أمنيةأوراق و دراسات

تحديات الأمن القومي الجزائري في ضوء الأزمة الليبية بعد 2011

الدكتور عمر سعداوي

جامعة امحمد بوقرة بومرداس- الجزائر

الملخص:

تسعى هذه الورقة لإثارة النقاش حول التفاعلات والتحولات الأمنية التي أفرزتها الأزمة الليبية بعد 2011 وتأثيراتها على الأمن القومي الجزائري، ومضمون وآليات المقاربة الجزائرية لضمان أمنها في فضائها الإقليمي، والذي يشهد مشكلات أمنية متعددة، ويختبر مستويات عالية من إنعدام الأمن وتفاقم المشاكل الداخلية، فضلاً عن التداعيات السلبية للتدخلات الخارجية.

تما حاول الدراسة فهم الديناميكيات الأمنية المعقدة في سياق اجتماعي متعدد البنى والفواعل، وأهمية الدبلوماسية متعددة المسارات في إدارة الصراع في ليبيا

كلمات مفتاحية: الأمن الإقليمي، الأزمة، ليبيا، الجزائر، الدبلوماسية متعددة المسارات.

مقدمة:

شكل النقاش حول معنى “الأمن” ونطاقه موضع خلاف بين الرؤى المختلفة، إذ واجهت الخطابات التقليدية حول الأمن تحديات كبيرة من طرف مجموعة من المقاربات البديلة، والتي كان لها دوراً في جلب رؤى ومفاهيم جديدة في مجالات الدراسات الأمنية، كما لعبت الإسهامات المتنوعة التي قدمتها حقول معرفية أخرى دورًا رئيسيًا في هذا المجال المتنامي للدراسات النقدية للأمن(CSS)، خاصة في ظل التحولات في طبيعة الفاعلين، مع بروز فاعلين جدد في المشهد الأمني على غرار الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة وظاهرة الهجرة والتغيرات المناخية وغيرها من التحديات التي أضحت تواجه الأمن

القومي للدول.

في هذا السياق كان للمرحلة التي تلت سقوط نظام القذافي في ليبيا بعد 2011 وما أفرزته من تحديات كان لها عميق الأثر على الأمن الإقليمي وبالأخص على الجزائر، فهذه المرحلة عرفت ولاتزال تعرف مشكلات أمنية متعددة وتختبر مستويات عالية من انعدام الأمن والمشاكل الداخلية، وكانت ولا تزال هدفاً لسياسات أمنية خارجية، لذلك تعد هذه المرحلة بالون اختبار للحدود التي رسمها حقل العلاقات الدولية وتمحو التمييز بين مختلف المجالات الأكاديمية، بهدف فتح مساحات للتفكير وتوسيع المقاربات والرؤى حول الأمن كمسعى لإنتاج معرفة انعكاسية حول طائفة من المواضيع المتعلقة بسياسات مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية.

من هذا المنطلق تشدد هذه الدراسة على اثارة العديد من الأسئلة المتعلقة بموضوع الأمن الإقليمي ومضمونه في ظل التحديات التي أفرزتها الأزمة الليبية بعد 2011 على الجزائر بالخصوص، وهو الأمر الذي يحتاج إلى مقاربة شاملة ومداخل نظرية متعددة، وذلك لتعدد الفاعلين المؤثرين في الأزمة الليبية وتداخل المصالح في الجوار الإقليمي، الأمر الذي أضفى حالة من التعقيد والصعوبة على المشهد بصفة عامة.

من هنا سنعتمد في فهم هذا التشابك والتعقيد على الأطر النظرية التي نعتقد أنها تمكننا من رسم حدود موضوع الدراسة وبالخصوص ما تثيره مدرسة كوبنهاجن، كما نسعى إلى فهم تعقيدات المشهد الليبي والتفاعلات البنيوية الداخلية، وبعد ذلك سيتم التطرق للتحديات التي أفرزتها الأزمة بعد 2011 وتأثيراتها على الأمن القومي الجزائري، ومضمون المقاربة التي تبنتها هذه الأخيرة لضمان أمنها في ظل هذا المشهد.

أولاً: مدخل نظري لفهم المشهد الليبي بعد 2011

لم تحظى دراسة النظم الإقليمية بالاهتمام الواجب، حيث ركز منظرو العلاقات الدولية على دراسة القوى الكبرى وتفاعلاتها التي تحدث في قمة النظام الدولي وتعاملوا مع الإقليمية كما يقول “كانتوري وشبيجل” “كجزء من دراسة المناطق” (Area Studies) دون مقارنة بعضها ببعض.

وقد انتعشت الدراسات الإقليمية مع ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على حد تعبير “مايرز”، ومن ثم ظهر ما سماه باري سوشتيز بــ “نظرية الإقليم” Region Theory، التي طورها كل من “كرازنر، Krasner”و”جيرفز، Jervis “واسلر هامبسون، Osler Hampson”، والتي وضعوا من خلالها الأسس النظرية للنظم الإقليمية التي طورها كل من “لويس كانتوري” و”ستيفن شبيجل” في مؤلفهما “السياسة الدولية في الإقليم”[1].

وزاد الإهتمام بالدراسات الإقليمية وبالذات العلاقات الدولية الإقليمية مع ظهور الموجة الجديدة من الإقليمية أو ما يعرف بالإقليمية الجديدة New Regionalism، أين لم يعد الأمر يقتصر على معرفة العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي فحسب، بل أصبحت أهمية الدراسات تركز على تلك التفاعلات التي تحدث داخل الإقليم الواحد من تأثر وتأثير ومحاولة التعرف على محددات تلك التفاعلات وخصائصها وأنماطها، ولمعرفة كل ذلك فنحن بحاجة إلى منهجية علمية لتحليل هذه التفاعلات، ومن هنا أصبح هذا المستوى من مستويات التحليل هدفاً مرغوباً للباحثين في العلاقات الدولية. 

وإذا كان النظام الإقليمي[2]، مستوى تحليلي وسط بين تحليل النظام العالمي وتحليل السياسة الخارجية للدولة، فإن النظام الإقليمي في أبسط معانيه هو نمط منتظم من التفاعلات بين عدد من الوحدات السياسية داخل إقليم معين[3]، أي أنه إطار تفاعلي بين مجموعة من الدول يفترض أنه يتم بنمطية مما يجعل التغير في جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء.

فاليوم نتحدث عن شبكية معقدة من العلاقات الدولية تتداخل فيها الفواعل ما تحت وما فوق دولتية مع الدولة في حد ذاتها، وفي ظل تماهي الحدود السياسية أصبحت مشكلات الأمن الوطني لا تقتصر على التهديد الداخلي فحسب بل أصبح ما يعتبر شأناً داخلياً للدول ذو تداعيات اقليمية وربما دولية، وهو حال الهزات الارتدادية للأزمة الليبية الذي شكلت افرازاته تحدي لدول المنطقة ككل وعلى رأسهم الجزائر.

ومن أجل فهم أوضح لتشابك “أمون” المنطقة المغاربية عموماً والجزائر خصوصاً ومدى تأثرها بتفاعلات الأزمة الليبية وتداعياتها، يمكن الاستعانة بما قدمته “مدرسة كوبنهاجن للأمن” وعلى رأسها “باري بوزان” (Barry Buzan) في إطار مفهوم أشمل للأمن.

إذ يعتبر عالم السياسة البريطاني “باري بوزان” (Barry Buzan) واحداً من أكبر المنظرين للأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة بفضل إسهاماته في ميدان الدراسات الأمنية، وقد ساهم في محاولته في توسيع مفهوم الأمن ضمن مدرسة كوبنهاجن واتجاهاتها في السلام.

ولتجاوز القصور في النظريات السابقة انطلق “بوزان” من فكرة مفادها أنَّ الواقع الدولي يتميز بشبكة عالمية للاعتماد المتبادل ربطت بين “أمُون” الدول نتيجة لتأثيرات جغرافية، ورأى ضرورة دراسة التفاعلات بين الدول والروابط فيها في مجال الأمن خاصة تلك القريبة جغرافياً أو واقعة ضمن أقاليم تتميز “بفوضى ناضجة” (Anarchie mature)، ونجد هذه الفكرة في مدرسة كوبنهاجن حول مفهومي “الأمن الإقليمي والأمن المركب”، وهو ما يمكن أن يفسر لنا حالة الأزمة الليبية وجوارها الإقليمي وبالأخص الجزائر.

يرى “بوزان” أنَّ الأمن مصطلح خلافي بالأساس (Essentially contested concept) ليس لاندماجه في معظم مجالات الحياة اليومية، ولكن لأنه مصطلح من المرجح أن يكون ذو دلالات أيديولوجية وأخلاقية ومعيارية[4]، وترى مدرسة كوبنهاجن أنَّ البحوث حول الأمن يجب توسيعها وذلك بعدم إهمال الفواعل الأخرى الغير دولية والتركيز على قطاعات أخرى غير عسكرية تضمن مختلف أشكال التهديد، لذلك سعت هذه المدرسة إلى تقديم رؤية شاملة[5].

جاء في كتاب “منطق الفوضى: الواقعية الجديدة إلى الواقعية البنيوية” (The logic of Anarchy: neorealism to Structural Realism) لباري بوزان (Barry Buzan) وشارلز جونز (Charles Jones) وريتشارد ليتل (Richard Little) سنة 1993، تركيز مدرسة كوبنهاجن على القطاعات الأمنية في التحليل والتي قسمتها إلى القطاعات التالية[6]:-القطاع العسكري: ويتم استخدام القوة المادية والإكراه في هذا القطاع ويدرس التهديدات التي تنشأ عن الأفعال العسكرية التي تستهدف وجود الدول ككل، لذلك وجب التفاعل بين القدرات الدفاعية والهجومية للدول.

-القطاع السياسي: يتعلق بالإسقرار المؤسساتي للدولة ونظامها الحكومي ومشروعيته الإيديولوجية.

-القطاع الإقتصادي: فالموارد التي تحوزها الدولة تساهم في بناء قوتها وقدرتها على التأثير مما يضمن بقاءها، ويرتبط قطاع الأمن بالتجارة والتمويل والإنتاج، كما قد يتعرض إلى التهديدات على شكل المقاطعة والحظر التجاري والحصار.

-القطاع البيئي: فالإضرار بالبيئة هو في نهاية المطاف إضرار بالبشرية لذلك ارتبط هذا القطاع بالتلوث والاحتباس الحراري وندرة المياه، وقد استخدم تقرير برانتلاند ( Le Rapport Boruntland) بصراحة مصطلح “الأمن البيئي”.

-القطاع المجتمعي: وهو أحد الإضافات الجديدة لمدرسة كوبنهاجن بعد إدراجه في حقل الدراسات الأمنية، وهو إقرارًا بوجود مرجعية للأمن من غير الدولة، وقد تطور من طرف “أول ويفر” (Ole Woever) فحسبه أن هُويَّات المجتمعات أصبحت على المحك في ظل تصاعد وتيرة الهِجْرات وهو ما من شأنه تهديد الهوية الوطنية والدينية للمجتمع، فالأمن المجتمعي هو مرادف لـ “البقاء الهويَّتي” (Survie Identitaire).

و يمكن إجمال ما تم تناوله في سياق الحديث عن المفهوم الموسع للأمن في المخطط التالي:

الشكل رقم ( 01): توسـيع وتعميق مفـهوم الأمن

توسـيع تعمــيققطاعــــــــات الأمن 
عسكريسياسيإقتصاديبيئيمجتمعي 
مستويات التحليلالنظام الدولي  
       الدولة 
        الفرد 

Source: Thierry Balzacq, “Qu’est-a que la Sécurité Nationale?”, (La revue International et Stratégique, Nº 52. Hiver2003-2004), pp 10-11

لم تتجاهل مدرسة كوبنهاجن المحيط الإقليمي للمشاكل الأمنية كما سبق الإشارة إليه، بحيث عالج “بوزان” الأمن “كظاهرة علائقية” (Rational Phenomenon) فلا يمكن فهم الأمن القومي لأي دولة بمعزل عن سياقاته الإقليمية، فالأمن القومي (national Security) ليس بحد ذاته مستوى ذا مغزى للتحليل، لأن ديناميكيات الأمن علائقي بالأساس، فلا وجود لأمة مكتفية ذاتياً من الأمن، أما الأمن الشامل (Global Security) بمعناه “الكلاني” يعبر في أفضل الحالات على تطلع لأعلى الواقع، وعلى النقيض من ذلك يشير الإقليم (Region) إلى مستوى ترتبط فيه الدول، بحيث أن أوضاعها الأمنية لا يمكن النظر إليها بمعزل عن بعضها البعض[7]. وقد أطلق “بوزان” على هذه الحالة مصطلح “مركب الأمن الإقليمي” (Regional Security Complex)[8] ، للدلالة على “مجموعة من الدول التي ترتبط اهتماماتها الأمنية الأساسية مع بعضها بشكل وثيق لدرجة أنَّ أوضاعها الأمنية الوطنية لا يمكن بحثها واقعياً بمعزل عن بعضها البعض[9] من هنا يمكن فهم التشابك والتعقيد الذي يجمع الأمن القومي الجزائري “بأمون” جيرانه، وعلى رأسهم ليبيا، بالإضافة لمتغير الجغرافيا والمكون المجتمعي المشترك فإن التحولات الجارية في ليبيا كان لها عميق الأثر على عقيدة الأمن القومي الجزائري، كما سنرى ذلك في طيات هذا البحث.

ثانياً: توصيف للمشهد الأمني الليبي بعد 2011… الخيارات والمآلات

من البديهي أن تكون التحولات التي جرت وتجري منذ 2010 في المنطقة العربية والمغاربية بالخصوص مدعاة اهتمام وقلق كبيرين على كل المستويات وبالأخص لدى الباحثين المهتمين بالشؤون السياسية والأمنية، في ظل وضع شديد التعقيد والارتباط على الصعد المحلية والإقليمية، ولعل “الاحتجاجات” التي عرفتها ليبيا كانت الأبرز في مسار “الحركات الاحتجاجية” منذ انطلاقها في تونس 2010 والتي انتهت بإسقاط أنظمة بعض الدول العربية، وهذا راجع إلى طبيعة العنف التي ميزت الحركة الاحتجاجية فيها، إلى جانب التدخل العسكري الدولي والإفرازات المتعلقة بهذه الأحداث وتأثيرها على دول الجوار والجزائر بالأخص.

ومن منطلق أن الأسباب أو المبررات لانفجار أي أزمة ترجع بالدرجة الأولى إلى بيئة الأزمة في حد ذاتها سواءاً كانت داخلية أو خارجية، وهو حال الأزمة الليبية التي تأثرت بالوضع الداخلي والخارجي، فبالنسبة للوضع الداخلي ما يميز ليبيا قبل سقوط نظام القذافي هو غياب شبه كلي للمؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الجيش التي كانت تتسم بالضعف، وفي نفس الوقت التركيز على الكتائب الخاصة بالنظام، كما سعى القذافي إلى تغييب كلي للمجتمع المدني والسياسي الذي يمكنه أن يسهم في تشكيل دولة أكثر قوة، بل كان الاعتماد على مكونات قبلية ضيقة مقابل الولاء والطاعة للحصول على الهبات والعطايا، وفي هذا السياق يشير الباحث “منصف الوناس” في كتابه “الشخصية الليبية ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة” إلى أن هناك نوعين من التحديث: الأول سريع وسطحي والثاني عميق واستراتيجي، فالأول يعني أساسا تحديثاً أي توفير متطلبات البنية التحتية والتجهيزات اللازمة، في حين الثاني تغييراً عميقاً في البنيات الذهنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أجل إكسابها النجاعة والقدرة على الفعل الايجابي[10].

فالفرضية التي نكرس لها جزءاً من الاهتمام المعرفي ترجح أن التحديث المادي (بنيات تحتية، مستشفيات، جامعات وطرق ومعامل) مهما بلغت قوته وأهمية تمويله لا يفضي ضرورة إلى تفكيك المجتمع القبلي والتنظيم الاجتماعي التقليدي وإلى اندثار أواصر البداوة وتلاشي ثقافة العصبية ومنطق “الولاء مقابل الهبة”[11]، فالتحديث المادي السريع تتعايش معه القبيلة وتتأقلم معه وتستمر في نفوذها وقوتها والبحث عن تحقيق مصالحها، بصيغة أخرى يمكن القول أن التحديث المادي السريع لا يمكن أن يؤدي إلى تحديث ذهني وثقافي واجتماعي عميق.

أما في حالة التحديث العميق فهو يحتاج إلى أن تنصهر كل البنيات في قالب واحد هو المجتمع الشامل وعلى رأس هذه البنيات القبلية والعصبية، أي نحن أمام حالة تتفكك فيها بنية القبيلة، أي أننا أمام وضع تفقد فيه القبيلة منطقها الداخلي ويدمر حقل منافعها، وهو ما يقتضي تغييراً جذرياً في البنيات ويؤسس لبناء دولة قوية ونظام اجتماعي ومؤسسات متينة، وبالتالي لا تصبح القبيلة فاعلاً مهماً –بل تكاد تكون منعدمة-في عملية التحديث العميق، وهو الوضع الذي لا يمكن أن تتقبله القبيلة بسهولة.

وبالرجوع إلى المجتمع الليبي يمكن فهم سبب اعتماد “القذافي” على منطق “الولاء والهبة” على حد تعبير “المنصف وناس”، ففي مرحلة حكمه كانت القبيلة نواة الدولة، هذه الدولة الممثلة في نظام تقدم له الولاء مقابل عطايا وهبات مادية، وفي سياق مطالباتها بحقوقها لا تعدو أن تكون حقوقاً في إطار “التحديث المادي” أين تظل تحتفظ بالمركزية في الولاء، ولا يمكنها أن تطالب بالحقوق المكتسبة في إطار مفهوم المواطنة والمشاركة السياسية، لأن ذلك يمس بوجودها ويهدم محوريتها في علاقة الدولة-المجتمع.

وفي تاريخ ما بعد سقوط نظام القذافي يمكن فهم صعوبة قيام دولة قوية في ليبيا رغم مرور كل هذه المدة، فإذا كان غياب المؤسسات وبالأخص الجيش في ليبيا نتيجة طبيعية لحكم القذافي، فإن منطق التحديث ظل حبيس الشق الأول منه أي “المادي” فقط، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى محاولة إحياء ما يعرف ب “الذاكرة الدامية” (Bloody Memory) وذلك قصد إذكاء الصراع والحفر في الذاكرة التاريخية الصراعية بين القبائل.

ففي هذه الحالة وقع “تراجع” لمفهوم “الأمن المجتمعي” الذي بدوره حدث نتيجة الصراعات الداخلية الأمر الذي تطرقنا له من قبل، فنحن أمام ما يسميه “باري بوزان” (Barry Buzan) “الهويات المتصارعة” الأمر الذي يؤثر على تماسك المجتمع ومن ثم يؤثر على الأمن القومي للدولة، وبالتالي ضرورة الحفاظ على دولة قوية في سبيل الحفاظ على الأمن المجتمعي، لأن الصراعات الداخلية والتدخل الدولي –في الحالة الليبية-“خرَّب” الأمن المجتمعي وهو ما انعكس في شكل فوضى أمنية.

ولم تضع حرب ليبيا أوزارها ولم يهدأ صوت الرصاص في شوارع طرابلس حتى بدأ ما حذرت الجزائر منه يرمي بإفرازاته الخطيرة على دول الجوار، وهو ما أكده ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بمنطقة غرب إفريقيا آنذاك “سعيد جنيت”، لينذر الجميع بأنَّ “الوضع في الساحل مرشح لمرحلة عدم استقرار طويلة”[12].

فإن ما ميَّز ليبيا بعد التاريخ 2011 هو غياب مفهوم الدولة، الأمر الذي يشكل تحدي كبير لدول الجوار الجغرافي وعلى رأسها الجزائر نتيجة الهشاشة الأمنية التي تعرفها أمام انفلات أمني خطير ميزه الانتشار الكثيف للمليشيات المسلحة ذاتية القيادة المنفردة وتحول ليبيا إلى سوق كبير للسلاح وملاذ للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة التي تغريها الفوضى والهشاشة في الدولة.

ومن الأمثلة على هذه الفوضى الأمنية والهشاشة التي شكلت بيئة جاذبة للجماعات الإرهابية، هو انتشار “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”تنظيم الدولة” (داعش) وذلك بعد انهيار نظام القذافي أين انتشرت الفوضى في ليبيا، فتحولت هذه الأخيرة في فترة من الفترات إلى ثالث أكبر معقل لتنظيم الدولة (داعش) بعد كل من سوريا والعراق، ويعتبر فرع التنظيم في ليبيا ظلعاً أساسياً في خدمة فكرة “الخلافة” التي ينادي بها التنظيم، وبغض النظر على أسباب انتشار التنظيم التي ترجع جلها إلى غياب الدولة بعد سقوط نظام القذافي وانتشار الفوضى، فإن فلسفة تنظيم الدولة لاقت -ولا تزال- منافسة شديدة من تنظيم القاعدة عموماً وفرعه في المغرب الاسلامي والساحل والصحراء خصوصاً.

وتكمن أوجه الصراع بين التنظيمين أساساً في ليبيا في التنافس الشديد على رفع “لواء الجهاد العالمي” ورؤيته الفكرية والعقدية والسيطرة على مناطق النفوذ، ومن منطلق استراتيجيات التنظيمين فإن تنظيم القاعدة سعى إلى تتبع سياسة المراحل والتدرج في الوصول إلى تحقيق الهدف المنشود وهو “الخلافة الإسلامية” ويرى أن وقت إعلانها لم يحن بعد، إلا أن “تنظيم الدولة” المنافس في “ساحة الجهاد” لم يكتف بمشاطرة “تنظيم القاعدة” في استخدام العنف فقط، بل تجاوز ذلك بإعلانه قيام “الخلافة الإسلامية” معتبراً أن التمكين الممهد لقيامها قد حصل وأن التأخير في إعلانها هو “تثبيط وتضييع للفرصة”[13].

بداية انتشار التيارات الارهابية في ليبيا كانت مع بداية الحراك الشعبي هناك والاحتراب مع القذافي، أين تسلل المقاتلين الذين كانوا في شمال مالي من الليبيين بالأساس على غرار “إبراهيم عزوز” الذي أسس كتيبة “شهداء أبو سليم” ومقرها في درنة[14]، أين كان للكتيبة دور فعال في دحر قوات القذافي، وقد شهدت هذه الكتيبة أول هزاتها بعد الزيارة التي قام بها رئيس المجلس الانتقالي “مصطفى عبد الجليل” إلى درنة وقامت الكتيبة بحراسته، الأمر الذي أغضب عدداً من عناصرها وبعض الجماعات المتطرفة الأخرى، والتي رأت في أن هذا يعتبر تعاوناً مع “الطواغيت” ومنافياً للإسلام، وظهرت فتاوى تكفر “كتيبة شهداء أبو سليم”[15].

ومع تصاعد الأعمال الاجرامية والمد والجزر بين الكتيبة وبعض المجموعات المتطرفة الأخرى والمنشقين عن الكتيبة فقاموا بتشكيل تجمع تحت اسم “مجلس شورى شباب الإسلام”، الذي استثنى “كتيبة شهداء أبو سليم” من هذا المجلس بحجة المآخذ عليها المتعلقة بحراستها “مصطفى عبد الجليل” ومشاركتها في اللجنة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي آنذاك، وبعد ظهور “تنظيم الدولة” أعلن قادة “مجلس شورى شباب الإسلام” حل التنظيم ومبايعة “البغدادي” زعيم تنظيم الدولة وحمل التنظيم اسم “ولاية برقة”[16].

وأمام الصراع الذي طغى بين الجماعات المتطرفة انشق جزء من “جماعة انصار الشريعة” التي كانت تتبع تنظيم القاعدة وبايعت “تنظيم الدولة” ودافعهم إلى ذلك “تكفير” فعلة “كتيبة شهداء أبو سليم”، وزادت حدة الصراع والمواجهات المسلحة بين المجموعات التابعة لتنظيم الدولة (ولاية برقة) وبين التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي (كتيبة شهداء أبو سليم وأنصار الشريعة)،[17] وقد أصدر تنظيم القاعدة بيان اتهم فيه “تنظيم الدولة “بالاعتداء والتجاوز” واعتبر تنظيم القاعدة أن “تنظيم الدولة حين دخل مدينة درنة أبدل أمنها خوفاً وسلمها حرباً”، وحمَّل تنظيم الدولة مسؤولية الدماء[18].

بعد اغتيال “ناصر العكر” أحد قادة “مجلس شورى مجاهدي درنة” في 09 فيفري 2015 شن مقاتلو “المجلس” هجوماً على مقرات “تنظيم الدولة” واندلعت مواجهات عنيفة انتهت بإخراج “تنظيم الدولة من المدينة وانسحب منها إلى “سرت” التي سيطر عنها وبسط تنظيم القاعدة هيمنته على مدينة درنة.

أمام احساسه بخطر تمدد “تنظيم الدولة” أعلن “مختار بلمختار” في المناطق الصحراوية على فتح قناة تواصل مع “تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي” من أجل العودة إليه، لأن المرحلة صعبة تحتاج إلى التكتل وبناء استراتيجيات أكثر شمولية في مواجهة “تنظيم الدولة”، إلا أن حلفاء “بلمختار” في جماعة “المرابطون” لم يقبلوا بفكرة العودة إلى التنظيم الأم لإعتبارات قبلية ومتعلقة بالزعامة والقيادة، أمام هذا الانقسام في التوجهات والأفكار أعلن “عدنان أبو الوليد الصحراوي” مبايعة تنظيم الدولة “بإسم التنظيم، الأمر الذي رفضه “مختار بلمختار” وبعض من جماعته، فانقسم التنظيم بين داعمي “بلمختار” و”الصحراوي”[19].

ولم تقتصر التحديات والتهديدات التي ميزت المشهد الليبي على الجماعات الإرهابية فحسب، بل هناك حضور لافت لظاهرة الهجرة غير الشرعية، إذ تحولت ليبيا إلى نقطة مهمة في خطوط المهاجرين وجماعات تهريب البشر، التي استغلت حالة الفوضى وهشاشة الدولة لتحول ليبيا إلى نقطة عبور مهمة نحو أوروبا من جهة وسوق كبير لبيع المهاجرين واستغلالهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر ولتوضح مدى خطورة هذا الملف، ففي الفترة من 01 جانفي إلى 11 أكتوبر 2018  قام حرس السواحل الليبي بإنقاذ/ اعتراض 14156 لاجئا ومهاجراً عن طريق البحر متوجهين نحو أوروبا من خلال 108 عملية، وفي أكتوبر فقط تم انتشال 99 جثة لمهاجرين غير شرعيين في البحر[20]، وقد بلغ اجمالي اللاجئين المسجلين لدى الأمم المتحدة في ليبيا ما يقارب 42559 إلى غاية 01 جوان 2023، كما بلغ مجموع اللاجئين والمهاجرين ما يقارب 134787 بحسب ما قدمته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين[21].

هذه الفوضى الأمنية من انتشار للجماعات الإرهابية والجريمة والتهريب والهجرة غير الشرعية وغيرها من مظاهر اللا أمن -وان كان تراجعت نوعا ما مؤخرا مقارنة بالسنوات الأولى لسقوط نظام القذافي-غذتها وتغذيها الخلافات السياسية التي كان لها تداعيات على كل الصعد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وبالأخص حالة الانقسام بين حكومة طرابلس –المعترف بها دوليا- والجماعات والكتائب التي تتبعها من جهة، وبرلمان طبرق التي تتبعها ما يعرف “قوات الكرامة” بزعامة “خليفة حفتر” من جهة أخرى.

هذه الوضعية التي آلت إليها ليبيا بعد 2011 كانت لها افرازات معقدة على الجوار الإقليمي ومنهم الجزائر، والتي تربطها حدود جغرافية بحوالي 982 كلم وتتسم بتعقد جغرافيتها، ويبقى التحدي الأكبر للجزائر هو انتشار الجماعات الإرهابية والسلاح في ليبيا، إلى جانب غياب الدولة الليبية خاصة على حراسة الحدود، وهو الأمر الذي شكل تحدي أمني وعبء للجزائر.

ثالثاً: التحديات الأمنية للجزائر بعد سقوط نظام القذافي ومعضلة حماية الحدود

يمكن تقديم مثال على حالة اللأمن التي أفرزتها الأزمة الليبية على الجوار الإقليمي، هو الاعتداء على القاعدة الغازية “بتيقنتورين” والذي يعد علامة فارقة في الخارطة الأمنية للجزائر سواءاً من حيث الهدف أو مستوى الرد الأمني، ويمكن القول أنها كانت عملية غير مسبوقة في عمل الجماعات الإرهابية، إذْ ولأول مرة يتم استهداف مجمع نفطي بحجم قاعدة تيقنتورين، بحيث تبلغ الطاقة الإنتاجية لهذا المركب 25 مليون متر مكعب يومياً موجهة للتصدير، وما أعطى لهذه العملية الإرهابية بعدًا في السياسة الأمنية الجزائرية وحتى الدولية كونها جاءت في وضع يعرف تحولات كبيرة في المنطقة وعلى رأسها الأزمة في مالي وليبيا، وقد جاءت التحقيقات لتقول أن انطلاق الجماعة الإرهابية التي اعتدت على المجمع الغازي كان من الأراضي الليبية.

وبالرجوع لطبيعة الهدف نجد أنَّ الاعتداء شكل ضربة قوية للاقتصاد الوطني –الذي يمثل ضلع أساسي في سياسة الأمن القومي،فهذا المركب ينتج ما نسبته 12% من الإنتاج الوطني، أي ما يقارب 09 ملايير متر مكعب من الغاز سنويا[22]، من ناحية أخرى يعد هذا الاعتداء تحولاً في تكتيكات الجماعات الإرهابية التي تبحث على عمليات ذات صدى أوسع، كما أنها تحاول من خلال هذه العمليات استدراج للقوى الغربية للمنطقة حتى تقدم مبرراً في محاربتها، وهو الأمر الذي حدث في مالي من قبل.

من هنا جاء تعامل الجزائر مع أزمة احتجاز الرهائن في تيقنتورين حادًا نتيجة تخوفها من أنْ تتحول إلى المكان الرخوْ الذي يستوعب امتدادات الأزمة في ليبيا، في استنساخ لتجربة باكستان من جراء سماحها للتدخل الغربي في أفغانستان باستخدام أجوائها، لذلك كانت الجزائر حازمة في موقفها في إنهاء الأزمة منفردة دون أية مشاورات دولية لاعتبارات مختلفة، وكانت عملية الحسم العسكري في تيقنتورين رسالة متعددة الأبعاد وجهتها الجزائر لجهات مختلفة يمكن قراءتها على الشكل التالي:

بعثت الجزائر عبر الحسم العسكري برسالة للتنظيمات الإرهابية مفادها أنها لنْ تكون فناءاً خلفياً تحكمه توازنات الوضع في مالي كما انه على الجماعات الإرهابية أنْ لا تراهن على هكذا عمليات في المستقبل، فالجزائر لا تقبل التفاوض مع الإرهابيين.

-صدَّرت الجزائر أزمة تيقنتورين من منظور أنها نتيجة مباشرة للتدخل الأجنبي بالمنطقة لتبرر موقفها السابق في رفض هذا التدخل.

هذه العملية في تيقنتورين توضح حجم التحديات والتهديدات التي أضحت تواجهها الجزائر بعد انفجار الازمة في ليبيا وتداعياتها الاقليمية، من هنا كانت ولاتزال مسألة تأمين الحدود المعضلة الأمنية بالنسبة للجزائر، وهو الأمر الذي دفع بها –أي الجزائر-إلى تقديم مقاربة إقليمية شاملة لمواجهة التحديات والتهديدات.

في الجانب الأمني والعسكري ركزت الجزائر على ضرورة تأمين حدودها، والتي تفوق 7000 كلم وغالبيتها غير مستقرة، ابتداءا من ليبيا 982كلم، وتونس 965كلم والمغرب 1559، وجنوبا مع النيجر956كلم، ومالي 1376، وموريتانيا 463كلم، و42كلم مع الصحراء الغربية، بالإضافة إلى شريط ساحلي يفوق 1200 كلم، ومراقبة الحدود يتطلب تنسيقا واتفاقا بين الطرفين لتقاسم الأعباء، وهو الأمر الغير متوفر في عديد المناطق في جوار الجزائر على غرار الأزمة في ليبيا التي جعلت من مسألة تأمين الحدود بالنسبة للقوى الأمنية الليبية مسألة ثانوية مقارنة بما يحدث من انقسامات داخلية وحالة النزاع، عكس أولوية تأمين الحدود بالنسبة للجزائر أما في حالة الحدود الشرقية مع تونس فما يميز الجيش التونسي هو محدودية الموارد مما يجعل قضية تأمين الحدود بالنسبة له أمر مرهق لذلك نجد أن الجزائر تتحمل أعباء أكبر، أما في الحالة الجنوبية مع انهيار الدولة في شمال مالي وغيابها يجعل الجزائر وحيدة في تأمين الحدود وهشاشة الوضع مع النيجر وصعوبة المنطقة، وكذلك الأمر بالنسبة للحدود الغربية.

كل هذا يجعل هناك أعباء أكبر على الجزائر وجيشها في ظل الظروف الراهنة، وهو ما دفع بها إلى تشر المزيد من الوحدات والرفع من مستوى الجاهزية والاستعداد القتالي، كما دفع بها إلى الزيادة من نسبة التسلح ورفع الميزانية المخصصة للدفاع، وفي هذا الصدد أشار تقرير للمعهد السويدي للإحصاءات العسكرية (SEPPRI) أنَّ الجزائر أكثر دول إفريقيا تسلحاً منذ سنة 2011، وأرجع المعهد هذه الإحصاءات إلى الأوضاع المتدهورة على حدودها الجنوبية بعد الأزمة الليبية، إذ بلغ حجم الإنفاق العسكري ما يعادل 44% أي 25 مليار سنة 2011 في إطار نسبة تسلح افريقية تقدر بــ 6,8%.[23]

ومع تزايد التهديدات وفي ظل حالة الفوضى التي تعرفها منطقة الساحل الافريقي وهشاشة الدولة في ليبيا زادت مخاوف الجزائر كما سبق الإشارة إليه، الأمر الذي دفعها إلى زيادة الإنفاق العسكري في السنوات الأخيرة، ويمكن التعرف على بعض الاحصائيات للسنوات التي تلت بداية الازمة في ليبيا اعتماداً على إحصائيات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SEPPRI) من خلال الرسم البياني التالي:

تنم هذه الاحصائيات للسنوات التي تلت انفجار الازمة الليبية بعد 2011 ارتفاع متزايد لحجم التسلح والانفاق العسكري، وهذا يرجع لسببين رئيسيين، الأول هو انتشار حالة الفوضى الأمنية في الجوار الإقليمي بعد 2011 دفعت بالجزائر إلى مضاعفة نشر قواتها العسكرية على طول الحدود بالكامل لضمان منع أي خرق حدودي محتمل، ومنع تأثر أمنها الوطني بالاضطرابات السياسية والأمنية في الدول المجاورة.

هذا الوضع الذي تتعرض له الجزائر في ظل الأوضاع الإقليمية التي تلت الأزمة في ليبيا من انتشار السلاح بالمنطقة وتقاطع مصالح الجماعات الإرهابية مع الجريمة المنظمة يستلزم موارد مالية وبشرية كبيرة للحفاظ على الأمن القومي، لذلك توجهت الجزائر للرفع من موازنتها للدفاع كما تم الإشارة إليه من قبل.

والسبب الثاني يرجع لاستغلال الجزائر ارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمية بعد 2011، وزيادة المداخيل لتحاول تدارك ما فاتها في مجال التسلح، خاصة أنها لاقت تضييق عن وارداتها العسكرية في فترة العشرية السوداء في التسعينات من الدول الغربية تحديدا، التي تنكرت لتضحياتها وضلت وحيدة في مواجهة الارهاب، وبعد اعتراف العالم بتجربتها الرائدة في مواجهة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2011 أضحت شريك ذو مصداقية واعتراف بتجربتها في مواجهة الإرهاب.

هذا ولا يمكن إغفال التوجه العام للجزائر نحو الاحترافية لجيشها الأمر الذي يجعل منه يواكب التطور التكنولوجي في العالم من أجل ضمان حماية للسيادة الوطنية والسلامة الترابية، وهو ما عبر عنه رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي حديثه عن النهج الذي يتبعه الجيش الوطني في السنوات الأخيرة بقوله: “درب أوصل الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني في زمن وجيز بل وقياسي إلى بناء جيش قوي بكل ما تعنيه عبارة القوة من معنى”[24].

هذه المنظومة العسكرية المتطورة للجزائر جعل منها اللاعب المحوري في المغرب العربي والساحل الافريقي وهو ما دفع بالجنرال “دافيد رودريغاز” في خطابه أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي قبل تسلمه قيادة “أفريكوم” حيث صرح قائلاً “أنَّ الجزائر هي الرائد الإقليمي كونها تمتلك القدرات التي تسمح لها بتنسيق جهود بلدان الساحل أمام الأخطار المحدقة بها”[25].

من هنا يمكن القول أن الجزائر على المستوى العسكري سعت لتوظيف قدراتها القتالية مستعينة بالخبرة التي اكتسبتها نتيجة حربها على الإرهاب لأكثر من عقد من الزمن، لذلك سارعت إلى نشر مزيد من الوحدات العسكرية والسعي لتطوير منظومة تسلح لحماية سلامتها الترابية، إلا أن الجانب العسكري لوحده غير كافي في ضمان الامن القومي للدولة وخاصة في ظل طبيعة تهديدات لا تماثلية لا، لذلك فإن الجزائر اعتمدت المسار الدبلوماسي في سعي منها لتفكيك الأزمات في جوارها الإقليمي، فكان نجاحها كبيرا في مالي، وكانت لها جهودا دبلوماسية في محاولة للم شمل أطراف النزاع في ليبيا، وغيرها من التحركات الدبلوماسية.

رابعاً: الجزائر والدبلوماسية متعددة المستويات كآلية لحل الأزمة في ليبيا بعد 2011

وتجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية الرسمية أو دبلوماسية المسار الأول التي يمارسها الرؤساء والحكومات على المستوى الثنائي عبر البعثات الدبلوماسية أو المبعوثين الشخصيين أو عبر المندوبين لم تعد كافية لمعالجة القضايا والنزاعات القائمة داخل الدولة الوطنية لهذا جاءت الدبلوماسية متعددة المسارات لتقدم حلول لمثل هكذا أزمات.

وانطلاقا من مبادئها الثابتة والتي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكذا الحل السلمي للنزاعات، ونظرا لحساسية الأزمة الليبية وتأثيراتها على الأمن القومي الجزائري، تبنت الجزائر دبلوماسية متعددة المستويات في التعامل مع الأزمة الليبية:

-دبلوماسية المستوى الوطني: وذلك من خلال تقديم آلية المصالحة الوطنية التي تبنتها الجزائر سابقا في تسوية أزمتها الأمنية كخارطة طريق للأطراف الليبية، والسعي لجمع كل الفرقاء دون استثناء على طاولة المفاوضات، كما سعت الجزائر إلى رفض التدخل الخارجي أو اعتماد الحل العسكري للأزمة الليبية.

-دبلوماسية المستوى الإقليمي (آلية دول الجوار): آلية دول الجوار كتسمية تعتبر حديثة نسبيا، لكن كممارسة هي قديمة، أين تبادر دولة أو مجموعة دول للمساهمة في حل أزمة في جوارها الإقليمي، وفي الحالة الليبية كانت الجزائر من أول المبادرين للدعوة لاجتماعات تنسيقية للدول المجاورة لليبيا، وتقلص بعد ذلك الأطراف المجتمعة لتقتصر على كل من الجزائر، تونس ومصر، وكان فحوى اجتماع دول الجوار هو ضرورة دعم الحل السياسي والسلمي.

-دبلوماسية المستوى الدولي: وذلك من خلال دعم جهود الأمم المتحدة في حل الأزمة الليبية، كما كانت الجزائر من بين الأطراف المدعوة لاجتماع ألمانيا حول ليبيا في 19 جانفي 2020، أين أكدت الجزائر على مواقفها الثابتة اتجاه الأزمة الليبية وذلك من خلال دعم الحل السياسي.

ندرك من خلال هذه الجهود أن الجزائر تبنت مقاربة متعددة المستويات اتجاه الأزمة الليبية، مستوى أمني وعسكري من خلال مراقبة حدودها من خلال الرفع من مستوى التأهب العسكري واليقظة، من جهة أخرى سعت إلى ضرورة بذل الجهود الدبلوماسية من أجل حل سياسي للأزمة الليبية، ويتجلى ذلك من خلال عديد المبادرات التي سبق الإشارة إليها، كما سعت لإيجاد آلية لجمع السلاح المنتشر بكثافة في ليبيا والذي يشكل تهديدا لدول الجوار الإقليمي.

الخاتمة:

يمكن القول أن الأزمة الليبية كانت أكثر تعقيدا كون ليبيا لم تعرف دورا للمؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الجيش التي كانت تتسم بالضعف قبل 2011، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على الوضع الليبي بعد سقوط نظام القذافي الذي كان يتبنى خيارات بنيوية ضيقة من خلال الاعتماد على المكون القبلي، فبعد 2011 ارتفعت وتيرة الصراعات بين عديد الأطراف في ليبيا من أجل مصالح ضيقة وخلافات بنيوية، الأمر الذي أنتج حالة فوضى أمنية والانتشار الكثيف للسلاح وهشاشة على مستوى الدولة، شكلت بيئة جاذبة للجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة وطريقا للهجرة غير الشرعية.

هذا الوضع شكل ولايزال يشكل تهديدا وتحدي للجزائر التي تتقاسم مع ليبيا حدود طويلة وجغرافية صعبة وبنى اجتماعية مشتركة لها امتداداتها في كل المنطقة المغاربية، الأمر الذي دفع بالجزائر إلى تبني مقاربة شاملة ومتعددة المسارات لمواجهة هذه التحديات، ومن منطلق تجربتها السابقة في مواجهة الإرهاب وطرح آلية المصالحة الوطنية لحل الأزمة الأمنية في الجزائر، ومن منطلق مبادئها التي تستمدها من عقيدتها الدفاعية دعت الجزائر إلى ضرورة تبني الخيار السياسي لحل الأزمة الليبية بين الأطراف المتصارعة دون استثناء، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي الذي يسهم في زعزعة استقرار المنطقة ككل.


[1] – محمد السعيد إدريس، تحليل النظم الإقليمية: دراسة في أصول العلاقات الدولية الإقليمية، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 2001)، ص  8.

[2] – مصطلح نظام لا يقتصر على مجال العلاقات الدولية فحسب أو حتى على العلوم السياسية، ولا يغالي مورتن كابلان كثيرا حين يقول “نستطيع تقنيا أن نعتبر كل سلسلة من المتغيرات Variables نظاما”.

[3] – نفس المرجع، ص09.

[4] – Jean Barrea, Théories des Relations Internationales. De L’déalisme a la Grande Stratégie, (Belgique: Erasme, 2002), p185.

[5] -ستيفن والت، “العلاقات الدولية: عالم واحد نظريات متعددة”، (تر: عادل زقاغ، زيدان زياني)، متحصل عليه: https://2u.pw/f3ryUZW

[6] -Thierry Balzacq, Op. Cit, p 09.

[7] – Barry Buzan & Ole Woever, Region and Powers: The Structure of International Security, (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), p 43.

[8] – Ibi, p 44.

[9] – عادل زقاغ، “النقاش الرابع بين المقاربات النظرية للعلاقات الدولية”، (أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية، تخصص علاقات دولية، باتنة: جامعة الحاج لخضر، الجزائر، 2008/2009)، ص129.

[10] – المنصف وناس، الشخصية الليبية: ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة، (تونس: الدار المتوسطية للنشر، 2014)، ص84 .

[11] – نفس المرجع، ص85.

[12] – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، “التدخل العسكري الغربي ومستقبل ليبيا”، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24 مارس 2012)، ص04.

[13] – محمد محمود أبو المعالي، التنافس بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في الساحل والصحراء، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2017)، ص17.

[14] -يمكن الرجوع إلى كل من محمد محمود أبو المعالي، التنافس بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في الساحل والصحراء، مرجع سابق، ص40، الحسين الشيخ العلوي، “صراع النفوذ بين القاعدة وتنظيم الدولة في إفريقيا”، تقارير، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، فيفري 2016)، ص05.

[15] – محمد محمود أبو المعالي، التنافس بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في الساحل والصحراء، مرجع سابق، ص40.

[16] – Aaron Zelin, “The Islamic State’s Model”, (THE WASHINGTON INSTITUT, January 28, 2015, 21/09/2018) at: : https://2u.pw/lJB4peC

[17] – Andrew Engel, “Libya as a Failed state: Causes, Consequences, (Options”, THE WASHINGTON INSTITUT, November 2014, 21/09/2018)   at: : https://2u.pw/c8P3V3z

[18] – محمد محمود أبو المعالي، التنافس بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في الساحل والصحراء، مرجع سابق، ص42.

[19] — نفس المرجع، ص48.

[20]– المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، (60/06/2023)، متحصل عليه: https://2u.pw/tnYRo0V

[21] — المفوضية السامية لشؤون اللاجئين،(06/06/2023)، متحصل عليه: https://2u.pw/tnYRo0V

[22] – سمية يوسفي، “الجزائر خسرت 90 مليون دولار منذ توقف مصنع تيقنتورين”. (الخبر اليومي، العدد 6969، 20 جانفي 2013)، ص03 .

[23] – معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، (ستوكهولم: معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، 2011)، ص346 .

[24] – افتتاحية الجيش، “على درب اكتساب القوة”، (الجيش، ع662، سبتمبر 2018)، ص03.

[25] – يحي كواج، “رئيس أفريكوم المقبل دافيد رودريغاز أمام الكونغرس: الجزائر الرائد الإقليمي في المنطقة”، (الجزائر نيوز، 15 فيفري 2013)، ص05.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى