أمنية

أزمة تأمين الحدود الجنوبية لليبيا

أ.محمد إبراهيم السنوسي

باحث ماجستير في العلاقات الدولية.

مدخل:

  تشكل السيطرة على الحدود الجنوبية الغربية لليبيا تحدٍ كبير بالنسبة لليبيين، وتأمينها أحد أكبر التحدّيات التي تواجهها ليبيا، وهو ما أتاح لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، إلى جانب عمليات الاتجار غير المشروع اليومية بالوقود والبضائع المختلفة، بسبب الفجوة الضخمة في الأسعار بين ليبيا ودول الجوار الجنوبي، وقد ترتب على ذلك عواقب وخيمة على المنطقة ككل. وفي هذا الإطار فإن ليبيا تواجه مجموعة من التعقيدات في هذا الملف أبرزها مايلي:

-ضعف القطاع الأمني، الذي يفتقر إلى التخطيط والتدريب والتنسيق المركزي، والمعدات والروح الوطنية والمعنوية.
 تشكل التركيبة السكانية في جنوب ليبيا من العرب والطوارق و التبو من جانب، والتركيبة السكانية جنوب الصحراء من جانب آخر، أحد أهم مصادر انعدام أمن الحدود. فالبعض من هذه المجتمعات المحلية العابرة للحدود قد أنشئت شبكات مع امتداداتها في الدول المجاورة التي تسهِّل عمليات الإتجار غير المشروع.
التشكيلات المسلَّحة العاملة في المناطق الحدودية الجنوبية، تعتبر العلاقات القَبَلية والمصالح الخاصة أقوى من ثقتها بالدولة الليبية أو ولائها لها رغم تبعيتها التنظيمية إلى مؤسسة من المفترض أن تكون عسكرية أو أمنية.
قيام بعض مؤسسات الدولة والكتائب العاملة باسم الدولة، والتي تفتقر إلى التنسيق فيما بينها، بإيجاد تسويات لأزمات الحدود شابها الارتباك، في محاولة للسيطرة على البلديات والمواقع الحدودية الليبية الجنوبية، والعلاقة فيما بينها غالباً ما كانت تنافسية، لا تعاونية.

أولاً: البعد المحلي لأزمة تأمين الحدود الجنوبية

في ظل حكم النظام السابق، كانت مهمة مراقبة الحدود تُنفَّذ من قبل إدارات متنافسة، تعاني سوء التنسيق فيما بينها وذلك في مؤسسات وإدارات عدة، فقد كانت إدارة المنافذ الحدودية والتأشيرات وجوازات السفر تابعة لوزارة الداخلية، في حين أن الجهة المُنظِّمة للجمارك، والمتمثلة في الإدارة العامة لمكافحة التهريب والمخدرات، كانت جزءاً من وزارة المالية. وكانت مهمة خفر السواحل والمراكز الحدودية مقسَّمة بالتساوي بين القوات البحرية وحرس السواحل ووزارة الداخلية،حيث أن كلاً من هذه المؤسسات و الادارات، على سبيل المثال، كان ينسق بشكل شبه مستقل مع قوات الحدود الأوروبية. حتى وزارة الداخلية نفسها كانت مهمَّشة، حيث أن إداراتها العامة وفروعها كانت تعمل بشكل شبه مستقل عن بعضها وعن الإدارة المركزية للوزارة في طرابلس.

وبناءًا على ذلك، فإن القدرة على الوصول إلى قواعد البيانات لوثائق السفر أو القوائم السوداء الدولية، على سبيل المثال، كانت غير متوفرة في المنافذ الجنوبية كمنفذ التوم الرابط بين ليبيا والنيجر، ومنفذ إيسين الرابط بين ليبيا والجزائر، كما  كانت المرافق بالمنافذ تعاني من نقص شديد في الموارد والإمكانيات؛ فقد كانت المقرات الإدارية للمنافذ الحدودية أشبه بالأكواخ، وتفتقر حتى إلى الكهرباء، وغياب شبه تام لمنظومة الاتصالات.

 أُنيطت بالجيش مهمة ضبط بعض المناطق الحدودية، مثل كتيبة طارق بن زياد والتي كان مقرها مدينة أوباري وكذلك معسكر الويغ القريب من منطقة القطرون وبه قاعدة جوية قرب الحدود مع تشاد، وتوصف بأنها قاعدة جوية استراتيجية متقدمة في عمق الصحراء الليبية، وقاعدة معطن السارة الجوية القريبة من السودان، لكن هذا الأمر لم يوفّر أي شكل من أشكال السيطرة المركزية والمنسَّقة أيضاً.

 كان القذافي قد قام عمداً بتقسيم وتجزئة عمليات قوى الجيش والتسلسلات القيادية. فلم تكن هناك وزارة دفاع، بل كانت قطاعات ووحدات الجيش المختلفة تقوم بشكل منفصل بإرسال التقارير إلى مكتب معلومات القذافي عبر لجنة مؤقتة للدفاع. وكانت الكتائب المختلفة التي تتكوّن منها القوات المسلحة الليبية موضوعة ضمن قواعد منفصلة، حيث كان لكلٍّ منها ترددات اتصالات خاصة بها وتسلسلات قيادية مرتبطة باللجنة العامة المؤقتة للدفاع.

 وبهذا الشكل أصبحت إدارة حرس الحدود وهمية ومتناقضة تماماً، إلا أن النظام كان  ناجحاً إلى حدٍ ما، في السيطرة على الحدود عبر جهود جزء كبير منها مخابراتي.

   وبسبب ما كان يقوم به النظام السابق من إدارة ملف الحدود بدلاً من ضبطها و السيطرة عليها، بعد سقوط النظام  نشأت أزمة دائمة فيما يتعلق بضبط المناطق الحدودية الشاسعة لليبيا. وبصفة خاصة الحدود الجنوبية، فبعد نحو اثني عشر عاماً من انهيار النظام، لاتزال مساحات شاسعة من الأراضي على طول الحدود الليبية البالغ طولها 4300 كيلومتر، منها 2774 كيلومتر حدود جنوبية، غير مسيطر عليها، وبالتالي غير خاضعة لسيادة الدولة، ويُخشى أنها غير قابلة للضبط.

فلم تتمكن القوات المسلحة الليبية ولا قوات الأمن من السيطرة على الهجرة والتهريب الذي يتدفّق عبر البلاد، والتسرب الاستخباراتي ومواجهة المخاطر المحتملة لنشاط بعض الخلايا المتطرفة، فبعد انهيار الكتائب الأمنية و الشرطة إبان ثورة فبراير 2011، حلت مكانهما تشكيلات مسلحة، تصف نفسها بالكتائب التي تعمل باسم الثورة، إلا أن ولاءها بالكاد كان يتعدى القبائل التي جاءت منها وتدين لها بالولاء، ومصالحها الخاصة، ما تسبَّب في نشوب صراعات محلية دامية للسيطرة على المراكز الحدودية والتجارة عبر الحدود بين القبائل والمكونات المتنافسة في ظل غياب شبه تام لسلطة الدولة.

ثانياً:البعد الإقليمي لأزمة تأمين الحدود الجنوبية لليبيا

   تسبّب عجز الدولة عن السيطرة على حدودها بمشاكل أمنية كبيرة لدول الجوار الجنوبي. فتهريب الأسلحة والبشر الذي يعبر الأراضي الليبية، يتدفق بحرّية إلى حدٍّ كبير من وإلى إفريقيا جنوب الصحراء، وأنحاء مختلفة من المغرب العربي، وذلك بفضل الجماعات الإجرامية وعلاقاتها الوثيقة بشبكات الإجرام المنظَّم، والتي تعمل على ربط المنطقة بعضها ببعض بما يخدم مصالح هذه الجماعات.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن النظام السابق على كل علاته، قد نجح إلى حدٍّ ما في إدارة تدفق المهاجرين إلى أوروبا، وقد استخدم ذلك كورقة مساومة وضغط على أوروبا، فقد كانت ليبيا، ولاتزال، أحد أهم مراكز تدفق المهاجرين إلى أوروبا، الأمر الذي يؤثر بشكل خاص على مالطا وإيطاليا، التي لا تبعد جزيرة لامبيدوزا التابعة لها أكثر من 600 كيلومتر عن شواطئ ليبيا.

   وفي حقيقة الأمر لم يُسجل لأي حكومة ليبية أن سيطرت بشكلٍ كامل على الحدود وعلى أعمال التهريب التي تمر عبرها، إذ ببساطة لم تتوفر الإرادة السياسية ولا الحوافز للقيام بذلك على الإطلاق، سواء بالنسبة للمسؤولين أو المجتمع، فبعض أبناء بعض القبائل والمكونات الحدودية، انخرطت في التجارة غير الرسمية والتهريب بسبب الإغراءات المالية والأرباح التي يحققونها من التجارة غير المشروعة العابرة للحدود.

تشكل منطقة الجنوب الليبي إحدى أكثر المناطق احتضاناً للمجموعات الإفريقية المسلحة، التي شاركت في الاقتتال الداخلي الذي تشهده المنطقة منذ سنوات، من أبرزها مجموعات تشادية، وأخرى من النيجر والسودان.

وصدر تقرير عن خبراء تابعين للأمم المتحدة في يناير 2018  يتحدث عن وجود مجموعات مرتزقة تعمل في تهريب السلاح والوقود والهجرة وتقاتل مع المشير خليفة حفتر.   

وفيما يلي أبرز المجموعات الأفريقية المسلحة في الجنوب الليبي:

1- المجموعات التشادية :

أ- الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة: تعرف باسم “MDJT”، تأسست في جبال تبيستي، تتكون من قومية التبو، انتقل غالبية كوادرها للعمل في جنوب ليبيا كناشطين من التبو، وكانت الحكومة التشادية قد طالبت النظام الليبي السابق بتسليم عناصر الحركة في فترة التسعينيات.

ب- جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد: 

أغلب وجودها في بلدة أم الأرانب والجبال السوداء في الجفرة وسط ليبيا، يقودهم الدكتور المهدي علي محمد، من الكريدة أحد فروع شعب الدازقرا، والجنرال محمد نوري، وهو من كاد أن يستولي على العاصمة التشادية أنجامينا عام 2008، وهو وزير سابق ينتمي لـ “أناكزه”، وهي قبيلة الرئيس السابق حسين حبري.

وفرضت الحكومة الفرنسية عقوبات على المهدي علي محمد والجنرال محمد نوري عام 2017، وسبق لهما التحالف مع القوة الثالثة لتأمين الجنوب في وقت سابق.

ج- المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية التشادية: يعرف باسم” CCMSR “، ولديه نشاط مكثف في الجنوب الليبي، حيث يدرب عناصر تابعة له، يصل عدد عناصر هذه الحركة -حسب قولها- إلى أربعة آلاف فرد، وتشهد انضمام العديد من الضباط وكبار العسكريين التشاديين الذين انشقوا عن نظام الرئيس الراحل إدريس ديبي إتنو، خصوصا من قومية الدازقرا.

وأعادت الحركة تشكيل مجلس قيادتها المكون من 12 كادرا على رأسهم الأمين العام أبكر شريف عيسى، الذي خلف محمد حسن لماي، الذي اعتقلته الحكومة النيجرية مع العديد من معاونيه عند دخوله النيجر، قادما من ليبيا.

د- تجمع القوى من أجل التغيير في تشاد: يعرف بـ “RFC”، وهو من الحركات التي لها وجود بارز في الجنوب الليبي، ويغلب عليها الانتماء القبلي من خارج قومية الدازقرا، وتحديدا القوميات المنتشرة في شرق تشاد مثل الزغاوة. أهم قادة التجمع، تيمان أردمي، الذي شغل في وقت سابق مدير مكتب الرئيس الراحل إدريس ديبي، وتربطه به صلة قرابة.

وشاركت هذه المجموعة كمرتزقة في الهجوم على منطقة قصر بن غشير جنوب طرابلس عام 2017م،  وتلقت هذه الحركة ضربة موجعة إثر الاقتتال الداخلي في مدينة سبها في ديسمبر 2017م، ونتج عن ذلك مقتل عشرة من قادة الحركة.

وهذه الحركة على صلة وثيقة بحركة العدل والمساواة الدارفورية، بحكم العلاقات القبلية.

2-المجموعات السودانية:

– حركة العدل والمساواة: حركة تمرد سودانية تنتمي إلى قومية الزغاوة، انتقلت إلى ليبيا عام 2011، ومنذ ذلك الحين شاركت كمرتزقة في العديد من الحروب الليبية. تتمركز في منطقة الجفرة وسط ليبيا، وهي حليفة للمشير خليفة حفتر.

وكانت مجموعة من خمسة خبراء قدمت تقارير إلى مجلس الأمن الدولي، منتصف يناير 2018، كشفت فيها أن مجموعات مسلحة من دارفور تعمل “مرتزقة” وتقاتل إلى جانب قوات حفتر، حيث يتلقى المقاتل من هذه المجموعات أجراً شهرياً يتراوح بين 250 و500 دولار، إضافة إلى الأسلحة والذخائر. وتمثل السودان  ثقلاً “جيوسياسيا” مهما في المنطقة، وسقوطها في صراع طويل ومدمر سينعكس سلباً على جنوب ليبيا، ويخشى أن تؤدي المواجهات إلى فرار المسلحين إلى الجنوب الليبي “كملاذ آمن لهم”.كما أن استمرار الصراع وتوسع نطاقه، يعني انطلاق موجات من اللاجئين والمهاجرين من أماكنهم، حيث سيمثل الأمر عبئاً مضافاً على الجنوب.

3-مجموعات النيجر:

– القوات الثورية من أجل الصحراء: تعرف باسم “FARS”، تتكون من قومية التبو، وقعت اتفاقيات مع حكومة النيجر، ثم انتقلت عام 2011 إلى جنوب ليبيا، أبرز زعمائها بركة وردكو المهدي، الذي استعان به النظام السابق في بداية ثورة فبراير 2011. أسس بركة نواة كتيبة درع الصحراء، ومن أبرز قادتها محمد وردكو ومحمد ضدو الذي مثل التبو في اتفاقية الصلح بين الطوارق والتبو في العاصمة القطرية الدوحة.

   ومن هنا يتضح بجلاء حجم وخطورة الجماعات المسلحة الافريقية التي تتخذ من الجنوب الليبي ملاذاً آمناً وقاعدة ارتكاز تهدد ليبيا ومصالح واستقرار دول الجوار، بسبب حالة عدم السيطرة على الحدود الليبية الجنوبية. وهذا ما يجعل الخيار العسكري حاضرًا وبقوة، إذا ما أرادت ليبيا استعادة السيطرة على حدودها، ومن ثم ضبطها ومراقبتها، خاصة وأن دول الجوار في معظمها تعاني سيولة أمنية وحالة من عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي يجعل الاتفاقيات الأمنية المشتركة بين ليبيا وهذه الدول تواجه تحديات حقيقة يصعب معها دخولها حيز التنفيذ.

و يُعد من أهم مرتكزات أي استراتيجية أمن تتعلق بأمن الحدود الجنوبية، تفكيك شبكة المصالح الاقتصادية والمحلية الموجودة لدى بعض قبائل ومكونات الحدود الجنوبية الليبية. وهذا يتطلب التصدّي للقضايا المجتمعية المعقدة، التي من بينها قضية المواطنة والهوية، إلى جانب تطوير بدائل قانونية لاقتصاد السوق السوداء. وإعادة هيكلة حرس الحدود وتدريب عناصره، تقريباً من الصفر.

 وضرورة إجراء إصلاح حقيقي لمنظومة القوانين، إلا أن ذلك سيكون عملية طويلة، ما يعني أن المناطق الحدودية المضطربة في ليبيا ستبقى تمثل تحدياً بالنسبة لليبيا ومن ثم أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء، نظراً إلى عدم وجود حواجز مادية على الحدود الليبية ولأن الإمكانيات التي سخَّرها النظام السابق للبنية التحتية والمراقبة كانت قليلة جداً، فلم يكن في مقدور الأجهزة الأمنية الليبية المختلفة سوى رصد، وليس منع، حركة الهجرة والتجارة عبر الحدود، لكن قدرتها على القيام حتى بهذه الوظيفة تأثرت بالقضايا القديمة المتراكمة داخل قوات الأمن والتي لاتزال تعيق عملها حتى الآن.

والجذير بالذكر أنه  يوجد اتفاقيات أمنية رسمية تم التوقيع عليها بين ليبيا ودول الجوار الجنوبي، تحت مظلة تجمع دول الساحل والصحراء، وتوجد تعاونات أمنية غير رسمية بين هذه الدول في مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب على سبيل المثال، توجد تعاونات استخباراتية وأمنية بين ليبيا وتشاد والنيجر في إطار الجهود المشتركة لمكافحة حركات الجماعات المسلحة والإرهابية في المنطقة، وقد قامت هذه الدول بتنفيذ عمليات أمنية مشتركة لتعقب العناصر الإرهابية وتدمير مقراتهم ومراكز تدريبهم في المناطق الحدودية بين هذه الدول.

ثالثاً:البعد الدولي لأزمة تأمين الحدود الجنوبية لليبيا

 في ظل الضغوط التي مارستها الدول الأوروبية، وخاصة إيطاليا، تمكّن النظام السابق من تعزيز أمن الحدود البحرية الليبية لمنع تهريب الأشخاص والبضائع إلى أوروبا، وقد حازت هذه الجهود زخماً سياسياً بعد إعلان القذافي في العام 2004 عن تخليه على برنامج أسلحة الدمار الشامل، كما شهد العام 2007 توقيع اتفاق ثنائي بارز مع إيطاليا أُنشئت بموجبه دوريات بحرية مشتركة، ما مكَّن القوات البحرية الليبية والإيطالية من تنسيق جهودهما. كما وافقت الشركات الإيطالية على تقديم معدات مراقبة الحدود. وبفضل الدعم الذي قدمه القذافي حدث تراجعٌ حاد في الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات من الشواطئ الليبية إلى أوروبا وذلك بين عامي 2008 -2010.

 بالإضافة إلى ذلك، قامت ليبيا بتشديد فرض قوانينها الخاصة بالتدفقات عبر الحدود، إلا أنها لم تقم بإدخال تحديث جوهري عليها، حيث إن بعضها لم يشهد أي تغيير منذ خمسينيات القرن الماضي. ففي العام 2004، قامت ليبيا بزيادة الغرامات المفروضة على المهرِّبين والأشخاص الذين يتم تهريبهم، وعلى جميع الذين ينتهكون قوانين الهجرة، وفي العام 2007 شُدِّدَت القوانين الخاصة بعمل الأجانب، وقامت أيضاً في 2010  بمضاعفة الغرامات المفروضة على أولئك الذين يدخلون أو يقيمون داخل الأراضي الليبية دون الحصول على الموافقة الأمنية أو التأشيرة؛ ولأن ليبيا لم توقع على اتفاقية  الخاصة بوضع اللاجئين، فقد كان يتحتم على المهاجرين غير الشرعيين، سواء تم الإتجار بهم عمداً أم لا، إما دفع غرامة 1000 دينار ليبي (أي مايعادل قرابة 200 دولار في الوقت الحالي) أو دخول السجن لفترة غير محددة

 واللافت هنا أن النظام السابق لم يكافح المهرِّبين عبر إغلاق حدود ليبيا، بل قام بذلك عبر ممارسة الضغوط بشكل أساسي على الطرق البحرية المؤدية من ليبيا إلى أوروبا. وبهذا ضمنت أوروبا تعاون حكومةٍ كانت على ارتباط وثيق جداً بالإتجار غير المشروع، لدرجة أنها تمكنت من التأثير عليه وضبطه، مجفِّفةً بذلك منابع تدفق المهاجرين إلى أوروبا وفقاً لمشيئة القذافي. وفي ظل توقف القرار السياسي إلى هذه الدرجة على أهواء ونزوات القذافي، وعلى استخدامه لمختلف فروع وإدارات الأجهزة الأمنية سعياً لتحقيق الأهداف السياسية المختلفة، سادت الفوضى والإحباط في صفوف القوات المسلحة، حيث لم يكن أحد يعلم تماماً ماهي السياسة “الرسمية” للدولة.

 و ظهر تحدٍ جديد، يتعلق بأمن وسلامة الحدود الجنوبية للبلاد مع إعلان فرنسا والدول الأوروبية سحب قواتها، التي كانت في مالي في منتصف آغسطس 2022، وهو ما يفرض التزامات إضافية على المؤسسات الأمنية الليبية ويعزز فرص تحول الحدود الجنوبية إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية، لأن تقليص الوجود الفرنسي والأوروبي في مالي يزيد من حرية الحركة أمام هذه التنظيمات في منطقة تعاني من الانفلات الأمني منذ عام 2011.

ترتبط ليبيا بحدود جغرافية مع دول تقع تحت نفوذ فرنسا التاريخي في إفريقيا مثل تشاد والنيجر، وما تمثّله الدولتان ضمن مشروع فرنسا الذي يتعلق في جزء منه بالنفوذ والهيمنة  ومكافحة الإرهاب، واستثمارات في الطاقة، والذي تشترك فيه خمس دول تسمىG5″ ” الرابط هنا ليس جغرافيا المكان بقدر ما هو علاقة طردية بين استقرار ليبيا وتغذية الاضطرابات في تشاد والنيجر، والإمدادات العسكرية في مالي، كما أنه لدى فرنسا مصالح وطموحات اقتصادية في ليبيا مبنية وفق اتجاهين، الأول مرتبط باستمرار تدفقات الغاز والنفط عبر شركة توتال ثاني أكبر الشركات العاملة في ليبيا بعد شركة إينى الإيطالية، حيث بلغت ورادت  فرنسا من ليبيا في 2019 ما قيمته 1.6 مليار دولار، منها حوالي 95% منتجات نفطية.

فيما تمتلك شركة توتال الفرنسية حقوق تنقيب في حقول بجنوب ليبيا، مثل حقل الجرف بنسبة 75%، وحقل الشرارة 30%، وحقل قاع مرزق 24%، و16% من حقل الواحة فضلًا عن امتلاك حصة من شركة الواحة بحوالي 16.33%. والاتجاه الثاني مرتبط بإعادة إعمار ليبيا، والتي تبلغ حوالي 200 مليار بحسب تقديرات البنك الدولي في 2016  وترغب فرنسا في الحصول على نسبة في إعادة إعمار ليبيا تزيد من نفوذها في الدولة التي تمثّل لها بوابةً لحماية قواعدها العسكرية في غرب إفريقيا، وبالتالي تظل ليبيا وأمنها وخاصة حدودها الجنوبية مطلبًا استراتيجيًا لفرنسا بصرف النظر عمّن يتولى الحكم في طرابلس.

 أما بالنسبة لإيطاليا فهي ترى أن ليبيا إرث استعماري وتاريخي ترى فيه عودتها مرة أخرى كدولة استعمارية، وكلاعب دولي يمكنه المشاركة في إفريقيا عبر البوابة الليبية؛ وهو ما يتضح في الكتابات الإيطالية التي أكدت على الأولويات في إفريقيا والدول الأساسية، والتي في مقدمتها ليبيا، وإثيوبيا، والسودان. ومن واقع التدخّل الإيطالي في ليبيا وتحركاتها في الفترة الماضية يمكن عرض أهم المصالح الايطالية كما يأتي:

-النفط والغاز: من عام 2010 وحتى 2018 حيث تراوحت صادرت ليبيا لإيطاليا من الغاز ما بين 9.4 مليار متر مكعب و4.4 مليار متر مكعب، وفي عام 2019 حصلت إيطاليا على 8% من احتياجاتها النفطية من ليبيا؛ حيث بلغت  الكميات الواردة حوالي 5.7 مليار متر مكعب، لتأتي ليبيا بتلك الكميات في الترتيب الخامس بالنسبة لأعلى الدول تصديرًا للغاز لإيطاليا، وبالإضافة لما سبق تُعدّ شركة إينى الإيطالية الأولى في امتلاك عقود النفط والغاز في ليبيا بما يتعدى 40 %، وقد وقعت اتفاق مع المؤسسة الوطنية للنفط في نهاية يناير 2023 بقيمة 8 مليار دولار لتطوير حقول الغاز، فيما تتنافس مع شركة توتال الفرنسية التي تأتي في المرتبة الثانية خلفها، على امتياز منطقة “نالوت” وصراع المصالح في ليبيا بين إينى وتوتال كلمة السر في الخلافات الفرنسية الإيطالية.

-إحياء المشروعات القديمة: مع وجود تنافس دولي  قادم على العوائد من إعادة الإعمار في ليبيا، إلا أن إيطاليا لها طموح مستقل من وراء ذلك يتمثل في إعادة تفعيل معاهدة الصداقة الليبية الإيطالية الموقّعة عام 2008، والتي من بين نصوصها استثمارٌ في البنية التحتية الليبية بقيمة 5 مليار يورو تعويضًا عن فترة الاستعمار الإيطالي؛ تطمح إيطاليا من ورائها لعدة مكاسب في مقدمتها “طريق السلام” وهو مشروع من المفترض أن يربط بين مصر وتونس عبر ليبيا، مسافةً تصل لحوالي 1700 كم . ومن شأن الطريق ربط مصالح إيطاليا كدولة صناعية بدول شمال إفريقيا، ومن ثم الدخول إلي بقية القارة وفقًا لترتيب أولوياتها، فضلًا عن خلق دور أكبر لها في المتوسط.

-موطئ قدم إفريقية: ثمّة مقاربة إيطالية محورها الأساسي البحر المتوسط تتخذ من ليبيا نقطة انطلاق نحو إفريقيا وخليج عدن؛ حيث تبدأ باستقرار وجودها في ليبيا الدولة المتوسطية الغنية بالنفط، ولديها حدود جغرافية مع تشاد والنيجر والسودان، وتنطلق من الأخيرة نحو إثيوبيا ومن ثمّ الصومال المطلّة على خليج عدن.

يعزز هذا التوجّه تحركات دبلوماسية إيطالية بفتح سفارات جديدة في كلٍ من” النيجر” و”بوركينافاسو. وما يبرز الاهتمام البالغ لإيطاليا بجنوب ليبيا إنها رعت اتفاقاً بين قبيلتين ليبيتين بالعاصمة روما في سبيل ضبط الحدود الجنوبية لليبيا.

وجاء في بيان صدر عن الداخلية الإيطالية أن “الاتفاق تم بين قبيلتي أولاد سليمان والتبو في جنوب ليبيا بعد مفاوضات استمرت 72 ساعة في روما يتضمن 12 بنداً وينص على مراقبة 5000 كيلو متراً من الحدود في جنوب ليبيا. ” وأضاف البيان أن الاتفاق جرى “بحضور نحو 60 من شيوخ قبائل التبو وأولاد سليمان بمشاركة ممثلين عن الطوارق وعن حكومة الوفاق الوطني .

وقال وزير الداخلية الايطالي السابق ماركو مينيتي في تصريحات نقلها التلفزيون الحكومي أنه بموجب الاتفاق “سيتم تشكيل قوة من حرس الحدود الليبيين للسيطرة على 5000 كيلومتراً من الحدود الجنوبية ومكافحة مهربي المهاجرين”. وتابع الوزير القول “إن توفير الأمن في الحدود الجنوبية الليبية يعني ضمان أمن الحدود الجنوبية لأوروبا”.

وقد تم توقيع اتفاق صلح وسلام نهائي بين القبيلتين بعد مفاوضات رعتها منظمة أربتشي الإيطالية (غير الحكومية).

ووقع الاتفاق كل من شيخ قبيلة “التبو”، مينا صالح قلمة، ورئيس مجلس شورى “أولاد سليمان”، السنوسي مسعود عمر، بحضور نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، عبدالسلام كجمان ووفد من قبيلة طوارق ليبيا كشهود.

والاتفاق الموقع بين قبيلتي “التبو” و”أولاد سليمان” ليس الأول من نوعه بين أطياف ليبية في الجنوب ترعاه منظمة إيطالية؛ حيث وقع ممثلون لـ”كافة المجموعات السياسية والإثنية” في جنوب ليبيا في 18 يونيو 2016 في روما اتفاقاً إنسانياً، رعته جمعية “سانت ايجيديو” الخيرية الكاثوليكية التي تولت المفاوضات التي سبقت الاتفاق.

 أهم التوصيات لتأمين الحدود الجنوبية لليبيا:

لاعتبارات تتعلق بخصوصية الطوبوغرافيا وتضاريس المنطقة  يجب أن تكون الإستراتيجية الأمنية شاملة لتشمل المزيد من الجهود والأدوات :

أولاً: تحديد مدى اتساع الحدود الجنوبية لليبيا وتحديد العوائق الطبيعية وأماكن الممرات السهلة.

ثانياً: استخدام التكنولوجيا الحديثة، مثل نظم المراقبة بالأقمار الصناعية والكاميرات الموجودة على الحدود لرصد الحركة على الحدود دخولاً وخروجاً.

ثالثاً: توفير المعدات العسكرية اللازمة لتأمين الحدود، مثل الآليات العسكرية والأسلحة المتطورة لضرب المسلحين المهربين.

رابعاً: تشكيل وتدريب قوات أمن خاصة، تعمل على تأمين الحدود والتعامل مع طبيعة المنطقة الصحراوية القاسية على مدار العام، وتقديم الحوافز والمزايا لهم.

خامساً: تعزيز التعاون مع دول الجوار والمنظمات الدولية لتحديد ومراقبة المسارات التي يستخدمها المهربون لرصدها  وتشديد حراستها وحمايتها.

سادساً: تنشيط اقتصاد الصحراء لمنع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها سكان المناطق الحدودية ما دفعهم للانخراط في أعمال المهربين، أو هجرتهم لمدن الساحل بحثاً عن ظروف معيشية أحسن.

سابعاً: تفعيل الاتفاقيات الأمنية مع دول الجوار الجنوبي، بتشكيل غرف ولجان تنسيق ومتابعة، لتبادل المعلومات، وفرض السيطرة الأمنية على الحدود الجنوبية.

المراجع:

أسامة الأشقر، الجنوب الليبي هل يكون-مدخلاً للإستقرار أم لمزيد من الأزمات،  أنظر في الرابط:

https://urlz.fr/ow03

عبد الباسط غبارة، أزمة الجنوب الليبي تعيد الزخم لتوحيد المؤسسة العسكرية، أنظر في الرابط:

https://urlz.fr/ow07

aljazeera.net/encyclopedia/2018/3/17من هم مرتزقة حفتر الأفارقة بجنوب ليبيا.

مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، أنظر في :

Carnekgie-mec/2012/10/18/ar-pub-49726

مصادر ميدانية خاصة.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى