
محمد محمود شحادة
باحث في العلاقات الدولية (لبنان)، ماجستير في علوم السياسية الجامعة اللبنانية، ماحستير في العلاقات الدولية، الجامعة الاسلامية (بيروت)
تعتبر أوروبا اليوم واحدة من أكثر البيئات الأمنية توترًا منذ نهاية الحرب الباردة، فالحرب في أوكرانيا أعادت ترتيب أولويات الدفاع لدى دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ودفعت إلى تسريع برامج إعادة التسلح وبالتالي تعزيز الإنفاق الدفاعي، ورفع جاهزية القوات والاحتياطات الصناعية، المشهد الأوروبي يتسم بثلاث طبقات متداخلة: أولًا، خط تماس مباشر على الجبهة الشرقية مع روسيا، يتجسد في الحرب المستمرة مع أوكرانيا وتوسع نطاق الهجمات العميقة والعمليات السيبرانية، ثانيًا، سباق تسلح نوعي في مجالات الدفاع الجوي والصاروخي والطائرات المسيرة والحرب الإلكترونية، وثالثًا، إعادة تموضع لوجستي واستراتيجي يشمل القواعد، المخازن، والبنى التحتية الحيوية للناتو من البلطيق حتى البحر الأسود.
في هذا السياق، تأتي الإستعدادات الأميركية، التي بدأت بالإغلاق الحكومي وهو الخلاف الأساسي في الكونغرس الذي لم يكن فقط حول النفقات الداخلية، بل أيضًا حول حجم الأموال المخصصة للمساعدات الخارجية والإنفاق العسكري، حيث الجمهوريون، ضغطوا لتقليص أو إعادة توجيه التمويل، بما فيه التمويل المرتبط بـالحرب في أوكرانيا والدعم العسكري لإسرائيل، و الديمقراطيون ومعهم البيت الأبيض اصرّوا على استمرار التمويل العسكري الخارجي، معتبرين أنه جزء من التزامات واشنطن الاستراتيجية، هذا الخلاف زاد من صعوبة تمرير قانون التمويل المؤقت وأدى في النهاية إلى الإغلاق ليتسنى تمويل التحركات العسكرية الاستراتيجية الحديثة ومن ضمنها إبراز قدرات الضربات بعيدة المدى مثل صواريخ توماهوك، كجزء من سياسة الردع ، توماهوك، بصفتها صاروخ كروز بعيد المدى يُطلق غالبًا من منصات بحرية وغواصات، تمنح واشنطن وحلفاءها قدرة مرنة على توجيه ضربات دقيقة ضد أهداف عالية القيمة مع تقليل المخاطر على الطيارين، هذه القدرة، حين تُلوَّح بها أو تُوضع في حالة جاهزية متقدمة، لا تهدف بالضرورة إلى التصعيد المباشر بقدر ما تسعى إلى خلق شيء اسمه الغموض البنّاء حول كلفة أي توسع أو مغامرة عسكرية مضادة لمصالح الناتو.
و تأتي الاجتماعات الأخيرة لوزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث مع الجنرالات وقيادات في الأركان في فيرجينيا مع شدة اللهجة التي وصلت لحد انتقاد البدناء وسيئي المظهر والتهديد بالفصل لانهم امام مرحلة الحرب والنصر لاقوى جيش في العالم ، كخطوة تعكس هذا الخيار الردعي وربما الحربي، عادةً ما تركز مثل هذه الاجتماعات على أربعة محاور: تقييم استخبارات العمليات في الجبهة الأوكرانية ومسرح البلطيق، جاهزية القوات الأميركية المنتشرة في أوروبا خاصة عناصر الدفاع الجوي والصاروخي، تكامل أنظمة القيادة والسيطرة بين الحلفاء لسرعة الاستجابة، وخيارات القوة بعيدة المدى من بينها الصواريخ التقليدية الدقيقة والتواجد البحري المتقدم، فإبراز خيار التوماهوك هنا ليس بمعزل عن منظومة أوسع تشمل باتريوت وناسامز وسامبت، إضافة إلى قدرات ISR المتقدمة، ما يصنع شبكة ردع متعددة الطبقات.
في ذات الوقت، وفي الجبهة المقابلة، تكتسب العلاقة العسكرية والتقنية بين روسيا وإيران وزنًا أكبر في الحسابات الأوروبية والأميركية، فالتقارير المتواترة عن تعميق التعاون سواء اتخذ شكل معاهدة أو تفاهمات استراتيجية تشير إلى تبادل أعمق للقدرات: مسيرات هجومية واستطلاعية، ذخائر موجهة، ربما تكنولوجيا صاروخية ودفاع جوي، وتعاون في مجالات الحرب الإلكترونية والتشويش، أهمية هذا المحور أنه يتيح لروسيا تعويض بعض فجوات الإمداد والتقنيات في حرب طويلة الأمد، فيما تحصل إيران على خبرة ميدانية وتسريع لمنحنى تعلم أنظمتها، إضافة إلى مظلة سياسية-عسكرية أوسع.
الأثر المباشر على المسرح الأوروبي يتمثل في ثلاثة مسارات: أولًا، تكثيف التهديد الجوي-الصاروخي غير المتماثل: المسيرات بعيدة المدى والذخائر الجوالة تُربك الدفاعات وتُنهك المخزون الصاروخي للدول الأوروبية، ثانيًا، تصاعد الحرب الإلكترونية ورصد الاتصالات والملاحة، وهو مجال يحقق فيه الطرفان تقدمًا ملموسًا يضغط على شبكات الناتو وعمليات إمداده، ثالثًا، احتمال انتشار تقنيات أو تكتيكات من ميادين أخرى إلى أوروبا، بما يزيد تعقيد البيئة العملياتية.
استجابة أوروبا لا تقتصر على شراء مزيد من المنظومات، بل تشمل إعادة هندسة القاعدة الصناعية الدفاعية لتأمين إنتاج مستدام للذخائر، ولا سيما الدفاع الجوي وصواريخ الاعتراض، ألمانيا وبولندا ودول البلطيق تتحرك نحو طبقات دفاع جوي متكاملة، والمملكة المتحدة وفرنسا تعززان القدرات البحرية والجوية بعناصر بعيدة المدى، السويد وفنلندا، بانضمامهما إلى الناتو أغلقتا فجوة استراتيجية في الشمال، ما يتيح للحلف عمقًا عملياتيًا في بحر البلطيق ويزيد الضغط على القدرات الروسية في الشمال الغربي.
الولايات المتحدة، من جانبها، تعيد توزيع بعض منصاتها البحرية وتدفع بقطع قادرة على إطلاق توماهوك إلى مسارح قريبة من أوروبا لتأمين حضور نيراني مرن، هذا الترتيب يحقق هدفين: رفع الكلفة المحتملة لأي ضربة أو توغل، وتخفيف الضغط عن المنظومات الأرضية الأوروبية التي تواجه استنزافًا في الذخائر. ومع ذلك، فإن إبراز التوماهوك هو جزء من معادلة سياسية أيضًا، فهو رسالة للحلفاء قبل الخصوم بأن مظلة الردع الأميركية ما زالت فاعلة، وأن القيادة و السيطرة المشتركة قادرة على اتخاذ قرار سريع إذا دعت الحاجة.
لكن هذا التصعيد المدروس لا يخلو من مخاطر، فتعميق محور موسكو- طهران قد يقود إلى موجات جديدة من القدرات تصل إلى الميدان بوتيرة أسرع مما تستطيع الدفاعات الأوروبية التكيف معه، خاصة إذا اقترن بتحديثات روسية في الصواريخ التكتيكية، أو استخدام مكثف للحرب السيبرانية ضد البنى التحتية المدنية والعسكرية، كما أن الاعتماد الكبير على ذخائر اعتراض باهظة الثمن لمواجهة مسيرات وذخائر جوالة زهيدة التكلفة يخلق معضلة اقتصاد الدفاع، التي تدفع أوروبا والولايات المتحدة إلى البحث عن حلول طبقية أرخص: ليزر تكتيكي، مدافع م/ط محدثة، اعتراضات رخيصة، وأنظمة تشويش فعالة.
إستراتيجيًا، يبدو أن أوروبا تتجه إلى نموذج التحصين أكثر منه الهجوم، أي انتشار موزع للقوات والعتاد، مرونة لوجستية، بنى تحتية مزدوجة الاستخدام، وتمارين جاهزية متكررة تعزز سرعة الحشد، هذا النهج، مدعومًا بحضور أميركي يُظهر قدرات بعيدة المدى مثل التوماهوك، يهدف إلى تجنب مسافة الوقت بين الإنذار والرد، ومنع خلق أمر واقع على الحدود الشرقية مع روسيا، وفي المقابل، ستسعى روسيا، مدعومة بتعاونها مع إيران، إلى اختبار هذه الشبكات بالضغط ولكن بشكل تدريجي والقدرات غير المتكافئة، بحثًا عن نقاط اختراق أو إنهاك.
خلاصة القول: أوروبا تقف على عتبة سباق صمود طويل، أكثر منه سباق ضربة قاضية، الاستعدادات الأميركية، بما فيها إبراز خيار التوماهوك، تعمل كصمام أمان إستراتيجي يعزز الردع ويمنح الحلف فسحة مناورة، أما تعميق الشراكة الروسية-الإيرانية، فيعيد تشكيل ميزان القدرات في مجال المسيرات و الحرب الإلكترونية، والهجمات العميقة المنخفضة الكلفة ما يفرض على الناتو تسريع التحول الصناعي والابتكار التكتيكي. بين هذين المسارين، ستتحدد ملامح المرحلة المقبلة خلال الأسابيع القليلة القادمة مقروناً بالنشاط الإسرائيلي في غزة والمنطقة وقرار الحكم في غزة ما يفقد المحور الإيراني- الروسي اقوى ورقة ضاغطة على اميركا وإسرائيل، مع تعمد الثبات على خيار احتواء الصين في هذه المرحلة المقبلة


