تحولات الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية بعد طوفان الأقصى

د. معالي لطفي سالم
حظيت عملية “طوفان الأقصى” بأهمية استراتيجية كبرى نظرًا إلى أنها أسست لتغيير الواقع الذي حاولت إسرائيل تكريسه. فقد ارتكزت استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي على مثلث ذهبي يتمثل في : الردع، والإنذار المُبكر ومن ثم الحسم السريع. وأدت هذه العملية المباغتة إلى ضرب المبدأ الثاني لاستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو الإنذار المبكر، لأن عملية “طوفان الأقصى” شكلت مفاجأة استراتيجية من العيار الثقيل وإخفاق الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والمخابرات العامة (الشاباك) في توقع العملية أو الوصول إلى معلومة بشأنها، لتعود بعدها إلى ضرب البُعد الثالث والمُتمثل بالحسم السريع. لكن جرأة حماس في بدء الهجوم، أسقطت المبدأ الأول لاستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو الردع.مما أدى لتصور لدى الاحتلال الإسرائيلي مفاده أن استراتيجيات احتواء حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وخلق معادلات ردع معها غير قادرة على ضمان أمن إسرائيل. الأمر الذي يفرض على الاحتلال مقاربات جديدة للتعامل مع القطاع.
أولاً: المناطق العازلة:
تُعرف المنطقة العازلة بأنها مساحة بين المناطق المتنازعة للحد من التوتر، وتستخدم هذه المناطق عادة لأغراض أمنية كمنع الهجمات، لكن تنفيذها يتطلب إخلاء السكان بشكل كبير، مما يؤدي إلى خلق مساحات غير مأهولة تشهدها المناطق الحدودية غالباً.
تفرض إسرائيل “منطقة عازلة” على الجانب الغربي من حدودها مع غزة، منذ أوائل عام 2000 على الأقل. أعلن الجيش في سبتمبر 2005، في أعقاب تنفيذ خطة فك الارتباط، أنه مطلوب من سكان غزة الحفاظ على مسافة لا تقل عن 150 متراً من الشريط الحدودي، وفي بعض المناطق وصل الحظر إلى 500 متر. بدأت إسرائيل تدريجيًا، بعد وصول حماس إلى السلطة في غزة عام 2007، في فرض قيود على الوصول إلى المناطق التي تزيد مسافتها عن 300 متر إلى كيلومتر واحد من السياج.
في عام 2015، أعلن الجيش الإسرائيلي رسميًا عن المسافات التي يسمح للمزارعين وغيرهم من بعض السكان بالاقتراب منها من السياج. وتم تعيين المنطقة العازلة رسميًا، منذ عام 2010 حتى أكتوبر 2023، حتى مسافة 300 متر من السياج الحدودي، وحتى 100 متر من السياج للمزارعين.
(1) المنطقة العازلة ما بعد أكتوبر 2023:
ابتداءًا من نوفمبر 2023، عملت إسرائيل على إنشاء “منطقة عازلة جديدة” تشكل ما لا يقل عن 16٪ من إجمالي الأراضي في قطاع غزة (57 كيلومترًا مربعًا) وتغطي نحو كيلومتر واحد من المناطق الواقعة غرب السياج. كانت هذه المناطق في الماضي تشكل حوالي 35% من الأراضي المعدة للزراعة في القطاع. الهندسة الجغرافية الإسرائيلية الجديدة في المنطقة العازلة ستغير سلبًا طبيعة اقتصاد غزة وستضر بمصادر الغذاء التي اعتمد عليها سكانها في الماضي وتلك التي سيعتمدون عليها في المستقبل.
بالإضافة إلى الزراعة، احتوت أيضًا المنطقة المجاورة للسياج على منازل ومبانٍ عامة. وفقًا لتقرير صادر عن مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة، فإن 90٪ من المباني في “المنطقة العازلة الجديدة” (حتى كيلومتر واحد من السياج) قد دمرت أو تضررت.
(2) “ممر نتساريم” – تقطيع أوصال قطاع غزة كأداة للهندسة الجغرافية ومنع حركة السكان
وضع رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في عام 1971 خطة “الأصابع الخمسة”، التي تهدف إلى كسر التواصل الجغرافي الفلسطيني داخل حدود قطاع غزة، سواء من خلال الكتل الاستيطانية أو الطرق العسكرية. كجزء من الخطة، تقرر إنشاء مستوطنة نتساريم وطريق خاص لحركة اليهود فقط المؤدي للمستوطنة ويقسم قطاع غزة إلى قسمين: من رفح إلى مدينة غزة، ومن مدينة غزة شمالًا. وقد تم إخلاء هذا المحور مع تنفيذ خطة فك الارتباط في عام 2005.
سيطر الجيش على طريق نتساريم في الأشهر التي تلت 7 أكتوبر 2023، الذي يبلغ طوله 6.5 كيلومترات (من السياج الحدودي إلى البحر) ووسعه وأعاد رصفه، وحاليًا يسمح فقط بالتحرك العسكري الإسرائيلي عليه، مع استثناءات ينسقها ويوافق عليها الجيش. كما أقام الجيش الإسرائيلي مرافق مراقبة ومبانِ مؤقتة على طول الطريق. ويشكل ممر نتساريم، إلى جانب المنطقة العازلة الجديدة، فعليًا 32٪ من إجمالي الأراضي في قطاع غزة.
ثانياً: خطة الجنرالات:
بمبادرة من الجنرال المتقاعد غيورا ايلاند فقد اعتمد “منتدى الجنرالات والمحاربين في الاحتياط” وثيقة نشرها يوم 4/9/2024 في أعقاب مقتل المحتجزين الاسرائيليين الستة وعدم قدرة الجيش على حسم المعركة مع حماس وإلحاق الهزيمة بها.
وفقاً للجنرال غيورا ايلاند الذي صاغ الوثيقة، فإن كل السكان المتبقين في المنطقة شمالاً من محور نيتسريم بما فيه غزة المدينة، والبالغ عددهم نحو 300 ألفاً، سوف يتم اصدار الأوامر لهم بالنزوح فوراً عن طريق ممرات يوفرها الجيش وتحت حراسته، وبعد أسبوع من أوامر الإخلاء، يتم فرض الحصار العسكري الذي لا يتيح للذين لم يتركوا أية مقومات للعيش، بل يترك لكل من يبقى باعتبارهم وفقاً للوثيقة من عناصر حماس، خياراً واحداً وهو إما الاستسلام أو الموت.
تؤكد الوثيقة أن الصفقة الأولى في نوفمبر 2023 تكللت بالنجاح وذلك “لأن اسرائيل أدخلت للقطاع فقط حافلتي مساعدات اثنتين يوميا”، تنطلق الوثيقة من أنه “ما دامت حركة حماس تسيطر على المساعدات الانسانية، فلن يكون بالإمكان القضاء عليها”.
بينما صرح الجنرال حيزي نحاما رئيس منتدى الجنرالات بأن الخطة هي الوصفة المؤكدة لهزيمة حماس والقضاء عليها، وكان من المفترض أن يتم تطبيقها منذ أن تم طرح مشروع وزير الحرب غالنت التجريبي الذي سعى لتطبيقه على حي الزيتون في مدينة غزة قبل نصف عام، ثم أخفق. كما وانتقدت الوثيقة وزير الحرب غالنت وقائد الأركان هليفي لتردد كل منهما “إن من لا يستطيع تطبيق المخطط فهو يخون وظيفته ولن يكون بمقدوره قيادة الجيش والدولة إلى الانتصار على حماس”.
معنى تطبيق خطة الجنرالات هو استدامة الاحتلال الإسرائيلي المبني على تغيير خارطة التواجد السكاني الفلسطيني في القطاع، كما وتعني السيطرة الإسرائيلية المطلقة على شمال القطاع وتدمير مدينة غزة واستيطان اسرائيلي للمنطقة التي تكون إسرائيل قد ضمتها فعلياً.
ثالثاً: عقيدة إسرائيل العسكرية:
تعرف العقيدة العسكرية على أنها أفضل طريقة لقتال العدو والانتصار عليه، وهي تقوم على ثلاثة أبعاد مهمة: كيفية تنظيم العسكر، ونوعية التسليح، وأخيرًا نوعية التدريب. لكن التعديل في العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي، يبقى دائمًا ضمن المثلث: الردع، والإنذار المبكر، والحسم السريع.
بعد حرب يوليو 2006، عدلت إسرائيل عقيدتها العسكرية تحت اسم جديد، “الاندفاعة”(Momentum). ترأس هذا التعديل رئيس الأركان آنذاك، الجنرال أفيف كوخافي (2019-2023). ترتكز هذه العقيدة على ما يلي: تشكيل قوة عسكرية مترابطة مع بعضها البعض من ضمن شبكة عنكبوتية (Networked)، تكون قادرة على ضرب قدرات العدو خلال وقت قصير جدا، وبأقل كلفة ممكنة. في هذه العقيدة الجديدة، أُدخل مبدأ الدفاع عن الداخل الإسرائيلي بسبب عدد الصواريخ التي أطلقها حزب الله آنذاك على “إسرائيل.
رسم رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي، هرتسي هاليفي، في عام 2023، عقيدة جديدة تُكمل العقيدة السابقة تحت اسم “الصعود” (Ascent)، وهي كانت قبل عملية طوفان الأقصى. ترتكز هذه العقيدة في جوهرها على القتال الهجين (Hybrid Warfare)، أي القتال التقليدي، إلى جانب القتال غير المتماثل (Asymmetric Warfare). ركز هاليفي في هذه العقيدة على الرأسمال البشري، ومواجهة “التهديدات” الإيرانية، وتشجيع ودعم المناورة البرية أثناء القتال. كما ركز على القتال المشترك بين الأسلحة (Combined)، من مشاة، ومدرعات، وقوات خاصة، وسلاح الهندسة، كما الدعم الجوي والمدفعي. وهذه العقيدة تم اختبارها فعليا في عملية “السيوف الحديدية” على غزة.
رابعاً: الخرق الاستخباراتي السيبراني:
بعد هجوم حماس يوم 7 أكتوبر وتحت شعار “مساندة غزة” أو ما عرف بوحدة الساحات، أطلق حزب الله نيرانه الأولى من جبهة الجنوب على إسرائيل في اليوم التالي، 8 أكتوبر2023، حيث نفذ هجوماً على 3 مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، ثم انتقل إلى استهداف مواقع حدودية وفى هذا السياق دخل حزب الله ولبنان على خط الحرب مع إسرائيل .
لقد قامت إسرائيل بعملية سيبرانية هجينة يوم 17 سبتمبر 2024، استهدفت أجهزة الاتصال “البيجر” التابعة لعناصر حزب الله، والتي أسفرت عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة أكثر من 2800 آخرين، ثم أتبعت بعملية ثانية يوم 18 سبتمبر2024 بتفجير أجهزة الاتصال من نوع ICOM IC-V82 VHF والتي أدت إلى وقوع 9 قتلى وأكثر من 300 إصـابة لعناصر من قوات الرضوان التي تعتبر قوات النخبة في الحزب .
تأتي هذه العملية بعد تنفيذ إسرائيل لعملية خاصة يوم 9 سبتمبر 2024 دمرت خلالها مصنع صواريخ إيراني تحت الأرض في غارة برية في منطقة مصياف بسوريا، ومجموعة كبيرة من العمليات الأمنية استهدفت 450 قيادياً وعنصراً من حزب الله على رأسهم القائد العسكري للحزب فؤاد شكر.
يُعد هذا الخرق من الحروب الهجينة وتختلف الحروب الهجينة عن الحروب التقليدية من حيث الاستراتيجية والتكتيك والأسلوب. ويعد الانخراط في مثل تلك الحروب استخدام تكتيكات حروب العصابات، وبما يعني نصب الكمائن، استخدام العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية والاغتيالات، إضافة إلى استخدام وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي في شن حرب نفسية على الخصم.
هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل أجهزة إلكترونية لاغتيال أشخاص، وفيما يلي أبرز الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل باستخدام التكنولوجيا المتطورة، فقد تم اغتيال محمود الهمشري 26 أغسطس 1972، يحيى عياش يوم 5 يناير 1996، سميح الملاعبي يوم 17 ديسمبر 2000 ، عز الدين الشيخ خليل اغتيل في أكتوبر 2004 ، ومحسن فخري زاده يوم 27 نوفمبر 2020 كل هذه الاغتيالات تمت باستخدام التكنولوجيا المتطورة، ولكن الفرق هذه المرة هو حجم العملية. مئات الأهداف في عملية واحدة.
وقد سلط هذا الهجوم الضوء على وحدة الحرب الإلكترونية السرية الإسرائيلية 8200، المعروفة في إسرائيل باسم “شموني ماتاييم“، والتي تُعد جزءًا من مديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وهي أكبر وحدة عسكرية منفردة في قوات الدفاع الإسرائيلية. وتعود جذورها إلى وحدات فك الشفرات والاستخبارات المبكرة التي تشكلت مع قيام دولة إسرائيل عام 1948.
تُعد أنشطة الوحدة غالبًا سرية للغاية، ومن ضمن مهامها الهجمات التكنولوجية. ومن العمليات التي شاركت فيها، هجوم فيروس “ستوكسنت” بين عامي 2005 و2010 الذي عطل أجهزة الطرد المركزي النووية الإيرانية، والهجوم الإلكتروني الذي استهدف شركة الاتصالات الحكومية اللبنانية “أوجيرو” عام 2017.
وقد سعت إسرائيل، عبر تلك العملية المركبة وغير المسبوقة، إلى تحقيق جملة من الأهداف التي تتمثل فيما يلي:
- تغيير قواعد الاشتباك التقليدية
العملية الإسرائيلية قلبت قواعد الاشتباك التي كانت قائمة منذ حرب 2006. حزب الله كان يعتمد على معادلة ردع متبادل مع إسرائيل، حيث تضمن الهجمات الانتقامية توازنًا معينًا، ولكن هذه الضربة السيبرانية والتكنولوجية هزت هذه القواعد التقليدية، إذ أظهرت أن إسرائيل يمكن أن توجه ضربات نوعية وتكنولوجية دون الحاجة إلى خوض معارك تقليدية مباشرة، وهوما يستوجب على الحزب الرد بعملية أمنية وهو ما يقع فوق إمكانية الحزب.
- الضغط على حزب الله لقبول الشروط الإسرائيلية
تسعى إسرائيل إلى إكراه الحزب على القبول بشروط إسرائيل لوقف إطلاق النار و هذا يشمل: (وقف إطلاق النار- السماح بعودة النازحين. من الجانبين- ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية البرية وحسم قضية مزارع شبعا- انسحاب مقاتلي حزب الله من المناطق الحدودية.- نشر المزيد من قوات الجيش اللبناني)، كما تقوم إسرائيل من خلال هذه العملية بإرسال رسالة واضحة للحزب بأن قدراته العسكرية ليست آمنة.
- طرد قوات حزب الله إلى شمال الليطاني وإحلال الجيش اللبناني مكانه
إحدى الأهداف الرئيسة لإسرائيل هي الضغط لإبعاد الحزب من جنوب نهر الليطاني، وهي منطقة تعتبر استراتيجية لأمن إسرائيل. والتي يسيطر عليها الحزب منذ عقود، ويستخدمها كقاعدة لتهديد الأراضي الإسرائيلية، خاصة من خلال شبكة الأنفاق ومنصات إطلاق الصواريخ المخفية. وهو ما يعني تقليص قدرة الحزب على تنفيذ هجمات سريعة ومباغتة، مما يمنح إسرائيل عمقًا أمنيًا إضافيًا في جنوب لبنان.
- تحقيق تفوق استخباراتي وتقني :
تهدف إسرائيل إلى ترسيخ تفوقها في المجال السيبراني والتكنولوجي عبر هذه العملية، تظهر إسرائيل قدرتها على تنفيذ هجمات سيبرانية معقدة ودقيقة قد تزعزع استقرار حزب الله من الداخل، العمليات السيبرانية توفر لها ميزة استراتيجية، حيث يمكنها تحقيق أهداف عسكرية دون الدخول في مواجهة مباشرة على الأرض، استهداف أنظمة الاتصال للحزب يظهر مدى تفوق إسرائيل الاستخباراتي والتقني على خصومها.
- استباق أي هجوم محتمل من قبل الحزب
العملية تأتي في إطار ضربات استباقية تهدف إلى منع حزب الله من تنفيذ أي هجوم ضد إسرائيل، قد تكون إسرائيل حصلت على معلومات استخباراتية تشير إلى نية الحزب التحرك عسكريًا أو تصعيد التوترات، وبالتالي كانت هذه العملية طريقة لتعطيل خططه وتقليل قدرته على التحرك كما فعلت ذلك نهاية شهر أغسطس 2024 في عملية استباقية لإجهاض هجمة صاروخية من الحزب على شمال إسرائيل.
- إرسال رسائل ردع إلى طهران والفصائل الموالية لها في المنطقة: حاولت إسرائيل، من خلال تفجيرات أجهزة النداء “البيجر”، إرسال رسالة ردع إلى خصومها في المنطقة، لا سيما ما يُعرف بـ”محور المقاومة” الذي يضم إيران والعديد من الفصائل الموالية لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن، مفادها أن تكلفة الذهاب إلى حرب شاملة قد تكون مكلفة جداً؛ ليس فقط على الجانب العسكري، وإنما أيضاً في القطاعات المدنية، وأنها لن تتردد في توظيف التفوق التكنولوجي والاستخباراتي في إحداث أكبر ضرر ممكن بخصومها، دون أن يفرض ذلك عليها ضغوطاً دولية يمكن أن تُشكل رادعاً لها.
- ضرب البنية التنظيمية ومنظومة القيادة والسيطرة للحزب: استهدفت إسرائيل من خلال هذه العملية المركبة إرباك وشل منظومة القيادة والسيطرة لدى الحزب؛ فعن طريق تفجير الآلاف من أجهزة الاتصالات في وقت واحد في العديد من المناطق اللبنانية، يمكن إفقاد كوادر وقيادات الحزب في المراكز العسكرية واللوجستية القدرة على التواصل والتنسيق، لا سيما مع استمرار عمليات اغتيال قيادات الصف الأول.
- زرع حالة من الشك والريبة والفوضى في صفوف الحزب: حاولت إسرائيل عبر تلك العملية ضرب معنويات عناصر حزب الله، وزرع حالة من الشك والريبة في صفوفه؛ فالتفجيرات جاءت من داخل الأجهزة التي يعتمد عليها عناصر الحزب ويحملونها؛ الأمر الذي تسبب في فوضى غير مسبوقة نتيجةً للمفاجأة من جانب، والكم الهائل من الإصابات التي نجمت عنها.
خامساً: سياسة الاغتيالات الإسرائيلية:
تمتد جذور سياسة الاغتيالات في بنية المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية منذ عام 1948، وقد نفذت المخابرات الإسرائيلية عملية الاغتيال الأولى في عام 1955 استهدفت رئيس المخابرات المصرية في غزة مصطفى حافظ، وصلاح مصطفى الملحق العسكري المصري في الأردن “عام 1956انتقاماً من دورهما في دعم الفدائيين الفلسطينيين”.و كذلك كانت بصمات الموساد الواضحة في اختفاء الناشط السياسي المغربي المهدي بن بركة واغتياله لاحقًا في فرنسا 1965؛ عملية اغتيال غسان كنفاني قبل عملية ميونخ بشهرين في 8 يوليو 1972، بالإضافة إلى عدة محاولات اغتيال باءت بالفشل: مثلاً محاولتا اغتيال سعيد السبع في الجزائر 1966، وفي بيروت 1972.
وفي أعقاب إصدار رئيسة الحكومة الإسرائيلية جولدا مائير أوامر للمستويين الأمني- العسكري في أعقاب عملية ميونخ 1972، لملاحقة واغتيال المسؤولين عن العملية وقيادة منظمة “أيلول الأسود”، أسفرت عملية “غضب الآلهة” عن اغتيال أكثر من 15 قياديًا في حركة فتح حول العالم انتهاءً باغتيال “الأمير الأحمر”- أبو علي حسن سلامة قائد القوة 17 في بيروت عام 1979 الذي نُسبت إليه المسؤولية عن المنظمة، عملية “ربيع الشباب” في العام 1973.
وقد امتدت هذه العمليات حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي حيث اغتالت وحدة “سييرت متكال” القائد العسكري الأول في حركة فتح خليل الوزير في تونس في العام 1988؛ اغتيال الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي بعد استهدافه من الجو في عام 1992، اغتيال فتحي الشقاقي الأمين العام للجهاد الإسلامي في مالطا عام 1995، ويحيى عياش القائد العسكري في حركة حماس عام 1996؛ محاولة اغتيال خالد مشعل الفاشلة في الأردن 1997، وكذلك سلسلة الاغتيالات بحق النشطاء والقيادات السياسية والعسكرية لحماس والجهاد حتى عشية الانتفاضة الثانية.
خامساً: الإحباط الموضعي:
يعود مفهوم ” الإحباط الموضعى” لزمن الانتفاضة، حيث أنه مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، صاغت المؤسسة الأمنية في إسرائيل نوعًا من “النظرية القتالية”، وقد أطلقت عليها اسم “إحباط موضعي”، عندما استخدمه نائب رئيس الشاباك في حينه يوفال ديسكن، لتوصيف الاغتيالات السياسية، التي تختلف في المنظور الإسرائيلي عن غيرها من عمليات القتل والإعدام من حيث: 1) وجود قرار سياسي؛ 2) إحباط “تهديد وشيك” حيث لا يمكن وقفه بطريقة أخرى؛ 3) الاغتيال يحقق “الردع” ويعززه بمعناه الشامل؛ 4) الاغتيال يؤدي للإضرار بقدرات المنظمة أو الحزب أو تدميرها ويخدم “الردع” في المنظور الاستراتيجي.
استمرت إسرائيل في استخدام هذا الأسلوب على مدار سنوات الانتفاضة بقرار من رئيس الحكومة آنذاك أريئيل شارون ورئيس “الشاباك” آفي ديختر بوصفها سياسية “أخلاقية”، انطلقت أولى عمليات “الإحباط الموضعي” في هذه المرحلة باغتيال حسين العبيات القيادي في الجناح العسكري لحركة فتح في بيت لحم، وكذلك القيادي السياسي في تنظيم فتح ثابت ثابت في طولكرم، وصلت ذروتها في اغتيال رؤساء المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي في عام 2004.
استمرت الاغتيالات حتى بعد الانتفاضة الثانية، وقد تركزت أكثر في قطاع غزة على مدار الحروب والجولات العسكرية التي شنتها ضد فصائل المقاومة الفلسطينية فيه وتحديدًا بعد عام 2006، بعضها نفذتها خلال هذه الحروب، والآخر كانت أسبابًا في اندلاعها (اغتيال قائد القسام أحمد الجعبري عام 2012، واغتيال بهاء أبو العطا القيادي العسكري البارز في حركة الجهاد الإسلامي عام 2019). وعلى الرغم من أن إسرائيلنفذت العديد من عمليات الاغتيال والإعدامات الميدانية بحق النشطاء الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ نهاية الانتفاضة وحتى 7 أكتوبر 2023، فإن المعطيات الإسرائيلية تؤكد أن عملية “الإحباط الموضعي” الأولى التي تُنفذ في الضفة منذ نهاية الانتفاضة الثانية كانت باغتيال كل من محمد عويس وصهيب الغول وأشرف أبو الهيجا من مخيم جنين منتصف عام 2023، كذلك اغتيال كل من عماد مغنية عام 2008، وسمير القنطار عام 2015 القياديين في حزب الله في سوريا.
وفي أعقاب هجوم 7 أكتوبر، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بالإضافة إلى قادة الجيش والمؤسسة الأمنية تهديداتهم العلنية ضد قادة حركة حماس وكوادرها متوعدين بالوصول إليهم واغتيالهم في كل مكان داخل فلسطين وخارجها، وقد شكلوا لهذه المهمة وحدة استخبارية تنفيذية خاصة في جهاز الأمن العام “الشاباك” حملت اسم “نيلي”، وقد دخلت هذه التهديدات حيز التنفيذ منذ اليوم الأول للحرب، وطالت مجموعة كبيرة من القيادات السياسية والعسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وامتدت إلى خارجه باغتيال عضو المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في بيروت مطلع 2024، ومن ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في طهران في يوليو 2024، وكذلك العديد من الاغتيالات في لبنان وسوريا كان أبرزها اغتيال القيادي الكبير في منظمة حزب الله فؤاد شكر في أغسطس 2024، اغتيال نصر الله ويحيى السنوار، إضافة إلى قيادات في حزب الله وفيلق القدس.
استخدم الجيش والمؤسسة الأمنية لفظة “سيكول ميموكاد”- (بالعبرية)، أي “إحباط موضعي” بالمعنى الحرفي (بالعربية)، وهذا المصطلح شق طريقه في الأدبيات العسكرية- الأمنية، وفي الخطابين السياسي- الإعلامي والقضائي في إسرائيل في الانتفاضة الثانية للدلالة على “تدبير وقائي” يتم تفعيله بهدف “إحباط التهديد ومنعه”.
ومنذ هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، بدا وأن هناك سمات جديدة في تفعيل الاغتيالات بذريعة “الإحباط الموضعي” والأهداف المرجوة من تفعيلها. تتمثل في انتقال خطاب إسرائيل بكافة مستوياته من التعامل مع هذه السياسة بوصفها “تدبيرًا وقائيًا لإحباط تهديد ما”، ومن مناقشتها من حيث الجدوى العسكرية- الأخلاقية- القانونية كما كانت تدعي على مدار العقود الماضية، إلى تفعيلها بوصفها إجراء انتقاميًا ضمن حرب الإبادة الجماعية المُغلفة بادعاءات “الحرب الوجودية”، “حرب الاستقلال الثانية” و”حرب الخير والحضارة ضد الشر والبربرية”. يتأتى ذلك في الدرجة الأولى من هدف إشباع الرغبة في الانتقام التي غلبت على المجتمع الإسرائيلي وقيادته بشكلٍ شامل بعد 7 أكتوبر، ويأتي ذلك في إطار السعي لـ “إغلاق الحساب” كما هو دارج في الثقافة الأمنية- العسكرية الإسرائيلية، ورغم التشابه من حيث المبدأ فقط لهذا التوجه مع توجه الحكومة الإسرائيلية في أعقاب عملية ميونخ وخلال الانتفاضة، فإن الاختلاف يظهر في نواحٍ عديد أهمها أن إسرائيل لطالما روجت لعمليات الاغتيال التي نفذتها بذريعة “الإحباط الموضعي” وأنها حدث استثنائي وليس القاعدة، ما استتبع ذلك من تمييز واضح في أدبياتها بين التصفيات والإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين، وبين هذا الشكل من العمليات.
سادساً: حرب غزة مقابل جبهة لبنان:
يختلف المسرح الجغرافي والطوبوغرافي في غزة عن جبهة لبنان في عدة أبعاد. مساحة غزة لا تتجاوز 365كلم2، بينما جبهة لبنان الأساسية من جنوب الليطاني وحتى الخط الأزرق، تبلغ ما يقارب 1000 كلم2. غزة معزولة جغرافياً باستثناء الحدود مع مصر. لـ«حزب الله» العمق الجغرافي الاستراتيجي والذي يمتد من الخط الأزرق وحتى طهران. تخوض «حماس» الحرب في مجتمع من صنف وانتماء واحد. يخوض «حزب الله» حربه من ضمن تعددية داخلية فيها التنوع الديني والمذهبي وحتى الإثني، لكن المقاربة العملياتية تحمل عوامل مشتركة.
ففي غزة، سبقت العمليات الجوية العمليةَ البرية واستمرت لدعم القوات على الأرض حتى تحقيق المهام المخططة ضد مراكز ثقل الجانب الآخر وتليين الدفاعات واستنزاف قواته والتأثير في البيئة الحاضنة، والعمل على دفعه للإذعان لشروط التفاوض، أو الدخول في عمليات برية عالية التكلفة.
بدأت الضربات الجوية والمدفعية للجيش الإسرائيلي بتاريخ 7 أكتوبر، بينما بدأت العمليات العسكرية 27 أكتوبر في غزة، بينما بدأ الجيش الإسرائيلي في أكتوبر 2024 عملية برية في الجنوب اللبناني بهدف “ضرب وتفكيك البنية التحتية العسكرية لحزب الله” في المنطقة. وأتت هذه العملية البرية ضمن عملية أوسع أطلقتها إسرائيل في لبنان في سبتمبر 2024 تحت اسم “السهام الشمالية”. وبهذا فقد خاض الجيش الإسرائيلي حرباً مر عليها حتى الآن سنة، على عدة جبهات لا تزال كلها مشتعلة. بما يخالف العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والذي اعتمد على خوض الحروب القصيرة.
خاتمة :
لقد خرجت إسرائيل إلى الحرب على قطاع غزة وهي تضع نصب أعينها مسألة إعادة الاعتبار لمكانتها وردعها في المنطقة، وليس أدل على ذلك من مقولة “إن كانت إسرائيل تريد العيش في المنطقة، فعليها فعليًا إلقاء جثمان حركة حماس أمام الشرق الأوسط” بعد أن فشلت أمنيا واستخباراتيا في التنبؤ بطوفان الأقصى. إن الرغبة المدفوعة بالانتقام، تسعى من بين أمور أخرى، إلى إبادة الأجيال الحالية لحماس والجهاد في غزة وإحداث تحول في هوية وتفكير هذه الحركات على المدى البعيد، وهو ما يُمكن قراءته في التصريحات الإسرائيلية التي تؤكد على ضرورة إحداث “تغيير أيديولوجي في أوساط السكان”، والحيلولة دون استنساخ ما حدث في غزة أو تكراره مرة أخرى سواءً في غزة أو خارجها.