أمنية

الهجرة والأمن الأوروبي الجديد في المتوسط

د. يوسف كريم

باحث متخصص في قضايا الهجرة، حاصل على الدكتوراه في التاريخ المعاصر، جامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب.

ملخص:

مع تغير مضامين الأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة  تحول الاهتمام من الأمن  التقليدي إلى الأمن بمفهومه  الموسع، أصبحت المقاربة الجديدة لقضايا الأمن الأوروبي ترتكز على ضرورة تحديد طبيعة التهديدات والأخطار عبر الوطنية القادمة من الضفة الجنوبية، وأصبحت الهجرة من أهم القضايا الأمنية التي تهدد استقرار وأمن الدول الأوروبية، وتدفعها إلى تبني استراتيجيات ومبادرات أمنية شاملة وموسعة من أجل احتوائها ومحاصرتها. تهدف هذه الدراسة إلى تناول طبيعة التهديد الذي تمثله الهجرة، وتحليل مضامين المقاربات الأوروبية المعتمدة في تدبيرها من زاوية نقدية تسعى إلى إبراز فشلها ومحدوديتها.

الكلمات المفتاحية: الهجرة، التهديد، الأمننة، المقاربات الأوروبية.

مـقـدمــة:

منذ الربع الأخير من القرن العشرين، شهد النسق الدولي تحولات بنيوية جذرية ومتسارعة، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية، بل وحتى المفاهيم والقيم.  تمثلت أحد أهم هذه التحولات في مفهوم الأمن، حيث تغير بشكل جذري عن المفهوم التقليدي الذي كان شائعا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. فلم يعد الأمن مقتصرا على البعد العسكري والاستراتيجي، ولا على وحدة الدولة الوطنية كمرجع أساسي في تعريفه، بل تعدى هذا الطرح ليشمل أبعادا واتجاهات ومجالات ومستويات عدة، يمكن اختزالها في الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي وتذليل الهوة بين الاقتصادات والمجتمعات المتعددة.

وقد جعلت الجغرافيا السياسية من حوض البحر الأبيض المتوسط منطقة مهمة في حسابات الاستراتيجية والعلاقات الدولية. فباعتباره نقطة تقاطع استراتيجي بين الشمال والجنوب والشرق والغرب وبين ثلاث قارات. فقد كان الحوض المتوسطي موضع اهتمام للأطماع الاستعمارية والتوسعية، ولم يكن بمنأى عن التطورات الجيواستراتيجية المتسارعة، خصوصاً بعد نهاية الحرب الباردة وتغير ملامح النظام الدولي، حيث برزت على الساحة الدولية الكثير من القضايا والمشاكل والتحديات الجديدة.

وفي سياق هذه التحولات، أصبحت المقاربة الجديدة لقضايا الأمن الأوروبي ترتكز على ضرورة تحديد طبيعة التهديدات والأخطار عبر الوطنية القادمة من الضفة الجنوبية، والتي أصبحت تحتم على دول الاتحاد الأوروبي تبني استراتيجيات ومبادرات أمنية شاملة وموسعة من أجل احتوائها ومحاصرتها. ونظراً لتغير مضامين الأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة من الأمن العسكري إلى الأمن الإنساني بمفهومه المابعد حداثي، فإن التهديدات الجديدة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي تبدو أكثر تعقيداً من سابقها نظراً لطبيعتها المتعددة الأشكال والمصادر. لذلك أصبحت المقاربة الجديدة لقضايا الأمن الأوروبي تركز على ضرورة تحديد طبيعة التهديدات والأخطار القادمة من الجنوب ومواجهتها في إطار استراتيجيات ومبادرات أمنية شاملة وموسعة.

وبعد أن كانت الهجرة تعبر عن حاجة اقتصادية واجتماعية لإعادة إعمار أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت من مصادر التهديد الجديدة التي طفت نتيجة تنامي الفوارق بين ضفتيه الشمالية والجنوبية، وأصبحت تشكل بؤرة توتر، ومصدر قلق وتهديد أمني جديد بالنسبة لدول الضفة الشمالية لحوض المتوسط الغربي، مما دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني خطاب جديد يربط بين الهجرة والأمن تمثل في نظرية الأمننة (Securization)، والتي يمكن اعتبارها  الصورة الأكثر تطرفاً لعملية التسييس. فهي كعملية تركز على الآليات والميكانيزمات التي يمكن استخدامها لإضفاء الطابع الأمني على قضية أو ظاهرة لم تكن أنطولوجيا تشكل تهديداً أمنياً سابقاً.

بالرغم من محاولات “أوْربة” (Europeanization) قضية الهجرة وتحويلها إلى قضية أمنية بهدف صد المهاجرين واللاجئين غير المرغوب فيهم،  إلا أن هذه المساعي لم تثني بسبب تدفقات الهجرة. بل عملت هذه الجهود على تحقيق نتائج معاكسة،  حيث ارتفعت أعداد المهاجرين، وتزايدت  التكلفة الانسانية من حيث عدد الضحايا من الغرقى والمفقودين على النحو الذي حول البحر الأبيض المتوسط إلى أكبر مقبرة للبشر.

بناءاً على هذا المنطلق، يتسع نطاق اهتمامنا بالموضوع ليشمل رصد ومواكبة التحولات البنيوية  التي شهدتها ظاهرة  الهجرة بشكل عام،  وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط بشكل خاص. حيث نسعى إلى  استخلاص  رهانات وخلفيات  الاقتراب الأوروبي،  سواء على مستوى الدول الفردية أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، وذلك في ضوء التطورات الدولية والإقليمية المتميزة بالتعقيد والتركيب. فكيف أثرت التغيرات التي طرأت على سياقات البيئة الدولية في التعاطي على المناهج المتبعة في التعامل مع قضايا الهجرة؟  وكيف تحولت هذه القضايا من مسألة اقتصادية واجتماعية إلى أولوية أمنية تثير قلق الدول في المنطقة ؟

إن البحث في موضوع ضفتي البحر الأبيض المتوسط يحتاج نهجاً مغايراً في البحث حيث يجب أن يشمل قراءة تاريخية معمقة، وفهم شامل للجغرافيا، ودراسة انعكاسات المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وينبغي أيضاً النظر في تطورات السياق الدولي وتحليلها بعمق، بالاضافة إلى تصويب مفاهيم هامة مثل الاقليم المتوسطي، والتحديات الأمنية الحديثة..

وفي ظل التطورات الأمنية الحديثة في حوض البحر الأبيض المتوسط، التي حولت الهجرة من ظاهرة إنسانية اجتماعية تعزز التفاعل الثقافي بين الشعوب، إلى تهديد  يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدول الأوروبية، ويمكننا من خلال هذه التحولات أن نطرح التساؤلات الآتية: ما طبيعة التهديدات الجديدة التي تمثلها الهجرة على بلدان الاتحاد الأوروبي؟، هل تنطوي ظاهرة الهجرة فعلا على مخاطر وتحديات وتهديدات، أم أن التوظيف السياسي والإعلامي لها جردها من كل إيجابياتها وجعلها هاجسا أمنيا للدول الأوروبية؟، هل تمثل الهجرة بالنسبة لبلدان شمال المتوسط تهديداً أمنياً أم تحدياً إنسانياً؟، وماهي مضامين المقاربات المعتمدة في مواجهتها؟ وما مدى نجاعة وفعالية هذه المقاربات في وقف تدفقات الهجرة؟، وإذا كانت طبيعة التهديدات الجديدة  التي تمثلها الهجرة في المتوسط تتطلب تعاوناً أورو- متوسطياً، فهل يمكن الحديث عن تعاون فعال وحقيقي في إطار سياسة الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك، أم هو مجرد مناولة لصالح دول شمال المتوسط في ظل وجود أطراف غير متعادلة ومدركات متباينة وعلاقات غير متوازنة؟.

فرضيات الدراسة:

-فرضت التحولات الدولية التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة رهانات استراتيجية جديدة في منطقة المتوسط، استدعت بناء مقاربات وصيغ جديدة لاستيعاب حجم وأثر هذه التحولات البنيوية.

-كلما تغيرت البيئة الدولية انعكس ذلك بشكل كبير على طبيعة التهديدات وأدى إلى إعادة النظر في كافة الافتراضات الأساسية للمعادلة الأمنية السائدة.

-تحول طبيعة وبنية التهديدات ضد أمن الدول وأمن المجتمعات والأفراد، ساهم في بناء المقاربة الأمنية الأوروبية لمواجهة التهديدات والمخاطر الجديدة في المتوسط، وخاصة القادمة من الضفة الجنوبية.

-التصور الأوروبي للتهديدات والمخاطر الجديدة القادمة من جنوب المتوسط ينطلق من فكرة الأمن اللين وفكرة المركب الأمني الأوروبي.

-رغم تنوع المقاربات الأوروبية المعتمدة في تدبير إشكالية الهجرة تشريعياً وحقوقياً، إلا أنها اقتصرت عملياً على المقاربة الأمنية وسياسة تصدير الحدود.

-كلما اتسم التعاطي الأوروبي بالإيجابية والشمولية  في تدبير تدفقات الهجرة، بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، كلما انعكس ذلك على تحقيق الاستقرار الأمني الأوروبي.

تقسيم الدراسة:

يستكشف هذا البحث  في مبحث أول طبيعة التهديدات التي تمثلها الهجرة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، مع التركيز  على الارتباط الوثيق بين التهديدات والتحولات في فهم مفهوم الأمن على المستوى الأنطولوجي لا يمكن فصلها عن  التحولات التي عرفها مفهوم الأمن في بعده الانطولوجي، ودفعت بلدان الضفة الشمالية  إلى تصنيف الهجرة كقضية أمنية  تهدد استقرار وأمن الدول الأوروبية، ما يستوجب مواجهتها ببناء جدار برلين جديد على شكل تدابير أمنية وتشريعية وقانونية(مبحث ثان)، لتكون دول أوروبا قد اختزلت بذلك المشكلة في بعدها الأمني فقط، كاشفة نزعتها العنصرية ونظرتها الاحتقارية وزيف الشعارات الكبيرة التي ترفعها حول احترامها لحقوق الانسان كما هي متعارف عليها كونيا(مبحث ثالث).

المبحث الأول: الهجرة كتهديد للأمن الأوروبي

إذا كانت الحرب العالمية الثانية قد شكلت مرحلة مهمة في إعادة صياغة الواقع الدولي عبر بناء نظام يسمح بالمحافظة على مصالح الدول المتضررة من هذه الحرب، فإن متغيرات الحرب الباردة فرضت ضرورة إعادة النظر في الافتراضات الأساسية المرتبطة بالقضايا الأمنية في العلاقات الدولية، خاصة وأن مفهوم الأمن ما انفك يتطور أفقياً وعمودياً استجابة لتحولات عالم ما بعد الثنائية القطبية.

فمنذ تسعينات القرن الماضي لم يعد الإطار العام للأمن الأوروبي يميل إلى تقدير أن القدرات العسكرية لدول الضفة الجنوبية لا تشكل تهديداً، لكن العوامل السوسيوسياسية تشكل اليوم توترات وأخطارا يمكن أن تتحول إلى تهديد في المستقبل، ويعتبر موضوع الهجرة في الممارسات السياسية لدول الاتحاد الأوروبي، من أهم القضايا الأمنية التي أخذت فيها التشديدات تتنامى، وتشكل نظرياً وعملياً بالنسبة للأوروبيين تهديداً حقيقياً، وبدا أن الاختلاف بين ضفتي المتوسط والتفاوت الذي كان إلى حد ما محصورا في نطاق اقتصادي، بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يتخذ أبعاداً أخرى لتشمل الأمن.

ففي إطار تصنيفه للتهديد، اعتبر المؤرخ الإيطالي “Mario Torelli” أنه بجانب التهديد الشامل والكلي الذي شكله الاتحاد السوفياتي، هناك التهديد الجزئي الذي تعد الهجرة إلى جانب الإرهاب والإسلام أحد مكوناته[1]. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واختفاء الخطر الشيوعي بأبعاده الايديولوجية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح من المعتقد أن هذه العوامل لها تأثير كبير على القدرة الدفاعية الأوروبية. فالمد المتنامي للهجرة، يشكل سبباً من أسباب الاضطراب الاجتماعي، ويؤثر في الهوية الوطنية و يخلق اضطرابات داخلية، وكل هذا يؤدي في آخر المطاف إلى تهديد الأمن الوطني، هذا الإحساس ساهم بشكل كبير في إدراج قضايا الهجرة في معاهدة الوحدة ضمن القضايا الأمنية بالدرجة الأولى.

 إننا نعيش مفارقة غريبة، مصدرها الغرب الذي يعيش على نشوة الانتصار على الشرق، الذي أكد تفوق النظام الليبرالي القائم على ثقافة عالمية منفتحة، وبشكل موازي يعيش هذا الغرب انطواء على الذات ويعمل على تحصين نفسه من المد المتنامي ” للبرابرة الجدد ” حيث أصبح من باب الحلم السياسي أن تتصور دول الجنوب بروز وحدات أوروبية، تؤكد في نفس الوقت وحدتها وانفتاحها على مجموعات ولو قريبة جغرافياً أو سياسياً، لتذهب معها إلى التعاون الدقيق في قضايا التنمية ومراجعة آليات التبادل اللامتكافئ[2].

لقد أصبح المهاجرون القادمون من الضفة الجنوبية موضوعاً بامتياز تعلق عليه كل مشاكل الأوروبيين،. ومن هنا تبدأ فكرة “التهديد” في التشكل والبروز. فهو تهديد ذو بعدين:

تهديد ديموغرافي، يتجلى في تخوف الاتحاد الأوروبي من الانفجار الديموغرافي في مجتمعات جنوب المتوسط، والذي يدرك على أنه تهديد للأمن المستقبلي للمجتمعات والأمم الأوروبية  وخطورة هذا الانفجار تكمن في استمرار ضغط  الهجرة نحو مجتمعاته، وتزايد خطر الاقتحام أو “الغزو” من طرف البرابرة الجدد القادمين من الضفة الجنوبية للمتوسط(الفقرة الأولى)

-تهديد ثقافي، من خلال ترويج خطاب مضلل يتمعش من تيارات اليمين المتطرف والشعبوي، ويقصي التعددية الفكرية والثقافية، وينظر للهجرة  كخطر على الهوية والثقافة الوطنية، وللمهاجرين كمصدر للعنف والارهاب والتطرف، وينادي بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، وقد نمت هذه المشاعر بشكل مكثف بعد  هجمات 11سبتمبر 2011 الإرهابية (الفقرة الثانية).

المطلب الأول: التهديد الديموغرافي

منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت منطقة البحر الأبيض المتوسط تدرك من قبل المؤسسات الجماعية في الاتحاد الأوروبي على أنها منشأ كل عوامل اللاستقرار والتهديد الجهويين، بل أكثر من ذلك أصبح الإقليم المتوسطي بمثابة إقليم يعكس بوضوح توجه “نظرية الأخطار المصدرة نحو الدول المتقدمة”، وقد أصبح المؤشر الديمغرافي من بين أهم الانشغالات الكبرى للأمن بمفهومه الحديث والموسع، نتيجة لانعكاساته السلبية في تغذية التدفقات الهجروية” عبر-الوطنية” من الجنوب نحو الشمال المتوسطي.

فمعظم الدراسات الأمنية الحديثة في أوروبا أصبحت تؤكد على أن ارتفاع نسبة النمو الديموغرافي التي تميز مجتمعات الجنوب تمثل مصدراً للأخطار المجتمعية، و مصدراً محتملاً لعدم الاستقرار، خاصة أن التوزيع السكاني غير متوازن بين الضفتين[3].فالتوجه نحو الشيخوخة الذي أصبح يميز المجتمعات الأوروبية، قاد الديموغرافي الفرنسي ألفريد صوفي إلى التشاؤم، لأن أوروبا العجوز، حسب اعتقاده، ستكون يوماً ما محل أطماع القوة البشرية الهائلة لمجتمعات جنوب المتوسط. ذلك أن التباين في البنية السكانية لمجتمعات الضفتين له انعكاسات على ارتفاع وانخفاض قوة العمل، وهذا ما يؤدي منطقياً إلى ارتفاع نسب البطالة في الجنوب وارتفاع الضغط الهجروي نحو الشمال. ويوضح الجدول التالي توقعات نسبة النمو الديموغرافي في الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط:

الجدول رقم(01): توقعات نسبة النمو الديموغرافي في الدول الأوروبية والمغاربية(1990-2030)

مالدولة1990-19951995-20002005-20102025-2030
1فرنسا0.480.480.230.03
2ايطاليا0.070.02-0.18-0.39
3اسبانيا0.090.05-0.05-0.22
4اليونان0.710.45-0.01-0.18
5البرتغال00.010-0.06
6المغرب021.811.5901
7الجزائر2.362.191.871.17
8تونس2.242.051.561.05
9ليبيا3.493.363.112.03

Source :Gérard Claude, Migrations en Méditerranée, paris, France, 2002, p75.

يشهد حوض البحر المتوسط ثورة سريعة وإن كانت صامتة في التركيب السكاني، حيث تتزايد المخاوف في دول شمال البحر الأبيض المتوسط بشكل متزايد بشأن ما يسمى بــ”القنبلة السكانية” في دول جنوب المتوسط. فمن المتوقع  أن يبلغ عدد سكان دول المتوسط 500 مليون نسمة  بحلول عام 2025[4]، يمثل فيها سكان الغرب نسبة 40 %. بينما سيصل عدد سكان شمال افريقيا إلى نحو 400 مليون نسمة في السنة نفسها، وهو رقم  يتجاوز عدد سكان الاتحاد الأوروبي بأكمله.مع وتيرة الهجرة الحالية ونسب الخصوبة العربية داخل بلدانها وبلدان أوروبا، من المتوقع أن تغذو الساكنة الأوروبية الأصلية أقلية في بلدانها في حدود سنة 2030[5].

إن مثل هذا الوضع أفرز وسيفرز مستقبلاً تبعية ديموغرافية  لمجتمعات الجنوب المتوسطية التي أضحت خزاناً بشرياً يضمن الحركة الاقتصادية في أوروبا، وهذه التبعية (شمال- جنوب) ينظر إليها الأوروبيون على أنها تهديد خطير لأمن مجتمعاتهم على المديين المتوسط والبعيد. ذلك أن الأقطار الأوروبية تحتاج في أفق سنة 2050 إلا ما يقل عن 400 مليون مهاجر لتغطية النقص المتزايد في سواعد العمل في أوروبا، تبعاً للتطور المحتمل للبنية الديموغرافية[6]، وتشير الإحصائيات أنه وابتداء من سنة 2000 العلاقات الديموغرافية (شمال-جنوب) ستكون في صالح الجنوب، ليس من حيث الكم فقط، ولكن كذلك من حيث النوع، فجنوب المتوسط سيكون أكثر شباباً، مقابل شمال أكثر شيخوخة[7]، تشير أيضاً الإحصائيات إلى أنه بحلول عام 2020 سيكون أكثر من خمس السكان في بلدان الاتحاد الأوروبي فوق سن الـــ 65،وهي نسبة مرشحة للارتفاع خلال السنوات المقبلة، وهو ما يجعل الضفتين مرتبطتين شديد الارتباط إن لم نقل أن الواحدة منهما مرتهنة للأخرى، كما هو مبين في الجدول رقم (2).

الجدول رقم (2): تطور عدد سكان الضفة الشمالية التي تتجاوز أعمارهم 65 سنة فما فوق من مجموع السكان(بالنسبة المئوية)

السنة/الدولة19601986200020202040
فرنسا11.613.215.219.523.1
إيطاليا9.113.115.419.124.9
اسبانيا12.814.617.923.3
الاتحاد الأوروبي11.514.316.421.324.4

Source: Nadine Richez, L’espace social européen: enjeux théoriques et perspectives méditerranéennes, in Christian    Reynaud    et    Abdelkader    Sid    Ahmed, L’avenir  de  l’espace  méditerranéen,    crédit    mutuel méditerranéen, Editions Publisud, Paris, 1991, P 91.

الجدول رقم(3): عدد السكان في دول حوض المتوسط (بالملايين)

مالدول199520102030
1فرنسا58.1260.6962.66
2إيطاليا57.8758.8253.17
3إسبانيا39.1439.0637.75
4اليونان10.4510.7510.44
5البرتغال9.879.869.79
6المغرب27.7235.9545.24
7الجزائر28.1438.3949.9
8تونس9.311.8614.99
9ليبيا5.418.814.39
10مصر57.7472.7289.91

Source: L’annuaire de la Méditerranée, publisud, Paris1996.

ومن خلال قراءة المعطيات والبيانات الواردة أعلاه، يتبين أن التوزيع الجغرافي غير متوازن بين دول الشمال ودول جنوب وشرق المتوسط، وإذا استمرت معدلات الزيادة السكانية الراهنة، فمن المتوقع بحلول عام 2025 أن يمثل سكان جنوب وشرق المتوسط نسبة 75% من سكان المتوسط[8]، وبينما كان ثلثا سكان حوض المتوسط عام 1950 يعيشون على ضفته الشمالية، فسيحدث العكس عام 2020؛وإذا كان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين15و25 سنة يمثلون اليوم حوالي 23%من مجموع السكان النشيطين في الاتحاد الأوروبي، فينتظر أن تصبح النسبة 18% سنة 2025. ومن جانب آخر يتزايد حاليا الأشخاص المشتغلين الذين تبلغ أعمارهم 55 سنة فأكثر، إذ يمثلون %18،وفي سنة 2025 ينتظر أن تصبح هذه النسبة22%[9].

 لذا يأخذ التضاد الديموغرافي بين الضفتين الجنوبية والشمالية أهمية بالغة نظراً للتحديات الديموغرافية المتزايدة، ويعكس هذا التحدي  أزمة عميقة في الضفة الجنوبية لحوض المتوسط.  تعتبر الضفة الشمالية الانفجار الديموغرافي في الضفة الأخرى تهديداً أساسياً للأمن  والهوية الأوروبية في المستقبل. من هذا المنطلق، ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الديموغرافيا المتوسطية على أنها “رهان جيوسياسي” ذو أولوية أساسية، إذ يعتبر من الخطأ  ألا يكترث الأوروبيون، عندما يتعلق الأمر بأمنهم القومي، بالفوضى وتعفن الأوضاع على مسافة لا تتعدى 14 كلم من حدوده[10].

 ومن واقع تعامل دول الضفة الشمالية مع قضايا الهجرة، يبدو أن أوروبا بحاجة ماسة إلى هجرة منتقاة لسد العجز المتوقع في سوق العمل الأوروبي، نتيجة تزايد معدلات أعمار سكان القارة الأوروبية. ففي الوقت الحاضر، تشهد دول الاتحاد الأوروبي تحولات جذرية في تركيبتها الديموغرافية، وهي في حاجة إلى اتباع سياسات تستهدف سد العجز المتوقع في بعض القطاعات الاقتصادية، إلا أن هذا التوجه المتوقع تأثر بشدة نتيجة الأزمة الاقتصادية الأوروبية، ونتيجة تزايد معاداة الأجانب والمهاجرين في القارة الأوروبية بصورة جعلت الأحزاب اليمينية المعبرة عن هذا التوجه في صدارة المشهد السياسي الأوروبي حالياً، كما تشير إلى ذلك دلائل ومؤشرات نتائج الانتخابات البرلمانية  والرئاسية، وحتى في انتخابات البرلمان الأوروبي كما حصل في منتصف ماي2013، والتي شكلت خيبة أمل كبيرة بالنسبة للكثيرين سواء داخل أوروبا أو خارجها، فكيف أثر تقدم اليمين المتطرف على أوضاع المهاجرين خاصة المسلمين منهم في القارة العجوز؟.

المطلب الثاني: تهديد الهوية/التهديد الثقافي

يمكن القول أنه في جميع الدول الأوروبية مازال ينظر للمهاجرين على أنهم خطر ومصدر تهديد، فأوروبا اليوم متخوفة من اندفاع مهاجري الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الشمال بما يحملونه من منظومة ثقافية ودينية وحضارية منافسة للقيم والمعايير الأوروبية، لذلك يربط الأوروبيون بين الهجرة وتهديد الهوية الثقافية والتوازن الداخلي لديهم، على اعتبار أن المهاجرين يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم ويرفضون تبني ثقافات الدول المضيفة لهم، وهو أمر تنتج عنه فجوة ثقافية واجتماعية بين المهاجرين من جهة، والسكان الأصليين من جهة ثانية. ولعل ما زاد في تعزيز هذه المخاوف هو أن السنين الأخيرة شهدت تصاعداً لنشاط اليمين المتطرف، الراديكالي أو الشعبوي في أوروبا[11].

يطلق توصيف “اليمين المتطرف” على مجموع الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية التي يتأسس برنامجها السياسي على قاعدة مشتركة تتمثل في العداء للأجانب، ورفض الأقليات وفكرة التعددية الثقافية، والدفاع عن هوية إثنو-وطنية وعن التقاليد القومية التاريخية[12]، وهذا هو الحال مثلا بالنسبة لحزب” الجبهة الوطنية”(Front national) بفرنسا، أو “الجمهوريين”(Die Republikaner) في ألمانيا، أو “عصبة الشمال”(Lega Nord) في إيطاليا، أو حزب “الحرية” Freiheitliche Partei Österreichs, FPÖ)   (في النمسا.

من بين أكثر المقاربات التي حظيت بالإجماع حول الخصائص المشتركة لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبي هي التي قدمها الأكاديمي الهولندي “مايندرت فينيما” (Meindert Fennema، حيث ينظر إلى هذه الأحزاب كنسق فكري موحد، من خلال برنامجها المعادي للهجرة والمهاجرين[13].

فبالرغم من بعض الاختلافات في ترتيب الأولويات على المستوى المحلي، إلا أن جميع هذه الأحزاب تشترك في موقف موحد تجاه الحد من الهجرة والتصدي لخطر المهاجرين، وأصبحت توظف ملف المهاجرين كمحور أساسي في برامجها السياسية والانتخابية، لذا يطلق عليها أحزاب ضد الهجرة(Anti-Immigration Parties)، حيث تسعى بكل قوتها إلى غرس الشعور العدائي[14] والكراهية وجعل الآخر في قفص الاتهام باعتباره مصدرا لكل المشاكل والأزمات. ولفهم خلفيات الخطاب السياسي المناهض للمهاجرين، أعطى بعض المحللين السياسيين من بينم النمساوي Hans Georg Betz تفسيراً خاصاً مفاده أن مرور المجتمعات الغربية من مرحلة الرأسمالية الصناعية والمرتبطة أساسا بدور الدولة المحتكرة (L’Etat-providence) إلى مرحلة الرأسمالية ما بعد التصنيع الفردانية (Le capitalisme postindustriel individualiste) أفرز عدة متغيرات ساهمت في التفكك الاجتماعي، وزوال منطق الأنظمة  التقليدية القائمة على الديمقراطية الاجتماعية، ما دفع بالفئات الاجتماعية التي لم تتهيأ لهذه المرحلة الجديدة إلى البحث عن متهم ومتسبب في هذا التحول. وفي هذا الإطار يجد المهاجرون أنفسهم في قفص الاتهام باعتبارهم منافسين غير مرغوب فيهم لدى المجتمعات الأوروبية، ولأن نموذج الدولة-المحتكرة لم يعد بإمكانه الاستجابة لمتطلبات المواطنين وخاصة فئة المهاجرين الذين يشكلون عبئاً ثقيلاً على اقتصاديات البلدان الأوروبية المستقبلة للمهاجرين[15].

ولقد ساهم في تحرك دول الإتحاد الأوروبي في اتجاه الاقتناع بأن الهوية الوطنية هي من أهم العناصر القومية المعرضة للاختراق “والتلطيخ”من قبل المهاجرين، وجود صورة نمطية حول المهاجر في أوروبا ما فتئت تسبب ذلك الارتفاع الكبير في ارتفاع مستويات “الأكزنوفوبيا ” وفي  انتشار ظاهرة العنصرية في هذه الدول[16]. وتتمثل أهم الصور السائدة عن فالمهاجر القادم من جنوب المتوسط في كونه يحمل مضامين ثقافية ونمطا من العادات والتقاليد التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنسجم مع الثقافة الغربية.كما أنه يؤمن بدين مغاير للدين المسيحي وبالتالي فهو يمثل خطراً دينياً يتعين التوجس منه والحذر إزاءه.

تعززت أكثر هذه الصورة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية وما تلاها من أحداث في بريطانيا وفي إسبانيا وفرنسا، مما أثار مخاوف وتساؤلات الطرف الأوروبي حول مدى علاقة هذا العنف والتطرف والإرهاب بالديموقراطية والاستقرار في المنطقة[17]. كما ولدت هذه الاعتداءات الارهابية لدى دول الشمال المتوسطي ربطاً مختزلاً بين وجود المهاجرين وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وجعل دول الاتحاد الأوروبي تعيد النظر في الجماعات المسلمة وثقافتها في ضوء حرب الأفكار والثقافات التي يروج لها المفكرون القوميون. وقد كانت هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة في مقدمة الأصوات التي تبنت الخطاب الاسلاموفوبي في الغرب [18]، حيث حظي مفهوم “أسلمة أوروبا” بنقاش واسع في الأدبيات اليمينية في أوروبا، وهو يعني أن المسلمين الذين يمثلون حضارة “دونية” يحصلون على مزيد من التغلغل والنفوذ بما يكفي لتشكيل تهديد حقيقي للهوية الأوروبية من قبل الآخر (القادمون الجدد)، لذا وجب منع الهجرة من البلدان الإسلامية نحو أوروبا المتشبعة بقيم الحرية والعلمانية والعقلانية والمرتبطة ارتباطا بقيمها المسيحية[19].

وقد تكرست هذه الصورة بشكل أكبر مع رواج خطاب يقصي التعددية الفكرية والثقافية، كما يعتم على النجاحات التي حققها عدد كبير من المهاجرين في أوروبا في العديد من المجالات، وهو خطاب مضلل يتمعش من موضوع الهجرة صادر عن القوى السياسية الموجودة في السلطة أو المعارضة، في اليسار أو اليمين على حد السواء، خاصة أنها تسعى للحفاظ على وعائها الانتخابي الذي صار ينزف بسرعة لمصلحة اليمين المتطرف الذي نصب نفسه ناطقاً رسمياً باسم الشعوب الأوروبية[20].

في هذا السياق أصبحت الآراء المعادية للمهاجرين موضوعا للتبرج السياسي العلني، وأصبح من كان يخجل من مصافحة أو مجالسة السياسيين العنصريين أمثال “Jean Marie Lepen” يعتمد برامج سياسية شبيهة ببرامجه، ولم يعد خافيا أن أوروبا الرسمية وأوروبا الشعبية تلتقيان حول مناهضة الهجرة والمهاجرين من خارج الفضاء الأوروبي الكبير[21].

المبحث الثاني: المقاربة الأمنية لدول الاستقبال

إن الصورة النمطية التي ظلت تتناقلها وسائل الإعلام وبعض التيارات السياسية(خاصة اليمين المتطرف)، في أوروبا بشكل رئيسي، كرست الانطباع بأن الهجرة تتم من بلدان الجنوب نحو بلدان الشمال، و بأن الهجرة  من جنوب المتوسط موجهة بشكل رئيسي نحو أوروبا وتشكل خطراً يهدد السكان المحليين. ففي الوقت الذي سقط فيه حائط برلين ما بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، فإن سورا عازلا يشيد بقوة وبسرعة ما بين ضفتي البحر المتوسط، إذ أدى تدفق المهاجرين سواء بشكل نظامي أو غير نظامي إلى بروز مشاكل جديدة بالنسبة للدول الأوروبية لم تكن مطروحة في السابق، وقد أخذت هذه المشاكل في الاستفحال لدرجة أصبحت تهدد الاستقرار السياسي والأمني، وقد تأثرت هذه السياسات إلى حد بعيد “بإعلام الأزمات” الذي يغذي كراهية الأجانب، ويحرك المشاعر العنصرية بنشر الشائعات والمبالغة في تشويه الحقائق.

مما زاد في  التهويل من ظاهرة الهجرة ومن انعكاساتها على أمن أوروبا، حدوث بعض الأعمال “الإرهابية ” في السنوات الأخيرة بالنظر إلى العلاقة المحتملة بين الإرهاب والمهاجرين، حيث أصبح من الاحتمالات الواردة وجود أعضاء جماعات إرهابية بين المهاجرين(تفجيرات مدريد 2004 ولندن 2005 وباريس2015). هذا التخوف كان وراء سعي بلدان الضفة الشمالية إلى ترويج شعار “حماية المجتمعات الأوروبية من خطر التهديدات الإرهابية”، والذي يمر عبر وقف تدفقات الهجرة، والتضييق على حرية التنقل من الجنوب إلى الشمال المتوسطي، لذلك سارعت بلدان الاتحاد الأوروبي إلى حماية نفسها بإقرار ترسانة من الإجراءات الأمنية (الفقرة الأولى) وباتخاذ مجموعة من التدابير التشريعية والقانونية في محاولة للوقوف في وجه ارتفاع أعداد المهاجرين لديها (الفقرة الثانية)، لتكون بذلك قد اختزلت المشكلة في بعدها الأمني فقط بعيداً عن المقاربة الشمولية المطلوبة.

المطلب الأول: التدابير الأمنية

تقوم المقاربة الأمنية على خلفية رئيسية مفادها أن هناك ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر للهجرة غير النظامية بالعديد من الأخطار والمشاكل التي أخذت تعيشها الدول الأوروبية في السنين الأخيرة، وعلى هذا الأساس لا يمكن التغلب على هذه الظاهرة ومخاطرها المتعددة إلا باعتماد حزمة من التدابير والإجراءات الصارمة. لذلك قامت دول الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي تعرف نشاطاً لأحزاب اليمين المتطرف، بإنشاء مراكز اعتقال خاصة بالمهاجرين غير الشرعيين الذين يتم إلقاء القبض عليهم على السواحل الأوروبية، حيث يحتجزون بها حتى ترحيلهم إلى بلدانهم، ولا توجد في هذه المراكز أدنى المعايير المطلوبة في الاعتقال[22].

 وتكريساً للمقاربة الأمنية في تعاطيها مع ظاهرة الهجرة، اتخذت الدول الأوروبية العديد من الإجراءات الأمنية لتشديد الحراسة على طول سواحلها من خلال الوسائل اللوجيستية والتكنولوجية العالية، يذكر من بينها المشروع الإسباني الممول من طرف الاتحاد الأوروبي،  المعروف بنظام سيف(SIVE)( والذي الذي تم إقراره في 2002 في جنوب الأندلس ودخل حيز التنفيذ في 2008، وهو أكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية[23]. وقبل إسبانيا، أنشأت ألمانيا في أوائل التسعينيات” الوكالة المركزية لمكافحة الهجرة غير الشرعية”، وأنشأت فرنسا في عام 1994 “المديرية المركزية للهجرة ومكافحة التشغيل السري”.

في سياق تحول الهجرة إلى قضية أمنية، قررت الدول الأوروبية في أكتوبر 2004، تأسيس وكالة أوروبية للتعاون وإدارة الحدود الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي، والتي أصبحت تعرف باسم فرونتكس(FRONTEX.)[24]، بهدف دعم التعاون من الناحية العملية بين الدول الأوروبية فيما يتعلق بالحدود الخارجية، وذلك في ضوء تزايد معدلات تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وتوسع الاتحاد الأوروبي، والربط الميكانيكي بين المهاجرين والإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

 أمام هذا التهويل من تزايد حدة الهجرة، قام الإتحاد الأوروبي بتبني خيار الصرامة العسكرية تتضمن خططاً لتعقب المهاجرين وتدمير قواربهم، وهو التوجه الذي ظلت العديد من دول أوروبا تردده وتطالب به خلال السنوات الأخيرة، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا وإيطاليا. ولإعطاء المهمة “إطاراً قانونياً”، فقد تبنى مجلس الأمن الدولي بتاريخ 9 أكتوبر2015، بموجب الفصل السابع، القرار رقم(2240) لمكافحة الهجرة من شواطئ ليبيا. ويسمح القرار، الذي يسري لمدة عام، للاتحاد الأوروبي باعتراض سفن المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من ليبيا.

 إن هذا التوجه باستعمال القوة العسكرية إن كان يعبر في عمقه عن الرغبة في وقف شبكات التهريب ومافيا الهجرة بكل أشكالها، فإن هذا الخيار ينطوي على مخاطر جمّة، وذلك لأنه يجسد ترجيح السبيل العسكري كمدخل وحيد وأساسي في مواجهة ظاهرة إنسانية تتغذى على عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية عدّة، كما أن هذا الخيار يكشف أيضاً بصورة واضحة زيف الادعاءات الأوروبية التي تقضي بحماية حقوق الإنسان والدفاع عنها على امتداد مناطق مختلفة من العالم.

 وبهدف إضفاء الطابع الخارجي(Externalization) على مراقبة الهجرة والحدود، بدأت الدول الأوروبية في الدخول في شراكات مع الدول الأخرى(دول ثالثة). ويمكن في هذا الصدد فهم اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبين دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي عرفت بمسلسل برشلونة سنة 1995. فقد ركزت ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻤﺸﺮوﻋﺎت اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ ﺑﻴﻦ الإﺗﺤﺎد اﻷوروﺑﻲ وﺣﻜﻮﻣﺎت دول ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻊ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻏﻴﺮ اﻟﺸﺮﻋﻴﻦ من التسلل إلى أوروبا. كما سعت هذه الجهود إلى تدعيم الاتفاقيات الأمنية المشتركة أو الجماعية بين الدول الواقعة على ضفتي المتوسط، التي تتيح الدعم المادي واللوجيستي لحكومات شمال إفريقيا[25]، في مقابل واجب الأخيرة التعاون من أجل الحد من الهجرة غير الشرعية عبر الانخراط الفعلي والمادي في محاربة شبكات التهجير وإطلاق مبادرات مشتركة لمراقبة الحدود، وكذا التفاوض معها حول إطار تعاقدي يسمح للدول الأوروبية بترحيل المهاجرين من مواطني الدول المتعاقدة في وضعية غير قانونية، وأخيراً مطالبة تلك الدول بقبول ترحيل مواطني الدول الغير إليها. فدول شمال المتوسط تحبذ دفع دول الجنوب إلى التوقيع على اتفاقات الإرجاع والطرد على أن تبرم معها اتفاقات خاصة بتشغيل اليد العاملة، والأكيد من كل هذه المعادلة أن الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي تبحث عن حارس أمين، ومخلص، ووفي لحدودها الخارجية. وهذا الاختيار الأوروبي إنما يدل على سيطرة هاجس المقاربة الأمنية على تفكير حكومات الدول الأوروبية ويكرس المفارقة بين خطاب يؤكد على ضرورة التعاون الثنائي في مجال الهجرة مع واقع التنكر لهذا التعاون على مستوى الممارسة[26].

إن جل التدابير والآليات والحلول الأوروبية التي انصبت على معالجة موضوع الهجرة القادمة من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، جعلت من المرجعية الأمنية قاعدة ثابتة في تسطير بنودها، ومنهجاً واقعياً في مواجهة الاختلالات الآتية من فضاء المهاجرين، سواء في الداخل أو ما وراء الحدود الأوروبية، وهو ما يجعل التساؤل يثار حول ما إذا كانت المقاربة الأمنية التي انتهجها الإتحاد الأوروبي تعد الحل الأنجع لهذه المعضلة أم لا. فمن وراء إجراءات الاعتقال والترحيل والمراقبة والحراسة المتبناة من قبل بلدان الاتحاد الأوروبي شاغل أمني مضمر يعتمد تمييزاً صارخاً بين المجموعات، يتمثل في تحرير تنقل الأشخاص من بلدان الإتحاد الأوروبي فيما بينها، ويمنع الانتقال الحر بين البلدان الأوروبية للأجانب القادمين من الضفة الجنونية للبحر المتوسط، بشكل أرادت منه الدول الأوروبية أن تجعل من نفسها قلعة يصعب اختراقها أو سورا عاليا لا يمكن تسلقه[27]، وبمعنى آخر فإن البلدان الأوروبية قد اختارت واقع وعمل منطق اليمين المتطرف وطروحاته المغالى فيها، ولاسيما ما يتعلق منها بالربط بين منع تدفق المهاجرين وحل الأزمة الاقتصادية، وذلك عوض البحث عن الأسباب الحقيقية وراء فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات الأوروبية، فيما ترد الدول الأوروبية بأن مثل هذه الإجراءات قد تحميها من التداعيات الأمنية السلبية التي تنعكس عليها إن هي تساهلت مع هذه القضية، خاصة مع اختلاط المشكل بالتهديدات الإرهابية، حيث ظهرت إلى السطح مجموعة من الهواجس المرتبطة بظهور ما أصبح يسمى العصابات المتخصصة في تجارة البشر والتي أصبحت تجد في المهاجرين وفي الهجرة غير الشرعية بشكل عام، ميداناً مناسباً للربح المادي الوفير. كما تخشى الدول الأوروبية من أن تستغل الشبكات الإرهابية ظروف هؤلاء المهاجرين في التخطيط لهجمات إرهابية موجهة إليها يكون فيها هؤلاء أداة لتنفيذها، في ظل الظروف الاجتماعية السيئة التي يعيشونها، وفي ظل غياب أدنى اهتمام حقيقي بأوضاعهم المعيشية.

المطلب الثاني: التدابير التشريعية

عرف الاهتمام الأوروبي بمعضلة الهجرة تطوراً هاماً تزامن مع التطور الذي عرفه المسار الوحدوي منذ إنشاء السوق الأوروبية المشتركة إلى غاية تأسيس الاتحاد الأوروبي بمقتضى اتفاقية ماستريخت، حيث كان الهدف الأساسي هو تحقيق السياسة الخارجية والأمنية المشتركة(PESC).فمع سقوط حائط برلين وتغير طبيعة التهديدات الأمنية وزوال الخطر الشيوعي، أصبحت الحاجة ملحة من أجل رسم سياسة أمنية موحدة باعتبارها الدعامة الأساسية لمشروع الوحدة الأوروبية، وأصبح الاتحاد الأوروبي يهتم بقضايا الأمن المشترك لاحتواء التهديدات الجديدة، وخاصة منها تلك المتعلقة بالأمن الإنساني كبعد استراتيجي عميق لمفهوم الأمن الشامل.

وفي هذا السياق يعد اتفاق شنغن[28]، النموذج الأمثل والأنجع خلال هذه الفترة لتنظيم الأمن الأوروبي، حيث طرح هذا الاتفاق مفهومي” الحدود الداخلية” و”الحدود الخارجية”  للاتحاد الأوروبي، مدلياً بذلك بتصور محدد للأمن وامتداداته الجغرافية[29].

 ومن خلال القراءة الأولى لمضامينه، يمكن القول أن “اتفاق شنغن” كرس لحرية تنقل الثروات والخدمات ورؤوس الأموال دون الأشخاص، كما ساهم في تنسيق سياسات الهجرة للدول الأوروبية، وفي اتجاه ردعي، يغلب عليه الهاجس الأمني والقضائي، حيث أعطى الأولوية للمراقبة الأمنية بمختلف صورها وأبعادها، من خلال تحديد قائمة من الحقوق والمسؤوليات الموكولة للسلطات القائمة بعمليات المراقبة، وخاصة تلك المنوطة بمهام ضبط الحدود.

ولتحقيق هذا الهدف تم إنشاء نظام لتبادل المعلومات(SIS=système d’information Schengen)،وذلك بغرض تدعيم تبادل المعلومات بين أجهزة الشرطة والجمارك للدول المتعاقدة في إطار الاتفاقية، باعتبار أن الأشخاص الذين يعبرون حدود هذه الدول بطريقة غير قانونية يشكلون تهديداً “للنظام العام” و”الأمن الوطني” لهذه الدول، وهذا ما جعل البعض يصف “نظام شنغن” بمثابة مختبر لحرية التنقل(laboratoire de libre circulation)،في إطار تعاون  فوق حكومي أكثر صلابة وانسجاماً، مع إغفال تام للحديث عن حماية حقوق المهاجرين، ولا عن إدماجهم في الحقل الأوروبي[30].

بعد توقيع اتفاقية شنغن أصبحت سياسة أوروبا تجاه الهجرة تنبني على أهمية وضع سياسة مشتركة بهدف جعل أوروبا قلعة محصنة يصعب ولوجها، ولتأكيد هذه السياسة عملت أوروبا على توقيع اتفاقية أخرى في إطار الاتحاد، جاءت لتعزز أكثر مقتضيات ومبادئ اتفاقية التطبيق “شنغن”، وقد عرفت هذه الاتفاقية التي تم توقيعها في فبراير 1992 باتفاقية ماستريخت، وتؤسس هذه الاتفاقية ولأول مرة لسياسة مشتركة ونظام للتعاون ما بين الحكومات.

فبموجب هذه الاتفاقية، توافقت الدول المتعاقدة على إدراج سياسات الهجرة في” الركن الثالث” (troisième pilier).وحسب هذا الركن فإن الدول الأعضاء تعتبر “تحديد شروط دخول وإقامة وتنقل المهاجرين الأجانب(غير الأعضاء في الاتحاد)، ومحاربة الهجرة غير الشرعية والإقامة والعمل غير القانونيين “بمثابة مسائل ذات اهتمام مشترك(questions d’intérêt commun)[31]. وقد شكلت اتفاقية ماستريخت عائقاً في وجه تنقل مواطني دول العالم الثالث، لأنها وضعت تصور شامل للوحدة الأوروبية، وجعلت من حرية التنقل والعمل أحد السمات الأساسية للمواطنة الأوروبية، فهي تميز ما بين الأوروبيين الاتحاديين والأوروبيين غير الاتحاديين[32].

وبهذا تكون اتفاقية ماستريخت قد خرقت موادا أساسية في معاهدة روما، التي أسست لحرية تنقل الأشخاص دون التعرض لأي مراقبة للهوية عند عبور الحدود الداخلية للدول الأعضاء، ودون قيود تستند على الجنسية أو العرق أو الدين (المواد 36 و 48 و 66 من معاهدة روما).

 تضييق شروط الدخول إلى القلعة الأوروبية، واعتماد سياسة التشديد والتضييق وغلق الحدود، سيستمر بعد توقيع اتفاقية أمستردام في أكتوبر1997، والتي دخلت حيز التنفيذ في فاتح ماي 1999، حيث عملت اتفاقية أمستردام على إرساء الأسس والقواعد الرئيسية التي يمكن للاتحاد الأوروبي من خلالها إقامة سياسة متناسقة ومشتركة في ميدان الهجرة واللجوء. ويتجسد هذا الانجاز والتقدم أساساً في نقل المواضيع المرتبطة بالهجرة واللجوء من نطاق التنسيق بين الحكومات(La coordination intergouvernementale) إلى نطاق اختصاصات الجماعة الأوروبية(La communauté Européenne)، ما رسخ الاقتناع القائل بأن الهجرة هي قضية أوروبية بالدرجة الأولى، ويثبت في نفس الوقت محدودية العمل الفردي والمقاربة الوطنية الأحادية في ضبط مخرجات الهجرة.

 لقد عمدت أوروبا لتكريس سياستها الهجروية إلى الاعتماد والارتكاز على هذه الضوابط القانونية التي سنتها في إطار اتحادي، وذلك كمحاولة منها للتعاون والتنسيق في إدارة تدفقات الهجرة (Gestion des flux migratoires) وحماية نفسها من دخول بؤساء العالم الثالث. وما من شك أن عوامل عديدة دفعت الدوائر السياسية الأوروبية إلى صياغة هذا الإطار المشترك من الاتفاقيات ذات الصلة بموضوع الهجرة، ومنها الاستقرار النسبي للحدود الوطنية للدول الأوروبية ورغبتها في إلغاء المراقبة على الحدود الداخلية، وكذا التحول الذي طال تيارات الهجرة القادمة من بلدان الجنوب بانتقالها من هجرة مؤقتة إلى هجرة دائمة.

 ويبدو أن التعاطي القانوني مع موضوع الهجرة من قبل الدول الأوروبية لم يتم فقط من خلال الاتفاقيات والمعاهدات الجماعية التي أشرنا إليها، بل بادرت كل دولة على حدة تحت راية سيادتها الوطنية إلى سن مجموعة من القوانين والتشريعات الوطنية ذات الصلة بموضوع الهجرة، تهدف من وراءها كمرحلة أولى حماية نفسها من تدفقات المهاجرين غير القانونيين، وكمرحلة ثانية ردع الهجرة غير الشرعية بكل مكوناتها. وبالرجوع إلى محتويات هذه القوانين الجديدة أو المعدلة المتعلقة بمحاربة الهجرة والوقاية منها[33]، يلاحظ أنها وإن كانت تختلف من بلد لآخر من حيث حجم العقوبات التي تفرضها على المشاركين في عملية التهجير السري أو الشروط والمعايير التي تعتمدها لمنح التأشيرة، فهي تتوحد من حيث الأهداف التي تتوخى تحقيقها إذ تسير في اتجاه واحد هو تشديد القوانين وتغليب الهاجس الأمني والمصلحة الوطنية على حساب الحلول الإنسانية، ووقف وتيرة تدفق المهاجرين الأجانب وتحديد مدد إقامتهم مع التركيز على قمع المهاجرين غير الشرعيين. كما أن إقدام معظم دول الاتحاد الأوروبي وخاصة بلدان جنوب أوروبا (إيطاليا، إسبانيا) على تعديل قوانينها المرتبطة بالهجرة أكثر من مرة، يؤكد أنها أصبحت ميداناً خصباً للمزايدات السياسية بين الفرقاء السياسيين.

 وأيا كانت حالة تلك التشريعات والقوانين التي وضعتها البلدان الأوروبية، والتي جعلت هدفها الرئيسي وقف تدفقات الهجرة، إلا أنها فشلت في تحقيق ذلك، ومرد ذلك حسب تقديرنا هو التركيز على النتائج بدل البحث عن معالجة الأسباب، ولعل أكبر فشل منيت به هذه السياسات التشريعية هي الآثار الإنسانية الناجمة عنها، إذ أثرت القوانين والتشريعات المتخذة تجاه الهجرة والمهاجرين من جنوب المتوسط على حقوق المهاجرين التي تضمنتها المواثيق والإعلانات الدولية.

المبحث الثالث: قراءة نقدية للمقاربات الأوروبية المعتمدة

على الرغم من وجود دراسات عديدة عن مسارات الهجرة وديناميكيتها وتدفقاتها، وأيضاً توفر بحوث حول الأطر القانونية الموجودة في بلدان الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، إلا أن مسألة الهجرة لم تدرس على درجة كافية من منظور تأثير السياسات والقوانين على حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء، ولا ينتظر من بلدان الضفة الشمالية أن تشجع وجود سياسات أكثر حماية للمهاجرين واللاجئين، حيث أن سياسات هذه الدول التي يشوبها الكثير من الغموض مازالت تركز على السيطرة، ويغلب عليها الهاجس الأمني على حساب حماية حقوق المهاجرين كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

وكل ما تتخذه بلدان الضفة الشمالية إنما ينبني على هاجس صد “محاصرة “الخطر” القادم من الضفة الجنوبية، والذي ماهو في الحقيقة سوى واقع سيئ فرضته عليها الجغرافيا فاضطرت للتعامل معه بطريقة معينة لتحصين ذاتها من عواقبه. وسنسعى من خلال هذا المطلب إلى تناول المقاربات الأوروبية المعتمدة في تدبير إشكالية الهجرة من زاوية نقدية، تسعى إلى إبراز فشلها ومحدوديتها في وقف نزيف الهجرة (المطلب الأول)،وتتوخى أيضاً ملامسة الغموض والازدواجية التي تلفها، إذ رغم أن بلدان الضفة الشمالية تتحدث عن احترام حقوق المهاجرين، فإن الواقع الأوروبي يؤكد أن الفرق بين الخطاب والممارسة مافتئ يتسع بشكل مستمر(المطلب الثاني).

المطلب الأول: محدودية النتائج وتزايد الخلافات

لقد تمخض عن أمننة الهجرة واعتبارها تهديداً للأمن الأوروبي بجميع أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أن تحولت هذه الظاهرة من بعدها الإنساني المتمثل في طلب اللجوء والعيش الكريم، والبحث عن فضاءات تضمن كرامة المهاجر وتحترم إنسانيته بعيداً عن الحروب والفقر والمعاناة، إلى بعد إجرامي يقترن بالعنف والإرهاب والجريمة المنظمة، ويربط الهجرة بمجمل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي أصبحت تعيش على إيقاعها العديد من دول أوروبا، في تنكر صارخ للقوانين والتشريعات الداخلية ذات الصلة بالهجرة واللجوء.

ويبدو أن غالبية المقاربات والمشروعات الأوروبية، بصورها الفردية والجماعية، التي طرحت لمكافحة الهجرة يحكمها الهاجس الأمني بالأساس، كما هو الشأن بالنسبة لتجنيد كل الوسائل القمعية والبوليسية، وتعزيز قدرات الحراسة على الحدود، والدعم اللوجيستي المتمثل في طائرات المراقبة، وبناء معسكرات الاحتجاز، وسن القوانين الردعية.

 وهذه الحلول غير عملية، كونها تهمل الأسباب والظروف المحيطة بموضوع الهجرة، كما أن هذه الإجراءات الأمنية المتشددة لم تؤدي سوى إلى تغيير طرق الهجرة غير الشرعية دون أن تنجح في وقفها. فعلى سبيل المثال، بعد تشديد المراقبة على مضيق جبل طارق، يتبع المهاجرون طريقا بحريا آخر شرقي الأندلس في جنوب اسبانيا، ونظراً لصعوبة الطريق وسوء حالة المراكب، يتعرض الكثير منهم إلى الغرق في البحر، وهو ما يؤدي فعلياً إلى إتاحة الفرصة لخلق شبكات إجرامية تتحكم بشكل موسع في تيارات الهجرة بين الدول وتدر عليها أموالا طائلة، وبالتالي تحقق الإجراءات المتشددة للاتحاد الأوروبي نتائج عكس المرجوة تماماً.

ومن ناحية أخرى، فإن هذا النوع من الحلول مكلف بالفعل، حيث يدفع الاتحاد الأوروبي أموالاً طائلة ولكن في الطريق الخطأ. فبحسب دراسة لـــ” The Migrants File”، وهو تجمع يضم مجموعة من الصحافيين الأوروبيين المهتمين بمآسي الهجرة، فإن دول الاتحاد الأوروبي أنفقت 11.3 مليار دولار ابتداء من عام 2000 كتكلفة لطرد المهاجرين غير الشرعيين، و 1.6 مليار يورو لحماية حدود أوروبا وتمويل مختلف المؤسسات، وعلى رأسها وكالة فرونتكس التي انتقلت ميزانيتها من 114 مليون دولار في عام 2015 إلى 320 مليون دولار سنة 2020[34].

ومع سنة 2011، عادت قضية الهجرة إلى البلدان الأوروبية لتحظى باهتمام خاص بسبب ما شهدته المنطقة العربية من ثورات وتغييرات عصفت  ببلدان مستقرة، وتسبت في أكبر موجة للمهاجرين واللاجئين تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ولعل ما يبين عقم وعجز المقاربات الأوروبية المعتمدة، هو التكلفة العالية من الأرواح البشرية والذي حول البحر الأبيض المتوسط إلى أكبر مقبرة عائمة، كما تطالعنا بذلك باستمرار مختلف وسائل الإعلام. فبحسب “The Migrants Files”، فإن عدد الضحايا من “المهاجرين وطالبي اللجوء في الطريق إلى أوروبا في المنطقة بلغ منذ عام 2000، وحتى حدود25 أيار/مايو 2016 نحو 32.040 شخصا[35]، وجاء في تقرير أصدرته المنظمة الدولية للهجرة أن حوالي 3072 مهاجر لقوا حتفهم غرقاً أو برداً خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2014 في البحر الأبيض المتوسط من ضمن مجموع 4077 مهاجر قضوا على امتداد مناطق مختلفة من العالم، حيث تتشكل جنسيات الضحايا من عدد من البلدان الإفريقية والدول المغاربية والشرق أوسطية. كما أفاد المرصد الأورو متوسطي في تقرير له صدر في مارس 2015،أنه في كل أربع ساعات يلقى مهاجر حتفه غرقاً في البحر الأبيض المتوسط.

لقد جدد حراك الربيع العربي أحد الهواجس الجوهرية التي طالما أرقت بلدان الاتحاد الأوروبي، كما أثارت الكثير من الجدل، بل تسببت في حدوث انقسامات داخل أروقة الاتحاد حيال التعامل مع هذه الموجة الجديدة من الهجرة، إذ لم تستطع دول الاتحاد مجتمعة بلورة استراتيجية متكاملة وبناءة في التعاطي مع الارتفاع المتنامي لتيارات الهجرة، وظلت تلك السياسات تفتقد إلى التوحيد وتواجه عدة تناقضات وتطغى عليها الخلافات بين الشركاء الأوروبيين. وهو ما ترجمته المواقف المتباينة المطروحة في هذا الصدد، بين من دعا إلى تقاسم أعبائها في إطار من التضامن والتنسيق، وبين من حمل دول الاستقبال المسؤولية في هذا الصدد، فيما لم تتردد بعض الدول في المجاهرة بالدعوة إلى طرد المهاجرين وطالبي اللجوء، بعد ربطهم بمجمل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي أصبحت تعيش على إيقاعها العديد من دول أوروبا، في تنكر صارخ للقوانين والتشريعات الداخلية والدولية ذات الصلة بالهجرة واللجوء. وإذا كان يحق للبلدان الأوروبية اتخاذ القرارات وإصدار التشريعات بشأن المهاجرين، لكن من غير الحكمة أن تغلق أبوابها أمامهم. فذلك لن يؤثر على آفاقها الاقتصادية والاجتماعية البعيدة الأمد فحسب، بل سيدفع بأعداد أكبر من فقراء الجنوب لاختراق حدودها من الأبواب الخلفية عن طريق السعي لطلب مساعدة المهربين، مما يعرّض المهاجرين – في أغلب الأحيان – للوفاة أو الإصابة أثناء العمليات السرية اليائسة.

إن عدم وجود اقتراب(Approach) أوروبي موحد للتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء في القارة الأوروبية يعكس في الحقيقة خلافاً سياسياً وقانونياً بين معسكرين: معسكر الدول الأوروبية جنوب المتوسط ومعسكر الدول الواقعة وسط وشمال أوروبا[36]، ففي الوقت الذي تطالب فيه الدول التي تقع على خط التماس مع الهجرة غير الشرعية(إسبانيا، إيطاليا، اليونان، مالطا) باقي دول الاتحاد بأن تتحمل معها أعباء وتكلفة استقبال المهاجرين وطالبي اللجوء باعتبارها مشكلة أوروبية لا قضية داخلية، فإن دول وسط أوروبا وشمالها(فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) ترفض هذا المطلب وترى فيه التفافاً على “اتفاقية دبلن”[37]، التي تنص على أن التعامل مع طلبات اللجوء السياسي يتأسس على قاعدة “الدولة الأولى” التي تطؤها قدم المهاجر غير الشرعي أو اللاجئ السياسي، ويلقي هذا المبدأ بالمسؤولية كاملة على هذه “الدولة الأولى” في فحص طلبات اللجوء السياسي وإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى دولهم الأصلية، وهو ما يتعارض ليس فقط مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية حول اللجوء، بل يتعارض مع مقررات “اتفاقية شنغن”حول حرية التنقل وإزالة الحدود الداخلية ما بين الدول الأعضاء، ومع مقررات “اتفاقية أمستردام” التي تتحدث عن خلق فضاء  أوروبي” للحرية والأمن والعدالة.

المطلب الثاني :حماية الحدود على حساب حماية الحقوق

إذا كانت أوروبا قد بنت مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسمو القانون، وسخر مجلس أوروبا جهوده لتجسيد وحماية هذه المبادئ من خلال الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن المواطنة الأوروبية التي كرستها الاتفاقيات والمعاهدات الجماعية (شنغن، ماستريخت، أمستردام) أضفت صفة التجزيئية على حقوق الإنسان، وأضحى المواطن الأوروبي يتمتع بكافة الحقوق، في وقت يحرم فيه العامل المهاجر من المساواة وتتعرض حقوقه لخروقات، ويعاني من التمييز والتهميش.

فما يمكن استنتاجه عند تحليل مضامين التشريعات والاتفاقيات الأوروبية، هو أنها لا تشير إلى حقوق المهاجرين سوى في أضيق الحدود، وأن المقاربة الأمنية قد تبوأت تدبير ملف الهجرة غير الشرعية، وأصبحت جل بلدان شمال البحر الأبيض المتوسط تسيء استقبال المهاجرين بإجراءات كالطرد والترحيل، ومنها بلدان عريقة في الديمقراطية (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا،…إلخ) حيث لا تتوانى هذه الدول في تكريس معاملات عنيفة وفولاذية ضد المهاجرين. كما أن دول شمال البحر الأبيض المتوسط بإقرارها هذه القوانين المتشددة، ومنع المهاجرين من الوصول إليها إنما تعتدي على حق أساسي من حقوق الإنسان ألا وهو الحق في التنقل، وهو الحق الممنوح في (المادة 13) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمكفول بصفة صريحة في(المادة 12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

إن الأوضاع المزرية التي يعيشها المهاجرون، وكذا التمييز الذي أصبحوا عرضة له في مختلف مناحي الحياة هي أوضاع غير مقبولة إنسانياً وتحتاج إلى التغيير. ويشكل الاعتراف للمهاجرين بالحقوق والحريات الأساسية وضمان ممارستهم لهذه الحقوق مدخلاً لتحسين ظروف عيشهم والقضاء على مختلف مظاهر الإقصاء والتهميش التي تطالهم. وبالتالي فإن استحضار الجوانب الإنسانية في التعامل مع المهاجرين ليس مجرد منة  أو عمل خيري، بقدر ما يستمد الأمر أساسه من مختلف القوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ذلك أن الاتفاقية الدولية لحماية العمال المهاجرين وأفراد أسرهم شكلت إطاراً قانونياً واسعاً في مجال الحماية الدولية للأجانب المقيمين بصفة قانونية رغم غياب الإرادة السياسية لدى العديد من الدول للتصديق عليها، وخاصة الدول المستقبلة للهجرة، والتي لم توقع أو لم تصادق بعد على الاتفاقية، نظراً لتشبثها بمصالحها الذاتية على حساب حقوق العمال المهاجرين، الأمر الذي يبين التعامل الانتقائي مع المواثيق والمعاهدات الدولية.

وفي الوقت الذي يتوسع فيه الاتحاد الأوروبي، ويفرض على الدول المرشحة معايير تتعلق باحترام حقوق الإنسان، فإنه مطالب من جانبه كي يتدعم ويتقوى، أن يتبنى هذه الاتفاقية الدولية التي تحمي حقوق المهاجرين وتصون كرامتهم[38]. لهذا نؤكد على ملحاحية مصادقة البلدان الأوروبية على مجموع المعاهدات الضامنة للحقوق الأساسية للمهاجرين، وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لعام 1990.

تسببت أمننة  الهجرة أيضاً في دفع الدول الأوروبية إلى مزيد من التشدد في قوانين منح اللجوء، إذ أنها تحرم بشكل تعسفي المهاجرين من حق اللجوء رغم أنه يفترض أن اللاجئ يحظى بحماية دولية، فقوانين البلدان الأوروبية لا تميز إلا بشكل سطحي بين المهاجر غير القانوني الذي هاجر لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، واللاجئ الذي نزح لأسباب سياسية، بحيث أن كليهما يوضع في خانة المهاجر غير القانوني عند وصوله إلى الضفة الشمالية.

 ولأن دول شمال البحر الأبيض المتوسط تدرك أنها لن تقدر على مواجهة الظاهرة بشكل منفرد، فإنها أبرمت مجموعة من الاتفاقيات في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف أو في إطار تجمعات إقليمية للتدبير التعاوني في ميدان الهجرة مع الدول مصدر المهاجرين أو دول العبور. غير أن هذا الإطار الاتفاقي الثنائي لا يقوم على أساس المسؤولية المشتركة، بل هو مجرد إطار قانوني لتصريف المقاربات الأوروبية التي تجعل دول الجنوب مجرد دركي يعمل على ضمان  أمن أوروبا على حساب مصالحها.

إن سياسة الترحيل فوق المياه الدافئة(Las devoluciones en caliente) التي تقوم بها السلطات الأمنية الاسبانية مثلا في إطار تطبيق وتفعيل الاتفاقية الموقعة بين الرباط ومدريد عام 1992،تعد بحسب العديد من المنظمات الحقوقية ممارسة غير قانونية  تنفذ دون أدنى ضمانات، و تشكل انتهاكاً لقوانين الحماية التي توفرها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تنص على أنه  “ينبغي تزويد المهاجرين غير الشرعيين الذين ينزلون على الأراضي الأوروبية بالمعلومات والرعاية والتعاطي مع طلباتهم للجوء.”وترفض المنظمات الحقوقية ما يسمى “الإعادة القسرية” للمهاجرين، خصوصاً بعد صدور حكم عن محكمة العدل الأوروبية عام 2017 ينتقد إعادة إسبانيا مهاجرين إفريقيين إلى المغرب دون مراعاة “الإجراءات القانونية”.[39]

حماية الحدود على حساب حماية الحقوق يظهر أيضاً في تعاطي الوكالة الأوروبية (فرونتيكس) والمكلفة بإدارة التعاون العملياتي على الحدود الأوروبية. فإذا كانت هذه الوكالة قد ساهمت في العديد من عمليات التدخل، إلا أن عمليات تعقب و اعتراض قوارب الهجرة المتوجهة إلى أوروبا، تضر باللجوء كحق إنساني، وتتنتهك مبدأ عدم الإبعاد(non-refoulement)  للمهاجرين، إذ تقوم الوكالة بارجاعهم إلى بلدانهم بالقوة(Le renvoi forcé)، وهو ما يشكل خرقاً( للمادة 33 )من اتفاقية جنيف التي تنص على الحظر المطلق لإعادة شخص إلى بلد يتعرض فيه لخطر حقيقي على حياته أو تعرضه لخطر التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو المهينة. فالإبعاد بالقوة حسب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يخلق مشكلة بالنسبة (للمادة 03)من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان[40]، وهو ما كانت قد ضلعت فيه إيطاليا في ديسمبر 2012، حسب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بعدما أعادت مهاجرين بشكل قسري نحو ليبيا، وبالتالي تكون مسؤولية الدولة قائمة[41].

لقد أصبحت دول أوروبا تنهج خطاباً مزدوجاً في تعاطيها مع مسألة الهجرة والمهاجرين، فهي تظهر بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بقضايا بعينها، بينما تصمت عن انتهاك حقوق المهاجرين، وتتعامل بسلبية مع جميع الانتهاكات التي تقوم بها السلطات المختصة من ترحيل وتعنيف وسوء معاملة المهاجرين المنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء. وقد سبق لمجموعة من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية أن أدانت هذه الوضعية وممارسات دول الاتحاد الأوروبي في مجال حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بالإجراءات المرتبطة بعمليات طرد وترحيل المهاجرين التي تطبقها جل هذه الدول، والتي تتم دون منح هؤلاء المهاجرين إمكانية الطعن في ذلك في غالب الأحيان. لكن يبدو أن حماية  أوروبا من “غزو البرابرة الجدد”  يتقدم على الهم الإنساني وحماية الناس، وأن تدبير دول الاتحاد الأوروبي لقضية الهجرة يخضع لمعاييـر سياسية واقتصادية أولاً، بمعنى منطق “الربح والخسارة”، أكثر من خضوعه لدواع إنسانية؛ وأن منطق “أوروبا للأوروبيين” تغلب على حرية الانتقال وعلى منطق الأمن المشترك والاستقرار في المنطقة واحترام حقوق الإنسان الأساسية”، وهذا يؤشر على الممارسة القائمة بين خطاب سياسي تقييدي، وممارسة سياسية براغماتية[42].

الخاتمة:

تعتبر الهجرة محوراً أساسياً في العلاقات الأورومتوسطية، ولا يمكن إنكار مساهمة الهجرة والمهاجرين القادمين من بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في تنمية اقتصاديات البلدان المضيفة الأوروبية. لكن تحول طبيعة وبنية التهديدات التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة فرضت رهانات استراتيجية جديدة في منطقة المتوسط،وجعلت “أمننة” الهجرة أحد الجوانب الأساسية للعقيدة الأمنية الأوروبية. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية لم تتوان بلدان الإتحاد الأوروبي في اتخاذ إجراءات تقييدية سواء بالنسبة لفتح حدودها للمهاجرين القادمين من جنوب المتوسط أو لتقليص فرص إقامتهم الدائمة وتشديد المراقبة على سواحلها باستعمال أحدث الأجهزة التكنولوجية.

إذن بلدان الضفة الشمالية لا تنظر إلى قضية الهجرة إلا من منظور أمني صرف، ولا ننتظر أن تغير من منظورها إلى الأمور، وهي تتحمل دون شك قسطاً كبيراً من المسؤولية في تنامي مشكلة الهجرة واستفحالها، من خلال مواصلتها استغلال البلدان الإفريقية بجعل حكوماتها ورؤسائها مجرد وكلاء يحمون مصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى، على حساب الاستثمارات الحقيقية التي كان من المؤمل أن تنهض باقتصادياتها وفق مخطط شمولي من حجم وأهمية مخطط مارشال الذي أعاد بناء أوروبا بعد الحرب العلمية الثانية.

 من جهة أخرى، يبدو المشهد مريعا إذا أخذنا بالاعتبار ازدياد عدد الدول الفاشلة التي لم تعد قادرة على حماية حدودها وتوفير الأمن لشعوبها، كالعراق و سوريا وليبيا وجنوب السودان واليمن والصومال واريتريا…إلخ، إن ذلك لا يعني سوى مسألة واحدة ستدركها أوروبا وهي أن الهجرة ستعرف مزيداً من الاستفحال، ولا يمكن معالجتها أمنياً أو قانونيا، بل بإعادة النظر في سياساتها المتعلقة بالهجرة والمبنية على مقاربة أمنية محضة بشكل عميق، فظاهرة الهجرة هي أعقد من مجرد التعاطي مع نتائجها وفق مقاربات أمنية ضيقة تأخذ نهجا سلطويا(un tournant autoritaire) لا يأخذ بعين الاعتبار كونية حقوق الإنسان والمبادئ الدولية السائدة بشأن حرية التنقل والإقامة والاستقرار.

ورغم الاعتقاد السائد لدى الكثير من المفكرين أمثال محمد أركون بأن المتوسط لا يعدو أن يكون فضاء للتناقضات والانشقاقات التي لا تعالج والهويات المتناقضة والرفض المتوارث والحروب المأساوية والكراهيات المدمرة، إلا أن هذا المتوسط يفرض نفسه كمشكلة وليس كمعجزة يصعب تحقيقها. ومن هذا المنطلق يجب إيجاد نظام أمن جديد هو الأمن مع الآخر والذي تفرضه طبيعة التحديات الحالية. غير أن إيجاد استراتيجية الأمن مع الآخر تفترض وجود فضاء مشترك، ليس في بحر “لاتيني” أو “بحر إسلامي”، وإنما في ” بحر متوسط”. وهنا، ينبغي الرجوع إلى الجغرافيا لأنها هي التي تحدد السياسة أي سياسة الجوار الجغرافي والجيو-سياسي.

إن الطريق الأنجع لتحقيق السلم والرخاء المشترك في حوض البحر الأبيض المتوسط، وإقامة منطقة أورو-متوسطية يعمها الأمن والاستقرار يقتضي ألا تكون لأوروبا سياسة لبلدان الضفة الجنوبية، ولكن أن تكون لها سياسة مع الضفة الجنوبية، وهذا هو كنه معنى الشراكة. فالأطراف المعنية اقتنعت بوجود تحديات ومخاطر وتهديدات عبر وطنية تتجاوز الحدود الجغرافية، وبالتالي فمواجهة هذه التحديات والأخطار يجب أن تتم في إطار جماعي وتنسيق مشترك من أجل احتوائها والقضاء عليها.


[1]– حسن زرفة، “البعد الأمني في العلاقات الأوربية المغربية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، كلية الحقوق، مراكش 2000 – 2001، ص 101.

[2]– عبد الحميد مزيان، “الحلول الوطنية والإنسانية لقضايا الهجرة بين المغرب العربي وأوروبا الاثني عشر دولة”، منشورات أكاديمية المملكة المغربية، 1992، ص 99.

[3] – courbage Youssef , démographie en rive sud de la méditerranée, annuaire de la méditerranée,p125.

[4]– طه أحمد المجدوب، “الأمن الأوروبي-المتوسطي من وجهة نظر مصرية”، مجلة السياسة الدولية،العدد124، أبريل 1996، ص 99.

[5]– محمد الحداد، “السلام في المتوسط: الواقع والآفاق”، مجلة السياسة الدولية، العدد143، يناير 2001، ص168.

[6]– عبد الله تركماني: “إشكاليات الهجرة في إطار الشراكة الأورو متوسطية”، مجلة دراسات دولية، العدد 100 ، السنة 2006 ، ص 41.

[7]– مصطفى بخوش، “حوض البحر الأبيض المتوسط بعد نهاية الحرب الباردة، دراسة في الرهانات والأهداف”، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2006، ص 50.

[8]– وليد محمود عبد الناصر، ” التعاون المتوسطي بين مطرقة الهجرة وسندات التطرف”، مجلة السياسية الدولية، العدد 124 ، السنة 1996، ص 112.

[9]– خميس طعم الله، “الهجرة المغاربية في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتقافية بأوروبا. تجربة الجيلين الثاني والثالث”، مجلة دراسات دولية، العدد 63، السنة 1997، ص 32.

[10]– Bichara Khader, l’Europe et la méditerrané géopolitique de la proximité, Paris-Louvain-La-Neuve, L’Harmattan-Academia, 1994, p71.

[11]– Gilles Ivaldi, « L’extrême droite en Europe occidentale», in Revue Problèmes politiques et sociaux,n°849,22/12/2000,p62-64.

[12]– رابح زغوني، ” الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في أروبا: مقاربة سوسيو ثقافية “،مجلة المستقبل العربي، العدد 421، مارس 2014، ص 123.

[13]– Wouter van der Brug, «The Support Base of Radical Right Parties in the Enlarged European Union,» paper prepared for: The EES Spring Meeting 2006 on the European Parliament Election of 2004,Lisbon,11-14 May 2006,p.2.

[14]– صنف عالم الاجتماع الألماني Manfred Kuechler الشعور العدائي إلى أربعة أنواع وهي :العنصرية(racisme) تدعو إلى القضاء النهائي على العرقيات والأجناس البشرية الأخرى، كره الأجانب(xénophobie) الخوف من الآخر خاصة من الممارسات، السلوكيات، العادات المختلفة والدخيلة على المجتمعات الأخرى، رفض المخالطة(mixophobie) الأجنبي مرفوض حتى وإن قبل بفكرة الاندماج الكلي دون التأثير أو المساس بهوية الجماعة. الدفاع الذاتي(l’autodéfense) السماح بالانفتاح اتجاه الاجانب مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الأمر أو الوضع من شأنه أن يهدد أو يخل بالهوية والمصالح الشرعية للسكان الأصليين.

[15]– Hans-Georg Betz, « The New politics of the right.Neo-populist », in Revue Problèmes politiques et sociaux, N°849,22/12/2000, p57.

[16]– الأمين الكلاعي، “الصور النمطية للمهاجرين في أوربا”، مجلة دراسات دولية، العدد 100، السنة 2006، ص 30.

[17]– علي الحاج، “سياسات دول الاتحاد الأوربي في المنطقة العربية بعد الحرب الباردة”، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه 51، الطبعة الأولى، بيروت، فبراير 2005، ص 245.

[18]– يرجع أصل مصطلح الاسلاموفوبيا إلى اللغة اللاتينية، Islamophobia ، ومعناه الخوف المرضي من الإسلام، إنه تعريف ملغوم ينتمي إلى حقل علم النفس، وبالتالي فهو دلاليا الرهاب كمرض نفسي، أي ليس هناك ما يدعو إلى الفزع والخوف بل هو مجرد وهم يسيطر على المريض فيتخيل أن هناك تهديدا من أشخاص أو أحداث تعد مصدر الأمان لهذا المريض.

[19]– يحيى اليحياوي، “الإسلام الأوربي، صراع الهوية والاندماج”، منشورات مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، مارس2010، ص29-93.

[20]– مرسي مشري،” أمننة الهجرة غير الشرعية في السياسات الأوربية: الدوافع والانعكاسات”، مجلة سياسات عربية،العدد15،السنة 2015،ص67.

[21] – EL OUAZZANI Abdelmalek et MALKI Mhammed « l’Europe et l’immigration relativiser l’image de citadelle assiégée », actes du colloque international organisé par C.E.C.O.P à Marrakech 26 – 27 Nov. 1999, Série Séminaires et colloques N° 16. P 77-78.

[22]– نادية ليتيم، فتيحة ليتيم،”البعد الأمني في مكافحة الهجرة الشرعية إلى أوربا”، مجلة السياسة الدولية، العدد 183، يناير 2011، ص 26.

[23]-SIVE, le  « Système intégré de vigilance extérieure » lancé en 1999 par le gouvernement espagnol du président Aznar, a pu être mis en place pendant la présidence espagnole de l’Union en 2002, avec un financement européen à hauteur de 40 millions d’euros.

[24] – FRONTEX, l’Agence européenne pour la gestion de la coopération opérationnelle aux frontières extérieures. a été créé en 2004 Le rôle de FRONTEX est de coordonner la coopération entre les États de l’UE en matière de réglementation de l’immigration. Depuis 2006, FRONTEX s’est chargée de coordonner des patrouilles maritimes italiennes, grecques et maltaises pour le contrôle des eaux au large de la Libye, de la Tunisie et de l’Algérie. Elle appuie également l’activité de la police et des militaires espagnols pour la surveillance du détroit de Gibraltar et des routes qui relient les Îles Canaries aux côtes de la Mauritanie, du Sénégal et du Maroc.

[25]– محمد مطاوع، “الاتحاد الأوروبي وقضايا الهجرة: الإشكاليات الكبرى والاستراتيجيات والمستجدات”، مجلة المستقبل العربي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، العدد 431، يناير2015،ص29.

[26]– نور الهدى القندوسي، “السياسة الخارجية المغربية إزاء قضية الهجرة نحو الاتحاد الأوربي”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الأول وجدة، السنة الجامعية 2006-2007. 

[27] – كريم مصلوح، “التعاون والتنافس في المتوسط”، الدار العربية للعلوم ناشرون/مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى، بيروت 2013، ص232.

[28]– Accord relatif à la suspension graduelle des contrôles aux frontières communes, signé le 14 juin 1985 à Schengen (village Luxembourgeois à la frontière Franco-allemande)et la Convention additionnelle de l’accord de Schengen, signée le 19 juin 1990.

[29]– Nathalie Berger, la politique européenne d’asile et d’immigration, enjeux et perspectives. Bruyant Bruxelles2000.p26.

[30]– François julien la perrière, « l’union européenne, Schengen et la liberté de circulation », immigration et intégration l’état des savoirs, édition la découvertes 1999, p 366.

[31] – Monica Den boer : «crime et immigration dans l’Union Européenne ».In Conflits et cultures. N°31-32(1998).p103.

[32]– Bouteillet paquet Daphnée : « Quelle politique de réadmission pour l’union européenne et ses Etats membres », migration et société n° 87-88 Mai-aout 2003, page 143-152.

[33]– في فرنسا مثلا خضع قانون الهجرة ما بين سنوات( 1992 و2010 ) لسبع تعديلات، كذلك الشأن بالنسبة لإيطاليا التي عدلت قانونها للهجرة أربع مرات خلال الفترة الممتدة ما بين( 1990 و2009)،بل إن اسبانيا خلال ولاية الحزب اليميني الشعبي قامت بتعديل قانون الهجرة مرتين في سنة واحدة. وكان ذلك سنة 2000 (قانون 2000/4 المؤرخ في 11 يناير 2000، وقانون 2000/8 الذي صدر في 22 ديسمبر 2000.

[34] -«L’Union européenne dépense des fortunes pour renvoyer les migrants illégaux,» Le Monde, 18/6/2015, at: http://www. lemonde.fr/europe/article/2015/06/18/l-ue-depense-des-fortunes-pour-renvoyer-les-migrants-illegaux_4657057_3214. Html

[35] – أنظر محمد خشاني، “هجرة الشباب العربي إلى دول الاتحاد الأوروبي: قراءة نقدية في السياسة الاوربية للهجرة”، مجلة عمران،العدد6/21،صيف 2016،ص52.

[36]– محمد مطاوع، “الاتحاد الأوربي وقضايا الهجرة: الإشكاليات الكبرى والاستراتيجيات والمستجدات”، مجلة المستقبل العربي،العدد431،يناير2015،ص30.

[37]– تم التوقيع على اتفاقية دبلن(the Dublin Agreement)سنة2003 بهدف تنظيم التعامل مع طلبات اللجوء، وقد تم تعديلها سنة2013،ودخلت حيز التنفيذ في عام2015).

[38] – محمد البزاز،” الحماية الدولية للمهاجرين: حالة المهاجرين المغاربيين في أوروبا”، منشورات مركز الدراسات والأبحاث حول حركات الهجرة المغربية، العدد الثامن،ماي2006،ص27.

[39] – بتاريخ 13 أكتوبر 2017، أصدرت الغرفة الكبرى بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ حكما أدان إسبانيا على ترحيلها الفوري للمهاجرين، أنظر لمزيد من التفاصيل عن هذا الحكم:

Louis Imbert, « Refoulements sommaires : la CEDH trace la « frontière des droits » à Melilla », La Revue des droits de l’homme [En ligne], Actualités Droits-Libertés, mis en ligne le 28 janvier 2018, consulté le 19 avril 2019. URL : http://journals.openedition.org/revdh/3740 ; DOI : 10.4000/revdh.3740.

[40] – تعتبر الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان أول اتفاقية إقليمية عامة لحقوق الإنسان، لهذا تأثرت بها الاتفاقيات الإقليمية الأخرى لحقوق الإنسان، وقد تم تعديلها أكثر من مرة، وتتكون الاتفاقية في وضعها الحالي من مقدمة و59 مادة، وتوجد بها عدة بروتوكولات مضافة للاتفاقية.

[41] – Idil Atak,” Les effets de l’européanisation de la lutte contre la migration irrégulière sur les droits humains des migrants”, Thèse  de doctorat  en droit (LL.D.), Université de Montréal, octobre 2009 p.137.

[42] – Giuseppe Sciortino، «La politique migratoire européenne: une Orthodoxie restrictive»، dans: Evelyne Ritaine، l’Europe du SUD face à l’immigration: politique de l’étranger، sociologie d’aujourd’hui (paris: presses universitaires de France 2005)، p 256.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى