأمد المنظور.
– التوجه داخل الاتحاد نحو التحالفات الثنائية خارج إطار الاتحاد الأوروبي وآلياته الأمنية المشتركة، وهذا الأمر بدا واضحاً خلال الحرب الروسية- الأوكرانية، فالظاهر المتطور للمؤسسات الأوروبية يخفي عدم قدرتها على مجاراة المتطلبات الأمنية لمشروع الاندماج الأوروبي، فبعض الدول الأعضاء تسيطر على مفاصل القرار في مؤسسات الإتحاد الأوربوي كما قد تقوم بمنع دول أخرى من الاضطلاع على بعض القضايا التي قد تمس سيادتها، فالإتحاد يتكون من نظام قوى منقسمة([39])، و هو ما يؤدي إلى تعقيدات كبيرة في عمليات اتخاذ القرار في الإتحاد الأوروبي.
– تراجع فكرة “الاتحاد النموذج” التي قامت عليها استراتيجية الاتحاد الأوروبي لعام 2003، والتي افترضت أن نجاح تجربة التكامل الأوروبي سيجعل من الاتحاد نموذجا يحتذى به عالميا. غير أن هذا التصور لم يعد قائما في ظل التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وظهور تكتلات ومنظمات إقليمية أخرى باتت تحظى بثقة متزايدة على الساحة الدولية. كما ساهم تصاعد النزعات القومية والحركات الشعبوية المناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي، والتي تنظر إليه باعتباره تهديدا للسيادة الوطنية وتدعو إلى الانفصال عنه، في تقويض تماسك الاتحاد الداخلي، مما أضعف من قدرته على الحفاظ على صورته كأنموذج متكامل وموحد في النظام الدولي المعاصر([40]).
– يعد تنوع التقاليد السياسية والعسكرية المتجذرة تاريخيا أحد أبرز العوائق التي تواجه الاتحاد الأوروبي في مجال بناء سياسة خارجية وأمنية موحدة. فالدول الأعضاء تختلف اختلافا جوهريا في مقاربتها للسياسات الدفاعية، سواء من حيث التخطيط الاستراتيجي، أو نوعية المعدات، أو الهياكل العسكرية، أو نمط القيادة ([41]). وهو ما يجعل مسألة إرساء سياسة دفاعية مشتركة أمرا بالغ الصعوبة، نظرا لاختلاف الخلفيات التاريخية والثقافية والتقاليد السيادية الخاصة لكل دولة ([42]).
ويعد التكامل في التسلسل القيادي والتراتبية العسكرية من أبرز التحديات شبه المستحيلة في هذا السياق، حيث أن لكل دولة نموذجها الخاص في إدارة القرار العسكري. فمثلا، في فرنسا ما بعد الحقبة الاستعمارية، يعد العمل العسكري من الأدوات المشروعة في السياسة الخارجية ويتمتع الرئيس بصلاحيات هائلة في توجيه القوات المسلحة الفرنسية،أما في ألمانيا فلا تزال تبعات الحرب العالمية الثانية تلقي بضلالها على الثقافة الاستراتيجية، إذ ترفض التدخلات العسكرية الخارجية ، ويشترط الحصول على موافقة البرلمان الألماني قبل الشروع في أي عملية عسكرية([43]) .
– تعد فكرة تشكيل جيش موحد يشمل جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والبالغ عددها سبعا وعشرين دولة، أمرا غير قابل للتحقق عمليا في الوقت الراهن. ويعود ذلك إلى وجود أربع دول أوروبية تتبنى مبدأ الحياد، وهي النمسا، وإيرلندا، ومالطا، وقبرص، إذ تمنع دساتيرها وقوانينها الوطنية الانضمام إلى التحالفات العسكرية. وعلى الرغم من أن هذه الدول تمتلك نظريا إمكانية تعديل هذا الوضع من خلال آلياتها السياسية الداخلية، إلا أنه لا توجد مؤشرات واقعية تدل على احتمال حدوث ذلك في المستقبل القريب. بل على العكس، يُنظر في هذه البلدان إلى الحياد باعتباره قيمة إيجابية تحظى بتأييد شعبي واسع([44]).
المطلب الثاني : السيناريوهات المستقبلية لإنشاء جيش أوروبي موحد
رغم الصعوبات التي واجهت وتواجه تأسيس جيش أوروبي موحد إلا أن التفاؤل مازال قائما بخصوص القدرة على تحقيق هذا الهدف الطموح، وتطرح في هذا السياق العديد من السيناريوهات المستقبلية منها ما هو متعلق بالقدرة على تكوين هذا الجيش بعد انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، كما تطرح العديد من التساؤلات حول الشكل الذي يمكن أن يكون عليه هذا الجيش في حالة إنشائه.
أولاً- سيناريوهات ما بعد الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي
شكّلت بريطانيا أحد أبرز العوائق أمام جهود تشكيل جيش أوروبي موحد، إذ كانت ترى أن الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يوفّر الحماية الكافية لأمن أوروبا ([45])، يمكن القول أن المملكة المتحدة لعبت دور “الكابح” لمسار البناء الأوروبي، لاسيما في أبعاده الأمنية، وركزت بدلا من ذلك على الاستفادة من مزايا السوق الأوروبية المشتركة.
قد اتسمت العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بسمات تفاوضية واضحة، حيث سعت لندن باستمرار إلى تكييف اتفاقيات الاتحاد الأوروبي وفقًا لمصالحها الخاصة، من خلال التفاوض لتقليص مساهمتها المالية في ميزانية الاتحاد، أو التحفظ على مسار الاندماج في مجالات العدالة والشؤون الداخلية، أو الامتناع عن الانضمام إلى منطقة اليورو([46])،كما مثلت محافظتها على عملتها الوطنية وبقاؤها خارج اتفاقية “شنجن” أبرز تجليات الوضع الخاص الذي طالما تمسكت به، رغم عضويتها الكاملة في الاتحاد.
استخدمت بريطانيا، في أكثر من مناسبة، أداة الاستفتاء الشعبي كوسيلة لتحقيق مزيد من الاستقلالية داخل الاتحاد . ففي عام 1975، أجرت استفتاء لتحسين شروط بقائها في الاتحاد والذي صوت البريطانيون فيه لصالح البقاء في المجموعة الاقتصادية الأوروبية([47]). و ازداد منسوب العداء اتجاه المجموعة الأوربية مع وصول مارغيريت تاتشر إلى السلطة في ماي من العام ،1979 حيث رفعت شعار ” أعيدوا لنا أموالنا”، وذلك على خلفية عبء تكاليف السياسة الزراعية المشتركة التي كانت تتحملها بريطانيا([48])، ومعلوم أن الرغبة البريطانية في الانضمام إلى المؤسسات الأوروبية كانت دائما تصطدم بالفيتو الفرنسي، ففي العام 1961 قررت الحكومة البریطانیة بأن المجموعة الاقتصادیة الأوروبیة ستنجو وأن على بریطانیا أن تكون داخلها. وقد كان الضغط الأميركي لحثها على الانضمام والفوائد الاقتصادیة المتوقعة مفتاح اتخاذ هذا القرار. غير أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول اعترض على هذا الانضمام عام 1963، معتبراً أن بريطانيا غير مؤهلة للعضوية. وعندما أعادت حكومة حزب العمال تقديم الطلب عام 1967، كرر ديغول اعتراضه، مدعيا أن بريطانيا تظهر عداء متجذرا تجاه المشروع الأوروبي، وأن اقتصادها لا يتوافق مع متطلبات السوق المشتركة، مما يستدعي “تحولًا جذريا” في سياساتها. ولم يفتح الباب أمام انضمامها إلا بعد مغادرة ديغول للسلطة عام 1969، لتتمكن بريطانيا أخيرا من الانضمام رسميا إلى المجموعة الأوروبية في عام 1973 ([49]).
الآن، ومع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي في 31 يناير من العام 2020، ومع التحديات الكبيرة التي طرحتها العديد من الأزمات التي عرفتها أوروبا،ومع ظهور جيل جديد من القادة السياسيين([50])، فالطريق سيكون مفتوحا أمام إستراتيجية عسكرية أوروبية موحدة، فإذا كان خروج بريطانيا كقوة عسكرية ونووية عالمية من الاتحاد الأوروبي قد يفقده أحد أهم ركائزه في مجال الدفاع و الأمن، إلا أن ذلك يمكن أن يفتح المجال أمام ألمانيا للتعاون مع فرنسا من أجل تطوير قدراتها العسكرية، وبالتالي إمكانية استكمال مسار بناء السياسة الأوروبية المشتركة للدفاع والأمن([51])، خاصة وأن ألمانيا تدعم تأسيس جيش أوروبي موحد للدفاع عن أوروبا، وتحقيق الاستقلال عن حلف شمال الأطلسي([52])، يرى عدد من خبراء الشؤون الأوروبية في بروكسل ([53]) أن على الاتحاد الأوروبي، في مرحلة ما بعد الانسحاب البريطاني، أن يمنح اهتماما متزايدا لدوله الأعضاء في الشرق والجنوب، خاصة في ظل التحديات المرتبطة باندماج هذه الدول في مؤسسات الاتحاد، وعلى وجه الخصوص المؤسسات ذات الطابع الدفاعي. ويؤكد هؤلاء الخبراء أن تأسيس جيش أوروبي موحد، وإن بدا أمرا معقدا في الوقت الراهن، فإنه يعد من منظور استراتيجي بعيد المدى نتيجة منطقية لمسار بناء وحدة سياسية أوروبية حقيقية.
ثانياً- النموذج المتوقع للجيش الأوروبي الموحد في حالة تشكيله
رغم الصعوبات الكبيرة التي قد تواجه إنشاء جيش أوروبي موحد ، و بافتراض أن هذا الجيش سوف يشكل في المستقبل القريب، فإن إثارة هذه القضية قد أدت إلى جدال أوروبي كبير حول النموذج الذي يجب أن يحكم تشكيل هذا الجيش.
1- سيناريو النموذج الاندماجي
يفترض تطبيق “النموذج الاندماجي” في تشكيل جيش أوروبي موحد إنشاء قوة عسكرية دائمة تتكوّن من عناصر محترفة، ومزودة بمعدات وتجهيزات تعتمد جزئيا أو كليا على موارد الاتحاد الأوروبي. ووفقا لهذا التصور، ستحل هذه القوة محل الجيوش الوطنية للدول الأعضاء، مما يعني دمج القوات المسلحة الوطنية للدول السبع والعشرين في قوة موحدة تحت إشراف أوروبي مشترك. وبذلك، سيكون بمقدور الاتحاد الأوروبي امتلاك قوة عسكرية تضم أكثر من مليون جندي، إلى جانب ترسانة ضخمة من المعدات والأسلحة([54]).
غير أن هذا السيناريو يتطلب من الدول الأعضاء التخلي عن جزء كبير من سيادتها في مجال الشؤون الدفاعية لصالح مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وهو أمر غير مرجح في المستقبل القريب نظرا للتحديات السياسية والمؤسساتية المعقدة التي قد تعترضه. والأسوأ من ذلك، أن هذا المنطق قد يُقابل برفض صريح من بعض الدول الأعضاء التي لا تبدي حماسة تجاه تحقيق اندماج أعمق في المجال الدفاعي، على غرار بولندا والسويد واليونان. ويضاف إلى ذلك عامل آخر يزيد من تعقيد هذا المشروع، يتمثل في ضعف الثقة لدى بعض الدول في قدرة الاتحاد الأوروبي، بوصفه كيانًا فوق وطني، على ضمان أمن جميع أعضائه بفاعلية واستقلالية.
2- سيناريو النموذج التعاوني
يعتبر”النموذج التعاوني” الخيار الأقرب لتشكيل الجيش الأوربي الموحد، و هو خيار أقرب شبها بمنظمة حلف شمال الأطلسي، من حيث الاعتماد على مساهمات طوعية من جانب الدول الأعضاء في الاتحاد، وفي هذا الشأن فإن المادة(42) من معاهدة الاتحاد تسمح للدول الأعضاء في الاتحاد بالتوقيع على التزامات تجاه بعضها و وتشكيل هياكل أو مؤسسات تعاونية ذات طبيعة مستدامة داخل الاتحاد الأوربي دون أن يترتب على ذلك فقدان لسيادتها، ويتعلق الأمر وفق هذا النموذج إنشاء جيش ثامن وعشرين أو قوة تدخل أوروبية بدلاً من حل القوات المسلحة الوطنية القائمة، بالتالي ستكون هناك قوة إضافية مجهزة ومكونة من جنود من جميع (أو بعض) الدول الأوروبية([55])،ومن ثَم فإن هذا النموذج ربما يكون هو المتاح في تشكيل الجيش الأوروبي الموحد حيث لا يَفترض فقدان الدول الأعضاء لعنصر السيادة وفي الوقت ذاته يمهد الطريق لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي، وبذلك قد يكون النموذج الأقرب إلى تشكيل الجيش في المدى القصير على غرار إما القوة الأوروبية للرد السريع كما ورد في قمة “سانت مالو”، حيث تتكون من قوات مشتركة مع مساهمات طوعية من الدول الأعضاء، بالإضافة إلى مراكز قيادية مشتركة وفي الوقت نفسه تعمل جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة للدول الأعضاء، أو على غرار مجموعة القتال التابعة للاتحاد الأوروبي حيث تعد الدول الأعضاء بصورة تطوعية مجموعات قتالية تقدر بنحو 1500 مجند وتضعهم تحت مطلب الاتحاد الأوروبي، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أن الدول الأعضاء قد وافقت بالفعل على إنشاء هذا النموذج ومن المحتمل أن توافق على تطويره ليصبح هيكلًا أكثر تعبيرا عن الاندماج على المدى الطويل أي نحو 25 عاما وإن كان هذا يعتمد بالأساس على الإرادة السياسية للدول الأعضاء والقدرات المالية فضلا عن تجاوز أزمة الثقة بين الأعضاء من جانب أو تجاه الاتحاد الأوروبي ذاته من جانب آخر([56]).
الخاتمة :
يتضح من التحليل السابق أنه لیس من السهل التنبؤ بمستقبل الاتحاد الأوروبي على المستوى العسكري خاصة في ظل تعدد العوامل المؤثرة فیه، لكن من الممكن على الأقل تلمس بعض الخيارات المتاحة أمام قادته ودوله من خلال دراسة المسار الأمني و العسكري للاتحاد والبحث في مكامن الخلل في بناه المؤسسیة وبالتالي تكوین صورة واضحة عن أسباب الفشل التي یعیشها مشروع تكوين جيش أوروبي موحد الیوم، وهو ما یسمح بمناقشة تصورات قد تكون حلولا ممكنة لهذه المشكل، فالأمر يتطلب إصلاحات جوهریة في المؤسسات الأوروبیة وآلیات عملها، وهذا لا یمكن تحقیقه إلا من خلال تعزیز وٕإعادة بعث الهویة الأوروبیة التي بدورها تزید من تماسك الاتحاد.
تنويه: نشرت هذه الدراسة في مجلة العلاقات الدولية، أكاديمية العلاقات الدولية، تركيا، المجلد الثالث، العدد التاسع، يوليو/ تموز 2025.
([1]) رضا زيدان،” لماذا فشلت أوروبا في بناء استراتيجيتها الأمنية بعيداً عن واشنطن؟”، الميادين، 15 يونيو 2023، أنظر في الرابط:
https://www.almayadeen.net/news/politics/%
([2]) محمد مجدان، تحديات قيام سياسة خارجية أوروبية موحدة ومؤثرة سيادة أوروبا اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، مجلة المفكر، جامعة محمد خيضر، بسكرة، المجلد 09،العدد02، سبتمبر 2014، ص 276.
[3] – Arnaud Gary,La Stratégie Française en Matière de Défense Européenne et sa Relation Avec L’otan, ASPJ Afrique & Francophonie ,1er trimestre 2014,p 55.
[4] – أحمد الباسوسي، تصدع الأحلاف العسكرية من منظور المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة حالة حلف شمال الأطلنطي، مجلة الدراسات السياسية والاقتصادية، جامعة السويس، عدد 1، أبريل 2024،ص 591.
[5] – Vojtech Jurcak,Peter Polacek, the need for the European union army/on armed forces, Torun International Studies, Vol. 2 No 16, December 2022,p 103.
[6]– Frederic Mauro, Olivier Jehin,a European army to do what?, Institut De Relations Internationales et Stratégiques ,April 2019,p 2.
[7] – رضوان بن تومي ، الاتحاد الأوروبي: دراسة في مراحل تطور التجربة التكاملية الأوروبية، مجلة أكاديميا، جامعة حسيبة بن بوعلي، عدد4، 2016، ص 139.
[8] – Pierre Haroche , retour sue l’ échec de l’armée Européenne (1950-1954) :quelles leçons pour demain, Les Champs de Mars, Presses de Sciences Po, N° 30, 2018/1,p 47.
[9] – محمد بومرزاق ، محمد سمير عياد، الاتحاد الأوروبي وتجربة التكامل الإقليمي: المسار والتحديات، مجلة التكامل الإقتصادي، ، المجلد10،العدد3، سبتمبر2022، ص 579.
[10] – حسن نافعة،” لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ تحييد الخلافات السياسية”، منظمة النهضة العربية للديمقراطية و التنمية، عمان، 12أكتوبر 2022، أنظر في الرابط:
[11] – سعاد محمود أبو ليلة،جيش أوروبا الموحد،آفاق وتحديات، آفاق استراتيجية،مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، القاهرة ،العدد 5، مارس2022، ص 87 – 88 .
[12] – Sandro Gozi, Dusan Sidjanski , Francois Saint- Ouen, une défense européenne autonome est – il encore possible?, Centre de Compétences Dusan Sidjanski en Etudes Européennes, Université de Genève, 2023,p 7.
[13] – François Chauvancy, Europe de la défense, défense de l’Europe, défense nationale, le temps du choix, Humanisme, Le Grand Orient de France, N°322 , février 2019, p 44.
[14] – Martin Trybus, The Legal Foundations of a European Army, Working Papers, Institute of European Law, United Kingdom, Paper 01/2016, p 1.
[15] – بشير البكر، “الجيش الأوروبي الموحد: فرصة ضائعة، العربي الجديد”، 4أكتوبر 2021، أنظر في الرابط: https://urlr.me/XtSRUs
[16]– معن عبد العزيز الريس، الإتحاد الأوربي و التفاعل في النظام الدولي الجديد : القيود و الفرص، جامعة الشرق الأوسط، عمان، نوفمبر 2014، ص126.
[17]-حسين طلال مقلد، محددات السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية المشتركة، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية و القانونية، مجلد 25، العدد1، 2009، ص 622.
[18] – Oliver Krentz, La Politique de Sécurité et de Défense Commune, Fiches thématiques sur l’Union européenne, Parlement Européen, 04/2024, p 1.
[19] – سامية خلفى ، ليندة خيدر ، إستراتيجية الدفاع والأمن للإ تّحاد الأوروبي في المتوسط، كلية الحقوق والعلوم السياسية،قسم العلوم السياسية، رسالة ماستر، جامعة مولود معمري، 2017، ص 50.
[20] – مراد مسعودي، السياسة الأمنية الأوربية المشتركة: الواقع و التحديات، مجلة صوت القانون، عدد خاص، جامعة خميس مليانة، مارس 2022، ص 630.
[21] – رقية غربي، السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بعد الحرب الباردة، رسالة ماجستير، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة محمد خيضر بسكرة، 2012، ص 110- 111.
[22] – يوسف عنتار، قراءة في الأبعاد الجيوسياسية والأمنية في ظل المستجدات الدولية الراهنة، مجلة حمورابي للدراسات، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، العدد47، سبتمبر 2023،ص 164.
[23] – سلامة غسان ،أمريكا والعالم، إغراءات القوة ومداها، دار النهار للنشر، بيروت، 2005 ، ص 274.
[24] – Joanna Liponska-Labérou, Laurent Hottiaux, La Politique de Défense Européenne L’Harmattan, 2000, p 27.
[25] -جريدة الأخبار، الجيش الأوروبي يستفيق مجدّداً: عقبات الماضي لا تزال حاضرة، الأربعاء 25مارس 2022، أنظر في الرابط: https://urlr.me/YJxRTV
[26] – هشام قدري أحمد، تفكك حلف شمال الأطلسي- الناتو: خطأ استراتيجي تفادته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، مركز البيان للدراسات والتخطيط، بغداد،2024 ، ص 7.
[27] – Frédéric Mauro, Olivier Jehin, Pourquoi ne faut- il une armée européenne, Institut De Relations Internationales et Stratégiques, Janvier 2019,p 2.
[28] – رضا زيدان، مرجع سابق الذكر.
[29] – أحمد خميس، محمد الطيار، بريطانيا والبريكست الخشن(التداعيات المستقبلية)، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآدابـ الكويت، العدد 187، يوليوز سبتمبر 2022، ص 264.
[30]– أسطيفان يلدز، أمن قومي جيش أوروبي موحد: القدرات والتحديات، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات،ألمانيا، 8 يناير 2024، ص 2.
[31] – Anne-Hélène Bertana. L’évolution de la Coopération en Matière de Défense en Europe : Recherche Sur Une Méthode Révélatrice de La Spécificité De l’Union Européenne, Université de Bordeaux, 2024,p 17.
[32] – جهاد الملاح، الإتحاد الأوروبي بعد غزو أوكرانيا: تحولات ومسارات، مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية، اسطنبول،ديسمبر 2022، ص 19.
[33] – منى سليمان، التحديات المستقبلية للاتحاد الأوروبى في 2023 :الواقع والآفاق، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، 22يناير 2023، أنظر في الرابط: https://urlr.me/7ZnBdM
[34] – سعد حقي توفيق ، إنعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية على الأمن الأوروبي ، مركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية، 15 سبتمبر 2023، أنظر في الرابط: https://urlr.me/YET2dW
[35] – جريدة الأنباء، 6 تحديات على الإتحاد الأوربي مواجهتها في 2020، الكويت، الإثنين 23 مارس 2020، ص 20.
[36] – جهاد الملاح، مرجع سابق الذكر، ص 4.
[37] – صالح النملة، أوروبا من التبعية إلى محاولة الاستقلال، جريدة الرياض السعودية، أنظر في الرابط: https://www.alriyadh.com/14373
[38] – يوسف عنتار، مرجع سابق الذكر ،ص 164.
[39] – Sophie Meunier, Kathleen McNamara, Making History:European integration and institutional change at fifty,The state of the European union, Oxford University Press, Volume 8, 200 , p .34.
[40] – رضا زيدان، مرجع سابق الذكر.
[41]– Friedrich-Ebert-Stiftung,Vers une armée européenne, Analyses et Documents, Bureau de Paris, Janvier 2008, p.1.
[42] – جريدة الأنباء، مصدر سابق، ص 20.
[43] – أندرياس كلوثجيش، أوربي موحد…فكرة مستحيلة الحدوث، صحيفة الشرق الأوسط، الأربعاء 4 ديسمبر 2019، انظر في الرابط: https://urlr.me/bTVtju
[44] – مصطفى عيد إبراهيم، تحديات ضاغطة: ما فرص إنشاء الجيش الأوروبي الموحد؟، مركز رع للدراسات الإستراتيجية، 23 فبراير 2025، أنظر في الرابط: https://rcssegypt.com/20460
[45] – جون بيندر، سايمون أشروود، الإتحاد الأوروبي : مقدمة قصيرة جدا، ترجمة خالد غريب علي، مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة، القاهرة، 2015 ، ص 13.
[46] – أسماء خرفي ، إشكالية خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، بحث لنيل الماستر، جامعة قاصدي مرباح،الجزائر، 2019، ص 61.
[47] – Vernon Bogdanor, Beyond Brexit : Towards a British Constitution, Bloomsbury Publishing, Feb 2019, p.10.
[48] – Clive Archer, The European Union: Structure and process,Continuum, London and New york, 3 edition, 2000,p.14.
[49] – حسین ابراهیم شمعون، مسار الاتحاد الأوروبي ومستقبله سیاسیا واقتصاديا، رسالة ماجستير، الجامعة اللبنانية، 2018، ص 7 .
[50] – Josef Weinzierl, An Army of Peoples? A Demoicratic Perspective on a Future European Army, European Papers, Vol 6, No 2, 2021, p.1050.
[51] – إيمان تمرابط، رهانات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي و مستقبل الوحدة الأوروبية، المجلة الجزائرية للأمن و التنمية، جامعة باتنة، العدد10، يناير 2017، ص442.
[52] – وحدة الدراسات الأوربية،اتجاهات السياسة الخارجية للحكومة الإئتلافية الألمانية تجاه الشرق الأوسط و منطقة الخليج، مركز الإمارات للسياسات، أبوظبي، 3فبراير 2022، ص 3.
[53] – هويدي مروة أحمد نظير، تهديدات متباينة : مكامن الخطر على مستقبل أوروبا،مكامن الخطر على مستقبل أوروبا، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، المجلد 56، العدد 220، 30 أبريل 2020، ص 13.
[54] – مصطفى عيد إبراهيم، مرجع سابق.
[55] – Ulrike Franke, The never-ending debate of the European Army and why it is unhelpful, Heinrich Böll Stiftung in, 22 January 2024, sur le site: https://www.boell.de/en/2024/01/22/never-ending-debate-european-army-and-why-it-unhelpful( 30- 5- 2025).
[56] – سعاد محمود أبو ليلة، المرجع السابق، ص 90- 91.