احتفالات الصين بالعيد الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية: الأهداف الاستراتيجية والانعكاسات المستقبلية

د. ياسر الطيب، أكاديمي وخبير أمني (السودان)
مقدمة
شكل احتفال الصين في الثاني من سبتمبر 2025، بالذكرى الثمانين لانتصارها على اليابان في الحرب العالمية الثانية حدثاً استثنائياً على عدة مستويات، إذ تجاوز كونه مناسبة لتخليد الذكرى ليصبح أداة سياسية واستراتيجية تهدف إلى ترسيخ مكانة الصين كقوة عظمى صاعدة على الساحة الدولية.
فمن الناحية التاريخية، يعكس الاحتفال إدراك الصين لأهمية استحضار الماضي وتأكيد انتصارها على الاحتلال الياباني كجزء من تاريخها الوطني. أما على الصعيد السياسي، فقد استُخدمت المناسبة لتسليط الضوء على الدور المحوري للصين في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية، وإظهار قدرتها على التأثير في القرارات الدولية وفي صياغة النظام العالمي الجديد وفق مصالحها واستراتيجياتها. وبالنظر إلى البعد الاستراتيجي، فإن الاحتفال كان أيضاً رسالة رمزية مفادها أن الصين ليست مجرد لاعب اقتصادي عالمي فحسب، بل قوة عسكرية وسياسية تسعى لتوسيع نفوذها وبناء تحالفات جديدة، بما يعزز مكانتها كعنصر فاعل وحاسم في القضايا الدولية الكبرى.
أولاً: الخلفية التاريخية والسياق الاستراتيجي
ترى الصين أن مساهمتها في الحرب العالمية الثانية تم تهميشها والتقليل من شأنها في السرد الغربي لأحداث الحرب العالمية الثانية، فقد استطاعت ان تهزم الجيش الياباني وتلحق الخسائر به، مما أسهم في الحد من توسعه العسكري في مسارح أخرى، وهو ما تعتبره بكين دليلاً على دورها الحاسم في النصر العالمي(ابوعلي 2019؛ (Shambaugh, 2013. .
حيث يعمل الرئيس الصيني شي جين بينغ على ربط الانتصارات التاريخية بمسار الصين المعاصر، مؤكداً أن مقاومة الاحتلال الياباني مهدت الطريق لـ “نهضة الأمة الصينية”، وأن تجاوز قرن الإذلال الاستعماري شكل الأساس لانبعاث الصين كقوة عظمى ((Zhao, 2019. ولا يقتصر هذا الخطاب على استدعاء الماضي، بل يُوظَّف أيضاً كأداة سياسية لترسيخ شرعية الحزب الشيوعي وتعزيز الهوية الوطنية، من خلال إبراز قدرة الصين على تحويل معاناتها التاريخية إلى رافعة استراتيجية لمكانتها الدولية المعاصرة. ويتسق ذلك مع مفهوم “الطموح الصيني” الذي يهدف إلى استعادة المكانة الحضارية للصين وتحقيق صعودها التدريجي كقوة مركزية في النظام الدولي (قاسم، 2018).
ثانياً: الأبعاد المحلية للاحتفال
(1) تعزيز الشرعية الوطنية:
حرص الحزب الشيوعي الصيني على استثمار هذه الذكرى لترسيخ صورته باعتباره القوة التي قادت الشعب في مواجهة الاحتلال الياباني، مقدماً نفسه بوصفه الضامن لوحدة البلاد ونهضتها. وقد جرى التركيز على التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الصيني، والتي تجاوزت 20 مليون قتيل، باعتبارها حجر الأساس في بناء الهوية الوطنية الحديثة (السيد، 2020).
(2) إعلاء مكانة الجيش لدى الشعب الصيني
لم يكن الاستعراض العسكري مجرد عرض للاحتفال، بل شكّل رسالة متعددة الأبعاد موجهة إلى الشعب الصيني، تهدف إلى تعزيز الروح المعنوية وغرس الولاء الوطني وترسيخ قيم الحزب الشيوعي وتعزيز الثقة فيه. أبرز العرض جاهزية جيش التحرير الشعبي وتقدمه نحو هدفه الطموح بالتحول إلى “جيش عالمي ” بحلول عام 2027 (McDonald, 2011)، (قاسم ، 2018) ، مؤكدًا قدرة الدولة على حماية مصالحها الحيوية وردع أي تهديد محتمل. كما عكس عرض الأسلحة والمنظومات الحديثة حجم الإنجازات في التحديث العسكري، ومن خلال هذا الجمع بين البُعد العسكري والرمزي والسياسي، نجح الاستعراض في مخاطبة المواطنين مباشرة، وتعزيز الشعور بالانتماء والهوية الوطنية، بما يجعل الاحتفال أداة فعّالة في تعزيز الدعم الشعبي لرؤية الدولة واستراتيجيتها بما يدعم شرعيته في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ثالثاً: الأبعاد العسكرية والسياسية للاحتفال
(1) إبراز القدرات العسكرية:
أرادت الصين من خلال الاستعراض العسكري أن تقدم دليلاً ملموساً على ما حققته في مجال التحديث الدفاعي، حيث عرضت مجموعة من الأسلحة المتطورة محلية الصنع، من بينها أنظمة فرط صوتية وصواريخ بعيدة المدى وتقنيات فضائية متقدمة ، ولم يكن هذا العرض مجرد استعراض تقني، بل رسالة استراتيجية تؤكد انتقال الصين من مرحلة الاعتماد على الخارج إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي (IISS, 2023)؛( السيد، 2020) والابتكار في المجال العسكري. كما شكّل الإعلان عن هذه القدرات أداة لتعزيز الثقة الداخلية في قيادة الحزب، ورسالة لطمأنه المواطنين حول قدرة الدولة على حماية سيادتها، ومواجهة القوى المنافسة في الإقليم والعالم.
(2) إعادة بناء التحالفات الدولية:
إلى جانب البعد العسكري، حمل الاحتفال رسائل سياسية بالغة الأهمية، تجسدت في مشاركة قادة دول مثل روسيا وكوريا الشمالية وإيران وبيلاروسيا. وقد عكس هذا الحضور بروز محور غير غربي يسعى إلى موازنة الهيمنة الغربية (ابوعلي ، 2019) في وقت غاب فيه الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة وأوروبا عن المناسبة، وتكشف هذه المشاركة عن سعي الصين لتوسيع شراكاتها الاستراتيجية مع قوى تشترك معها في رفض الأحادية القطبية، بما يعزز من مكانتها ضمن معادلات القوة الدولية. ومن ثم، فإن الاحتفال لم يكن مجرد مناسبة وطنية، بل منصة لإعادة رسم ملامح النظام العالمي الجديد.
(3) السيادة وتسوية النزاعات:
وظّفت الصين احتفالها لإعادة التأكيد على قضايا سيادية حساسة، وعلى رأسها مسألة تايوان، حيث ربطت بين مقاومتها للاستعمار الياباني في الماضي ورفضها لأي نزعات انفصالية في الحاضر (Central Intelligence Agency, 2024)، وفي السياق ذاته، تضمنت الرسائل المعلنة إشارات ردع إلى بعض دول الجوار، مثل الهند والفلبين، في ظل استمرار الخلافات الحدودية والنزاعات البحرية. ويكشف هذا التوظيف للتاريخ عن مقاربة صينية ترى في الماضي مرجعية لإضفاء الشرعية على مواقفها الراهنة، ولإيصال رسالة مفادها أن بكين مستعدة لاستخدام جميع أدوات القوة المتاحة لضمان سيادتها وحماية مصالحها الحيوية.
رابعاً: البعد التكنولوجي الدفاعي
يشكّل البعد التكنولوجي الدفاعي أحد أهم عناصر الاستراتيجية العسكرية للصين، ويعكس التقدم الملحوظ في قدراتها على الابتكار العسكري المستقل. فقد كشفت الصين في وقت سابق قبل هذا الاحتفال عن أسلحة متطورة مصنعة محلياً، ما يدل على نجاحها في تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي وتعزيز استقلالها الدفاعي عن الخارج (Ministry of National Defense of China, 2023) .
إضافة إلى ذلك شمل الاستعراض العسكري تشكيلات متقدمة في المجالات السيبرانية والفضائية، ما يعكس إدراك الصين لأهمية هذه الميادين في النزاعات المستقبلية (United Nations,2024) ، إذ لم تعد الحروب محصورة في المواجهات التقليدية، بل أصبحت تشمل الفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي، حيث يمثل التفوق في هذه المجالات عنصر قوة حاسم. ويشير هذا التوجه إلى استعداد بكين لخوض أنماط من الصراعات الجديدة التي تتصف بالتعقيد ، مع تعزيز قدرتها على الردع وإدارة الأزمات بطريقة استراتيجية، بما يدعم رؤيتها الطموحة في صعود الصين كقوة عسكرية متقدمة تقنياً وقادرة على حماية سيادتها ومصالحها الوطنية.

خامساً: التأثير المحتمل للعرض العسكري على علاقات الصين بالدول النامية
يمثل العرض العسكري الصيني منصة استراتيجية لتعزيز مكانة بكين بين الدول النامية، إذ يعكس قدرتها على الجمع بين القوة العسكرية والتقدم التكنولوجي، ما يمنحها مصداقية قوية كشريك استراتيجي قادر على حماية مصالحه ومصالح حلفائه:
(1) تعزيز الثقة والاحترام السياسي:
يدرك قادة الدول النامية أن الصين ليست مجرد قوة اقتصادية فحسب، بل دولة ذات قدرات دفاعية متقدمة يمكن الاعتماد عليها في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. وهذا يمنح بكين ميزة واضحة عند بناء تحالفات دبلوماسية والتفاوض بشأن القضايا الاستراتيجية.
(2) دعم النموذج التنموي البديل
يشكل العرض العسكري دليلاً على نجاح الصين في حماية سيادتها وتحقيق تنمية مستدامة، مما يعزز جاذبية نموذجها التنموي لدى الدول النامية ويشجع على الانخراط في مشاريع اقتصادية واستراتيجية مشتركة. (Shambaugh, 2013)
(3) إشارات الردع للخصوم الإقليميين والدوليين:
يشكل الاستعراض إشارة قوية للخصوم الإقليميين والدوليين، ما يزيد من شعور الدول النامية بنوع من الأمان عند التعاون مع الصين، ويؤكد قدرتها على حماية مصالحها ومصالح حلفائها ضد أي تدخل خارجي محتمل.
(أ) تعزيز النفوذ الدبلوماسي الدولي:
يساهم هذا العرض في تعزيز موقف بكين داخل المؤسسات الدولية، إذ يمكن للانطباع القوي عن قدراتها العسكرية أن يُترجم إلى دعم مواقفها في الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها من الهيئات، مما يعزز قدرتها على إعادة تشكيل موازين القوة بما يخدم مصالح الدول النامية وحلفاء الصين.
(ب) تعزيز التعاون العسكري والتسليحي
يسهم العرض العسكري الصيني في دفع الدول النامية إلى إعادة النظر في سياسات تسليحها وتنويع مصادرها، بعيداً عن الاعتماد التقليدي على الدول الغربية. فالقدرات العسكرية المتقدمة التي عرضتها الصين توفر لهذه الدول خياراً عملياً للحصول على تقنيات وأسلحة حديثة تدعم جاهزيتها الدفاعية، مع الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها الاستراتيجي. إضافةً الى تعزيز التعاون العسكري المباشر، من خلال برامج التدريب المشترك، وتبادل الخبرات، وإقامة مناورات ثنائية أو متعددة الأطراف. وتستفيد الدول النامية من رفع مستوى قدراتها العملياتية، بينما تستفيد الصين من توسيع نفوذها الاستراتيجي وبناء شبكة من الشركاء العمليين القادرين على دعم مصالحها الإقليمية والدولية.
وبذلك، يمتد تأثير العرض العسكري الصيني ليشمل بعداً عملياً ملموساً، إلى جانب أبعاده الرمزية والدبلوماسية والتنموية، مما يعزز الروابط الاستراتيجية ويؤكد مكانة الصين كمحور رئيسي للشراكات العسكرية مع الدول النامية.
(4) البعد الرمزي والتاريخي:
يربط العرض بين الانتصارات التاريخية للصين وصعودها المعاصر، ما يخلق صدى لدى الدول النامية التي واجهت الاستعمار أو التدخل الأجنبي، ويعزز روابط سياسية وثقافية إضافية مع بكين

سادساً: التأثير على التنافس الجيوستراتيجي العالمي
لقد شكّل الاستعراض العسكري والاحتفالات المصاحبة له فرصة لتعزيز مكانة الصين على الصعيد الدولي، مؤكدًا على قدرتها على المنافسة مع الولايات المتحدة في موازين القوى العالمية (Council on Foreign Relations,2024)، فقد أظهر العرض الجمع بين القوة العسكرية المتقدمة والتكنولوجيا الحديثة، ما يعكس تطور القدرة الصينية على لعب دور رئيسي في إعادة تشكيل النظام الدولي متعدد الأقطاب وحماية مصالحها السيادية والاستراتيجية، وتأكيد جاهزيتها في مواجهة أي محاولات للتدخل أو الضغط الخارجي. وتعكس هذه الديناميكيات قدرة بكين على توظيف أدوات القوة العسكرية والتقنية والدبلوماسية معًا، بما يتيح لها تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي وفرض حضورها على الساحة العالمية بشكل متوازن ومدروس.
سابعاً: البعد الاقتصادي والثقافي
– أظهر الاستعراض القوة الصناعية للصين وقدرتها على دمج الاقتصاد بالأمن القومي، ما يتيح لها دعم مبادرة الحزام والطريق(عبد الحي ، 2021) ومشاريع البنية التحتية العالمية، وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في مناطق نفوذ استراتيجية متعددة
– استخدمت الصين الرموز الثقافية والدعاية الإعلامية لتكريس الرواية الوطنية، وتسليط الضوء على قوتها الناعمة (Nye,2004)إلى جانب قوتها العسكرية. فالرموز التاريخية والفنون ووسائل الإعلام ساهمت في نقل رسالة مفادها أن الصين ليست قوة عسكرية فحسب، بل دولة تمتلك عمقاً ثقافياً وحضارياً، قادر على التأثير في الرأي العام الدولي وتعزيز صورتها كقوة متكاملة.
وكان الملفت للنظر خلال الاحتفال واللقاءات الرسمية ارتداء الرئيس الصيني البدلة التي تعرف ببدلة الزعيم أو بدلة ماو ((Zhongshan Suit وترمز الى الهوية الوطنية والارتباط بقيم الثورة وترمز الى استمرار القيادة الصينية الحالية في الحفاظ على المبادئ القومية والثورية التي أسست الصين الحديثة. ويعد اختيار الرئيس الصيني لهذه البدلة رسالة قوية تشير على أن الصين متمسكة بتاريخها الوطني وهويتها.
من هذا المنطلق، يبرز الاستعراض الصيني كحدث متعدد الأبعاد، يجمع بين القوة العسكرية، الاقتصادية، والثقافية، ويعكس رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز موقع الصين الدولي ورفع وزنها في التنافس الإقليمي والعالمي.
ثامناً: ردود الفعل الإقليمية والدولية
أثار الاستعراض العسكري الصيني اهتماماً واسعاً على المستوى الدولي، وأدى إلى مزيج من القلق والحذر والتوقعات بحسب المواقف الإقليمية والدولية المختلفة:
(1) الولايات المتحدة:
رأت واشنطن في الاستعراض مؤشراً على تصاعد التحدي الاستراتيجي الذي تمثله بكين، مع التأكيد على أهمية مراقبة التطورات العسكرية والتكنولوجية وتعزيز حضورها في المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة أي محاولات للصعود الصيني الأحادي.
(2) اليابان وكوريا الجنوبية
عبّرت هاتان الدولتان عن قلقهما من التفوق العسكري الصيني، خصوصاً في مجالات الصواريخ والقدرات السيبرانية، ما دفعهما إلى التفكير في زيادة تعزيز تحالفاتهما الثنائية مع الولايات المتحدة وتطوير قدراتهما الدفاعية المحلية.
(3) الاتحاد الأوروبي
أظهر موقف الاتحاد الأوروبي انقسامات واضحة بين دول تدعو للحوار والتعاون الاقتصادي مع الصين، وأخرى تحذر من عسكرة الصعود الصيني وتوسع نفوذها العسكري، ما يعكس صعوبة التوصل إلى استراتيجية أوروبية موحدة تجاه بكين.
(4) الدول العربية
رحبت معظم الدول العربية بالاحتفال، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والاستثماري والأمني، ورؤية بكين كشريك قادر على تقديم الدعم التقني والمالي دون شروط سياسية مباشرة.
تعكس هذه الردود المتباينة أن الاستعراض لم يكن حدثاً رمزيّاً داخلياً فحسب، بل أداة استراتيجية تتيح لبكين قياس تأثير قوتها العسكرية على ردود فعل القوى الكبرى والإقليمية، وتشكيل ديناميكيات جديدة في العلاقات الدولية.

تاسعاً: المقارنة الاستراتيجية مع القوى الكبرى في سياق الاحتفال الصيني
يتيح الاحتفال العسكري الصيني نافذةً لتسليط الضوء على التباينات الاستراتيجية بين الصين والقوى الكبرى الأخرى، إذ تعكس الفعالية نهج بكين المميز في تعزيز مكانتها الدولية. ركّزت الصين على التكنولوجيا والابتكار العسكري كأدوات أساسية لتعزيز قدرتها الدفاعية والاستراتيجية، ما يميزها عن روسيا التي تميل إلى الاعتماد على القوة التقليدية والأسلحة التقليدية الثقيلة، والولايات المتحدة التي تبني نفوذها عبر شبكة واسعة من التحالفات العالمية وانتشار القوات في مناطق متعددة.
ويمكن إبراز هذه الاختلافات في عدة محاور:
1- القوة التكنولوجية مقابل القوة التقليدية: يعكس الاحتفال قدرات الصين المتقدمة في صناعة الصواريخ، الفضاء السيبراني، والتقنيات الفضائية، في حين تركز روسيا على التفوق الكمي للأسلحة التقليدية والقوة النارية.
2- التحالفات مقابل الاستقلال الاستراتيجي: بينما تعتمد الولايات المتحدة على تعزيز نفوذها من خلال التحالفات الدولية، تسعى الصين إلى الحفاظ على استقلالية قراراتها الاستراتيجية، مع بناء شراكات مع الدول النامية دون الانخراط في التزامات تحالفية واسعة.
3- الابتكار والمرونة: يبرز الاحتفال قدرة الصين على التكيف مع أنماط الصراع الحديثة والمتعددة الأبعاد، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، مما يعكس نموذجاً استراتيجياً مرناً قادرًا على المنافسة في الساحة الدولية.
يظهر الاحتفال القدرات والتميز الصيني في في رحلة الصعود والتقدم ، حيث يجمع بين القوة العسكرية التقليدية، الابتكار التكنولوجي، والاستقلال الاستراتيجي، مما يمنحه ميزة تنافسية أمام روسيا والولايات المتحدة على حد سواء.
عاشراً: تحليل استراتيجي لنقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات في سياق الاحتفال( (SWOT
يشكل الاحتفال العسكري الوطني الصيني منصة استراتيجية لفهم موازين القوة والضعف، والفرص والتهديدات التي تواجه بكين في سعيها لتعزيز مكانتها الدولية. إذ يوفر الاستعراض العسكري والفعاليات المصاحبة له إطاراً عملياً لتحليل الأداء العسكري والاقتصادي والسياسي للصين، وقياس موقعها الاستراتيجي مقارنة بالقوى الكبرى والدول النامية.
(1) نقاط القوة:
يبرز الاحتفال القدرات التكنولوجية المتقدمة للصين، خاصة في مجالات الصواريخ، الفضاء السيبراني، والتقنيات العسكرية الحديثة، ما يعكس مستوى الاكتفاء الذاتي الذي وصلت إليه بكين. كما يعكس النمو الاقتصادي الكبير قدرة الصين على تمويل مشاريع استراتيجية واسعة النطاق، مثل مبادرة الحزام والطريق، ويُظهر حضور قادة الدول النامية مدى نجاح الصين في بناء شبكة تحالفات دولية تعزز نفوذها السياسي والاقتصادي.
(2) نقاط الضعف:
على الرغم من القوة الظاهرة، يشير الاحتفال إلى التحديات الداخلية التي تواجهها الصين، بما في ذلك الفروقات الاقتصادية والاجتماعية، الضغوط الديموغرافية، والقضايا البيئية. كما يسلط الضوء على التوترات الإقليمية المستمرة مع بعض جيرانها التي تشكل ضغطاً على استقرارها وأمنها الاستراتيجي.
(3) الفرص:
يوفر الاحتفال فرصة لبكين لإبراز إمكانياتها في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، والحد من الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة وحلفائها. كما يمثل منصة لتسليط الضوء على مبادرة الحزام والطريق، وتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بما يعزز قدرتها على ربط هذه المناطق بمصالحها الاستراتيجية طويلة الأمد.
(4) التهديدات
يشير الاحتفال أيضاً إلى المخاطر الخارجية المحتملة، أبرزها سباق التسلح المتصاعد والتجارة مع الولايات المتحدة وتصاعد النزاعات الإقليمية على الحدود والمياه الإقليمية، ما يستدعي إدارة دقيقة لتفادي أي تصعيد محتمل وحماية مصالح الصين الاستراتيجية.

أحد عشر: السيناريوهات المستقبلية للصعود الصيني في سياق الاحتفال العسكري
يعكس الاحتفال العسكري الوطني للصين رؤية بكين لمكانتها الحالية والمستقبلية على الساحة الدولية، ويتيح تقييم مجموعة من السيناريوهات المحتملة لمسار الصعود الصيني في العقود القادمة:
السيناريو الأول: الاستمرار في الصعود
في هذا السيناريو، تواصل الصين تقدمها على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية، مدعوماً بالابتكار التكنولوجي، النمو الصناعي، وتعزيز القدرات الدفاعية المتقدمة. قد يؤدي هذا النمو إلى تراجع تدريجي للنفوذ الغربي التقليدي في بعض المناطق، خصوصاً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تشهد الصين توسعاً في شبكة تحالفاتها ومشاريعها الاستراتيجية مثل مبادرة الحزام والطريق. يعكس هذا السيناريو قدرة بكين على دمج القوة العسكرية بالاقتصاد والتكنولوجيا، مع الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي، ما يعزز مكانتها كقوة عظمى متعددة الأبعاد.
السيناريو الثاني: الصعود والمواجهة
في هذا السيناريو، قد تتفاقم التوترات مع الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، نتيجة التنافس على النفوذ العسكري، النفوذ البحري في المحيطين الهندي والهادئ، وقضايا الأمن الإقليمي مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي. يمكن أن يؤدي هذا التصعيد إلى مواجهات محدودة أو أزمات دبلوماسية متكررة، ما يفرض على الصين إدارة دقيقة لاستراتيجيتها الدفاعية والدبلوماسية لتفادي تصعيد واسع قد يعرقل أهدافها التنموية والاستراتيجية.
السيناريو الثالث: التراجع والانكماش
يتعلق هذا السيناريو بالصعوبات الداخلية التي قد تواجه الصين، مثل التباطؤ الاقتصادي، التحديات الديموغرافية وأوضاع الأقليات وحقوق الانسان، الضغوط الاجتماعية، والقضايا البيئية. هذه الصعوبات قد تحد من قدرتها على الحفاظ على وتيرة صعودها العالمي، وتؤدي إلى مراجعة الطموحات الاستراتيجية، وربما تقليص النفوذ في بعض المناطق الحيوية، مع ضرورة التركيز على الاستقرار الداخلي قبل التوسع الخارجي.
اثنا عشر: رؤى مستقبلية في ضوء الاحتفال العسكري الصيني
يمثل الاحتفال العسكري الوطني للصين نافذة استراتيجية لرؤية بكين المستقبلية على الصعيدين الإقليمي والدولي. فهو أكثر من مجرد عرض للقوة؛ إذ يعكس الطموحات الصينية في ترسيخ مكانتها كقوة عظمى صاعدة ويشير إلى تحولات محتملة في التوازنات الجيوستراتيجية العالمية. في هذا الإطار، تتبلور مجموعة من الرؤى المستقبلية التي يمكن ان تساعد دول العالم في إدارة التحديات واغتنام الفرص المرتبطة بالصعود الصيني وتداعياته المختلفة:
1- تنويع الشراكات الدولية لتعزيز التوازن العالمي:
تبرز أهمية بناء شبكة متوازنة من العلاقات بين جميع الدول والقوى الكبرى لضمان استقرار النظام الدولي متعدد الأقطاب وتقليل مخاطر الاعتماد المفرط على طرف واحد.
2- تعزيز القدرات التفاوضية للتعامل مع التحولات الاستراتيجية:
ستكون القدرة على التفاوض بذكاء ومرونة عاملاً حاسماً لتمكين الدول من حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، واستثمار الفرص الناشئة من التغيرات في موازين القوى العالمية.
3- توظيف التنافس بين القوى الكبرى لتعظيم المكاسب المشتركة:
- يمكن للعالم توظيف التنافس بين القوى العظمى لتحقيق تطورات استراتيجية واقتصادية، مثل التعاون في المشاريع التكنولوجية والبنية التحتية، مع تفادي الانخراط في صراعات مباشرة قد تؤثر على الأمن والاستقرار.
- الحفاظ على المصالح الوطنية والدولية بعيداً عن الصراعات الأيدلوجية والتحالفات
تظل حماية المصالح الأساسية، سواء الاقتصادية أو الأمنية، أولوية مشتركة، مع تجنب الانجرار وراء صراعات أيديولوجية أو تحالفات قد تهدد استقلالية الدول واستقرار النظام الدولي.
4- تطوير نظام حوكمة عالمي يراعي التوازن متعدد الأقطاب:
يشير الصعود الصيني إلى الحاجة الملحة لتحديث مؤسسات الحوكمة الدولية لتكون أكثر تمثيلاً للتحولات الجيوستراتيجية، مع إشراك أوسع لجميع الأطراف بما يعكس الواقع الجديد للنظام الدولي(ابوعلي،2019).
5- تعزيز آليات التعاون متعدد الأطراف:
يعد التعاون الدولي في مجالات الأمن والاقتصاد ومكافحة التهديدات العابرة للحدود أداة مركزية لإدارة التحديات المشتركة، والحد من مخاطر التصعيد العسكري أو السياسي.
6- إرساء أطر سلمية لإدارة المنافسة بين القوى الكبرى:
تتطلب الرؤية المستقبلية تطوير أطر واضحة لحل النزاعات سلمياً، والاستفادة من الدبلوماسية الوقائية والحوار المستمر، لضمان عدم تحول المنافسة بين القوى الكبرى إلى مواجهات عسكرية مباشرة، والحفاظ على استقرار النظام الدولي.
خاتمة
يشكل الاحتفال الصيني بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية أكثر من مجرد مناسبة تاريخية أو رمزية؛ فهو يعكس إعادة تموضع استراتيجي لدولة صاعدة تسعى للعب دور محوري في النظام الدولي المعاصر. فقد استُخدمت الفعالية كمنبر لعرض القدرات العسكرية والتكنولوجية، ولتعزيز القوة الناعمة والثقافية لبكين، مما يتيح لها فرصاً ملموسة لتوسيع نفوذها وبناء شبكة تحالفات استراتيجية، لا سيما مع الدول النامية والمناطق الحيوية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
في الوقت ذاته، يضع هذا الصعود الصين أمام تحديات معقدة ومتعددة الأبعاد، أبرزها إدارة التوترات مع القوى الغربية، والمنافسة المباشرة مع الولايات المتحدة في المجالات العسكرية والاقتصادية، إضافة إلى ضرورة الحفاظ على الاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي والاجتماعي لمواجهة الضغوط الديموغرافية والتفاوتات الاجتماعية.
نجاح الصين في الحفاظ على مكانتها الاستراتيجية يعتمد على قدرتها على تحقيق توازن دقيق بين الطموحات الخارجية والاعتبارات الداخلية، وبين استعراض القوة وممارسة الدبلوماسية الذكية. فالتحدي يكمن في توظيف الاحتفالات والقدرات المعروضة كأداة لتعزيز النفوذ الدولي، مع إدارة المخاطر المحتملة بعناية، بما يضمن استمرار مسارها التصاعدي في بيئة جيوستراتيجية متغيرة ومعقدة.
قائمة المراجع
المراجع العربية
1- قاسم، سمير. الصين وتوازن القوى في آسيا. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018.
2- أبو علي، محمد. الهوية الوطنية الصينية وصعود القوة الناعمة. مجلة المستقبل العربي، العدد 476، 2019.
3- السيد، أحمد. الجيش الصيني والتحول إلى قوة عظمى. مجلة السياسة الدولية، العدد 221، 2020.
4- عبد الحي، هاني. مبادرة الحزام والطريق: الرؤية الصينية للنظام العالمي الجديد. القاهرة: المركز القومي للدراسات الآسيوية، 2021.
المراجع الأجنبية
- Central Intelligence Agency (CIA). The World Fact book: China. 2024.
- Ministry of National Defense of China. White Paper on China’s National Defense. Beijing: Government of China, 2023.
- United Nations. Reports on International Security and Disarmament. UN Publishing, 2024.
- International Institute for Strategic Studies (IISS). The Military Balance 2023. Routledge, 2023.
- Nye, J. Soft Power: The Means to Success in World Politics. Public Affairs, 2004.
- Shambaugh, D. China Goes Global: The Partial Power. Oxford University Press, 2013.
- Council on Foreign Relations (CFR). China’s Growing Influence. CFR Publications, 2024.
- Zhao, S. China and the New World Order. Stanford University Press, 2019.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)