التواجد العسكري الأجنبي في حوض المتوسط
د. آسية بلخير
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة 8 ماي1945 قالمة، الجزائر.
الملخص:
تعتبر قضايا حوض البحر الأبيض المتوسط الجيوستراتيجية والجيوسياسية متفرعة ومعقدة في آن واحد، حيث أن الموقع الجغرافي لهذه المنطقة يمنحها أهمية بالغة فهي موقع مفترق طرق فاصل بين ثلاث قارات (أوروبا، آسيا، أفريقيا) ومناطق حضارية متباينة (العالم المسيحي الكاثوليكي والأرثوذكسي، والعالم العربي والإسلامي).
كان الفضاء المتوسطي ولا زال محل تجاذب وتنافس بين قوى/محاور مختلفة تسعى كلا منها لجعل المتوسط ورقة رابحة في رهاناتها الأمنية والاقتصادية. وإذا كان المطلب الأطلسي– الأوروبي قد يصنف ضمن محاور النفوذ التقليدية في المتوسط فإن هناك محاور تشكلت حديثا أو هي قيد التشكل لتجد لها قدما في الفضاء المتوسطي.
الكلمات المفتاحية: التوسع الناعم، القواعد العسكرية، الهيمنة والتنافس.
إشكالية البحث والتساؤلات الفرعية:
تسعى دراستنا إلى البحث في تداعيات التواجد العسكري الأجنبي (عبر القواعد العسكرية للقوى الكبرى) على المنطقة المتوسطية من خلال توضيح خلفياتها وإستراتيجيات التوسع والهيمنة على المنطقة وآثارها على الدولة المضيفة من جهة وعليها ضمن معادلة الربح والخسارة، فالسؤال الجوهري الذي يطرح في هذا السياق، ويمكن أن يشكل إشكالية لهذا البحث هو: ماهي تداعيات القواعد العسكرية الأجنبية في حوض المتوسط، وهل تشكل نمط جديد من الاحتلال؟ .
هذا التساؤل الرئيس يقودنا إلى حتمية اختبار الفرضيات التالية:
كلما تزايد عدد القواعد العسكرية في المنطقة كلما شكل ذلك تهديدا على أمنها واستقرارها.
رغم الطابع السلمي/التعاوني للتواجد العسكري في المتوسط إلا أنه يحمل شكلا من أشكال الهيمنة والسيطرة.
هذا الإشكال المركزي للدراسة يمكن أن تتفرع عدة تساؤلات من بينها:
2-ما هو مفهوم القواعد العسكرية؟ وماهي أسباب تنامي الظاهرة خاصة في حوض المتوسط؟
3-ما هي خلفيات وتداعيات التواجد العسكري الأجنبي في المنطقة؟
4-ماهي خارطة القواعد العسكرية الأجنبية في المنطقة؟ ولما ذلك التمركز؟
أهمية البحث وأهدافه:
تنبع أهمية البحث من أهمية المنطقة من جهة وحداثة واتساع ظاهرة التواجد العسكري الأجنبي من جهة أخرى، والحديث عن حداثة الموضوع لا تعني أنه جديد شكلا ومضمونا فالظاهرة قديمة من حيث مضمونها حديثة من حيث أشكالها وإستراتيجياتها، وعموما يمكن تحديد أهمية الموضوع وأهدافه في:
1-يشكل المتوسط أحد المجالات الجيوبوليتيكية الأكثر حساسية في العلاقات الدولية، ليس فقط لتوسطها ثلاث قارات، ولكن بالأساس لكونها معبرا يصل المحيط الهندي بالأطلسي. كما يشمل أيضا خطا بحريا للنفط القادم من الخليج لأوروبا وأمريكا الشمالية، فهو الشريان الحيوي للتجارة الدولية.
2-التنامي المفرط لظاهرة التواجد العسكري الأجنبي في المنطقة تحت شعار دعم السلام والتنمية في المنطقة، مع تحفظ حول أهدافها الخفية، يجعل منها محل اهتمام وهو ما نحاول رصدة بالتحليل.
3-انتشار الظاهرة قوى ثنائية التنافس/الصراع في المنطقة وجدلية التأثير والتأثر في قضايا وسياقات ومسارات وتوجهات دول المنطقة.
4-تحاول الدراسة الوقوف على خلفيات التواجد العسكري في المنطقة لأبرز القوى مع توضيح إستراتيجياتها الهيمنية والتوسعية في المنطقة، وتداعيات ذلك عليها وعلى دول المنطقة.
المراجعة النقدية لما نُشر سابقا عن الموضوع:
تتيح دراسة الأدبيات التأكد من مصداقية المصادر الأولية وموثوقيتها، ومعظم المواد المستخدمة في هذه الورقة مكتوبة من قبل باحثين معروفين في المجال ك: مورغان باغليا، باتريك جيمس، وتغطي المصادر الثانوية المقالات والتقارير من المؤسسات والمنظمات ذات الصلة.
إن عدم وجود إحصاءات موثوقة حول تعداد القواعد العسكرية في المنطقة وحقيقة إستراتيجيتها وخلفياتها هو مشكلة رئيسية يواجهها الباحثون في هذا الموضوع، كما يمكن أيضا التشكيك في موثوقية بعض الإحصائيات، أضف إلى ذلك شساعة المساحة ووجود الكثير من المناطق في المتوسط التي تختلف من حيث القوة، ومع ذلك فإن الهدف ليس النظر إلى الإحصاءات بل هو النظر في آثار القواعد العسكرية على أمن المنطقة المتوسطية من خلال استغلال التعميمات التحليلية وتفسير ديناميكية البنية المعقدة لهذه الظاهرة بفواعلها المختلفة.
وصف منهجية البحث:
تتكامل الطريقة الاستقرائية مع منهج دراسة الحالة من أجل تحليل المعلومات التي تم جمعها بالاستعانة بالمنهج الإحصائي، والغرض من هذه المنهجية المركبة، هو إجراء تحليل معمق للموضوع. يساعد على الوصول إلى استنتاجات عامة، فالإستراتيجية المنهجية ببساطة تعني أن الباحث ينتقل من حقائق معينة إلى استنتاجات عامة.
لذا يسعى البحث إلى محاولة تلمس مكامن التلاقي والتقاطع بين الافتراضات النظرية والأطر المفهومية للتوسع الناعم عن طريق القواعد العسكرية وخلفيات ذلك وآثارها على المنطقة، وهذا ما سيتم التعاطي معه من خلال ثلاثة مطالب أساسية، يتعلق المطلب الأول بضبط مفهومي لمتغيرات الدراسة الأساسية مع تحديد العلاقة فيما بينهما، والمطلب الثاني يتعلق بتحديد حجم الظاهرة وتمركزها على إقليم المتوسط، كما يشمل نظرة أصحاب تلك القواعد (القوى الكبرى بالتحديد) لخصوصية ودينامياتها الأمنية الجديدة المنطقة وأهدافها من التواجد فيها، والمطلب الثالث عبارة عن دراسة نقدية للظاهرة في المنطقة بتحديد أثارها وتداعياتها وإستراتيجيات القوى الكبرى في ضمان البقاء والاستمرار فيها.
المطلب الأول: القواعد العسكرية /الأمن: المفهوم والعلاقة
أولاً: التوسع الناعم/القواعد العسكرية: المفهوم والظاهرة
تنطلق فكرة التوسع الناعم أو الاستعانة بالقواعد العسكرية من فكرة استعانة الدول الأقل قوة بالقوى الأكبر لحمايتها من عدو طامح فيها، وهي بذلك المفهوم يمكن تصنيفها على أنها حالة من التعاون والتحالف وليس الاحتلال والسيطرة.
ولكن هذا لا يمنع من أن إستراتيجية القواعد العسكرية أصبحت تمثل للقوى الكبرى أو الصاعدة إستراتيجيات للهيمنة، تحاول بها بسط نفوذها في العالم عندما تكون هناك قوة تطمح في دور عالمي، أو في الدوائر الإقليمية المحيطة بها حين تكون الدولة تريد تأسيس دور إقليمي.
ويقول الباحث مورغان باغليا إن القوى الكبرى تعتمد على القواعد العسكرية لتحقيق عدة أهداف رئيسية: التدخل في مناطق النفوذ للدفاع عن مصالحها؛ وضمان أمن أحد حلفائها؛ ومراقبة أراضي الخصوم، ونشر أفكارها ومناهجها وما تبشر به كالحرية والديمقراطية وغيرها.
وفي منتصف القرن العشرين ومع تراجع فكرة الاستعمارية، ظهرت بدائل أخرى كتصعيد رجال موالين للمستعمر من نفس أبناء هذه الدول المحتلة، ويساندهم في الوقت نفسه قواعد عسكرية لضمان مصالح القوى الكبرى الاستعمارية.
ففي حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، شرعت كل من القوتين إلى إقامة قواعد عسكرية في أنحاء العالم، للحد من طموحات القوة الأخرى أو مراقبة تحركاتها العسكرية أو نشر منظومات من الأسلحة النووية في إطار التنافس الإستراتيجي بينهما. [1]
ومع نهاية الحرب الباردة، شهد العالم استخدام تلك الإستراتيجية بكثافة خاصة في العقدين الأخيرين، تتصدرها الولايات المتحدة التي سعت في سبيل بناء إمبراطوريتها العالمية إلى التوسع في بناء القواعد العسكرية، ففي عام 1992 وضع ديك تشيني ( وزيرا للدفاع في عهد بوش الأب)، عقيدة جديدة تدعو إلى تأمين هيمنة الولايات المتحدة على العالم خلال القرن الواحد والعشرين، تبلورت في إستراتيجية “مشروع القرن الأمريكي الجديد” عام 2000 الذي شمل مشروع (إعادة بناء الدفاع الأميركي)، حول الإستراتيجيات والقوى وموارد القرن الجديد، ودعا إلى رفع الإنفاق العسكري، وإقامة القواعد العسكرية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
وتمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من رصد شبكة واسعة من القواعد العسكرية في القارات الخمس، تمتد من كولومبيا في أميركا الجنوبية، عبر دول شمال وغرب أفريقيا، وحتى الشرق الأوسط وانتهاءً بالفليبين وإندونيسيا، وهذه المنطقة هي ما تعرف عادة بالعالم الثالث، وهذه الدول تملك مفتاح احتياط النفط في العالم، ولهذا فقد استهدفت إستراتيجيا لإيجاد مواطئ أقدام أميركية فيها.
ثانياً: الأمن/المفهوم وتطور المضامين
عرف حقل الدراسات الأمنية نقاشات عديدة تدور أساسا حول طبيعة مفهوم الأمن، معانيه ومدلولاته، وتدور النقاشات بين أولئك الداعين إلى ضرورة الحفاظ على المفهوم التقليدي للأمن من جهة وأولئك الداعين إلى ضرورة توسيع مفهوم الأمن إلى الأمن العالمي،[2] الذي يعبر مفهوم الأمن العالمي عن التصدي لكل التهديدات التي من شأنها كبح حرية الإنسان، أي النظر إلى الحرب، الفقر، الاضطهاد السياسي، ندرة الموارد الطبيعية وانعدام مرافق الصحة كتهديد ضد أمن الفرد أو البشر على المستوى العالمي.[3]
وبهذا توسع مفهوم الأمن ليشمل قطاعات وأبعاد عديدة ومختلفة أهمها: البعد المجتمعي، البعد البيئي والبعد الاقتصادي.
1– البعــد المجتمعــي:
يعتبر البعد المجتمعي الموضوع المركزي للدراسات الأمنية المعاصرة، إذ أن التطور السريع لوسائل الإتصال والنقل، التزايد الهائل في المبادلات الدولية، الحركية المتنامية للأفراد، نشاطات منظمة الجريمة عبر الوطنية ؛ كتجارة المخدرات، تبييض الأموال، تجارة المعدات النووية، والإرهاب البيولوجي، الهجرات الدولية الشرعية وغير الشرعية وما تمثله كمصدر قلق للدول والمجتمعات و الأفراد بسبب مسائل الهوية المطروحة بحدة في المجتمعات الغربية، كما يعتبر الإرهاب أحد المظاهر الأكثر خطورة على الأمن من منطلق ارتباطه بالحركات البشرية عبر المتوسط.[4]
2– البعــد البيئــي:
يبحث في تأثير تدهور النظام الإيكولوجي على العلاقات الأمنية، فتنامي ظاهرة الندرة يؤدي إلى خلق وضعيات صراعية بين الدول خاصة منها ندرة المياه، كما أن الكثير من المشاكل البيئية كالتلوث المائي أو الجوي وانقراض بعض الأنواع الحيوانية البرية منها والمائية، تدهور النسيج الغابي، تصنف كلها ضمن القضايا التي عادة ما تؤدي إلى إرفاع نسبة الوفيات، المجاعة و تدهور الوضع الصحي العام، وبتفاعل هذه المشاكل المعقدة مع النمو الديموغرافي السريع في العالم الثالث و إفرازاته المختلفة في تغذية حقل البطالة، اللاجئين والهجرة، تزداد خطورة هذه المؤشرات التي تهدد بقاء الفرد و حياته و رفاهيته مما يبرز جليا علاقة المنظومة الإيكولوجية / البيئة بمفهوم الأمن البشري Human security[5]
3– البعــد الاقتصــادي:
يرتبط البعد الاقتصادي للأمن في إطار التصورات النقدية بالبنية الاقتصادية السائدة فكلما زادت حدة الاعتماد المتبادل بين الدول في مسار إنتاجي متقدم، كلما أصبحت هذه المسارات معرضة للتقلبات والاضطرابات، فما يهدد الأمن الاقتصادي هي مجموعة من التهديدات الناتجة عن البيئة الاقتصادية التي أفرزت الهوة بين الفقراء والأغنياء، ندرة الموارد الاقتصادية، الغذائية أو المالية بمثابة الشروط الأساسية لحياة الفرد، وبالتالي تحقيق الأمن الاقتصادي يتطلب ضمان الرخاء و الرفاهية للفرد.
المطلب الثاني: منطقة المتوسط: الخصوصية والديناميكيات الأمنية
أولا: خصوصية المنطقة
يتميز المتوسط أو كما أسماه “H. Makinder“ ” قلب الأرض ” بموقعه الجغرافي الهام وبخصوصياته الحضارية والبشرية المختلفة، إذ يعتبر ملتقى ثلاث قارات، مما يجعل منه مركز اهتمام القوى الكبرى خاصة تلك الواقعة على ضفته الشمالية، سعت هذه القوى إلى توسيع مجالات نفوذها وتأمين حدودها الجنوبية. وهذا ما يجعل من العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية مكونات أساسية عملت على هيكلة العلاقات بين الوحدات السياسية المختلفة في الإقليم المتوسطي. [6]
وكان للتحولات البنيوية العميقة المادية واللامادية التي مست الترتيب العالمي بصفة عامة والترتيب الجهوي المتوسطي خصوصا منذ بداية التسعينات، التأثير المباشر وغير المباشر على بنية العلاقات ” الأورو-متوسطية”، فانهيار الإتحاد السوفياتي، تسارع الأحداث في أوروبا الشرقية، توحيد ألمانيا، تطور عملية الاندماج الأوروبي، مسار السلام في الشرق الأوسط، أحداث 11 سبتمبر 2001 والاحتلال الأمريكي للعراق في مارس 2003 من جهة، وما عرفته ولا زالت تعرفه الضفة الجنوبية من المتوسط وخاصة الجهة الغربية له، من تغيرات بنيوية معقدة، اتخذت في بعض الدول أشكالا عنيفة –بما فيها الجزائر- كانت لها انعكاسات مباشرة على الأمن الإقليمي المتوسطي الذي لم يعد يخضع لمنطق توازن القوى التقليدي، بل يخضع لتوازنات جديدة بفعل تشكل التهديدات من أنماط مختلفة في الجهة المتوسطية، فالرهان الأمني الحقيقي والحالي يكمن في اللاتوازن الثقافي، الديموغرافي، الاجتماعي و الاقتصادي، البيئي وعدم انسجام الأنظمة السياسية، هذا الرهان يعتبر أكثر تعقيدا وشمولية من اللاتوازن العسكري.
هذه الرهانات تشكل في مجملها ديناميكيات جديدة تدفع من أجل هيكلة ترتيب أمني متوسطي جديد وهذا ما عكسته الحوارات الأمنية و” السياسة المتوسطية المجددة” (PMR) منذ ديسمبر 1990 لتدخل حيز التنفيذ سنة 1992، مرتكزة على تعميق أشكال جديدة من مجالات التعاون متعدد الميادين: الميدان الاقتصادي “MED-Invest“، الميدان الاجتماعي “MED-Urbs“، ميدان الهجرة “MED-Migration“، الميدان الإعلامي “MED-Media“، الميدان العلمي “MED-Compus” و”MED-Techno“.
وعموما تتميز المنطقة بسمات جعلتها منطقة تجاذب وصراع مستمر، ويمكن جمع هذه السمات تحت إطار الموقع الجغرافي لأن النظرة الأولى لخريطة العالم تبين بوضوح مدى خصوصية موقع هذه المنطقة، فهي :
-منطقة وسط والتقاء لأهم قارات العالم، حيث نجد قارة أوروبا شمالا وقارة إفريقيا جنوبا وقارة آسيا شرقا، الكل يشارك بقسط وافر على ضفاف هذا البحر الذي تقدر مساحته ب 2,5 مليون كلم مربع فقط.
-البحر الأبيض المتوسط هو عبارة عن بحيرة له منفذ واحد في الجهة الغربية يربطه بالمحيط الأطلسي، وهذا المنفذ عرضه حوالي 15 كلم لا غير، أما في الجهة الشرقية فقد تم ربطه بالبحر الأحمر عن طريق قناة السويس التي تم فتحها سنة 1869م.
– التقارب والتواصل الجغرافي جعل من المنطقة منطقة إشعاع حضاري كبير فسهولة الاتصال ومساحتها الصغيرة جعل من سكان هذه المنطقة تعيش في تواصل واحتكاك مستمر مما أنتج لنا أعظم حضارات البشرية والتي كانت تأتينا دائما من على ضفاف هذا البحر.
-المناخ المعتدل التي يطبع هده المنطقة حيث يمكن التمييز بوضوح بين فصولها الأربعة بالإضافة إلى كثرة وتنوع المناظر الطبيعية الخلابة، جعلها تستقطب الحركة السياحية العالمية.[7]
-المكانة الاقتصادية التي تزخر بها، فهي من جهة سوقا مفتوحا ومربحا جدا وهذا بالنظر إلى الكثافة السكانية التي تقيم في هذه المنطق والتي تقدر بحوالي 450 مليون نسمة حوالي ثلثي هذا العدد تقطن الضفة الجنوبية للبحر.
– الثروات الطبيعية الهائلة التي نجدها في كثير من دول المنطقة، فالصناعة العالمية تعتمد كثيرا على ثرواتها ولا تستطيع الاستغناء عنها، خاصة البترول والغاز اللذان يعتبرا عصب الحياة، فنجد من احتياجات العالم مصدرها هذه المنطقة، إلى جانب منطقة الشرق الأوسط بحكم التشابك والتداخل الذي يطبع سكان المنطقة.
-المعبر أو المنفذ الرئيسي للتجارة العالمية، فالكل يحبذ المرور من هذه المنطقة وهذا راجع طبعا لحسابات الربح والخسارة، فالطريق قصيرا ولا يكلف الكثير من المصاريف وهو في نفس الوقت محروس وآمن.
-الموقع الجيوستراتيجي للمنطقة، فهي منطقة تتوسط العالم وتزخر بموارد كثيرة مما جعلها تستقطب اهتمام كل القوى المتصارعة على الساحة الدولية، ما جعل منطقة تنافس وصراع مستمر بين القوى الكبرى للحفاظ على مصالحها والسيطرة عليها. [8]
ثانيا: الإقليم المتوسطي بعيون القوى الكبرى
1-النظرة الأوروبية:
النظرة الأوروبية مستمدة من نظرة راسخة في ذاكرتها، إذ تعتبر نفسها جزءا لا يتجزأ من المنطقة ككل بل تارة نجدها تسيطر عليها نظرة أعمق وأخطر فتعتبرها ملك لها وتسميه كما كان سائدا أثناء الحضارة الإغريقية / الرومانية قديما (بحرناnotre mer )[9].
تعي أوروبا جيدا أن أمنها واستقرارها من أمن المنطقة ككل، لذا تحاول دائما السيطرة في تسيير أحداث المنطقة، بتسخيرها لقوتها ونفوذها للاستحواذ على المنطقة، هذا يقودنا إلى التساؤل على السياسات اتجاه المنطقة، فعرفت مرحلة ما بعد الحرب الباردة كثافة و سرعة التغيرات على المستوى الإقليمي والدولي جعلت الدول الأوروبية تغير في نظرتها ومفهومها للمسألة الأمنية في منطقة البحر المتوسط وكذلك في طريقة تعاملها مع دول الضفة الجنوبية، نتيجة تغير مفهوم القوة الذي لم يعد مبني على القدرات العسكرية فقط بل يتعداه ليشمل وبصورة تصاعدية عوامل اقتصادية، عوامل بيئية، عوامل ثقافية…[10]. فسارعت إلى تبني إستراتيجية جديدة تراعى فيها أحداث في المنطقة نظرا لتشابك وترابط الأحداث ببعضها البعض في عصر العولمة والثورة الإعلامية الجارية، تتسم الإستراتيجية بالمرونة ما يمكنها أن تتفاعل وتتكيف مع المتغيرات والمستجدات المتسارعة من جهة وتحافظ على مكتسباتها في المنطقة[11]. (وهو ما سنتوسع فيه لاحقا) .
2- النظرة الأمريكية لمنطقة المتوسط:
تنطلق هذه النظرة من الواقع الجديد الذي أصبحت تحتله أمريكا على الساحة الدولية، وهذا لا يعني أبدا بأن أمريكا لم تهتم بهذه المنطقة من قبل بل وزادت، ويمكن أن نرجع ذلك للأسباب التالية :
– انفراد أمريكا بالقوة على الساحة الدولية جعلها تبني إستراتيجية كونية ترجمت في النظام الدولي الجديد أو أمركة العالم، على اعتبار أنها الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم لكونها تمتلك كل المقومات المالية والتكنولوجية والمعرفية…
– نظرة أمريكا لمنطقة المتوسط باعتبارها منطقة حيوية لا يمكن التفريط فيها أو تركها دون مراقبة أو تواجد مستمر لقواتها في المنطقة وهو ما يفسر التواجد المستمر للأسطول السادس البحري الأمريكي في عرض البحر الأبيض المتوسط، وكذا قواعدها العسكرية المتواجدة في دول كثيرة في المنطقة.
– تعتبر أمريكا البحر الأبيض المتوسط المنفذ للتبادلات التجارية والاقتصادية فمن خلاله تسوق سلعها لدول كثيرة في العالم لأنه الأقرب والأكثر أمنا، وكذلك فهي تستورد من هذه المنطقة نسبة كبيرة من احتياجاتها للطاقة والغاز، وعليه فهي في أشد الحاجة إلى تأمين كل ذلك.
– ربط معظم دول المنطقة بالحلف الأطلسي، خاصة تلك التي تقع في الضفة الجنوبية[12].
3- النظرة الروسية لمنطقة المتوسط:
يمكن أن نفهم النظرة الروسية الجديدة انطلاقا من الوضع المريح التي أصبحت تتمتع به في السنوات الأخيرة، ما أعطى الفرص أمامها لتكون لاعبا رئيسيا في الساحة الدولية، فزادت مطامعها في التوسع في منطقة المتوسط، حيث أدركت حجم الفراغ الذي تركته في المنطقة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فقررت العودة وبقوة إلى المنطقة فأرسلت أسطولها البحري إلى عرض البحر الأبيض المتوسط وقررت أن يكون تواجدها بصفة مستمرة لتطمئن حلفائها في المنطقة بتواجدها ودعمها لهم وحتى تبلغ الأطراف الأخرى وعلى رأسهم أمريكا والدول الأوروبية بتواجدها الفعلي في المنطقة، قامت في شهر يناير 2008 بأكبر استعراض عسكري لها في عرض البحر الأبيض المتوسط.
كما سعت روسيا باعتبارها تملك أكبر مخزون عالمي للغاز، إلى تكثيف العلاقات والزيارات بينها وبين الدول المنتجة لهذه السلعة مثل الجزائر، حيث بدأ الحديث جديا حول إمكانية تأسيس منظمة دولية خاصة بالدول المصدرة للغاز على شكل (الأوبك)، كإنذار منها للدول الأوروبية التي تستورد الغاز من روسيا الاتحادية ومن دول منطقة البحر الأبيض المتوسط. [13]
المطلب الثالث: التواجد العسكري في منطقة المتوسط/ السياسات والتداعيات
أولا: خارطة تموقع القواعد العسكرية للقوى الكبرى في المتوسط
يشكّل الوضع الأمني في المجال المتوسّطي اهتماما مشتركا للفواعل السياسيّة والاقتصاديّة، لأنّ الأخطار الّتي تهدّد الأمن المتوسّطي عديدة ومتنوّعة[14]، وتتمثّل أهم مناطق تموقع وتمركز القوى العسكريّة في منطقة المتوسّط كالآتي :
– قواعد عسكريّة للناتو في جنوب إيطاليا والشمال الغربي لليونان.
– قواعد عسكريّة أمريكيّة وقوات لحلف الناتو في جزيرة كريت.
– قواعد عسكريّة أمريكيّة وبريطانيّة في جزيرتي قبرص ومالطا.
– خضوع مضيق جبل طارق للسيادة البريطانيّة.
-قواعد عسكرية فرنسية في ليبيا ولبنان، مالي والجزائر والمغرب.
-قواعد تركية في سوريا، قبرص، وليبيا.
– قاعدة روسيا العسكريّة في جزيرة طرطوس السوريّة[15]، حيث عملت روسيا خلال العامين الماضيين على توسيع وتجهيز قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية لاستيعاب الوجود العسكري الروسي طويل الأمد في سوريا. القاعدتان مهمتان للانتشار العسكري الروسي في البحر الأبيض المتوسط. تعتقد بعض الدول الأوروبية أن هذا الانتشار ينتهك فضاءها الحيوي جنوب البحر الأبيض المتوسط؛
– افتتحت مصر قاعدة محمد نجيب العسكرية في مرسى مطروح في يوليو 2017. وتعتبر القاعدة أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط وأفريقيا. هذا بالإضافة إلى توسيع القاعدة العسكرية في سيدي براني قرب الحدود مع ليبيا. وكشف ذلك أن مصر كانت تركز على تأمين الجبهتين الشمالية والغربية قرب الحدود مع ليبيا؛
– أنشأت إيران عدة قواعد عسكرية في سوريا. في كانون الأول / ديسمبر 2017، شنت القوات الجوية الإسرائيلية غارات جوية مكثفة على قاعدة عسكرية إيرانية بالقرب من بلدة الكسوة. في تشرين الثاني 2017، استهدفت إسرائيل في سوريا مواقع عسكرية ومنصات صواريخ ومستودعات لحزب الله اللبناني.
– لاحظت إسرائيل أن هناك محاولات إيرانية لنشر غواصات في الموانئ السورية. ما دفعها إلى تعزيز وجودها العسكري في البحر الأبيض المتوسط. ونشرت أنظمة متطورة ترسل إنذارات مبكرة ومنصات القبة الحديدية المضادة للصواريخ وزوارق الدورية.
وسنحاول فيما يلي التعرف على إستراتيجية القوى الكبرى في تموقعها العسكري في منطقة المتوسط.
1- حلف الناتو* وخلفيات تواجده في المتوسط: حماية دول أم حماية مصالح؟
بعد انتهاء الحرب الباردة شهدت إستراتيجية حلف الناتو تطورا ملحوظا، حيث امتد نشاطه إلى منطقة حلف وارسو السابق وسعى لضم العديد من الدول إلى عضويته تطورت عقيدته خلال الفترة ما بين عامي 1991و2001 من الردع إلى الدفاع عن المصالح الجماعية لأعضائه خارج أراضيه، وأصبحت تشكيلاته تأخذ شكلا يناسب التدخل السريع حال اندلاع أزمة تشكل تهديد مصالح أعضاءه خاصة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
أطلق الحلف حوارا عام 1994 مع سبع دول متوسطية هي: المغرب، تونس، موريتانيا، مصر، إسرائيل، الأردن، والجزائر للتعاون في محاربة تهديدات محتملة لأعضاء الحلف مثل الهجرة غير الشرعية، الجريمة المنظمة، والإرهاب…إلخ[16]، وتم الاتفاق في قمة براغ نوفمبر 2002 على خطة عمل مشتركة ضد الإرهاب وإنشاء قوة رد سريع متطورة عام 2006.
واهتم الحلف بتطوير التعاون الأمني الثنائي بين دول الحلف وبلدان الشرق الأوسط الموسع وتم طرح مبادرة إسطنبول للتعاون الإستراتيجي لتكون بداية لهذا التعاون وانضمت لهذه المبادرة أربع دول خليجية هي: الكويت، الإمارات، قطر، البحرين، تضم هذه المبادرة قائمة يمكن للدول أن تختار فيما بينها ست مجالات هي: الإصلاح الدفاعي والتعاون العسكري، مكافحة الإرهاب، التصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأمن الحدود، الإرهاب والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات[17].
في ظل الانتقادات الموجهة للسياسة الأمريكية عقب ما سمته “الحرب على الإرهاب” سادت لدى الحلف رغبة في أن يتمايز ولو نظريا عن تلك السياسة، فأطلق الحلف في هذا الإطار مبادرة الشراكة تتضمن الأمن الناعم، متمثلا في التدريب والاستثمارات وإدارة الأزمات على نحو مغاير للأمن الصلب، كما أنشأ قسم الدبلوماسية العامة ضمن الجهاز المؤسسي للحلف ببروكسل ضمن جهوده لتغيير صورته السلبية خاصة في المنطقة العربية، نظرا لسيادة هذه النظرة السلبية لم يكن هناك تدخل أطلسي مباشر في الأزمات العربية ما قبل ثورات الربيع العربي التي شهدتها المنطقة فكانت مشاركة للأعضاء الرئيسيون من خلال أزمة الخليج الأولى والثانية، لكن تصاعد ذلك مع أزمة ليبيا أين شاهدنا تدخلا عسكريا مباشرا.
-التدخل العسكري في ليبيا:
لم يكن قرار حلف الناتو بالتّدخل في الأزمة الّليبيّة أمرا يسيرا، بالنظر إلى خبرات الحلف السلبيّة في أزمات سابقة كحملات الحلف في البلقان والّتي كانت تتطلّب موافقة كل من أعضائه، ممّا أدّى إلى تخبّط تلك العمليات بعد صدور قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و 1973 بشأن الحالة الّليبيّة، ومضمونها إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة وحظر الأسلحة والسفر وتجميد الأصول اللّيبيّة في الدول الغربيّة وإقامة حظر طيران جوّي في الأجواء اللّيبيّة، فضلا عن قرار جامعة الدول العربيّة رقم 7298 بتاريخ: 02/ 03/ 2011 بشأن الطلب من مجلس الأمن تحمّل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا[18].
تدخّل حلف الناتو في ليبيا في نهاية شهر مارس 2011 وبدأ في شن هجمات جويّة على الكتائب اللّيبيّة، فبالرّغم من أنّ مضمون القرارات المشار إليها هو فرض منطقة حظر جوّي على الطيران العسكري اللّيبي كإجراء وقائي لتوفير الحماية للشّعب اللّيبي وتقديم المساعدات الإنسانيّة العاجلة له، فإنّ مهمة الناتو تجاوزت ذلك من خلال قصف مواقع مدنيّة ومقرّات حكوميّة خاصّة بالجماهيريّة اللّيبيّة[19].
جاء على لسان الأمين العام لحلف الناتو أنّ الحلف لا يعتزم نشر قوات بريّة في ليبيا، لكن الحلف له أشكال أخرى للوجود وفقا لإستراتيجية الأمن الناعم وتمثّل ذلك في الحالة اللّيبيّة، وذلك كما جاء في الرؤى الأكاديميّة الصادرة عن الحلف ومضمونها أنّ رحيل نظام القذافي لا يعني بالضرورة استقرار الدولة، حيث لا تزال هذه الأخيرة بحاجة إلى جهود دوليّة متضافرة لبنائها، لأنّها تفتقر لهياكل ومؤسّسات الحكم الّتي تعتبر عناصر ضروريّة لأمن واستقرار الدّولة، على غرار تجربته في العراق و أفغانستان حيث تساهم 23 دولة من أعضاء الحلف في تدريب القوّات الأمنيّة للدولتين، والفرصة هنا تبدو مواتية للحلف لتكرار تجربته في ليبيا وهو ما يتيح له نفوذا هائلا فيها[20].
إنّ تدخل حلف الناتو في ليبيا على هذا النحو يعدّ انتهاء عمليّا للحدود بين ما هو عالمي وإقليمي، حيث تعتبر ليبيا ثغرة مهمّة لنفاذ أعضاء الناتو إلى الضفّة الجنوبيّة للمتوسّط والّتي تمثّل تهديدا لمصالحها، وهو ما أكده وزير الخارجيّة الإيطالي” جوليو تريسي” الذي دعا خلال كلمته الّتي ألقاها في أكاديميّة دفاع الناتو العسكريّة في العاصمة الإيطاليّة روما يوم الثلاثاء 05/02/2013 حلف الناتو إلى القيام بدور الضامن لأمن واستقرار منطقة المتوسّط، مضيفا أنّ قدرات الحلف تمكّنه من أن يكون الضامن لأمن منطقة المتوسّط، مشيرا إلى أنّ التدخل في ليبيا أظهر ذلك خاصّة وأنّ التطورات الأخيرة في المنطقة قد أكدت وكشفت عدم قدرة الدول بصفة فرديّة على تحمّل التكاليف الاقتصادية لعمليات استقرارها في المنطقة وأنّ أحد أهم الأسباب الّتي أدت إلى نجاح التدخل في ليبيا كانت القدرة على تشكيل ائتلاف، وهو ما يعكس أهمية توسيع قدرات الناتو كضامن لأمن واستقرار منطقة المتوسّط[21].
2/التواجد العسكري الأمريكي في منطقة المتوسط/ حسابات السيطرة الكونية
ساهم التوسع الذي طرأ على مفهوم الأمن بعد الحرب الباردة، في تنويع آليات التدخل الأمريكي في منطقة البحر المتوسط، دون إلغاء الأهمية المعتبرة للأداة العسكرية باعتبارها “الضامن المباشر” لمحافظة الولايات المتحدة الأمريكية على مكانتها الدولية، ومن ثم في المتوسط.
يعتبر التواجد الأمريكي هو الأكثر انتشارا حيث يبلغ عدد القواعد العسكريّة الأمريكيّة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط والمناطق المحيطة به 199 قاعدة، لا يدخل في تعدادها الأسطول السادس الأمريكي، وفي غرب جزر الأزوريس البرتغاليّة توجد 22 قاعدة عسكريّة أمريكيّة مرورا بجبل طارق حيث توجد قاعدة روتا الأمريكيّة في إسبانيا، إضافة إلى التسهيلات في جنوب جبل طارق ببوقنديل وسيدي يحيى في المغرب تدعمها 27 قاعدة بريّة وبحرية جويّة أهمّها القاعدة الجويّة القريبة من مدريد المكتظّة بالقذائف العملاقة، كما توجد في إيطاليا 52 قاعدة أمريكيّة أهمها قاعدة برندي حيث تتواجد مراكز التصنت والتجسس الإلكتروني وأحد مراكز المخابرات الأمريكيّة[22].
وتوجد في اليونان 24 قاعدة أمريكيّة أكبرها قاعدة سودا البحريّة، أما تركيا فهي أكثر مكان تتواجد فيه القواعد البريّة والبحرية والجويّة الأمريكيّة حيث يوجد بها أكثر من 5000 عسكري أمريكي، وتعتبر قاعدة “أنجرليك” الجويّة قاعدة متقدّمة معدّة لتوجيه ضربات نوويّة تتكدّس فيها كميات كبيرة من طائرات “الفانتوم” بأنواعها، وتقوم قاعدتا “بيرتكليك و جولباش” بالقرب من أنقرة بالتّجسس والتصنت الإلكتروني على روسيا والشرق الأوسط والقاعدة الأمريكيّة الضخمة في أزمير بتركيا بها أكثر من 12 مستودعا حربيّا للقتال والذخائر والمعدّات الحربية الإلكترونيّة إضافة إلى 14 محطّة للإنذار المبكّر و 20 مركزا للاتّصال والتصنت الإلكتروني[23].
تركز الولايات المتحدة الأمريكية على إستراتيجية بحرية كونية تقوم على مبدأ التفوق البحري إذ تقر بضرورة السيطرة على البحار لضمان إمكانية الوصول إلى حلفائها وإلى الموارد الطبيعية، وكذلك من أجل نقل قواتها إلى مناطق المواجهة المحتملة، ويبلغ عدد السفن الحربية لدى الولايات المتحدة في الوقت الراهن 2384 سفينة، بينها 11 حاملة طائرات و59 مدمرة و75 غواصة و30 فرقاطة و14 كاسحة ألغام، وهناك فقط تسع دول في العالم تمتلك حاملات طائرات، هي: الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والبرازيل وتايلاند والهند، وباستثناء الولايات المتحدة التي تمتلك 11 حاملة طائرات، كما سبقت الإشارة، وإيطاليا وإسبانيا، التي تمتلك كل منهما حاملتين، فإن أيّاً من الدول الست المتبقية لا يمتلك سوى حاملة طائرات واحدة.
يعتبر الأسطول السادس الأمريكي الدرع العسكرية الخاصة للمصالح الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط، وفي إطار التنافس الأوروبي الأمريكي في منطقة المتوسط والرؤية الأمريكية لإمكانية تهديد مصالحها في منطقة المتوسط من طرف الدول الأوروبية، بادرت الإدارة الأمريكية لوضع برنامج عمل عاجل أوكل للأسطول السادس ليتواجد في أهم مناطق الإستراتيجية التي تسمح له بمراقبة كل التحركات الأوروبية في المنطقة[24] من خلال الاضطلاع بالمهام التالية :
-ضمان عبور الناقلات التجارية والنفطية من البحر المتوسط إلى الشرق الأوسط فقد جاء في بيان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بأن منطقة الخليج التابعة جيوستراتجيا لمنطقة الشرق الأوسط والمتوسط، تدخل ضمن نطاق الأمن القومي لدول التحالف الأطلسي، وهو الأمر الذي يعطي للولايات المتحدة الأمريكية الحق في استخدام القوة العسكرية للحفاظ على أمن الخليج والمصالح الأمريكية هناك، فلقد جعلت الحساسية المفرطة التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لعامل النفط، هذه الأخيرة تتخوف من إمكانية لجوء بعض الدول القريبة للمساس بهذه المادة[25].
-مراقبة تحركات القوى النووية فرنسا، روسيا، أوكرانيا، عملت الولايات المتحدة الأمريكية ومعارضة دعوات الدول الأوروبية المتوسطية لتأسيس نظام أمني متوسطي يتشكل من قوات للرد والتدخل السريع، وهو ما يؤثر على الرغبة الأمريكية في محاولة السيطرة على الحوض المتوسطي، وتحييد إمكانية قيام نظام أمني أوروبي يستقل عن الرؤية الأمريكية الإستراتيجية للمتوسط، وأمام إصرار روسيا على عدم الإفصاح عن برنامجها النووي، أعطيت توجيهات للأسطول كي يبقى حذرا في مراقبة تحركات الأسطول الروسي والأوكراني، ما يشكل تهديدا لأمن البحر المتوسط.
-مراقبة النزاعات الإقليمية وحصر عملياتها العسكرية لمنع امتدادها لدول مجاورة[26].
أولت الولايات المتحدة أهمية خاصة لمنطقة المتوسط لخصوصية بنيتها الجيوسياسية والحضارية، وارتباطها الوثيق بالأمن الأوروبي، يتصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي عن طريق مضيق جبل طارق، وبالبحر الأسود وبحر أزوف عن طريق مضيق الدردنيل وبحر مرمرة والبسفور، وبالبحر الأحمر عن طريق قناة السويس. وتصنف جميع هذه المضايق باعتبارها شرايين حيوية للملاحة الدولية، وموضع اهتمام تقليدي للإستراتيجية البحرية للولايات المتحدة، لذلك شهدت السنوات الأخيرة تطوّرين رئيسيين في الإستراتيجية الأميركية في البحر الأبيض المتوسط:
-تمثل الأول في انخراط الولايات المتحدة في عملية المراقبة الدائمة للمرات البحرية الحيوية، خاصة من خلال ما يعرف بعملية “أكتيف إنديفور“.
-تمثل الثاني في تعزيز القدرة الاستطلاعية والهجومية الأميركية في المنطقة.
وتم ذلك من خلال مسارين:
-بناء علاقات عسكرية جديدة مع دول شمال شرق المتوسط، التي انضمت ثلاث منها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي ألبانيا وكرواتيا وسلوفينيا. وعقد اتفاقات خاصة بتشييد قواعد عسكرية متقدمة في دول واقعة على تخوم المتوسط، وتحديداً في بلغاريا ورومانيا، فعلى صعيد عملية “أكتيف إنديفور”، التي يقودها الناتو، التي اتخذت في البدء طابعاً مدنياً، حيث أعلن بأنها تهدف لحماية الممرات التجارية في البحر الأبيض المتوسط، الذي تمر عبره نحو 30% من حركة الملاحة البحرية الدولية، ونحو 65% من النفط والغاز المستهلك في غرب أوروبا، وشملت عملية “أكتيف أنديفور” الحوضين الرئيسيين للمتوسط، الشرقي والغربي. وكذلك البحار الإقليمية المتصلة به. وهي ليجوريا وتيرانا والأدرياتيكي وإيجة، وبدأت العملية في العام 2003 بحراسة 300 باخرة تعبر يومياً مضيق جبل طارق. وفي وقت لاحق من العام ذاته، وافق الحلف على إجراءات خاصة تسمح للقوات المسلحة باعتلاء البواخر المختلفة، بما في ذلك المدنية منها، وفي العام 2004 وسّع الحلف من تفويض العملية، فبسط سيطرته على كامل البحر الأبيض المتوسط، وزاد من جهوده لجمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية حول حركة الملاحة الإقليمية.[27]
-تعزيز الحضور العسكري الأميركي في منطقة المتوسط، يُمكن أن نلحظ تطوراً هاماً حدث في روابط الولايات المتحدة مع كل من الجبل الأسود وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا، وأصبحت الدول الأخيرة أعضاء في الناتو، ومثلت ألبانيا بموقعها الجيوسياسي الفائق الأهمية مكسباً إستراتيجياً كبيراً للحلف، إن الأهم في حسابات الأمن القومي الأميركي هو ما جرى على تخوم المتوسط، حيث نجحت الولايات المتحدة في توقيع اتفاقيتين دفاعيتين مع كل من رومانيا وبلغاريا، في العامين 2005 و2006 على التوالي، وسمحت الاتفاقية المبرمة مع صوفيا بانتشار 2500 جندي أميركي لمدة عشرة أعوام، يزداد عددهم إلى خمسة آلاف بعد مضي شهر على توقيع الاتفاقية، وتضمنت الاتفاقية الموافقة على إنشاء ثلاث قواعد عسكرية أميركية في الأراضي البلغارية، كما قدمت الاتفاقية الموقعة مع بوخارست تسهيلات عسكرية مختلفة للولايات المتحدة، وسمحت بنشر قوة أميركية قوامها 1500 جندي في قاعدة “ميخائيل كوغالنيتشيانو” على البحر الأسود، واستخدام المطار العسكري قرب ميناء كونستنزا، وقاعدة “باباداغ”، ومركزي التدريب “تشينكو” و”سماردان” في دلتا الدانوب.
في الأخير يمكن القول، أن الإستراتيجية الأميركية في منطقة المتوسط قد دخلت مرحلة نوعية على صعيد قدراتها الدفاعية والردعية، وبات لديها من المقومات ما لم تعثر عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.[28]
3-التواجد الأوروبي في منطقة المتوسط: دعم للسلام أم ترسيخ للهيمنة؟
عززت دول الاتحاد الأوروبي وحدتها للدفاع عن أمنها بقرار اتخذته في القمة الأوروبية التي انعقدت في هلسنكي عام 2000 بإنشاء قوة تدخل أوروبية تجسيدا للرغبة الأوروبية في امتلاك قدرات دفاعية مستقلة لها القدرة والكفاءة على معالجة الأزمات الناشئة وقوة التدخل السريع بتعداد 60 ألف مقاتل مهمتها القيام بعمليات إنسانية عاجلة وبمهمات حفظ أو إعادة السلام في مناطق الأزمات، ففي قمة هلسنكي عام 2000 تقررت آلية جديدة من اجل معالجة الأزمات وتقديم المساعدات الإنسانية.
وترتكز الإستراتيجية الأوروبية اتجاه دول جنوب المتوسط على:
– تفتيت قوة دول الضفة الجنوبية وتضعيفها: عن طريق تقسيمها وتفكيكها ما يجعل منهم طرفا ضعيفا أثناء عمليات التفاوض.
– إستراتيجية الشراكة: التي تجمع بين التعاون الاقتصادي والتعاون السياسي والأمني، كمحاولة منها لفهم تفهم وتحليل أسباب التغيرات والتوترات التي تجري في المنطقة والتي تشكل أخطارا عليها خاصة في ظل تنامي التهديدات اللاتماثلية، وبرزت في بمشروع برشلونة أو الشراكة الأورو/متوسطية.*[29]
– من سياسة الشراكة إلى سياسة الجوار : تتضمن أفكار جديدة في سياستها في المنطقة التي انبثقت في الوثيقة الإستراتيجية للأمن الأوروبي سنة 2004 ، تنطلق من فكرة أن منطقة المتوسط هي فضاء أوروبي يحتاج إلى العناية والسلم كمحاولة منهم لإقناع دول الضفة باهتمامهم بأوضاعهم مؤكدة على ما يلي:
– ضرورة دعم الحوار السياسي بين الضفتين وتقديم كل المعلومات المتوفرة حول كل النشاطات المشبوهة بما يمكن التحكم والحد من خطورة انتشار الإرهاب والهجرة السرية.
– إزالة الحواجز والعراقيل التي مازالت تقف في وجه السوق الاقتصادية في المنطقة، تمهيدا لتجسيد مشروع المنطقة الحرة.
– ضرورة محاكاة الغرب في منظومتهم السياسية والاقتصادية، لإبعاد الدين عن السياسة، باعتبار الدين الإسلامي سبب رئيسي في انتشار الإرهاب والرفض للهيمنة الغربية.
– تلتزم الدول الأوروبية على تقديم المساعدات الضرورية في مجال تدريب وتأهيل الإطارات والمؤسسات المختلفة حتى تصبح فعالة، لأن في تقديرهم الخلل الكبير يقع في سوء التسيير الذي تعرفه معظم المؤسسات في هذه الدول الجنوبية.
– تدعيم المشاركة الإستراتيجية في تأمين إمدادات الطاقة والغاز من الدول الجنوبية إلى الدول الشمالية لتأمين احتياجاتها من الطاقة وهذا نظرا للمنافسة الدولية الكبيرة.[30]
وتحاول كل من بريطانيا وفرنسا أن تحتفظ بالعديد من القواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم من أجل الدفاع عن مصالحهما؛ فإذا كان الوجود البريطاني موزعاً على العديد من المناطق في جنوب أوروبا بجبل طارق وفي آسيا وأمريكا الجنوبية بالقرب من الأرجنتين، فإن التواجد العسكري الفرنسي ينحصر بالدرجة الأولى في غرب إفريقيا من أجل مساعدة دول المنطقة على مواجهة التنظيمات الإرهابية.
4-التواجد الروسي في المتوسط: حسابات إعادة التمركز
يظهر التواجد الروسي جليا في القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس التي تعتبر من أهم القواعد العسكريّة ذات الأهميّة الإستراتيجية لروسيا في العالم وفي منطقة المتوسط، فهي تشكّل تواجد دائم للأسطول الروسي في هذه المنطقة وتولي روسيا اهتماما بالغا للحفاظ عليها حيث تجوب في البحر الأبيض المتوسط قطع حربيّة من أسطول البحر الأسود، للقاعدة موقع إستراتيجي في المنطقة لقربها من مضيق البوسفور وهذا الموقع يمكّن روسيا من وصول قطعها البحريّة إلى المحيط الأطلسي، وفي ظل المتغيّرات الحاليّة تعتبر هذه القاعدة عنصر توازن في الوقت الّذي تتواجد فيه حشود الأساطيل الأمريكيّة قرب السواحل التركيّة، كما أنّه تأكيد على رغبة روسيا في حل الأزمة السوريّة بطريقة سلميّة، لأنّ روسيا ليست مستعدّة لخسارة هذه القاعدة في ظل تنافسها مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة لأنّ خسارتها لها سيشكّل لها نقطة ضعف كبيرة ويؤثّر على وزنها تواجدها في منطقة المتوسّط[31].
يعود الوجود الروسي في المتوسط إلي فترة الحرب الباردة حيث كان للاتحاد السوفيتي السابق وجود عسكري بحري دائم في المتوسط خلال ستينيات القرن الماضي. وانتهي هذا الوجود، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، قبل أن تتخذ موسكو قرارا في نهاية العقد الأول من القرن الحالي بعودة بعض القطع البحرية إلي شرق المتوسط، لمواجهة أي طارئ أو تهديد من منطقة المتوسط. وهو ما أشار إليه وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو بقوله “إن الأسطول البحري الروسي قادر علي القيام بمهمات في أي منطقة بالمحيط العالمي مهمة بالنسبة للمصالح الوطنية الروسية.. وإن هذه المنطقة في الوقت الحالي هي البحر المتوسط، حيث تتركز التهديدات الأكثر خطورة بالنسبة لمصالحنا الوطنية”، فحرصت على تعزيز وجودها في هذه المنطقة، من خلال:
-إجراء مناورات بحرية بشكل دوري انطلاقا من قاعدة طرطوس، من أبرزها تلك التي جرت في مارس2008،حيث شهدت طفرة في حجم ونوعية الأسلحة المستخدمة، وهو ما تكرر في مناورة أخري جرت في سبتمبر2015، شارك فيها أكثر من45 ألف جندي.
-الحرص الروسي علي إلحاق شبه جزيرة القرم بالاتحاد الروسي لضمان بقاء ميناء سيباستوبول، مقر قيادة أسطول البحر الأسود، تحت الهيمنة الروسية. فالاتفاق مع كييف حول استغلال الميناء ينتهي عام2017. ومعروف أنه من خلال هذا الميناء، تستطيع روسيا إدامة وجود قواتها في البحر المتوسط.
-الحرص بين حين وآخر علي تزويد الأسطول الروسي ببعض السفن الحربية، ففي أكتوبر2016 توجهت سفينتا “سيربوخوف”، و”زيليوني دول” المجهزتان بصواريخ “كاليبر” إلي البحر المتوسط لتكونا جزءا من مجموعة القوات البحرية الروسية، فضلا عن انضمام بعض السفن مؤقتا إلي عمليات التدريب، كما جري في26يوليو2012.[32]
-كما أبرمت موسكو اتفاقية مع نظام سوريا عام 2016، أسست روسيا بموجبها قاعدتها الجوية “حميميم” بمحافظة اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط. كما تمتلك روسيا قاعدة طرطوس البحرية الساحلية.
وتعود دوافع روسيا لتواجدها في المنطقة إلى تأكيد وجودها في المتوسط، طبقا لما ورد في عقيدتها البحرية المعدلة والمعلنة عام2015 التي تنص على: “ضمان وجود عسكري بحري روسي كاف ودائم في المحيط الأطلسي، والبحر المتوسط بهدف إعادة إرساء سريعة وشاملة للمواقع الروسية الإستراتيجية”. وعليه، يمكن إجمال هذه الأسباب فيما يأتي:
-تخفيف أثر العقوبات التي فرضت على روسيا جراء ضمها لشبه جزيرة القرم؛
-نقل الخطوط الدفاعية من الحدود الروسية المباشرة إلي مناطق أبعد، بما يضمن الاستقرار النسبي على حدودها المباشرة من ناحية، ويحجم النفوذ الدولي في محيطها الإقليمي من ناحية أخر؛
-جعل جميع الدول الأوروبية في مدى الصواريخ الروسية التي يمكن إطلاقها من حاملة الطائرات الروسية في المتوسط؛
-مواجهة الأسطول السادس الأمريكي المرابط في مياه المتوسط، حيث سعت روسيا إلي تعزيز وجودها كرد فعل لهذا الوجود، خاصة في ظل ما أثير بشأن وجود سفن أمريكية ضمن أسطولها، تعد جزءا من منظومة الدرع الصاروخية الموجهة لروسيا.
-بعد الاكتشافات الضخمة الجديدة من النفط والغاز في شرق المتوسط، تسعى روسيا إلي ضمان حصة من عقود التنقيب والاستخراج، ونقل الغاز، بما يسهم في تعزيز قدراتها وإمكاناتها للسيطرة على سوق الطاقة، من خلال الربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك. فإلي جانب كونها معبرا للغاز القادم من آسيا الوسطي، تسعى موسكو إلي ربط الغاز في المتوسط بالغاز القادم من إيران وقطر، من خلال جعل سوريا ممرا إجباريا لخطوط النقل إلي أوروبا. وهو ما وجد ترجمته الفعلية في الاتفاق على منح سوريا شركة غاز بروم الروسية في أكتوبر2013 امتيازا لمدة (25عاما) لاستخراج الغاز من الحقول الواقعة في المياه الإقليمية السورية.[33]
5-الصين: الوافد الإستراتيجي الجديد إلى المتوسط
تكتسب الصين نفوذاً متزايداً في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا فلطالما دعمت حركات التحرر في المنطقة، لكن نفوذها كان أقل بكثير من نفوذ موسكو، فالآن، وكقوة رأسمالية ضخمة، تفوّقت الصين على روسيا كثيراً، وهي تلحق بركب الولايات المتحدة على صعيد النفوذ الاقتصادي، وتعتمد الصين بشدة على تأمين ما يمكنها من مصادر النفط والغاز لضمان استمرار نموها الاقتصادي المستقبلي، لهذا نجحت في بناء علاقات مع جميع منتجي النفط والغاز في الشرق الأوسط، من المملكة العربية السعودية إلى إيران وقطر والسودان واليمن لتأمين أكبر قدر ممكن من الطاقة، وتمتنع الصين عن إغلاق أي من هذه المصادر لإرضاء المطالب الأميركية – مثلاّ تلك المتعلقة بعزل إيران واحتوائها، كما أنها بنت علاقات متميزة مع إسرائيل في مجال التكنولوجيا العسكرية فضلا على إستراتيجيتها لدخول أفريقيا فلم يعد لدى الصين خط سياسي أو إيديولوجي تطرحه في المنطقة، وهي تسعى إلى إقامة علاقات طيبة مع كل البلدان التي يمكنها الحصول منها على منفعة اقتصادية أو تقنية.
6- تركيا: تقاطعات القيم والمصالح في المتوسط
تتطلع تركيا إلى إحياء مكانتها الإقليمية والدولية التي تليق بإرثها التاريخي، وموقعها الجغرافي، وإمكاناتها الإستراتيجية الكامنة، فهي ترى أنها كانت ولا تزال دولة مركزية فاعلة؛ إذ يقول رئيس الوزراء التركي سابقا أحمد داود أوغلو “إنّ الدول المركز مثل تركيا، التي تحتل موقعاً مركزياً في القارة الأم أفرو-أوراسيا، لا تقبل أن تظل منحصرة في منطقة بعينها وتُعرف بها، بل لديها القدرة على النفاذ إلى مناطق أخرى متعددة في آنٍ واحد”.[34]
وتعدّ الأزمة السورية المثال الأبرز على تناقض المصالح التركية في المنطقة مع مصالح قوة دولية متمثلة في روسيا؛ ففي ظل سعيها للحفاظ على قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر المتوسط، عارضت موسكو أي تدخل عسكري خارجي في سورية ودعمت نظام الأسد بشتى السبل؛ وبهذا أضعف التدخل الروسي، فضلاً عن الإيراني، الدور التركي في سوريا وقوّض حضورها الإقليمي الذي كان أكثر فاعلًية قبل الأزمة.
ثانيا: تداعيات تواجد القواعد العسكرية الأجنبية على أمن المنطقة المتوسطية: معادلة الربح والخسارة
يمكن حصرها في جملة النقاط التالية:
-تمثل القواعد العسكرية اعتداء على سيادة الدول المضيفة، حيث تؤدي إلي زياده تدخل الدول الأجنبية في شئون الدول وتضغط هذه القواعد علي الدول في إجبارها علي تغير وتعديل سياساتها بما يناسب مصالح الدول صاحبة القواعد، وقد تستخدمها الدول الأجنبية في التجسس علي الدول، كما يمكن أن تستخدم هذه الدول كدعم للحرب علي الدول أخرى، مثلما حدث في حرب العراق.
– يعتبر التواجد العسكري نمط حديث من الاستعمار بديلا عن الاحتلال العسكري المباشر، حيث تترك مهمة إدارة البلاد التابعة لحكومات محلية “وطنية” تتبع سياسة المستعمر في أمورها الداخلية والخارجية؟، فتجعل منها حكومات احتلال بالوكالة، فهو شكل من أشكال الاحتلال أقل تكلفة اقتصاديا بالنسبة للدول الكبرى المحتلة ويوفر عليها عبء المعارك المسلحة مع الشعوب.
– استنزاف موارد الدول الواقعة تحت احتلال القواعد العسكرية واستباحة الموارد الاقتصادية بواسطة الشركات الأمنية، من خلال فرض صفقات أسلحة على الدولة المضيفة باهظة الثمن لا فائدة منها، ولا ضرورة لها مقابل أرباح لشركات صناعة الأسلحة في البلدان صاحبة القواعد.
– اختراع الحروب لتجنب كساد الأسلحة فحتى لا تتوقف عملية شراء الأسلحة وتبقى تلجأ الدول صاحبة القواعد إلى اختراع حروبا ونزاعات داخل تلك الدول لتسويق الأسلحة وجبرها للدخول فيها بغية استهلاك مخزونات السلاح[35].
-تهديد الأمن القومي الوطني وحتى الإقليمي عبر ما تقوم به هذه القواعد من أعمال مزعزعة للاستقرار في المنطقة، سواء من خلال دعمها لبعض الجماعات الإرهابية والميليشيات الانفصالية كما هو الحال في مالي وليبيا، سوريا والعراق، أو تحيزها لأحد الأطراف المتصارعة داخل الدولة ضد الأطراف الأخرى بما يزيد من وتيرة الحرب الأهلية ويعمقها ويطيل أمدها كما هو الحال في الصومال.
-ومن جهة الدول صاحبة القواعد العسكرية، تعد مشكلة التكاليف العائق الكبير أمامها من حيث الخسائر في العتاد والمواد وأفراد الجيش.
-تمنح القواعد العسكرية لدولها حماية مصالحها وحماية شركاتها الكبرى في البلد المضيف من الأخطار الداخلية والأخطار الخارجية المحتملة، ومن أي مزاحمة من شركات الدول الأجنبية الأخرى على الموارد الإستراتيجية وخاصة النفط وكل الموارد النادرة.
-تساعد الدول صاحبة القواعد على ضبط التفاعلات السياسية في الدولة المضيفة، بحيث تضمن بقاء عملائها علي قمة السلطة السياسية، وتكون جاهزة للدفاع عنهم ضد أي عمل انقلابي أو ثورة داخلية، أو العكس بأن تستخدم الجيش الوطني الذي قد تشرف على تدريبه وتسليحه واختيار قياداته العليا والتحكم في حركة الترقيات الداخلية فيه بحيث يبقى تابعاً لها تماما، فتستخدمه للحفاظ على الحكومة المحلية، أو تضغط به على مؤسسات الدولة المضيفة أو حتى ينقلب عليها ليقيم حكما عسكريا مباشرا لصالح أصدقاءها المحليين الأكثر إخلاصاً، والأقوى في الدفاع عن مصالحه، والأكثر استجابة لمطالبه، والأقل طمعا في تقاسم الثروات معه أو مشاركته في القرار السياسي[36].
خاتمة:
إذا كانت المنافسة بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة لتقسيم العالم والسيطرة على مناطقه الإستراتيجية، جعلت من المتوسط ” نافذة” حلف الأطلسي تجاه الجنوب، فإنه غدا في مطلع القرن الحادي والعشرين من بؤر التوتر الحساسة المرتبطة بموضوع الأمن في ضفتي المتوسط، خصوصا مع الإستراتيجيات المتواجهة لمختلف محاور النفوذ في هذا الفضاء الجيوبوليتيكي ذا الأهمية الإستراتيجية في مدركات مختلف الفاعلين الدوليين.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
[1] حسن الرشيدي، استراتيجية نشر القواعد العسكرية، http://www.albayan.co.uk/، بتاريخ: 24/03/2020
[2] Charles-philippe DAVID et Jean-jacques ROCHE, Théories de la sécurité : Définitions, approches et concepts de la sécurité internationale. Paris : Editions Montchrestien, 2002. p-p : 90-91.
[3] جون بيليس وستيف سميث، عولمة السياسة العالمية، ترجمة: مركز الخليج للأبحاث. الإمارات العربية المتحدة: مركز الخليج للأبحاث، 2004. ص-ص: 433-436.
[4] هربت برلون، نطاق التهديد غير العسكري، من كتاب التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، ترجمة فادي حمود وآخرون. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004. ص-ص: 120-124.
[5] Francisco A.MAGNO, Environemental Security in The China Sea, Security Dialogue, Vol 28, N°1, March 1997. p-p: 97-112.
[6] – Mokhtar REGUIG, Géostratégie et géopolitique dans la région méditerranéenne. Revue algérienne des relations internationales, premier trimestre, N° 5,1987. p-p 73-84.
[7] مصطفى بخوش، حوض البحر الأبيض المتوسط بعد نهاية الحرب الباردة، دراسة الرهانات و الأهداف،الجزائر : دار النشر والتوزيع، 2006، ص.78.
[8] FatihM., Tayfur, Security and Cooperation in the Mediterranean perceptrions , Journal of International Affairs , Vol.,5,n
[9] Encyclopedia Encarta 1998
[10] Fatiha ,Mop-cit,p.126
[11] Euro-Mediterranean Partnership ,Regional Strategy Paper: 2002-2006,and Regional Indicative Program : 2002-2006 , p.6.
[12] Pack James , Neo realism as a research enterprise toward elaborated structural realism , International Political Science Review ,vol.1,1993,p.123
[13] – Fathallah Oualalou , Après Barcelone …le maghreb est nécessaire , Paris : L’Harmattan 1996, p.150
[14] – المرجع نفسه، ص 86.
[15] – علي فلاّح، القواعد العسكريّة الروسيّة، ( الأردن، مجلة الحوار المتمدّن، العدد3882، 16/10/2012 )، ص 45.
* تأسس الحلف عام 1949 بعضوية 12 دولة أوروبية وأميركية شمالية ضم عضوية الدول الشرق أوروبية الشيوعية تحت مظلة الاتحاد السوفييتي.الدول المؤسسة للحلف هي الولايات المتحدة الأميركية، وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال والنرويج والدنمارك وأيسلندا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وانضمت إليهم كل من اليونان وتركيا وألمانيا الغربية وإسبانيا بين أعوام 1952 و1982.وتلخص المادة الخامسة من اتفاقية تكوين الحلف عمله وأولوياته: “أي هجوم عسكري على أي دولة عضوة سيعتبر هجوماً على بقية دول الحلف”.
[17]– عبد النور بن عنتر، البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوروبا والحلف الأطلسي(الجزائر: المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع،2005 ) ص 190
[17] نفس المرجع، ص190[18]أشرف كشك، حلف الناتو و التدخل في الأزمات العربيّة، تمّ الاطّلاع عليه ص2،. www.siyassa.org يوم:15/02/2013
[19]المرجع نفسه، ص3.
[20]أشرف كشك، مرجع سابق، ص3
22بدون اسم للكاتب، جوليو تريسي يدعو الناتو للقيام بدور الضامن لأمن و استقرار منطقة المتوسط، مركز الجزيرة للدراسات، اطلع عليه يوم: .http://studies.aljazeera.net/reports 25/02/2013 على الرابط:
عمّار بالة، مكانة الولايات المتحدة الأمريكيّة ضمن الترتيبات الأمنيّة في منطقة المتوسّط (جامعة الحاج لخضر باتنة، الجزائر، رسالة ماجستير غير منشورة 2012) ص96.
24 المرجع نفسه، ص 102.
[24]طه مجدوب وآخرون، الإمبراطورية الأمريكية الجزء الثالث، القاهرة، مصر مكتبة الشروق، الطبعة الأولى،2001، ص 88.
[25] عمّار بالة، مرجع سابق، ص 97
[26] المرجع نفسه، ص 100
[27] عبد الجليل زيد المرهون، الولايات المتحدة تعزز قواتها في المتوسط، https://www.aljazeera.net/opinions، بتاريخ:26/03/2020.
[28] المرجع نفسه
* كان قد بدأ بما سميه (5+5) أي الدول المغاربية و الدول الأوروبية الساحلية (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، البرتغال ومالطا) ثم بعد عدة لقاءات ارتأى الجميع إلى توسيع العملية لتشمل كل الدول التي لها شواطئ على البحر الأبيض المتوسط ودول الإتحاد الأوروبي.
[29] عبير الغندور، الشراكة الأوروبية مع العرب: دراسة مقارنة، السياسة الدولية، أفريل 2006، ص
[30] نفس المرجع ص.10
[31] علي فلاّح، مرجع سابق، ص 46.
[32] دون ملف، أسرار التواجد العسكري الروسي في البحر المتوسط، ewanlibya، بتاريخ: 25/04/2020.
[33] نفس المرجع السابق.
35 أحمد داود أوغلو، العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، الدار العربية للعلوم ومركز الجزيرة للدراسات، بيروت والدوحة، 2010، ص.143
[35] مصطفى حامد، مخاطر القواعد العسكرية على أفغانستان والعراق، https://www.alsomood.com/، تاريخ الاطلاع:15/04/2020
[36] أحمد طاهر، القواعد العسكرية التركية والإيرانية في المنطقة العربية، https://arb.majalla.com/، تاريخ الاطلاع: 20/04/2020.