أمنيةأوراق و دراسات

التحديات الأمنية في المتوسط: مقاربة جيوحضارية

د. سفيان طبوش

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر.

ملخص:  

البحر الأبيض المتوسط ليس بحرا واحدا بل عدة بحور متعاقبة، إنه ليس حضارة بعينها بل هو مجموعة من حضارات متراكمة الواحدة فوق الأخرى؛  فلقد نشأ على ضفافه منذ القدم حضارات تاريخية عديدة منها الفرعونية واليونانية والرومانية، والعربية الإسلامية، وتوالت عليه القوى الكبرى المختلفة التي اعتمدت بالأساس على القوة، فعلى مر التاريخ الإنساني لم يكن البحر الأبيض المتوسط مجرد مانع مائي بين منطقتين جغرافيتين متجاورتين، بل كان دوما منطقة فاصلة بين حضارتين متمايزتين ومختلفتين تجمع بينهما جدلية الصراع/ الحوار.

الكلمات الدالة: المتوسط، ديناميكية العلاقات، تاريخانية المتوسط، جيوحضارية المتوسط.

مقدمة:

على مر التاريخ الإنساني لم يكن البحر الأبيض المتوسط مجرد مانع مائي بين منطقتين جغرافيتين متجاورتين، بل كان دوما منطقة فاصلة بين حضارتين متمايزتين ومختلفتين تجمع بينهما جدلية الصراع/ الحوار، كان البحر الأبيض المتوسط لقرون مضت حاجزا منيعا بين الشمال والجنوب تحت تأثير سياسة التفرقة البيزنطية التي طغت على سياسة روما التي كانت ترمي إلى الإندماج، وشهد هذا البحر حروبا متوالية عبر العصور بين اليونان والفرس، وبين الرومان وقرطاجنة، وبين بيزنطا والعرب وبين الصليبيين والمسلمين، وبين إسبانيا والأتراك، وهكذا سيطرت على البحر المتوسط نظرة صراع ثنائي فصل بقوة بين الشمال والجنوب وبين الغرب والشرق، ما يقودنا إلى طرح الإشكال الرئيسي: إلى أي مدى يمكن أن تعتبر الجيوحضارية محدداً لديناميكية التفاعلات في منطقة المتوسط؟.

ويهدف البحث إلى التعمق في فهم الحوافز لحظة الوصل بين المنطقتين لإيجاد خيط (مسار) ناظم يسمح بمتابعة دعم العلاقات، رغم الوعي التام بالتقاطع والصعوبات التي تكتنف روابط علائقية معقدة خاصة وأنه لا يمكن الفصل بين ما هو سياسي وإقتصادي واجتماعي وحضاري ثقافي وأمني، ما يستوجب تفعيل دور التفكير في إنتاج معقولية نقدية تحررية تقوم على إعادة بناء مقتضيات الواقع وذلك لرسم أفق جديد للتواصل يتسم بالوضوح والجدية والصدق.

منهج البحث:

1-الدراسة التاريخية: نستخدم الدراسة التاريخية باعتبارها تبحث في الأحداث التاريخية الماضية  وتصف الظواهر والحقائق لغرض الوصول إلى معرفة الظروف التي أحاط بشأنها موضوع الدراسة عبر مختلف المراحل الزمنية وهذا ما يسهل علينا تتبع المسار التاريخي للعلاقات الأورو متوسطية والظروف التي أحاطت بتطورها خلال الفترات الزمنية، كما أنها تساعدنا على الاستقصاء والتطور الجيوحضاري وتحديد أبعاده وميادينه، وتوفر لنا المعلومات لعملية التحليل والتفسير، بالإضافة إلى الكشف عن الروابط السببية للديناميكية وكذلك العلاقة التفاعلية بين ضفتي المتوسط، إلى جانب ذلك فإنها تساعدنا على التعرف على الأدبيات السابقة.

2- المنهج الوصفي: يساعد على عرض المعلومات وفق التسلسل التاريخي والمراحل التي مرت بها العلاقات في المتوسط، فيقف على أدنى جزيئاتها وتفاصيلها كما وكيفا حيث ينقل الصورة من خلال الألفاظ والعبارات والتشابيه ويذكر خصائص ما هو كائن ويحدد الظروف والعلاقات وتتبع  الممارسات السائدة.

3- المنهج الاستقرائي: من خلاله سنقوم بملاحظة واقع العلاقات بين ضفتي المتوسط مستهدفين تسجيل خصائص وسمات ومؤشرات هذا الواقع على نحو يهيئ لنا الوقوف على حقيقته وخلفياته وكيفية الاستفادة منه، من خلال السير من الخاص إلى العام كما يشمل مختلف الاستنتاجات العلمية المستندة على الملاحظة، وهو يدل على حركة العقل للوصول إلى تفاصيل وتحليل طبيعة العلاقات. ويتم تحليل الموضوع من خلال ثلاث محاور رئسية:

-المتوسط تفاعل في ظل معادلة جيوسياسية

-تاريخانية التفاعل في المتوسط من النهضة إلى الهيمنة

-المتوسط تفاعل جيوحضاري وبشري

المطلب الأول: المتوسط تفاعل في ظل معادلة جيوسياسية

المتوسط بحر متاخم للمحيط الأطلسي، يقع بين جنوب أروبا وشمال إفريقيا وغرب آسيا،مشكلا شبه مستطيل بين خطي عرض 46 و 30 درجة شمالا وخطي طول 5,5 غربا و36 شرقا، وتبلغ مساحته 2966000 كلم2، ويعتبر البحر الأسود الذي يبلغ 508000 كلم2 امتدادا له وبالتالي بحر مرمرة الرابط بينهما 1400 كلم2، فتصبح مساحته 3475400 كلم2[1]، ويبلغ طوله من الشرق إلى الغرب حوالي 334 ميلا بحريا مشكلا الخط المستقيم جبل طارق ـ بيروت، أما عرضه يتراوح بين 814 ميلا بين مضيقي الداردانيل التركي وميناء بور سعيد المصري، و410 ميل بين ميناء مرسيليا الفرنسي وميناء بجاية بالجزائر[2]، وبحكم الطبيعة الجغرافية يكاد يكون مغلقا لولا مضيق جبل طارق وقناة السويس، فالبحر الأبيض المتوسط هو بحر داخلي واسع يغطي مساحة اجمالية تفوق  ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، ويربط بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، يحتوي على ممرات حيوية كمضيق جبل طارق والبوسفور والدردنيل وقناة السويس.

أشتق اسم البحر المتوسط من كلمتين لاتينيتين (Méditerranée) وهما (Médius) تعني المتوسط و(Terra) تعني الأرض، فهو يتوسط القارات الثلاثة للعالم القديم (آسيا، أوروبا، إفريقيا) ويتمتع بموقع استراتيجي هام؛ عرف البحر المتوسط بعدة أسماء عبر التاريخ، فمثلا كان الرومان يسمونه (Mare Nostrum) أي بحرنا (بحر الروم)، ويطلق عليه العرب البحر الأبيض المتوسط، أما الأتراك فسموه (أكنديز) التي تعني البحر الأبيض وذلك لكثرة زبد أمواجه؛ ويعرف أيضا أنه بحر ” محاط بالأراضي أو بحر وسط الأراضي”[3].

البحر الأبيض المتوسط منذ عرف الإنسان التعامل مع الأمواج وأدرك لعبة الرياح أصبح دائب الحركة، كثير التنقل عنودا في السعي إلى اختصار المسافات، وهو ملتقى جد قديم للطرق، حيث يقول فرناند بروديل واصفا إياه: “… البحر الأبيض المتوسط إن لم يكن ألف شيء في نفس الوقت…؟ فإنه ليس مشهدا مفردا من مشاهد الطبيعة، بل هو عدد لا يحصى من المشاهد، إنه ليس بحرا واحدا بل عدة بحور متعاقبة، إنه ليس حضارة بعينها بل هو مجموعة من حضارات متراكمة الواحدة فوق الأخرى…”[4].

فلقد نشأ على ضفافه منذ القدم حضارات تاريخية عديدة منها الفرعونية واليونانية والرومانية، والعربية الإسلامية، وتوالت عليه القوى الكبرى المختلفة التي اعتمدت بالأساس على القوة، ويظهر البحر الأبيض المتوسط على الخريطة الطبيعية للعالم كشق بسيط للقشرة الأرضية، كمنطقة ضيقة ممتدة من جبل طارق حتى برزخ السويس والبحر الأحمر، تظهر الطبوغرافية تصدعات، شقوق، انهيارات، تعاريج وتغضنات من العهد الجيولوجي الثالث، قد أحدثت هوات مائية عميقة جدا، تقابلها شرائط لا تنتهي من الجبال الشابة ذات الأشكال الحادة والقمم العالية، بحيث يمكن للهوة السحيقة الموجودة قرب رأس ماتابان والبالغة من العمق4600 م أن تبتلع بسهولة جبل الأولب، أعلى قمم اليونان الذي يصل ارتفاعه إلى 2985م، هذه الجبال تقتحم البحر وتخنقه أحيانا حتى يصير ممرا للماء المالح، هكذا حاله في جبل طارق وحلوق بونيفاشيو ومضيق مسينا وعند المهاوي الدوامة في شاريبد وشيلا، وكذلك على طول الدردانيل والبوسفور، إنه لم يعد بحرا، بل مجرد مجاري ماء، أو بالأحرى بوابات بحرية بسيطة[5].

يتميز المتوسط بخاصية جيولوجية لها تأثير على أهمية الجيواستراتيجية بوجود نقاط الخناق التي تسمح بمراقبة الممرات البحرية والجوية ما يكسبها أهمية عند رجال الاستراتيجية البحرية وذلك من خلال مضيق جبل طارق والبوسفور والدردنيل وقناة السويس، ومضيق صقلية ومضيق مسينا ( بين شبه الجزيرة الايطالية وصقلية) ومضيق أوترانتو ( بين إيطاليا وألبانيا)[6].

فالبحر الأبيض المتوسط تكتنفه الجبال من كل الجهات تقريبا حديثة التركيب عالية ذات أشكال متفاوتة بمثابة هياكل حجرية منغرزة في جلد البلاد المتوسطية( جبال الألب، الأبنين، البلقان، الطورس، لبنان، الأطلس، سلاسل إسبانيا، البيريني)، ومع ذلك فإن الجبال لا تحيط بالبحر الأبيض المتوسط من كل الجهات، فهناك بعض الانقطاعات حتى على ضفته الشمالية، أما الضفة الجنوبية تنبسط الشواطئ، فلا نتوءات تتألق بل تمتد ألاف الكيلومترات من الساحل التونسي إلى دلتا النيل ثم إلى جبال لبنان، بحيث لو أشرفنا على هذه الشواطئ الرتيبة اللامتناهية لرأينا البحر وهو يلامس الصحراء[7].

هذه البوابات والمضائق، وهذه الجبال المكونة لها، هي التي حددت مفاصل هذا الفضاء المائع، واقتطعت منه أجزاء استقلت بنفسها، كالبحر الأسود وبحر ايجي((Egée وبحر الأدرياتيك، الذي ظل دهرا طويلا ملكا للبندقية، وكذلك بحر تيرانيا الأكثر منه اتساعا؛ ويقابل هذا التقطيع للبحر حسب سلسلة من الأحواض، تقطيع للبر هو بمثابة الصورة المعكوسة له، ويكون بدوره بلدانا مستقلة بذاتها هي شبه جزيرة البلقان وآسيا الصغرى، وإيطاليا والمجموعة الإيبيرية وإفريقيا الشمالية.

ثم إنه من خلال هذه الصورة الجميلة يبرز لنا خط محوري هام وضروري لفهم ماضي البحر الأبيض المتوسط منذ عصر المستعمرات اليونانية والفينيقية إلى العصر الحديث، فقد تواطأت الجغرافيا والتاريخ على خلق حد فاصل في وسط تكونه السواحل والجزر التي تقطعه من الشمال إلى الجنوب، وتقسمه إلى عالمين متناحرين، ويمكننا رسم هذا الحد انطلاقا من كرفو (Corfou) وقناة أوترانتا (Otrante) التي تخنق بحر الأدرياتيك حتى منتصفه، إلى صقلية ثم إلى الشواطئ الحالية للبلاد التونسية، وعندها نكون شرقا في الشرق وغربا في الغرب بالمعنى الكامل والكلاسيكي لهاتين الكلمتين( أنظر الخريطة رقم01).

الخريطة رقم 01: خريطة البحر الأبيض المتوسط

فمن يستغرب بعد ذلك أن يكون هذا الخط المحوري الفاصل بين هذين العالمين هو نفسه خط المواجهة بينهما في المعارك التاريخية الماضية ( أكسيوم، لابريفيسيا، لبانتا، مالطا، زاما، وجربة)، خط الأحقاد والحروب التي لا تخمد، خط المدن والجزر المحصنة التي تراقب بعضها بعضا من أعلى الأسوار والأبراج[8].

إن البحر الأبيض المتوسط یتصل بالبحار والمحيطات عن طریق جبل طارق وقناة السویس في حين أن مضيق البوسفور والدردنيل یربطان المتوسط من خلال مرمرة بالبحر الأسود المقفل، وهذه المضائق ذات أهمية استراتيجية یطلق عليها رجال الاستراتيجية البحریة نقاط الخناق، في حين أن مضيقي جبل طارق وصقلية یقسمان البحر المتوسط إلى جزأین فهما نقطتان أساسيتان لمرور البواخر من الأطلسي إلى المتوسط، ومن الجزء الغربي للمتوسط إلى شرق، وتزداد أهميته في حالة الأزمات والتوترات بالتضييق على أوروبا الغربية كون ما سبق تعتبر نقاط مرور ملزمة، فرغم تطور الأسلحة نجد أن الأساطيل المتمركزة بالمتوسط لها دور فعال في المراقبة و التدخل في الأزمات التي یعتبر المتوسط مسرحا لها خاصة في جزئه الشرقي.

ولأن البحر الأبيض المتوسط مغلق نجد أن الدول العربية تتحكم في منافذه أو في مداخله ومخارجه فغربا تتحكم في مضيق جبل طارق و شرقا تتحكم في قناة السویس، وجنوبا عن طریق مضيق باب المندب المتحكم في البحر الأحمر من ناحية الجنوب ومضيق هرمز الذي یتحكم في وسائل المواصلات بين الخليج العربي و خليج عمان ثم إلى البحر الأحمر فالبحر الأبيض المتوسط[9].

من هذه الزاوية تكتسب المنطقة أهمية خاصة في السياسة الدولية نظرا إلى موقعها الاستراتيجي الحيوي في قلب العالم، حيث تعتبر نقطة تقاطع مهمة بين أروبا وآسيا وإفريقيا وبين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، وتتحكم المنطقة بأهم مواقع المرور الدولية وهي قناة السويس بين المتوسط والأحمر، ومضيق باب المندب بين الأحمر والعرب والهندي، ومضيق البوسفور والدردانيل بين الأسود والمتوسط ومضيق جبل طارق بين المتوسط والأطلسي[10].

لكن البحر المتوسط ليس مجرد بحيرة جغرافية في قلب العالم فحسب، وإنما هو فضاء یتميز بحركية تجاریة ذات أهمية استراتيجية كبيرة ما جعل من المنطقة مهدا للحضارات وملتقا للثقافات ومسرحا لأبرز الصدامات والأزمات التي عرفتها الإنسانية.

فالمتوسط يتسم بالتعدد والتنوع، ويظهر ذلك في تعدد اللغات التي يتكلمها سكان المنطقة (العربية، الفرنسية، اليونانية، التركية، الايطالية، الاسبانية، العبرية…) إضافة إلى تنوع الديانات فهناك الإسلام والمسيحية واليهودية الرئيسية في المنطقة، بالاضافة إلى تنوع الأصول بين العربية والآسيوية والأروبية؛ وهناك 22 دولة لها ساحل متوسطي بالاضافة إلى جزيرتي قبرص ومالطا، فالإفريقية منها المغرب، الجزائر تونس وليبيا والآسيوية فلسطين اسرائيل، لبنان، سوريا وتركيا وهذه الدول كل لها أولوية في النزوع الإقليمي سواء أورو متوسطي أو شرق أوسطي (أنظر الجدول رقم 01)، أما الأوروبية فهي إسبانيا، فرنسا، موناكو، إيطاليا، سلوفينيا، كرواتيا، البوسنة، الهرسك، يوغسلافيا، البانيا، اليونان، كما أن هذه الدول أعضاء في بعض التجمعات كإتحاد المغرب العربي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، فالمتوسط مهد الحضارات والديانات بالإضافة إلى أن ثلث التجارة النفطية العالمية تمر عبره.

الجدول رقم (01): النزوع الإقليمي المتوسطي لبلدان جنوب وشرق المتوسط

البلدحجم البلد في المتوسطالنزوع الإقليمي المتوسطي للبلد
المغرببلد متوسطنزوع في غرب المتوسط ونحو الاتحاد الأوروبي
الجزائربلد كبيرنزوع في غرب المتوسط
تونسبلد صغيرنزوع في غرب المتوسط ونحو الاتحاد الأوروبي
ليبيابلد صغيريرجع أن تبني ليبيا علاقات موسعة في غرب المتوسط ومع الاتحاد الأوروبي بعد 2011
مصربلد كبيرنزوع شرق أوسطي
الأردنبلد صغيربلد شرق أوسطي باهتمامات أورومتوسطية
إسرائيلبلد صغيرلا يمكن لإسرائيل إعتماد مشروع إقليمي متوسطي أو في إحدى جهات المتوسط، بالنظر لعلاقاتها المتوترة مع الشركاء المتوسطيين، ولهذا السبب تم تصنيفها بلدا متوسطيا صغيرا
لبنانبلد صغيربلد ذو اهتمامات أورو متوسطية
سوريابلد متوسطبلد شرق أوسطي، يرجح تزايد اهتمامه بالمتوسط بعد سقوط حكم بشار الأسد
تركيابلد كبيربلد شرق متوسطي

المصدر: كريم مصلوح، مرجع سابق، ص129.

نجد أنه فيما يتعلق بالخصائص السياسية والإستراتيجية للبحر المتوسط حسب المعيار الجغرافي بعض الدول لا تدخل ضمن نطاق الدول المتوسطية، إلا أنه هناك بعض الدول بالإضافة إلى الدول المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط نظرا لنشاطها المتوسطي إضافة إلى موقعها القريب من الدول المتوسطية وحسب المعيار الاستراتيجي نجد الأردن موريتانيا، البرتغال وحتى دول الخليج تم الإشارة إليها أثناء اطلاق المبادرة الايطالية – الاسبانية 1990 لعقد مؤتمر التعاون والأمن في المتوسط، فبعض الدول وإن كانت لها إهتمامات متوسطية فهي ثانوية مقارنة بارتباطها بالشرق الأوسط مثل سوريا ومصر وإسرائيل، فإسرائيل صورتها تجعلها معنية أكثر بالاستجابة للسياسات الأورو متوسطية وليست قادرة على المبادرة فيها.

 لقد تغيرت في الواقع الصورة الجيوسياسية للفضاء المتوسطي، وأصبحت تتميز بإعادة التشكيل وبنوع من التمزق المقلق وانقلابات في مواقف مفاجئة؛ حيث إتسعت حدود الاتحاد الأروبي حتى أوكرانيا، والانتقال من من كتلة(15 +12) إلى (27 +10) حيث تحولت الشراكة إلى أورو عربية، وإصرار الاتحاد الأوروبي على دمج العرب والإسرائيليين في مشروع أصبح معقدا[11].

فالحدود تتغير وفق المعطيات الأمنية وتغير الفاعلين في المنطقة وتأثيرها على احتياجاتهم الأمنية، فالمتوسط مجال للتنوع الاقليمي؛ ففي أروبا حدث التصالح والتطبيع والاعتراف وعدم المساس بالحدود أولا، فكان بعد ذلك مشروع الإندماج الإقليمي، بينما تريد أروبا أن يتبع العرب المنطق المعكوس بأن يتعاونوا مع إسرائيل قبل الصلح[12].

وفي ظل التحولات الجيوسياسية التي ترتبت عن إعادة توزيع عناصر القوة بين أطراف النظام الدولي وتوسيع الاتحاد الأروبي وحلف الناتو، وزيادة الاهتمام بمنطقة المتوسط وشمال افريقيا، ما يمكننا من التحدث عن الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة المتوسط بربطه بشمال إفريقيا باعتباره يمثل من وجهة نظر جيواستراتيجية مايلي:  

البحر الأبيض المتوسط يشكل بوابة إفريقيا بالنسبة لأروبا الشيء الذي يزيد من أهميته، والأكثر من ذلك فإنه يشكل جسرا بين المنطقتين، الأولى بحرية تشمل المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، والثانية برية تتمثل في حزام الساحل مرورا بالأطلس نحو البحر الأحمر، وهو حزام يضم موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، والسودان.

تتضح الأهمية الجيواستراتيجية كذلك في كون المنطقة تشكل الجزء الجنوبي لدول منظمة حلف شمال الأطلسي، وهذا يعني أن كل ما يحدث في منطقة شمال إفريقيا من عدم استقرار أو توترات أخرى، يمكن أن يكون له انعكاسات وتأثير على الأمن بالنسبة لدول حلف الشمال الأطلسي، كما يجب ألا ننسى أنه يجاور جزر وأرخبيل الكناري التي تلعب دورا هاما في سياسات الدفاع للحلف.

إن الموقع المتميز للمنطقة شمالا على امتداد  2100 كم من شريطه الساحلي المطل على البحر الأبيض المتوسط، جعل من دول هذه المنطقة نقاط مراقبة متلاحقة على الملاحة البحرية، فالمغرب يحتل موقع”الحارس” على مضيق جبل طارق، ويشكل ممرا أطلسيا هاما نحو حوض المتوسط، بينما تتحكم السواحل الجزائرية 1200 كم في الممرات البحرية المؤدية إلى مضيق صقلية.

يعتبر الشريط البحري لحوض المتوسط الذي تطل عليه دول شمال إفريقيا ممرا رئيسا لنقل المحروقات، وهو بعد استراتيجي اقتصادي يعني الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء، حيث أن65  % من واردات النفط والغاز الأوروبية تمر عبر البحر الأبيض المتوسط، بينما يعبر هذه المياه 15% من مشتريات  المحروقات الأمريكية  من الخليج وإفريقيا الشمالية[13].

المطلب الثاني: تاريخانية التفاعل في المتوسط من النهضة إلى الهيمنة

لقد ترتب عن العقدة التاريخية في منطقة المتوسط حضور قوي للثنائي المتناقض العربي الإسلامي والغربي المسيحي في مخيال الساسة وصناع القرار في منطقة المتوسط؛ حيث تم بناء الخصوصية الأوروبية على أساس التعارض والتناقض مع الهوية العربية الإسلامية، في هذا الصدد يمكن الرجوع إلى أطروحة المؤرخ البلجيكي هنري بيرين (1862- 1935) في كتابه محمد وشرلمان الصادر سنة 1937، هنا يقول المؤرخ أن لولا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لما وجد الامبراطور شرلمان، بمعنى أن الفتح الإسلامي وضع حدا للوحدة المتوسطية خاصة في شقها الغربي، وهنا يقصد الوحدة اللاتينية المسيحية على ضفتي الحوض المتوسط[14].

لقد مرت العلاقات بين ضفتي المتوسط منذ إنطلاق النهضة الصناعية الأروبية وحتى الآن بثلاث مراحل أساسية وهي[15]:

1- الصراع العسكري والاحتلال: وذلك باستخدام القوة العسكرية المباشرة لنهب الثروات وتجسيد الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.

2- الصراع العسكري غير المباشر: نتج تحول كبير على صعيد الدور الأوروبي في المنطقة العربية، ولكن محاولات أروبا تواصلت من خلال الدعم العسكري لإسرائيل التي سبق وأن أوجدتها على الأرض العربية كبديل استراتيجي للدور العسكري الأوروبي المباشر، بما شكل المعادلة الاستراتيجية التي لم يتمكن العرب من التغلب عليها حتى الآن، أو من خلال ما خلفته حقبة الاستعمار من أوضاع متشابكة أوجدت حالة من الفرقة والصراعات الدائمة بين دول المنطقة العربية خصوصا وجنوب المتوسط عموما.

3- شعارات أوروبية جديدة: لم يأت غياب أروبا عن ممارسة نفوذها في المنطقة تخليا طوعيا بل كان ناتجا من ظروف استراتيجية خارجة عن إرادتها، ما دفعها إلى تغيير خططها ووسائلها – لممارسة هذا النفوذ – من العمل العسكري إلى العمل من خلال العلاقات الاقتصادية والثقافية أو العلمية؛ وذلك من خلال طرح مشاريع في المنطقة سواء مشروع الشراكة الأورو متوسطية أو الاتحاد من أجل المتوسط. كتب ألفرد ت.ماهان الخبير الأمريكي في الاستراتيجية البحرية في أواخر القرن التاسع عشر(1892) يقول” جعلت الظروف البحر الأبيض المتوسط يلعب دورا تجاريا وعسكريا في تاريخ العالم أكبر مما لعبه أي سطح مائي آخر يتمتع بالحجم ذاته، فقد سعت أمة بعد أمة للسيطرة عليه ولا يزال الصراع مستمرا”[16]، ويؤكد  MARC BOUNEFOUS على الأهمية  الجيواستراتيجية للمنطقة إذ يقول:  إن المتوسط يفصل بين ضفتين، في الشمال مجموعة غنية مع نظم وقيم ديمقراطية.. ، وفي الجنوب شعوب فقيرة غالبا ما تكون معرضة لنزاعات وانشقاقات داخلية…، أزمات الجنوب وتهديداته تمس مصالحنا وأحيانا مصالحنا الأمنية، فالمغرب لا يبعد عن أروبا من الجنوب الغربي إلا بأربع عشرة كيلومترا عن إسبانيا، وبمائة وأربعين كيلومترا عن إيطاليا، ومنه وجب علينا أن نحرص على ألا يقع هذا الإرث تحت رقابة أي خصم محتمل…”[17].

فبروز منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط كمنطقة بالغة الأهمية ليس على المستوى الجيوسياسي فحسب، وإنما على المستويين الاقتصادي والحضاري كذلك، جعل منها محط أنظار وأطماع القوى الاستعمارية الأوروبية – بالنسبة للضفة الجنوبية منه – خلال القرنين الماضيين، ومنطقة ذات أهمية إستراتيجية أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي سابقا، فالبحر الأبيض المتوسط إذن ” مركز الثقل في جزيرة العالم طبقا لآراء السير هالفورد ماكيندر، ولا يمثل هذا البحر الملتقى الجغرافي فحسب، بل الجيوبوليتيكي والاقتصادي والعسكري والسياسي، فهو محور رئيس في محاور الاستراتيجية العالمية المعاصرة[18]، ويرى مورتون كابلان أهمية المتوسط باعتباره مستقبل السياسة العالمية سيعتمد على الأقل  في الجيل القادم على تطور المنطقة المحيطة بحوض المتوسط حيث تركز شمالا القوة البشرية وجنوبا مصادر الطاقة.

وفي ظل تشابك هذه العلاقات لم يعد يلعب أهل هذا البحر في التجارة والحروب إلا دورا صغيرا دور البيادق على الرقعة، تحول حسب رغبة القوى البعيدة؛ لقد أظهرت التجارب التاريخية في العلاقات العربية الأوروبية أن المواقف الأوروبية بالإجمال – منذ النهضة الصناعية وحتى الآن – كانت محصلة لمحاولتها إحتلال المنطقة أو تمكين نفوذها فيها لتحقيق أهدافها الاستعمارية.

المطلب الثالث: المتوسط تفاعل جيوحضاري وبشري

إن التقسيم الحضاري الذي ميز البحر الأبيض المتوسط كان له الأثر على جيوسياسة المنطقة، فمنذ القدم والحروب التي نشبت بين الدول كانت في نفس الوقت صراعا بين الحضارات المختلفة، وكان البحر الأبيض المتوسط مسرحا لهذا الصراع على غرار الحروب بين الفرس والاغريق والحروب البونيفية الثلاثة بين الرومان والقرطاجيين من 264 ق م إلى 146 ق م، ثم الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين مرورا بالتنافس العثماني الاسباني في البحر الأبيض المتوسط، لتأتي بعدها الحركة الاستعمارية الأوروبية إبتداءا من حملة نابوليين بونابرت على مصر، واحتلال فرنسا الجزائر ومرورا إلى حرب البلقان في البوسنة والهرسك بين الصرب والكروات من جهة والمسلمين من جهة أخرى (1992 – 1995)، ليتم حاليا عولمة الصراع بين الحضارات وتقسيم العالم في نظر الادارة الأمريكية  إلى محور الشر ومحور الخير ليتم شن حرب دولية على الإرهاب الذي تم مطابقته مع الإسلام.

ذلك أن البحر الأبيض المتوسط ينقسم في ما وراء تقسيماته السياسية الحالية إلى ثلاثة تجمعات ثقافية، إلى ثلاث حضارات هائلة معمرة، إلى ثلاث أساليب للتفكير والاعتقاد والأكل والشرب وطرق الحياة، وهذه التجمعات هي في الحقيقة ثلاثة وحوش دائمة التكشير عن أنيابها، ثلاثة شخوص لا نهائية لمصائرهم، تواجدوا على الأقل منذ قرون وقرون حدودهم تخرق حدود الدول، هذه التي تعد بالنسبة إليهم كملابس المهرجين مختلفة الألوان وخفيفة جدا؛ هذه الحضارات هي الواقع الثوابت المصيرية الوحيدة، ذات النفس الطويل التي يمكن تتبعها بدون انقطاع عبر تقلبات وأحداث تاريخ البحر الأبيض المتوسط.

هذه الحضارات الثلاث هي[19]:

أولا: حضارة الغرب أو الحضارة المسيحية: وهذا النعت كما هو واضح مكتنز بالمعنى، بل من الأفضل أن نقول الحضارة الرومانية، باعتبار روما هي مركز هذا العالم اللاتيني القديم الذي أصبح فيما بعد كاثوليكيا، والذي تمتد حدوده حتى العالم البروتسطنطي، وحتى المحيط الأطلسي وبحر الشمال ونهري الراين والدانوب اللذين شيدت على امتدادهما الحركة الاصلاحية للكنيسة البروتسطنطية بكتدرائياتها ذات المعمار”الباروكي”، والمنتصبة هنا وهناك كالنواطير الحارسة؛ وتمتد هذه الحدود أيضا إلى عوالم ما وراء المحيط الأطلسي، وكأن على قدر روما الحديث أن تحافظ أيضا على امبراطورية شارلكان(*) في مدها اللامتناهي الذي لا تغرب عنه الشمس أبدا.

ثانيا: الحضارة الإسلامية: وهي أيضا منتصبة في عالم لا حد له يبدأ من المغرب الأقصى،ويمتد إلى المحيط الهندي وجزر ماليزيا، وهذه البلدان فتحها الإسلام في القرن الثامن بعد الميلاد، وأدخل أهلها في دينه الجديد.

فالإسلام مضاد للغرب مع كل ما في كلمة مضاد من ازدواج عميق في المعنى، إذ هي في نفس الوقت منافسة وعداء وعطاء، وقد وصفتهما جرمان[20]تيليون:”بكونهما عدوين متكاملين” إنهما بالفعل عدوان وغريمان إذا فعل هذا شيئا فعله الآخر، الإسلام في مواجهة الغرب إنهما كالقط في مواجهة الفأر.

لقد اختلق الغرب حروبه المسيحية وعاشها، كما استن الإسلام الجهاد هذه الحرب المقدسة وعاشها، وقد انتهت المسيحية إلى روما، كما انتهى الإسلام من مكة إلى قبر الرسول في المدينة، وهذا المركز بالنسبة اليه ليس بالغريب مادام هذا الدين يتبع حدود الصحاري حتى أعماق آسيا وإفريقيا[21]؛ حيث تقوم الأمة بحركة نقل وتصغير لكل المساحة الإسلامية إلى حدود المساحة العربية فقط، موفرة مضمونا انفعاليا سياسيا ايديولوجيا[22].

 الحضارة الثالثة أو ثالوث الشخوص إذا أردنا، هذا الذي لا يكشف لنا في الحال عن وجهه هو العالم الاغريقي، العالم الأرثودوكسي وهو يشمل على الأقل كل شبه جزيرة البلقان: رومانيا، بلغاريا، يوغسلافيا بكاملها تقريبا واليونان نفسه المليء بالذكريات بالاضافة إلى روسيا.

 ولكن أي مركز يمكن أن نعترف به لهذا العالم؟ القسطنطينية، روما الثانية كما يقال والتي تنتصب فيها كنيسة القديسة صوفيا؟ ولكن أصبحت منذ سنة 1453م اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، ذلك أن الإسلام التركي قد حافظ على حصته من أروبا بعد أن كان يملك أيام عزه شبه جزيرة البلقان بكاملها، هناك مركز آخر قد لعب هو أيضا دوره في هذا العالم هو موسكو حاليا[23].

 فعلى مر التاريخ شكل الفضاء المتوسطي منطقة تقاطع واتصال بين فضاءات جغرافية وشعوب تنتمي إلى حضارات وثقافات مختلفة، لكن أكثر من هذا رهانا لنزاعات مختلفة ومستمرة ومتعاقبة من أجل السيطرة عليه أو مراقبته، وهذا ما أشار إليه إيف لاكوست عندما وصفه في كتابه(Géopolitique de la Méditerranée) ” أن منطقة المتوسط تشكل مجموعة جيوبوليتيكية صراعية”[24]،

 إن أوروبا بالكاد بدأت تخرج من تأملها الذاتي كمركز للعالم ومحور للحضارة ونهاية للتاريخ، إن المعارضة التي تلقاها وإضفاء النسبية عليها يدفعانها للتفكير بأصولها وهذا التفكير من الذات إلى الذات دون أن يتوجه إلى الآخر ليفهموه من الداخل ويسائلوه عن هويته بقلب ملتزم وبعيد في آن واحد؛ فالنظرة الشعبية تتراوح ما بين صورة الشرقي الشهواني القاسي، وأخرى ترجع إلى البربري الفظ الغليظ وكل هذا مغطى برؤية الإسلام كدين متعصب عدواني بسيط وبدائي[25]، وهذا ما سهل ترويج الإعلام الغربي أن الإسلام هو الإرهاب.

فالمركزية العرقية ذات الصفة الاحتقارية تبرر السيطرة، وهذه بدورها تعود لتغذي العرقية،كل العالم غير الأوروبي وجد نفسه دون الأهمية ومجردا من قيمته التاريخية، إن الأنتلجسيا الغربية تقع في التمركز العرقي من جديد، في الوقت الذي تظن أنها تضع ذلك موضع الشك، ذلك أنها تطرح نفسها الوحيدة القادرة على تحديد القيم العالمية، وبذلك هي ترجع إلى المركزية الأوروبية اللاواعية أكثر منها واعية[26].

حيث تقع التفاعلات السكانية في قلب الدينامية البشرية التي تساهم في تشكيل ضغط جيوثقافي وآخر جيواقتصادي وكلاهما يمسان بالاستقرار الاستراتيجي للخرائط السكانية،وذلك من خلال مقياس تطابق الجغرافيا والانتماء الحضاري للسكان( شمال مسيحي وجنوب وشرق مسلم)، ومقياس الجانب الديمغرافي المتعلق بالخصوبة خاصة في ظل عولمة السلوك بين المرأة المسلمة والأروبية.

وقد ضمت أوروبا إليها في الأول من ماي 2004 عشرة أعضاء جدد فازداد عدد سكان الاتحاد الأروبي بنسبة 20% ( من 378 مليون نسمة إلى 452 مليون نسمة)[27]؛ حيث لم تعد أروبا تؤمن تجددها السكاني وتعتبر إسبانيا أكثر من سواها بنسبة شيخوخة الأعلى في العالم، فالذين تزيد أعمارهم على الستين سوف يمثلون34% من مجموع السكان في 2050، إن تأثير هذه التطورات في السكان النشطين حتى 2020 لن يكون قاسيا ولكن بعد ذلك سوف تشهد عملية تناقص منتظم للسكان ( أنظر الجدول رقم 02)

 أما في جنوب المتوسط فالتباطؤ في النمو الديمغرافي يبدو أكبر مما توقعه المختصون فهناك اتجاه نحو العائلة الصغيرة الحجم، وذلك لانتشار أنماط الحياة الغربية بفعل المحاكاة فالعدد الإجمالي في البلدان العربية كما عدد الذين يدخلون سوق العمل  سوف يواصل الإزدياد على الأقل حتى 2020، لأن بنية الأعمار بقيت تتسم بالشبابية الواضحة فالأقل من 15 سنة مازالوا يمثلون 40% من السكان، ويطرح ذلك تحديا لزيادة فرص العمل بمعدل وسطي 4% ([28].

الجدول رقم 02: السكان: مؤشرات ديمغرافية لمنطقة المتوسط

المصدر: الكتاب السنوي للبحر الأبيض المتوسط، المتوسطي 2012، تر: فونداسيو الفنار، عمان: دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2014، ص391.

ويحدث المقياسان ( الهجرة وتعداد السكان) ضغوطا على مسار العلاقات الأورومتوسطية، من بين هذه الضغوط تهديد التوازنات الجيوثقافية، وتدبير مشكلات الحركة السكانية حيث يمكن للمجال المتعلق بالهجرة الضغط أكثر في اتجاه إعادة تفسير تقاسم المجال عبر البحر الأبيض المتوسط، تثير في هذا الصدد الجاليات المسلمة الحساسية الأقدر على الضغط نحو تعديل هذه الحدود لتميز الجاليات المسلمة بكثافتها؛ حيث يعيش داخل الاتحاد الأوروبي ما يزيد عن 20 مليون مسلم على الأقل وهناك ثلاثة أسباب وراء القلق الأوروبي[29]:

-جميع الظروف الراهنة تدفع في اتجاه النمو العددي لهذه الجاليات الإسلامية التي تتسم بحيوية وتسعى إلى التكاثر.

-القارة الأوروبية دخلت مرحلة الشيخوخة الديمغرافية.

-الجاليات ترفض مفهوم الاندماج بالمعنى الأوروبي أي التنازل عن الهوية الأصلية.

حيث تنتج عن الهجرة إعادة تشكيل وجه الجغرافيا السكانية وتتحول إلى تهديد للتوازن أو للحدود الجيوسكانية من منظور استراتيجي، فارتبطت الهجرة المتوسطية نحو أروبا في بدايتها باستقطاب اليد العاملة، ثم تحولت إلى التركيز نحو إستقطاب الكفاءات وهجرتها (أنظر الجدول رقم 03).

الجدول رقم 03: عدد مهاجري الدول المتوسطية الشريكة في الاتحاد الأوروبي حسب الجنسيات

المصدر: الكتاب السنوي للبحر الأبيض المتوسط، مرجع سابق، ص384.

إن العمل على جعل الفكر و الفهم مقاما يهدف إلى البحث عن كيفية إعادة بناء المسبقات للتواصل المتوسطي وتحديد طرق ومعايير والقيم المشتركة التي تدعم التفاهم، والتخلص من سوء الفهم الذي يندرج ضمن طائلة الأحكام المتسرعة التي تقر بأن الفهم يبقى سجين نظرة أحادية تقصي من دائرة خطاباتها كل المنتجات الأخرى التي من المفترض أن تكون قد أذكت الفهم وساهمت في حيويته، لكن إقرارنا بالفهم كإمكانية للتواصل هو في حد ذاته ينبئ عن نزعة نقدية لكل مستجدات التحول في المنطقة المتوسطية التي تمثل حلقة مفتوحة على العالم.

حيث رغم الوعي التام بالتقاطع والصعوبات التي تكتنف روابط علائقية معقدة خاصة وأنه لا يمكن الفصل بين ما هو سياسي وإقتصادي واجتماعي وحضاري ثقافي وأمني، ما يستوجب تفعيل دور التفكير في إنتاج معقولية نقدية تحررية تقوم على إعادة بناء مقتضيات الواقع وذلك لرسم أفق جديد للتواصل يتسم بالوضوح والجدية والصدق.

إذ تقع التفاعلات السكانية في قلب الدينامية البشرية التي تساهم في تشكيل ضغط جيوثقافي وآخر جيواقتصادي وكلاهما يمسان بالاستقرار الاستراتيجي للخرائط السكانية، وذلك من خلال مقياس تطابق الجغرافيا والانتماء الحضاري للسكان( شمال مسيحي وجنوب وشرق مسلم)، ومقياس الجانب الديمغرافي المتعلق بالخصوبة خاصة في ظل عولمة السلوك بين المرأة المسلمة والأوروبية.

خاتمة:

تعتبر المكانة على الساحة الدولية ضرورية لفهم الأسباب التي تدفع قوى مؤثرة وفاعلة لوضع سياسات معينة اتجاه منطقة المتوسط، فلقد جعل التاريخ والجغرافيا وديناميكية العلاقات الدولية رقما مهما في المعادلة الجيوسياسية للسياسة الدولية باختلاف متغيراتها وتعدد فواعلها، حيث عرف المتوسط تحولين مركزيين مع بداية تشكل السياسة الدولية الحديثة، الأول يتمثل في تغير الطرق التجارية البرية والبحرية بالاستغناء عن الطرق الصحراوية الرابطة بين إفريقيا وأوروبا عبر البحر المتوسط، كان ذلك في البداية بالسيطرة على موانئ المحيط الأطلسي الإفريقي ثم بالنقل عبر الرجاء الصالح، والثاني في انتقال القوة من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما جعل منطقة المتوسط ذو أهمية في العلاقات الدولية سواء من الناحية الجيوسياسية أو الجيو أمنية، حيث أصبحت منطقة المتوسط مسرح لتعقد العلاقات الدولية في ظل الصراع والتنافس والاستقطاب والتعاون، حيث تكتسب المنطقة أهمية خاصة في السياسة الدولية نظرا إلى موقعها الاستراتيجي الحيوي في قلب العالم، حيث تعتبر نقطة تقاطع مهمة بين أروبا وآسيا وإفريقيا وبين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، لكن البحر المتوسط ليس مجرد بحيرة جغرافية في قلب العالم فحسب، وإنما هو فضاء یتميز بحركية تجاریة ذات أهمية استراتيجية كبيرة ما جعل من المنطقة مهدا للحضارات وملتقا للثقافات ومسرحا لأبرز الصدامات والأزمات التي عرفتها الإنسانية.


[1]– أسامة فاروق مخيمر، ” تعريف الدول المتوسطية : دراسة للخصائص الاجتماعية والاقتصادية” ، السياسة الدولية، العدد 129، السنة 33، يوليو 1997، ص42.  

[2]– أحمد كاتب، خلفيات الشراكة الأوروبية المتوسطية، (الجزائر: إبن النديم للنشر والتوزيع، 2013)، ص42.

[3]– Jean Claud Barreau, Gullaume Bijot, Toute La géographie du monde , Paris : Fayard,2007, p61.

[4]– فرناند بروديل، البحر المتوسط، تر: عمر بن سالم، (تونس: أليف منشورات البحر المتوسط، 1990)، ص08.

[5] المرجع نفسه، ص11,

[6]–  أحمد كاتب، مرجع سابق، ص43.

[7]– فرناند بروديل، مرجع سابق، ص15.

[8]–  المرجع نفسه ، ص12.

[9]– أمين هویدي، أحادیث في الأمن العربي، (بيروت:  دار الوحدة العربية، 1980)، ص ص 12ـ22.

[10]– علي الحاج، سياسات دول الاتحاد الأروبي في المنطقة العربية بعد الحرب الباردة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص98.

[11]–  بشارة خضر، أوروبا من أجل المتوسط من مؤتمر برشلونة إلى قمة باريس1995ـ 2008، تر: سليمان الرياشي،( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص24.

[12] المرجع نفسه، ص24.

[13]  -Hatem Bensalem, “Le Maghreb sur l’échiquier Méditerranéen”, Etudes Internationales, N°40, (Mars 1991), P26.

[14]  – أحمد كاتب، مرجع سابق، ص16.

[15]– محمد صالح المسفر، “مقاربة أولية للاتجاهات المستقبلية في العلاقات العربية الأروبية”، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 13، 2007، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص ص38ـ 42.

[16])- Look at  :A .T. Mahan , The problem if Asia and its effect upon international policies, Boston, M A : Little, Brown and company,1900, pp19-45.

[17] – Robert Bussier, Sécurité Européenne et Réalité Internationale, Alger: Centre d’Etudes et de Prospectives Stratégiques, 2001, P.P49-50.

[18]– محمد أزهر، سعيد السماك، ” الوزن الجيوبوليتيكي لبلدان البحر المتوسط العربية ومستقبله”، المستقبل العربي، السنة 15، العدد 162، أوت 1992، ص25.

[19]– فرناند بروديل، مرجع سابق، ص 10.

* – شارلكان أو كارلوس الخامس هو شخصية في التاريخ الأوروبي توج ملكا لإسبانيا في آخر عام 1520 باسم كارلوس الأول وملك ايطاليا وأرشيدوق النمسا ورأس الامبراطورية الرومانية المقدسة، حكم امبراطورية مترامية الأطراف وموزعة على ثلاث قارات، فقيل إن الشمس لا تغيب عنها.  

[20]–  فرناند بروديل، مرجع سابق، ص110.

[21]  – المرجع نفسه، ص111.

[22]  –  هشام جعيط، أروبا والاسلام صدام الثقافة والحداثة، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط2، 2001)، ص5.

[23]–  فرناند بروديل، مرجع سابق، ص111.

[24] – Look at :  Yve Lacoste ,Géopolitique de la médeteranée, Paris : Armand colin,2006,p480

[25]– هشام جعيط، مرجع سابق، ص16.

[26]–المرجع نفسه ، ص17.

[27]–  بشارة خضر، أروبا من أجل المتوسط، مرجع سابق، ص145.

[28]– المرجع نفسه، ص ص 126- 127.

[29]– حسن أبو طالب، التقرير الاستراتيجي العربي2005ـ2006،( القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 2006)، ص145.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى