أمنيةأوراق و دراسات

تحديات ومعوقات تحقيق الأمن في حوض المتوسط

د. أدمام شهرزاد

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية، جامعة محمد الصديق بن يحي، الجزائر.

ملخص:

انطلقت هذه الدراسة من محاولة فهم الأمن في المتوسط، عبر إجراء مسح تقييمي لعوامل غياب الأمن في هذه المنطقة، والتي ميزتها الأساسية كثرة التهديدات والمخاطر وتقاطع الديناميكيات والتفاعلات الأمنية ممّا حوّلها إلى مجتمع مخاطر إقليمي، تنتشر الأزمات فيه بسهولة، وهو ما دفع الدول المتوسطية نحو السعي إلى جعل هذه المنطقة “آمنة” وإيجاد إطار تعاون وتقارب أمنيين فيها، غير أنّ التعرض المتفاوت للتهديدات والإدراكات المتباينة حولها إلى جانب عوامل حضارية وسياسية واقتصادية وخارجية حال دون ذلك، لنصل في الأخير إلى طرح مجموعة من المقترحات التي نراها خطوة مهمة في تجاوز إشكالية الأمن في المتوسط.

الكلمات المفتاحية: الأمن في المتوسط، المعوقات، الأمن الإقليمي، تحديات تحقيق الأمن في المتوسط.

المقدمة:

تعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط من أكثر مناطق العالم ديناميكية، فهي تتوسط ثلاث قارات، وتشكل معبرا استراتيجيا إلى أقاليم متاخمة، وهي في ذات الوقت تعرف نزاعات عدة داخلية وخارجية مع تداخل مجموعة أخرى من مصادر اللا استقرار تقوّيها مختلف التهديدات والتحديات الأمنية الجديدة.

إنّ هذه العوامل مجتمعة هي ما دفع منذ التسعينات الماضية الدول المتوسطية إلى توجيه دفة الاهتمامات الأمنية نحو محاولة جعل هذه المنطقة “آمنة” عبر خلق فضاء تعاون وتقارب أمنيين بين دولها، وحتى مع دول أخرى لها علاقات جيوستراتيجة مع المنطقة –كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا- والبحث دوما عن إطار أمني يكفل الحدّ من التهديدات فيها، وهو السياق الذي جاءت فيه عديد المبادرات مثل مجلس الأمن والتعاون لغرب المتوسط (والذي تحول إلى مجموعة 5+5)، الحوارات الأمنية مع الدول المتوسطية، الشراكة الأورومتوسيطية، إجراءات بناء الثقة، الاتحاد من أجل المتوسط، والتي على كثرتها وتعدد صيغها لم تتوصل إلى جعل المتوسط منطقة آمنة بسبب العديد من المعوقات.

في هذا السياق تهدف هذه الدراسة إلى البحث في مسبّبات تعثر الجهود الرامية إلى تحقيق الأمن في المتوسط، وهذا من خلال الإجابة عن الإشكالية التالية: ما هي المعوقات التي تقف وراء تعثّر تحقيق نهج أمني شامل في منطقة البحر الأبيض المتوسط؟.

تنبثق أهمية هذه الدراسة من البعد الجيوستراتيجي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط باعتبارها مجالا حيويا واستراتيجيا لعديد الدول والقوى الفاعلة فيه ومحل تقاطع وتفاعل لديناميكياتها ومصالحها الأمنية، وكذا من أولوية موضوعها “الأمن” في أجندة هذه الفواعل، خاصة وأنّ الدراسة تستهدف تتبع العقبات والصعوبات التي تعرقل مسارات تحقيق الأمن في المتوسط.

تستهدف هذه الدراسة تفحص مختلف المعوقات التي تحول دون تحقيق منطقة آمنة في المتوسط على رغم توافر العديد من الأطر والترتيبات الأمنية لأجل ذلك، وهذا بغية الإسهام في الجهود الأكاديمية الرامية إلى إيجاد مقترحات للخروج من هذه الإشكالات.

تهدف الدراسة إلى اختبار الفرضيات التالية:

– يقود الفشل في بناء مؤسسات قادرة على خلق استجابات جماعية إلى الفشل في تحقيق منطقة متوسط “آمنة”.

– يؤدي الاختلاف في “إدراكات التهديد” لدى فواعل المتوسط الأمنيين إلى صعوبة التوصل إلى تبني الأطر الأمنية المناسبة.:

لأجل تتبع العقبات التي تعيق تحقيق الأمن في المتوسط اعتمدنا كلاّ من مقاربة “مجتمع المخاطر” التي مكّنتنا من مفهمة الأمن في المتوسط وشبكة تقاطعات التهديد فيه وكيف تشكل المنطقة “مجمتع مخاطر إقليمي” يستلزم البحث عن الطرق الكفيلة لجعله “مجتمعا إقليميا آمنا”، وهو ما قادنا أيضا إلى اعتماد مقاربة “الإقليمية” من أجل فهم التفاعل الأمني المتوسطي الإقليمي الذي يستهدف إيجاد حلول مشتركة للتحديات الأمنية الجديدة، في ظلّ نفاذية الحدود وفي إطار عالم ميزته التعقيد وعدم اليقين ومن خلال تحقيق أمن متعدد الأبعاد والبحث في المعوقات التي حالت دون ذلك، هذا إلى جانب اعتماد المنهج المقارن الذي مكّننا من اكتشاف تباينات “مدركات التهديد” لدى الفاعلين في المنطقة والذي يعدّ السبب الرئيس لعدم تحقيق الأمن في المتوسط.

الدراسات السابقة:

يظهر عنصر الدراسات السابقة هنا مستعصى بطريقة متفردة كونه يتعلق بمسببات عدم تحقيق متوسط آمن، الموضوع الذي يخلق إدراكات ومقاربات يصعب معها التوصل إلى منظور تحليلي متقارب، وهذا الارتباك انعكس على جعل هذا النوع من الدراسات هو الأكثر شحّا؛ حيث تندر تلك البحوث التي تستهدف فهم وكشف العقبات وتحليلها والخروج بمقترحات حولها، وفي هذا السياق نشير إلى إحدى هذه الدراسات والتي قدّمها “سمير البح” بعنوان “المركب الأمني في غرب المتوسط: مأسسة حدود الاتحاد الأوروبي وحوكمة التهديدات الأمنية[1]،مشيرا فيها إلى أنّ المعضلة التي يعانيها الأمن في غرب المتوسط ترجع إلى كون المبادرات الأوروبية مجرد “بردايمات سياسية مشحونة قيميّا” يشكّل المتوسط فيها “محفّزا” لها، غير أن الدراسة لم تتعمق في مسببات هذه الخيارات ولا في انعكاساتها على أمن المنطقة وهذا راجع إلى قصور الهامش الذي تتيحه مقاربة “المركب الأمني” المعتمدة كإطار تحليلي في الدراسة، لكونها مقاربة تتسع لعلائق متعدّدة ذات حدود متباينة تشمل :الصداقة-العداوة، الأرباح- التكاليف، ممّا لا يكشف عن مكامن معيقات الأمن بوضوح.

– من جهتهما جادل كل من “روبرت شيومن –Robert Schuman” و”جون موني- Jean Monnet في دراستهما “Mediterranean Regional Security In The 21st Century: Regional Integration Through Development And Its Security Impact On Euromed Partnership Members [2]، بأنّ التنوع الثقافي والسياسي بين شرق وغرب وشمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط ​​إلى جانب الأزمات العسكرية هو ما يؤثر على التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السلمية في منطقة المتوسط، ومن ثم سعيا إلى تفحص الطريقة التي تهدف إلى بناء “جسر” سلمي ليس بين “هم” و”نحن”، أو “الغرب” و”البقية”، ولكن عبر نهج وظيفيّ، غير أن الدراسة غلب عليها إلقاء اللوم على الجنوب متوسطيين بسبب أوضاعهم الاقتصادية والسياسية وحتى الدينية.

انطلاقا من هذا جاءت دراستنا هذه كمحاولة لتجاوز طابع “الجزئية” الموسومة به جل الدراسات التي تعنى ببحث معيقات الأمن في المتوسط نحو طرح أكثر إلماما بمختلف جوانب الموضوع.

للإجابة عن الإشكالية المطروحة أعلاه نستند إلى المحاور التالية:

  1. منطقة البحر الأبيض المتوسط من منظور مجتمع المخاطر.
  2. الترتيبات الأمنية في البحر الأبيض المتوسط: مشهد أمني مجزأ.
  3. إشكالية الأمن في المتوسط: …تعدد المعيقات.
  4. مقترحات من أجل منطقة متوسط آمنة.

1 – منطقة البحر الأبيض المتوسط من منظور مجتمع المخاطر:

يشير مفهوم “مجتمع المخاطر” إلى الترابط والتعقيد الذي يميّز العالم اليوم، والذي نتج أساسا عن التسارع الكبير في مسارات العولمة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي أفصحت خلال العشرين إلى الثلاثين عاماً الماضية عن تقارب في نمط التغيير في الظروف السياسية والتكنولوجية والديموغرافية للعالم، ونتيجة لذلك[3]، فإن أزمات اليوم – وبشكل مختلف عن الأزمات التي عانت منها مناطق ودول فرادى من العالم في الماضي – تنتشر بسهولة من منطقة واحدة إلى العالم بأسره من خلال آليات مثل الانتشار، والعدوى، والآثار غير المباشرة التي تتخذ من العديد من السلوكيات الجماعية (مثل الهجرة والتجارة) قنوات لها.

 نتيجة لذلك كله، تواجه الدول والمؤسسات السياسية الدولية اليوم تحدياً للاستجابة لهذه المشكلات مجتمعة من خلال وضع سياسات من أجل احتواء الانهيارات في النظام بأكمله، وهي النتيجة التي وإن بدت بعيدة الحدوث إلا أنها منطقية بالنظر إلى نقاط الضعف الهيكلية والإجراءات والتفاعلات البشرية التي تحوّل المخاطر إلى أزمات في حالة عدم اتخاذ الحكومات تدابير مناسبة لمنعها أو حتى إدارتها.

إنّ هذه الديناميكيات المعقدة يمكن تفسيرها نظريا من خلال مقاربة “الشبكة”، هذه الأخيرة توفّر فهما أعمق للكيفية التي بها ينتج نمو العلاقات الاقتصادية والتقدم التكنولوجي زيادة في عدد العقد والمسارات التي يتم من خلالها نقل المواد ورؤوس الأموال والمعلومات والمعرفة بسرعة عالية وبمدى عالمي، ممّا يقود في النهاية إلى تعقّد الشبكات وانتشار المخاطر على مستوى المناطق بل وعلى مستوى النظام العالمي ككل، والذي يغذّيه تجاهل وسوء فهم العلاقة بين البعد العالمي والإقليمي والمحلي للمخاطر، إلى جانب الفشل في بناء مؤسسات قادرة على خلق استجابات جماعية ممّا يؤدي إلى تفاقم هشاشة النظم العالمية والمحلية والإقليمية، ويساهم في تضخيم أية أزمة محلية[4].

إن هذه التوليفة من الديناميكيات الأمنية وما يصاحبها من اختلاف للإدراكات المتعلقة بالتهديدات الأمنية تبدو جليّة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، هذه الأخيرة التي لم تكن يوما في مأمن من التهديدات تلك التي تنطبق “بشكل أقوى في الماضي عمّا هو حاليّا بمفهوم معيّن”[5]. وهو ما يجعل دلالة “المخاطرة” في الوقت الحالي أعقد بكثير بالنظر إلى ارتباطها أكثر بالأخطار المستقبلية، وبالاحتمالية، إلى جانب بروز وجها “الفرصة” و”الخطر” كمتلازمة لمسارات التحول نحو الصناعة والانفتاح أكثر على الآخر، على مختلف المستويات[6].

إنّ ديناميكيات الخطر في منطقة المتوسط تنزح بها يوما بعد آخر لأن تكون “جماعة أخطار إقليمية”، ميزتها أن المخاطر فيها لم تعد مجرّد شؤون داخلية لدولها فرادى، وإنما وبفعل القابلية للتأثر والتأثير لدى جميع الفاعلين فيها والمدعمة بقوى العولمة ومساراتها أصبحت هذه المخاطر شأنا مشتركا، كما لم يعد بمقدور أيّ من هذه الدول أن تواجه مختلف المخاطر سواء ذات الطبيعة الاقتصادية أو البيئية أو العسكرية بصفة انفرادية.

هذا وتتصف البيئة الأمنية في المتوسط بخصائص تجعل منها مجتمع مخاطر إقليمي ذو ديناميكية وتقاطعات مصالح واضح، وفي هذا السياق تبرز العناصر التالية:

-التشكل المستمر للبيئة الأمنية المتوسطية بواسطة تقاطعات جيوستراتيجية لفواعل محلية، ولكن أيضا لفواعل خارجية هي مزيج بين الدول والقوى الأوروبية والإفريقية والأوروآسيوية وحتى الأطلسية، هذا إلى جانب الفواعل المسلحة من غير الدول والتي تتقاطع مصالحها جميعا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، هذه التقاطعات برزت أكثر إثر أزمات ما بعد “الربيع العربي” خاصة في ليبيا وسوريا.

-قابلية الانتشار التي تتسم بها عديد التهديدات في منطقة المتوسط وفي المناطق المتاخمة لها، والتي تغذيها هشاشة الدول والنزاعات الداخلية، على نحو تهديد الهجرة غير الشرعية، وتهديد الفواعل المسلحة غير الدولية، والتجارة غير الشرعية للسلاح، وتبييض الأموال…..قابلية الانتشار هذه تعقد من إدراكات المشهد الأمني للمنطقة، وتصعّب بالتالي من تبني الخيارات الملائمة من أجل التصدي، وتجعل من المتوسط “جماعة مخاطر إقليمية”.

2- الترتيبات الأمنية في البحر الأبيض المتوسط: مشهد أمني مجزأ :

أدت خصائص ديناميكيات البيئة الأمنية في المتوسط المشار إليها في العنصر السابق وأخرى لم يتم ذكرها والتداخل الموجود في طبيعة فواعلها وفي مصالح أطرافها إلى السعي الدائم لدى هذه الأخيرة إلى طرح المبادرات الأمنية التي تراها كفيلة بتحقيق منطقة متوسطية آمنة، والتي يمكن تصنيفها ضمن ثلاث فئات هي:

أولاً: الآليات الأمنية الخاصة وهي مبادرات تمّ إنشاؤها فيما يتعلق بقضية أو أزمة أمنية معينة بمبادرة من الدول أو المنظمات الدولية.

ثانياً: المنتديات الأمنية دون الإقليمية وهي آليات حكومية دولية تتعامل مع مجموعة واسعة من القضايا الأمنية، بدرجات مختلفة من إضفاء الطابع المؤسسي.

ثالثا:  مجموعة من المبادرات الأمنية الواسعة (أي لا علاقة لها بأزمة معينة) المتخذة في إطار المنظمات الدولية     الأوسع[7].

يقدّم الجدول أدناه بعض الأمثلة التوضيحية:

أ-آليات الأمن الخاصة:

الترتيب الأمنيالإنشاءالأعضاءالأهدافالأنشطةالمزاياالحدود
المجموعة الدولية لدعم سوريا14-11-201520 دولة ومنظمة دوليةتسريع إنهاء النزاع في سوريا وتحقيق تسوية سياسية دائمةاجتماعات وزارية برئاسة مشتركة روسيا والولايات المتحدة وفرق العملإدراج كافة الأطراف الدولية المعنية والإقليمية ذات الصلةبيانات واسعة دون متابعة عملياتية حاسمة، مع أعضاء منقسمين

أمثلة أخرى: مجموعة أصدقاء سوريا (مبادرة فرنسية 2002)، اللجنة الرباعية للشرق الأوسط، الدول المجاورة لليبيا (مبادرة جزائرية 2012)، قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، عملية صوفيا التابعة للاتحاد الأوروبي (EUNAVFOR MED)، بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

ب- منتديات الأمن شبه الإقليمية :

الترتيب الأمنيالإنشاءالأعضاءالأهدافالأنشطةالمزاياالحدود
منتدى غرب البحر الأبيض المتوسط “5 + 5 دفاع”1990. الاجتماع الوزاري الأول في طبيعته الدفاعية عام 2004فرنسا،إيطاليا، مالطا، البرتغال، إسبانيا،الجزائر، ليبيا، المغرب، تونس موريتانيا، المغرب، تونستعزيز العلاقات ما بين البلدان الأوروبية والاتحاد المغاربيمشاريع التعاون الإقليمي (المراقبة البحرية، التعليم والتدريب، الحماية المدنية)، التدريبات العسكريةشراكة عملية وغير رسميةنطااق جغرافي محدود. تكامل محدود. بعض الانقسامات بين أعضاء الجنوب

أمثلة أخرى: جامعة الدول العربية بتفرعاتها الأمنية المختلفة (قوة حفظ السلام أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، مبادرة السلام العربية، مشروع قوة عسكرية مشتركة).

ج-مبادرات الأمن الإقليمي في إطار المنظمات الدولية:

الترتيب الأمنيالإنشاءالأعضاءالأهدافالأنشطةالمزاياالحدود
الحوار المتوسطي لحلف شمال الأطلسي1994الناتو + 7 دول غير عضوة  المساهمة في الأمن والاستقرار الإقليميين وتحقيق تفاهم متبادل أفضلمنتدى للمشاورات السياسية والتعاون العملي، بما في ذلك مكون ثنائي ومتعدد الأطرافموسع، أكثر شمولية وتنوعالحاجة إلى التكيف مع البيئة الأمنية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط. التقارب المحدود للسياسات وقابلية التشغيل البيني بين أعضاء الناتو ودول المتوسط

أمثلة أخرى: شركاء التعاون المتوسطيين لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (1993)، مبادرة اسطنبول للتعاون لحلف الناتو (2004).

الشكل 1: جدول تصنيف الأطر الأمنية في البحر الأبيض المتوسط[8].

على الرغم ممّا قد يوحيه هذا التنوع في المبادرات والآليات التعاونية من إيجابية، ويعكس بشكل ما السعي الدائم والمتجدد للأطراف الفاعلة في منطقة المتوسط بغية إيجاد الأطر المناسبة التي تمكّنها من جعل هذه المنطقة آمنة، إلاّ أنه في الوقت ذاته ينمّ عن جوانب سلبية تنصرف أساسا إلى التشتت في الأهداف والنطاقات الجغرافية المعنية، وكذا إلى مدى تجزئة المشهد الأمني ​​في البحر الأبيض المتوسط، ممّا يضعف القدرات والبنيات الأمنية وقد يقودها في بعض الأحيان إلى التنافس مع بعضها البعض خاصة بالنظر إلى تعدّد أطرافها والتي في الغالب تكون ذات مصالح متضاربة، وهو ما يؤكد في الأخير على المعضلة التي تعيشها المنطقة المتمثلة في كون كلّ هذه المبادرات، حتى وإن اجتمعت، لا تشكل “أمناً شاملاً ومتماسكاً”، وهو ما يخلق إلحاحية علمية ولكن أيضا عمليّة مفادها البحث عن مكامن الخلل وتتبع المعيقات التي تقف وراء هذه التجزئة في المشهد الأمني المتوسطي، وهو ما سنحاول تفحّصه في المحور التالي.

3- إشكالية الأمن في المتوسط: …تعدد المعيقات:

في الواقع تعتبر محاولة فهم الأمن وتحليله في المتوسط طريقا مضنية للباحثين كما هي مريبة للسياسيين، وهذا راجع في أساسه إلى زخم التقاطعات الجيواستراتيجية التي تميّز المنطقة والتي تجعل من مهمّة حصرها في بنية أمنية شاملة صعبا للغاية، ولعلّ كثرة المبادرات والترتيبات الأمنية المشار إليها في السابق وأخرى لم نذكرها لدليل قاطع على حالة التردّد التي تطبع مساعي تحقيق الأمن في المتوسط، هذا الأخير الذي لا تزال القضايا فيه مقسمة إلى “شؤون أوروبية” و “شؤون أطلسية في المتوسط ” و”شؤون شرق أوسطية” و”شؤون الضفة الجنوبية” “، أين تبرز الأوليين منها أكثر انتظاما –على تعددها- في إطار الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، في حين تظهر الأخريين أكثر تجزئة ومفتقدة لأطر أمنية موحّدة.

إن عدم وضوح المشهد الأمني في المتوسط يعود إلى جملة من المشاكل والعقبات التي تعيق في كلّ مرة مسارات مختلف المبادرات والترتيبات الأمنية في هذه المنطقة، والتي رغم اختلافها إلا أنها ترتبط فيما بينها وتؤثر كلّ منها في الأخرى خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان المفهوم الموسّع للأمن الذي يشمل الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية والبيئية والمجتمعية، ويمكن تفصيل ذلك كالآتي :

(أ)-إشكالية الإقليمية في المتوسط:

تعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط من بين أكثر الجغرافيات السياسية عبر العالم التي يمثل التحليل المكاني فيها جوهر فهم الظواهر السياسية؛ بالنظر إلى ديناميكيات التقارب والتصارع المتشابكة فيه، وكذا إلى تقاطعات المصالح وتداخلها فيه والتي هي ليست مقتصرة على دوله فقط وإنما تتعدى إلى دول وقوى خارجية.

في الواقع فإن هذه المنطقة يحكمها المعيار الاستراتيجي الذي تمثله هذه المؤشرات (الديناميكيات والمصالح) أكثر ممّا يحكمها المعيار الجغرافي الذي يختصر في الإطلالة أو المنفذ على بحر المتوسط، وهو ما فتح المجال للتأثيرات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية وبالتالي الاجتماعية –الثقافية وأخيرا الهوياتية مختلفة المصادر ومتباينة المستويات لتحريك دواليب الأمن في المتوسط، ممّا أنتج أقاليم فرعية (شرق أوسطية، شمال المتوسط، جنوب المتوسط، الحوض الغربي للمتوسط) وانتقل بالمتوسط من بحر واصل بين القارات الثلاث إلى بحر فاصل، أسهمت في تجزئته الانفرادية طرح المبادرات وهندسة الترتيبات الأمنية به من جانب القوى الأوروبية والأطلسية.

إنّ منطقة المتوسط ورغم صغرها –مقارنة بالأقاليم القارية أو أقاليم الهادي أو الأطلسي- إلاّ أنها لم تتمكن من الانتظام ضمن إطار أمني موحّد ممّا يعكس القصور الذي تعاني منه مختلف المبادرات الأمنية التي لم تتمكن من إستيعاب كلّ هذه الانقسامات، ولم تستطع استغلال المعيار الجغرافي، لتترك المنطقة مرهونة بالانشغالات الأمنية للقوى الكبرى دون مراعاة للاحتياجات الأمنية للدول الأخرى.

(ب)- غياب التجانس الثقافي والحضاري:

هذه السمة هي في الحقيقة وجه آخر لواقع التفكك الإقليمي المشار إليه سابقا، وهي تتمثل أساس في غياب القواسم المشتركة الحضارية والثقافية بين ضفتي المتوسط، خاصة فيما تعلق باللغة، والدين والموروث الثقافي، ممّا يقود إلى صعوبة تشكّل إحساس بالانتماء إلى “هوية متوسطية”.

في هذا السياق يحذّر “عبد النور بن عنتر” في كتابه “البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوروبا، والحلف الأطلسي”[9]، من تبعات انعدام الشعور بما أسماه “الهوية الاستراتيجية” المشتركة، والذي يقود إلى خلق فضاء مفكك ومختل الموازين، يصعب فيه بناء تصور أمني مشترك، اتضحت تفاصيله أكثر مع “أطروحة التهديد الآتي من الجنوب” والتوجه العسكري الأورو- أطلسي جنوبا”، وهي الأطروحة التي غذتها –طيلة ثلاث عقود الماضية- العديد من الأدبيات على غرار “صدام الحضارات” لصاموئيل هنتغتون، وكذلك كتابات “باري بوزان” الذي بعدّ أبرز الباحثين في الشؤون الأمنية والتي تحدّث فيها عن “حرب حضارية باردة” قد تكون أكثر وضوحا بين الغرب والإسلام”[10].

وفي الواقع فإن خطاب التهديد هذا أنتجته للأسف مختلف الدوائر الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية، والتي تغنينا مختلف الأدبيات التي تعنى بظاهرة “الإسلام فوبيا” لأجل إثباتها[11]، وكذلك مختلف النقاشات المصاحبة لمشكلة الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، التي تعيد نشرها صحيفة “شارلي ايبدو” الفرنسية في كل مرة وتلقى تعاطفا باسم حرية التعبير من قبل السياسيين.

(ج) – عدم التجانس في إدراك التهديدات الأمنية:

يعدّ عدم التوافق في إدراكات الفواعل المتوسطية تجاه التهديدات الأمنية أحد أبرز العوائق أمام هندسة أمنية متكاملة وشاملة في حوض المتوسط، ويبدو أن الفاعلين الأمنيين الغربيين وفي إطار صياغة تصورهم الاستراتيجي لفكرة “التهديد” فيما بعد الحرب الباردة، أخفقوا في تبنيهم لخطاب “التهديد القادم من الجنوب”، ذلك أن هذا الأخير الذي يعاني انقسامات بينية ومجموعة صعوبات على كافة الميادين “لم يكن (وليس) بمقدوره تهديد أحد[12]،وهو ما جعل هذا الخطاب يعاني من أزمة مصداقية.

ويتضح هذا في مختلف القراءات الناتجة عن خطابات الأمننة منذ نهاية الثمانينات الماضية والتي أصبحت وفقها قضية الهجرة –جنوب –شمال – مثلا بمثابة “المرجعية” لتحليل المسائل الأمنية؛ فالهجرة القادمة من الضفة الجنوبية وما وراءها –صحراء إفريقيا- تتصدّر اليوم الأجندات الأمنية لكافة الأطر الأمنية لحوض المتوسط باعتبارها “أمنا اجتماعيا” بالنظر إلأى المقاربة الأوروبية لها والتي ترى في الهجرة تهديدا هوياتيا للمكوّن الهوياتي الأوروبي، في حين تستدعي المقاربة لمشكل الهجرة استيعاب المسببات الرئيسية لها، والتي ترجع أساسا إلى مشاكل التنمية في دول المصدر إلى جانب اللاستقرار السياسي والنزاعات المسلحة وغيرها. وهو الأمر الذي تأخرت الدوائر الأوروبية في الاستجابة له إذا استثنينا بعض المساعدات والبرامج التنموية في أطر ثنائية لا ترقى إلى مواجهة تهديد مشترك متعدد الأبعاد كالهجرة غير الشرعية، خاصة باستفحالها أكثر بعد “الحراك العربي 2011″، الأمر الذي يستدعي العمل أكثر عبر مقاربة سوسيو اقتصادية سياسية تستوعب كافة الأطراف المعنية وبناء على معطيات سياقية بنيوية مصاحبة.    

(د)-البعد الاقتصادي:

والذي يشكل ركيزة أساسية في أي مسعى لتحقيق الأمن عبر إقليم ما، ويمكننا أن نفترض أن تكامل السوق هو أقرب شكل من أشكال الإقليمية الاقتصادية، والذي يتحقق عبر عمليات تحرير التجارة، وإذا ما قارنا مع تجارب كل من نافتا (منطقة التجارة الحرة لشمال الأطلسي) أو آسيان (رابطة أمم جنوب شرق آسيا) أو APEC (منتدى التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهادئ) سنجد أن هناك فرقا كبيرا بينها وبين ما تمّ تحقيقه في إقليم المتوسط، رغم كثير الاتفاقيات الأورومتوسطية بهذا الشأن إلاّ أنها لا تزال متعثرة لأسباب عديدة على رأسها إشكالية التفاوت الفارق في مستويات النمو بين شمال المتوسط وجنوبه، وحجم التجارة البينية إضافة إلى أسلوب الحمائية الذي يتبعه الإتحاد الأوروبي تجاه المنتجات الزراعية والمنسوجات[13].

من جهة أخرى تبرز مشكلة اعتماد أسلوب العقوبات على جدول الأعمال السياسي للاتحاد الأوروبي والتي تم تبنيها ضدّ دول متوسطية (ليبيا عقب أزمة لوكاربي وفلسطين عقب انتخاب حماس لقيادة الحكومة، وسوريا 2019، تركيا 2020)، وبالإضافة إلى هذا نجد أنه ومنذ عام 1995 جميع اتفاقيات الشراكة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي تشتمل على ما يسمى “بند المشروطية” الذي يخلق عدم ارتياح مستمر لدى الشركاء .

(هـــــــ)-البعد السياسي:

شكّل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني خاصة بعد الانتفاضة الثانية التي اندلعت في سبتمبر 2000 وما تبعها من جمود في عملية السلام في الشرق الأوسط والموقف العربي الداعم للقضية الفلسطينية عقبة حقيقية لمسارات الأمن الإقليمي في المتوسط[14]؛ بالنظر إلى إصرار الدول العربية على اختلافها على أن هذا الصراع هو العائق الأساسي أمام إحلال الأمن والاستقرار في المتوسط، هذا الموقف هو ما جعل الاتحاد الأوروبي وكذا الحلف الأطلسي يعترفان بمحورية هذا الصراع وتسببه في خلق التوازنات القلقة وغير المستقرة في المتوسط ودفع بهما في كلّ مرّة إلى تجديد المبادرات التعاونية بغية إيجاد الصيغ المناسبة التي يمكن من خلالها استيعاب هذا المشكل.

في هذا السياق تساءل “عبد النور بن عنتر” في كتابه “البعد المتوسطي للأمن الجزائري” عن مدى قوّة الموقف العربي الساند للقضية الفلسطينية وتشبثه بضرورة التسوية العادلة لها كشرط أساسي في تحقيق أهداف التقارب الأمني الأورومتوسطي، وقابليته للاستمرارية أمام الجهود المضادة للأوروبيين والأمريكيين لأجل كسره، والحقيقة أن خوفه من تصدّع هذا الموقف كان في محلّه بالنظر إلى سلسلة “التطبيع في العلاقات مع الكيان الإسرائيلي” التي انطلقت بعض الدول العربية فيها منذ سبتمبر الماضي بداية من الإمارات العربية المتحدة وصولا إلى المغرب، هذا التطبيع الذي قسّم من جديد الدول العربية ومنها المتوسطية إلى قسمين مطبّع وممانع (الجزائر وتونس مثلا) سيكشف المستقبل القريب عن دوره في عملية التقارب الأمني في المتوسط هل سيدفع بها إلى الأمام أم أنه سيزيد من الانقسامات في هذه المنطقة.

وفي سياق آخر تبرز مشكلة عجز النخب السياسية جنوب المتوسط على إنشاء هياكل تعاونية تسهم في هندسة الأمن المتوسطي، تكون قادرة على أن تفاوض وتقدّم البدائل حول ما يتطلبه أمنها الإقليمي بعيدا عن الانفرادية السلبية التي تطبع تحركات الفواعل جنوب المتوسط، وفي الواقع فإنّ هذه الأزمة ازدادت حدّة على إثر التغيرات التي صاحبت “الحراك العربي” منذ 2011، والتي أدخلت العديد من دول الضفة الجنوبية والشرق أوسطية في أزمات سياسية تحوّلت في بعضها إلى نزاعات عسكرية (على نحو ما حدث في ليبيا وسوريا) عمّقت الهوّة القائمة أساسا إذ من جهة جعلت هذه الدول والدول الجارة لها (الجزائر ومصر وتونس مثلا) أكثر تقوقعا على الذات في محاولة لمعالجة وضعها الداخلي المتأزم أو خوفا من عدوى الأزمة، وحوّلتها إلى بؤر لنشاط الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة وتجارة السلاح وتشكل الجماعات المسلحة من غير الدول، ممّا فاقم من “خطاب التهديد الجنوبي” لدى الدول الأوروبية.

(و)- تداعيات أزمات “الحراك العربي”:

 لقد زادت هذه الأزمات (خاصة في سوريا، ليبيا) من شدة التنافس بين القوى الكبرى العالمية والإقليمية في المنطقة، هذه الأخيرة لم تعد مجرد مجال للتنافس الاقتصادي وإنما مجالا للتنافس العسكري في جانبه العملياتي، حيث قاد تفاقم الأزمة في كل من سوريا وليبيا إلى تدخل مجموعة كبيرة من الدول على رأسها الولايات المتحدة وروسيا بشكل أنتج قلقا عالميا بشأن إمكانية حدوث “حالات الخطأ” أو “سوء التقدير”[15] لتحول المنطقة إلى ساحة لحرب عالمية.

من جهة أخرى أفرزت هذه الأزمات مناخا مساعدا لتشكل الجماعات المسلحة وانتقالها وحصولها  على المعدات العسكرية في مناطق النزاع وكذا في الدول والمناطق الهشة (تونس وسيناء)موازاة مع القدرة المحدودة على تتبع الأسلحة والضوابط الضعيفة على مخزوناتها[16]،إلى جانب تدفقات الهجرة غير الشرعية والتي لم يعد بالمقدور التحكم فيها بالنظر إلى أعدادها الهائلة وتنوع سبلها، وكذلك انتشار ظاهرة المتاجرة بالبشر التي وجدت في ظاهرة الهجرة غير الشرعية منفذا لنشاطاتها.

4- مقترحات من أجل منطقة متوسط آمنة:

إنّ العديد من التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة هي تحديات متعددة الجوانب وذات امتداد تاريخي بعيد، وبالتالي فهي غير قابلة للحل المباشر، وإنمّا تتطلب إرادة سياسية واقتصادية وتفكيرا شاملا ومقاربات متسقة، في هذا السياق طرحت مؤسسة “راند-RAND” الأمريكية منظورا تحليليا في إطار “منتدى التبصر المتوسطي –  Mediterranean Foresight Forum”  ضمّنته خلاصات وتوصيات بشأن تحديات هذه المنطقة والطرق المحتملة لمعالجتها، يمكن ذكرها مع التعقيب عليها في الآتي:

– إن معالجة الأسباب الكامنة وراء بعض المشاكل في منطقة البحر الأبيض المتوسط في الواقع  تتطلب جهودا متضافرة إضافية وعمل سنوات عديدة قادمة، بالنظر إلى إلحاحيّة توفير الموارد المالية والسياسيّة والبشريّة وحتى المؤسّساتيّة اللازمة.

– بالنظر إلى محدودية الإرادة السياسية والموارد الاقتصادية في الوقت الراهن، فسيكون من المجدي اختيار ما يستدعي توجيه الجهود نحوه أكثر، بمعنى آخر: هل ينبغي إعطاء الأولوية لدعم النجاح (التجربة الديمقراطية في تونس) أو العمل على معالجة القصور (الأزمة في ليبيا وسوريا)؟[17] ، في هذا السياق نعتقد أنه من الضروري التعجيل أولا بالعمل على معالجة القصور عبر استيعاب سوريا ما بعد النزاع حتى لا تتجه أكثر نحو الشرق (إيران وروسيا) على حساب انتمائها المتوسطي وبشكل يفتح المنطقة على تفاعلات وتقاطعات مصالح هي في غنى عنها، وكذلك الأمر بالنسبة للأزمة في ليبيا التي تتطلب تفعيل مسارات جمع الفرقاء والدفع نحو إعادة بنائها، في حين يبرز ملف الصحراء الغربية الذي كثيرا ما يوتر العلاقات بين الجزائر والمغرب أقل تعقيدا بالنظر إلى الرصيد الكبير الذي يحظى به من قبل الأمم المتحدة ممّا يجعل من الالتفاف حول القرارات الأممية بشأنه أصوب الطرق.

– تعتبر سلوكات الأطراف الخارجية –خاصة روسيا والولايات المتحدة- عاملا معقّدا يحدث توترات وانحرافات، وعليه يستوجب الأمر إيجاد السبل المثلى لتوحيد الجهود الفردية والجماعية لجميع هذه الأطراف إلى جانب أخرى (بما فيها الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي) من أجل إدارة أو تخفيض التحديات وتحقيق المكاسب المشتركة للجميع[18]، بيد أننا نرى في المقابل أنّ تعدد الفواعل هذا قد يشتت الجهود ويميّع المسؤوليات ويزيد من تقاطع المصالح، ويرجع المنطقة إلى نقطة البداية، أين يسيطر الارتباك الذي تعكسه كثرة المبادرات على المشهد الأمني المتوسطي في المقابل يبدو سيناريو إعادة هيكلة مختلف الترتيبات والمسارات التعاونية بناء على تفادي مواطن الإخفاق واستخلاص النجاحات مع تحيينها وفق مخرجات الوضع الأمني المتجدد ومتطلباته، وفتح المجال في كلّ هذا لجميع الأطراف بغية تشارك التصور الأمني أولا والتوافق حول مفهمة التحديات وبالتالي التوصل إلى سبل المعالجة الأنسب هو السيناريو الأكثر ملاءمة.

– إنّ الفجوة في القدرات الدفاعية للبلدان في شمال المتوسط وجنوبه آخذة في التقلّص، وقد يحدّ هذا على المدى الطويل من هامش التصرف، فبرامج تحديث الدفاع لبلدان مثل مصر والجزائر يمكن أن تغير مجموعة الافتراضات المتعلقة بالعمل مع هذه البلدان أو داخلها حالما تصبح أكثر قدرة عسكرية ممّا يشكل تحديات محتملة للعمل المشترك.

وعلى النقيض من هذا نرى أنّ تقلص الفجوة العسكرية بين الشمال والجنوب قد يسهّل العمل المشترك أكثر بالنظر إلى التقارب في المقدرات وإمكانية تقاسم الأعباء الأمنية، فقط سيحتاج الأمر إلى هامش ثقة متبادلة أكبر ممّا هو عليه اليوم.

إنّ هذه المقترحات إلى جانب أخرى على نحو: ضرورة الاستثمار في رأس المال البشري من خلال تشجيع التنقل، وتسريع نقل المعرفة والمهارات والتكنولوجيا عبر تشجيع ظهور القدرة التنافسية الأورومتوسطية ومجموعات البحث في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات والزراعة وتقنيات كفاءة الطاقة، وتسريع نقل رأس المال والمعرفة، وإنشاء منطقة مؤسسية مشتركة مصحوبة بتحويلات مالية مرفوقة بالتأسيس التدريجي للحريات الأربع لحركة السلع ورأس المال والخدمات والأشخاص[19]،كلّها مجتمعة  بإمكانها أن تدفع نحو سيناريو أفضل للأمن في المتوسط يتجاوز المشكلات التي تحدّ من فعاليته في الوقت الراهن. 

خاتمة:

عادة ما يتم مفهمة الأمن في المتوسط عبر مقاربة أوروبية محضة ففي حين يفكر الأوروبيون في كيفية حماية أراضيهم ورعاياهم وخلق مناطق عازلة للخطر عنهم (المقاربة الأوروبية تجاه الهجرة غير الشرعية مثلا)، يطمع الجنوب متوسطيون في تحقيق مقاربة متعددة الأوجه لها أبعاد أمنية واقتصادية (تحقيق النمو الاقتصادي ونقل التكنولوجيا…) وغير اقتصادية.

وقد قاد هذا الوضع إلى وجود لا تناظر مؤسساتي أمني بين ضفتي المتوسط بسبب كثافة التطوير المؤسساتي في الشمال مقابل محدودية مثيله في الجنوب، مع عجز الطرفين عن تطوير بنى أمنية حقيقية تستوعب قضايا الأمن الموسع المشتركة بينهم، وهذا راجع إلى أسباب عدة بداية من إشكالية إقليمية المتوسط التي خلقت فجوة في الثقافة الأمنية بين الفاعلين فيه وإلى تفرع قضاياه الأمنية،في ظلّ تضافر مجموعة أخرى من المعوقات منها التفاوت في المستوى الاقتصادي واختلاف الإدراكات بخصوص طبيعة التهديدات وبالتالي طبيعة المواجهة والاختلافات الثقافية ومشكلات اللاستقرار السياسي في الجنوب، إلى جانب التقاطعات الجيوستراتيجية للقوى الخارجية في المنطقة، وصولا إلى أزمات ما بعد “الربيع العربي”  خاصة في سوريا وليبيا، وكلّ هذه المشكلات مجتمعة وبدرجات متفاوتة قادت إلى تعطيل مساعي خلق منطقة متوسطية آمنة،حيثيبقى الحوار السياسي لبناء مؤسسات مشتركة للإدارة المشتركة للمشاكل المشتركة هو المهمة الصعبة للدبلوماسيين وصانعي السياسات في منطقة المتوسط.


الهوامش:

[1]- سمير البح، المركب الأمني في غرب المتوسط: مأسسة حدود الاتحاد الأوروبي وحوكمة التهديدات الأمنية، المجلة الجزائرية للأمن والتنمية، العدد 10، جانفي 2017، (144-159).

[2]– Jean Monnet and Robert Schuman, Mediterranean Regional Security in The 21st Century: Regional Integration Through Development And Its Security Impact On Euromed Partnership Members, University of Miami, Paper Series Vol. 7 No. 9 May 2007. https://eucenter.as.miami.edu/_assets/pdf/boening_medregsec_long07edi.pdf 05-11-2020

[3]– Fulvio Attinà Mediterranean Security Revisited“, Democracy and Security, (2013):  9:1-2, 120-136, p 120 .

[4]– Ibid, pp 121,122

[5]-أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي بحثا عن الأمان المفقود، ترجمة علا عادل وآخرون، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013، ص 22.

[6]-المرجع نفسه، ص 22.

[7]– Emmanuel Cohen-Hadria, “A New Security Architecture in the Mediterranean? What Role for the EU?, IEMed-MedYearBook, strategique sections, 2016, p245.

https://urlz.fr/lEMR  ,(15-12-2020).

[8]– Ibid., p246.

[9]– عبد النور بن عنتر، البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوروبا، والحلف الأطلسي، الجزائر: المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع،2005.

[10]–  المرجع نفسه، ص118.

[11]– أظر مثلا : -عبد الرفيق كشوط، الإسلام فوبيا من منطق الأمننة: عندما يتحول الإسلام إلى قضية أمنية، في رؤية تركية، تركيا: مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، السنة 5،العدد4، 2016، ص-ص 129-142.

[12]– عبد النور بن عنتر، مرجع سابق، ص116.

[13]– Stefania Panebianco , Volatile Regionalism in the Mediterranean Area, l Europe en Formation 356(2), January 2010, p159-160.

https://urlz.fr/lEMU

[14]– Ibid., p161.

[15]– جيمس بالك  وآخرون، مياه مضطربة: لمحة موجزة حول التحديات الأمنية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ص9، مؤسسة “راند” (RAND)، منتدى التبصر المتوسطي، 2017.

[16]– المرجع نفسه، ص24.

[17]– المرجع نفسه، ص 27.

[18]– المرجع نفسه، ص28.

[19]–  jolly cécile , Mediterranean 2030: a common vision of the region’s future, ipemed , institut de prospective economiquedu mode méditerranéen.

https://urlz.fr/lEN2 , (10-11-2020).

https://urlz.fr/lEMU

admin 2

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى