أمنيةأوراق و دراسات

الحوض الغربي للمتوسط بين الرهانات الأمنية والقوى الفاعلة

د. زاوي رابح

أستاذ محاضر، جامعة ملود معمري تيزي وزو، الجزائر

ملخص:  

ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغربوعلى مدى واسعفي تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي، وهو في الحقيقةأكثر من مجرد حدود فاصلة بل يتعداها إلى انكسار بين منطقة شمالية مكونة من بلدان جنوب أوروبا القوس اللاتيني، ترى مستقبلها في الإتحاد الأوروبي، ولا تعرف مشاكل أمن فيما بينها، ومنطقة جنوبية مكونة من بلدان عربية منقسمة تخضع لحالة تراجع فوضوي، وهي دول منكشفة وإمكاناتها العسكرية محدودة. في هذا السياق تهدف هذه الورقة البحثية إلى تقديم توصيف شامل للبيئة الأمنية في المتوسط الغربي من حيث تحديد التهديدات الموجودة والتركيز على تفسير أطروحة التهديد القادم من الضفة الجنوبية، ثم توضيح تعدد التصورات والإدراكات الموجودة وتأثيرها على المنطقة بشكل عام.  

الكلمات المفتاحية: البحر الأبيض المتوسط، المتوسط الغربي، التهديد، البيئة الأمنية، القوى الفاعلة.

مقدمة:

يصعب الفصل بين المتوسط الشرقي والمتوسط الغربي عن البحر المتوسط في مفهومه الشامل، لا من حيث الجانب الجغرافي والطبيعي ولا من حيث الجانب الجيوسياسي والاستراتيجي، ولكن تنوع طبيعة التفاعلات الدولية والإقليمية، ولإعتبارات إستراتيجية وحضارية جعلته فضاء متعدداً. لقد ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغربوعلى مدى واسعفي تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي.

 وهو في الحقيقةأكثر من مجرد حدود فاصلة بل يتعداها إلى انكسار بين منطقة شمالية مكونة من بلدان جنوب أوروبا القوس اللاتيني، ترى مستقبلها في الإتحاد الأوروبي، ولا تعرف مشاكل أمن فيما بينها، ما عدا بؤرة التوترالبلقانية على الجانب الشمالي، وهي دول متفوقة عسكريا ومنضمة إلى أكبر حلف عسكري (حلف شمال الأطلسي)  ومنطقة جنوبية مكونة من بلدان عربية منقسمة تخضع لحالة تراجع فوضوي، وهي دول منكشفة وإمكاناتها العسكرية محدودة، وإن امتلكت بعض دولها لترسانة عسكرية معتبرة، فهي موجهة بشكل رئيسي للاستعمال في النزاع المسلح جنوبجنوب أكثر مما هي موجهة ضد دول الضفة الشمالي.

أهمية الدراسة:

الفضاء المتوسطي كان ومازال يشكل منطقة متفردة في العلاقات الدولية، حيث إن دول الضفة الجنوبية خضعت للسيطرة الغربية في مختلف صورها، و حتى لمنطق الهيمنة من طرف المعسكرين الشرقي والغربي أثناء الحرب الباردة، ولم تكن كذلك في منأى عن تداعيات وتغّيرات وتحولات عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث تتنافس القوى الكبرى لإعادة الانتشار الاستراتيجي في المنطقة، سواء تعلق الأمر بالقوى التقليدية كالولايات المتحدة الأمريكية  والاتحاد الأوروبي، أو القوى الصاعدة كالصين، دخلت هي الأخرى خط المنافسة في سجال اقتصادي محتدم، كمتغير صاعد لتراجع المتغير العسكري بعد ﻧﻬاية الحرب الباردة.

كان للحراك السياسي والاقتصادي الذي عرفته المنطقة المتوسطية تأثير واضح على ظهور تحديات ورهانات، تحولت في جّلها إلى ﺗﻬديدات مباشرة وغير مباشرة للمنطقة ولمصالح مجتمعاﺗﻬا ومصالح قوى النفوذ، يضاف إلى ذلك سياق دول جنوب المتوسط، التي يتميز مشهدها السياسي بغياب الديمقراطية والانغلاق، وواقعها الاقتصادي بالترّدي والتخلف، وذلك ما ألقى بظلاله على المجتمعات المتواجدة في المنطقة وأفرز اضطرابات، نظر إليها البعض على أنها من شأﻧﻬا ﺗﻬديد الأمن المحلي والإقليمي، والدولي في مراحل متقدمة.

كما أن البحث في موضوع الترتيبات الأمنية يستهدف بالأساس البحث في تعقيدات الظاهرة الأمنية بمختلف تجلياتها وتعقيداتها، كما يبحث في كيفية تعامل النظم الإقليمية المشكلة للفضاء المتوسطي وعلى رأسها النظام الإقليمي المغاربي مع تعدد الترتيبات الأمنية الغربية الموجهة لهندسة الأمن في المنطقة. وكذا تعدد الرؤى المطروحة في مواجهة تعدد المخاطر القائمة في المنطقة، وبين طرف يؤكد دائما عبر مختلف المبادرات التي يطرحها على أن الضفة الجنوبية هي مصدر انشغاله الدائم بالنظر على حجم المخاطر والشواغل الأمنية التي تطرحها، وبين طرف مازال يتعامل مع تلك الترتيبات وفق منطق الطرف المتلقي لتلك الترتيبات بل وحتى التحول على موضوع لها.

الإشكالية والفرضيات:

تحاول الدراسة تقديم توصيف للبيئة الأمنية في المتوسط الغربي من حيث تحديد التهديدات الموجودة والتركيز على تفسير أطروحة التهديد القادم من الضفة الجنوبية، ثم توضيح تعدد التصورات والإدراكات الموجودة وتأثيرها على المنطقة بشكل عام، وعليه تكون الإشكالية المطروحة كالتالي: كيف يتعامل المتوسط الغربي كفضاء جيوسياسي هام مع تعدد التصورات الأمنية المطروحة من جهة والقوى المؤثرة على عملية صياغة الهندسة الأمنية فيها؟

وفي سبيل الإجابة عن الإشكالية المطروحة، قمنا ببناء الفرضيات التالية:

– غالبا ما يتحدد مضمون الترتيبات الأمنية والمسلك الذي تتخذه وفق عدد الأطراف المشكلة له والمهنية به وكذا سلم القوى الموجود وهو ما يضعنا أمام طرف مبادر (قوي) وأخر موضوع لتلك الترتيبات.

– عندما يتعلق الأمر بالمركب الأمني كوحدة تعني تحقق مستوى من الارتباط الأمني بين دول منطقة إقليمية معينة، حيث يصبح أمن كل دولة غير قابل للانفصال عن أمن بقية الدول الداخلة في الإقليم كلما تأثرت الترتيبات الأمنية المطروحة في المتوسط بهذا الطرح.

– المنهجية:

 في سبيل معالجة الموضوع، تم الاعتماد على منهج تحليل النظم (Systems analysis approach) نعتمد في تحليل هذا الموضوع على “منهج تحليل النظم بالدرجة الأولى، بالنظر لطبيعة الموضوع من حيث كونه يحلل العلاقات الإقليمية الدولية في نظام إقليمي،  ولمميزات “منهج تحليل النظم” الذي يسمح بالانتقال من الجزء إلى الكل و العكس، من خلال التدرج في المستويات الثلاثة في التحليل أي مستوى الوحدات الوطنية، ومستوى النظام الإقليمي ومستوى النظام الدولي، وهذا ما يتناسب مع تحليل تفاعلات النظم الإقليمية التي تحكمها متغيرات متعلقة بالبيئة الداخلية لكل وحدة من الوحدات المشكلة للنظام، و متغيرات أخرى متعلقة بمعطيات البيئة الإقليمية، ومتغيرات البيئة الدولية التي يتفاعل ضمنها النظام الإقليمي، فتحليل النظم الإقليمية يتطلب تحليل التفاعل بين مختلف المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، وهي العلاقة التي يمكن الكشف عنها بتوظيف منهج تحليل النظم.

– أدبيات الدراسة:

من أهم الدراسات التي تعرضت لمفهوم المركب الأمني والمتوسط الغربي نجد دراسة عبد النور بن عنتر Abdennour Benantar التي حملت عنوان ” المركب الأمني في المتوسط الغربي: تبرير وأمننة الهجرةComplexe de sécurité ouest-méditerranéen: externalisation et sécurisation de la migration  والصادر في مجلة ” سنة المغرب” L’Année du Maghreb  سنة 2013ـ و الذي تناول فيه بالتحليل المتوسط الغربي على اعتباره مجالا أورو – مغاربيا يشكل مركبا أمنيا إقليميا، كما يتناول طريقة بناء فضاء أمني في المتوسط الغربي.

دراسة أخرى لا تقل أهمية عن دراسة عبد النور بن عنتر، وهي دراسة جون روبرت هنري Jean-Robert Henry التي حملت عنوان :” المتوسط الغربي : بحث عن مصير مشتركLa Méditerranée occidentale en quête d’un « destin commun » ، و التي حاول من خلالها التركيز على تزايد أهمية المتوسط الغربي في استراتيجيات القوى الكبرى خلال السنوات الأخيرة، حيث أشار إلى أن مسألة المتوسط الغربي عادت بدءا من 2001، وبقوة بدءا من 2003 بمناسبة انعقاد قمة تونس لحوار خمسة زائد خمسة 5+5 بالنسبة للأوروبيين وعلى السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.

1- توصيف جيوسياسي للمنطقة المتوسطية:

إن معظم الدراسات الخاصة بالتفاعلات (التأثير والتأثر/التعاون والصراع) في حوض المتوسط، تعود إلى فترة قيام الحضارات في شرق المتوسط وفي غربه، وبداية الاحتلال والتواصل بين شعوبه، وهي تركة تاريخية هامة يحتفظ ﺑﻬا المتوسط، وما تزال شواهدها قائمة إلى يومنا هذا، وذلك ما يرشحه على أنه مهد الحضارات القديمة ومهد الديانات السماوية الثلاث[1]، فالمتوسط كان شاهدا على تجاذبات كبرى، شهدﺗﻬا شعوبه ووحداته في العصر القديم والعصر الوسيط، وبدخول أوربا عصر النهضة/الأنوار كانت بذلك قد ودعت قرون التخلف والاقتتال، وبداية الانفتاح على العالم المحيط بالعالم القديم، أي بداية الكشوفات الجغرافية عبر الأطلسي والهادي، والتي كانت لها تداعيات سلبية على الفضاء المتوسطي عندما فقد الكثير من أهميته، وخيّم على شعوبه شيئا من الركود والتخلف والانكماش، إلى غاية القرن 19 م عندما حدثت تغّيرات سياسية مهمة على سواحله الشمالية، حيث تبلورت بصورة ﻧﻬائية فكرة الدولة الوطنية[2] ، وعرفت الدول الأوربية الجنوبية أي المشاطئة للبحر المتوسط وحدﺗﻬا السياسية كما كان الحال في إيطاليا.

بالنسبة للبحر المتوسط ككل يصعب تمييز حدوده بدقة خاصة الجيوسياسية، فمن غير المعقول أن تُنكر خصوصية وتفرد البحر المتوسط، بالنظر إلى العديد من المواصفات، كقدرة الفضاء المتوسطي على خلق التلاقي والتقارب بين الشعوب، وتشجيع التبادلات المختلفة بين سكانه، بالإضافة إلى الإجماع حول العديد من القيم الجماعية واندماج عديد القوانين والممارسات والعادات والتقاليد[3].

إذا اعتبرنا المتوسط فضاءً مغلقاً جغرافياً، فهو فضاء مفتوح جيوسياسياً، بحيث يشمل دولا أخرى غير مشاطئة له من منظور دورها الاستراتيجي أو تأثيرها، وكثيرة هي الفواعل المتدخلة والمتداخلة جيوسياسياً مع المتوسط، كما تختلف هذه النظرة من فاعل لآخر، وبالتالي فنحن أمام فكرة/حقيقة فضائية بمحيط وأبعاد متغيرة ومرنة حسب ثلاثة (03) فواعل: المرحلة، الموضوع المدروس ومصدر النظرة إلى المتوسط، فالإحتفاظ ﺑﻬذه المدركات من شأنه أن يوجه القرارات والأفـعال[4]، وذلك ما يدعم الاختلافات والاختلالات بين جهات المتوسط، ومنها الحوض الغربي منه، بقدر ما هو مميز جغرافيا فهو أيضا مميز جيوسياسياً، حيث يشتمل على عشرة (10) دول مقسمة بالتساوي، خمسة (05) دول أوربية لاتينية الثقافة ومسيحية الدين وتشترك في معظم قيمها الاجتماعية والثقافية والحضارية، وفي المقابل في الضفة الجنوبية خمسة (05) دول عربية إفريقية إسلامية تشترك أيضا فيما بينها في الكثير من القيم الثقافية الاجتماعية والحضارية.

يمنح المتوسط الغربي مجالا واسعا للمناورة بين ضفتيه، (جنوب غرب أوربا وشمال غرب إفريقيا والأطلسي والحوض الشرقي ومن ثمة المحيط الهندي)، فدول غرب المتوسط الأوربية لها اهتمام خاص بالمنطقة، وبكل أحداثها وتطوراﺗﻬا التي تفرزها ظروف وتداعيات ومصالح، فأمن أوروبا واستقرارها وازدهار مصالحها يستند أساساً على أمن واستقرار المنطقة.  طبيعي جدا ألا تكون متفرجة على قوى أخرى ترتب أولويات المنطقة وتصنع تطوراﺗﻬا، بل تسعى بإستمرار أن تكون هي المبادرة والصانعة والمتابعة والمشاركة في حراك المنطقة وتفاعلاﺗﻬا ومصيرها، سواء على المستوى الجغرافي الضيق أو الجيوسياسي الموسع.  إن التاريخ يحفظ لنا أن دول غرب المتوسط الأوربية ومنذ زمن بعيد، تحاول دائماً أن تكون الجوهر والمحور في تسيير وصناعة أحداث المنطقة المتوسطية، مستخدمة في ذلك قوﺗﻬا في بعدها العسكري في فترة المد الإمبريالي وما نجم عنه من تخلف وإﻧﻬيار وتبعية لدول الضفة الجنوبية[5] .

جعل هذا الوضع من دول غرب المتوسط الأوربية شريكا رئيسا عارفا بكل خبايا الأوضاع والمتغّيرات في المنطقة، وعلى أساس ذلك، ما تزال هذه الدول وعبر مسارات وسياسات متعددة ومتنوعة، تعمل للحفاظ على هذا الوضع للتعامل مع كل المستجدات التي تبرز في المنطقة من حين لآخر وتعمل على إحتوائها، حتى تمكن المسارات التعاونية من التقدم والنجاح خاصة بعد ﻧﻬاية الحرب الباردة، التي أفرزت فراغا إستراتيجيا في المتوسط، وسمحت بصعود ﺗﻬديدات جديدة ذات أبعاد أمنية خطيرة على المنطقة.  إن هذه المساعي الأوربية تكشف عن رغبة جامحة لتحقيق أمنها وإستقرارها، من خلال خفض سقف التهديدات التي تفرزها الأوضاع المختلفة لدول غرب المتوسط الجنوبية، لجعل هذا الفضاء الجيوسياسي الهام آمناً مستقراً، يفي بأهدافهم في توريد المعادن والطاقة وتصريف الإنتاج الصناعي والخدماتي، في صورة تظهر الطرف الأوربي شريكًا  متعاونًا موثوقًا به، لسد الطريق أمام قوى أخرى فاعلة في المنطقة، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والهند، التي تتنافس في إكتساح أسواق المنطقة والحصول على عقود تعاون في شتى المجالات.

وبالمقابل، في هذا الفضاء الجغرافي والجيوسياسي هناك الدول العربية في جنوب غرب المتوسط، على الرغم من وضعها غير المريح على جل الأصعدة، إلا أنها الطرف الثاني الرئيسي في المعادلة، والحلقة المهمة في صناعة حاضر ومستقبل المنطقة لاعتبارات تاريخية، حضارية، اقتصادية وأمنية، فهي لها من الوزن الجيوسياسي والإمكانيات الاقتصادية والبشرية ما يمكنها من تحويلها إلى عوامل قوة، وضغط وتفاوض وتفاعل مع شركائها في شمال غرب المتوسط، فجنوب غرب المتوسط منطقة غنية بالثروات المعدنية والنفطية إنتاجاً وتصديراً خاصة نحو جيرانهم الأوربيين، كما تشكل فضاء خصباً للاستثمار والتوسع الاقتصادي والتجاري بأكثر من 90 مليون مستهلك [6].

2-  نهاية الحرب الباردة وأثرها على الأمن في البحر الأبيض المتوسط:

كان لانهيار الاتحاد السوفيتي وانحصار الشيوعية وسقوط الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية مفعولًا عالي التأثير، على النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية[7]، الذي يقوم على ثنائية شرق غرب / شيوعية رأسمالية، فهو يُعتبر تغييراً عميقاً لبنية النظام الدولي، الذي عرف هذا التحوّل بانهيار أحد أقطابه وانهيار أيديولوجيته، لعدم قدرتها على المنافسة ومسايرة التطور السريع للكتلة المعادية، فرميُ المنشفة كان بمثابة الانسحاب وترك الساحة الدولية لتتشكل وتتوزع فيها عناصر القوة من جديد، جرّاء الفراغ الإستراتيجي الكبير الذي خلفه تفكك هذه الكتلة وأفول أيديولوجيتها. وهنا يعتبر ما حدث بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، مشهداً مميزاً للتحول الذي طرأ على النظام الدولي في أبعاده السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والقيمية حيث أصبحت المقاربات الغربية الرأسمالية والليبرالية، أكثر تداولاً واكتساحاً للساحة الدولية وتأثيراً على العلاقات الدولية والأمن الدولي.

إن التحولات التي طرأت على النظام الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة كان لها الأثر البالغ على
النظام الاقتصادي الدولي، الذي يشهد تحوّلاً من نظام بروتن وودز  Bretton Woodsالذي ميز شكل وطبيعة النظام الاقتصادي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء فترة الحرب الباردة إلى نظام جديد يقوم على إقامة تكتلات اقتصادية كبرى، كالتي يشهدها العالم الرأسمالي في إطار ديناميكية العولمة والإقليمية[8].

ومن مؤشرات الحراك الاقتصادي المتنامي الذي سيشغل مكانة الإستراتيجيات والقوة العسكرية ما يلي[9]:

– بروز ظاهرة العولمة المكرسة للهيمنة الاقتصادية.

– انتقال الاقتصاديات المتطورة إلى المرحلة التالية: الرأسمالية المالية.

–  نمو المساهمة الألمانية واليابانية في التجارة الدولية.

– تكريس سياسة التكتلات الاقتصادية الإقليمية.

إذاً، فالمؤشرات السالفة تبلّور صعود المقاربة الاقتصادية لتفسير شكل وطبيعة العولمة والإقليمية،
فالتطور المذهل للعالم والحاصل في ميدان المعرفة/ الموجة الثالثة وتأثيرها على الاتصال والتواصل قد عجلت من عولمة التبادلات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية وشجعت على وضع مسارات لقيام وبناء تكتلات إقليمية. هنا يطرح جيمس كولمان James Coleman فكرة أن بروز العنصر الاقتصادي كمحرك للسياسات الدولية في النظام الدولي الجديد بعد تراجع عنصري الإيديولوجيا وسباق التسلح جعل التوجهات ذات النزعة للتفوق الاقتصادي بمثابة إيديولوجيا جديدة لها أيضاً أدواتها السياسية وسماتها العقائدية، حتى أنها اكتسبت صفة الأصولية الاقتصادية وهو مصدر ستكون له فاعليته في إثارة النزاعات بين الغرب والآخرين”[10]، كما أن المعطى الاقتصادي يدفع بشكل قوي هو الآخر نحو تشكل ثنائية شمال/جنوب، تتميز عن تلك التي عرفتها مرحلة السبعينات بأنها تتجاوز المستوى الاقتصادي لتنتقل إلى المستوى السياسي والاجتماعي، وهو ما يسهل تصوير الجنوب على أنه “مجرد مجموعة من البرابرة التي تريد غزو الشمال وتحطيمه”[11].

وبعيداً عن الجانب الاقتصادي يبرز المتغير الحضاري كأحد أهم المتغيرات التي شهدت صعوداً بعد نهاية الحرب الباردة، حيث أن القيم الحضارية وُجدت بوجود المعتقدات الدينية، وقيام الحضارات حول هذه القيم، سواء كانت سماوية أو وضعية.  إن المتغير الحضاري في شكليه الصراعي والتعاوني / الحواري بين شعوب المتوسط، لم يكن غائباً أو مغيّباً أثناء فترة الحرب الباردة ،وإنما كان لا يشكل طليعة الاهتمامات، كون الحرب الباردة ميّزها الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية، لكونهما ترتبطان بقطبين مهيمنين على النظام الدولي والعلاقات الدولية، وبانهيار الاتحاد السوفيتي وأفول الشيوعية، كان ذلك مؤشراً عن تراجع حدّة هذا الصراع، وأعلن على انتصار الرأسمالية وقيمها الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية، وعملا بنظرية التحدي / الاستجابة لأرنولد توينبي Arnold Toynbee  [12]، كان لزاماً على الغرب ومنظريه الرأسماليين إيجاد إيديولوجيا بديلة للشيوعية ليناصبوها العداء، لإبقاء الروح والاستمرارية للرأسمالية، ولعلّ أبرز المنظرين لذلك صامويل هنتنغتون Samuel Huntington في أطروحته حول صدام الحضارات[13].

3-  البيئة الأمنية في المتوسط الغربي:

بعد زوال الخطر الشيوعي الذي كان بمثابة البوصلة التي توجه العالم الغربي، وتضبط مساراته، وتضمن تماسكه اتجاه الآخر، كان العمل على خلق عدو جديد وهو دول الجنوب، حيث الحركات الإسلامية التي شكلت الهاجس الأمني المقلق للعالم الغربي[14]، بالإضافة إلى مظاهر عدم الاستقرار السياسي، والتدهور الاقتصادي، والنزاعات العرقية والطائفية التي تشكل في مجملها توليفة مشجعة لظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تخشاها أوروبا أكثر من غيرها من التحديات الأخرى،  هذا التصور للعدو الجديد تشاطرته ضفتي الأطلسي وتم تغذيته بكم هائل من الدراسات والبحوث الغربية عملت على تضخيم هذا الاتجاه الصراعي الجديد وتصادم حضارته[15]، وبرزت في هذا الإطار أطروحتان: الأولى؛ أطروحة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama  والتي تؤكد أن الديمقراطية هي شكل التنظيم الاجتماعي الذي لا يمكن تجاوزه بعد إنتصارها على الشيوعية، والثانية هي أطروحة صدام الحضارات Clash of Civilizations لصاحبها صاموئيل هنتغتون Samuel Huntington والتي عملت على تغيير صراع الإيديولوجيات الذي ميز فترة الحرب الباردة بصراع الحضارات والثقافات[16].

وينتمي تشخيص هنتنغتون Huntington إلى المعسكر التشاؤمي الذي يركز على الهوة بين مناطق”السلام والحرب”، وعلى الصدامات الناشئة بين القوى الكبرى في عهد متعدد الأقطاب من جهة أخرى، مع أنه يتميز بتركيزه على الحضارات بوصفها وحدة التحليل الأساسية[17]، حيث يعتقد هنتنغتون أن الصراعات القادمة التي ستسيطر على العالم في السنوات المقبلة ستكون ذات طابع ثقافي، ويذهب إلى حد القول “أن التناقضات بين الغرب ودول عديدة إسلامية وكونفوشيوسية، ستكون المصدر الرئيسي للنزاعات في المستقبل المباشر”[18]، أي حسب رأيه ستكون الحضارة الغربية مهددة في السنوات القادمة من قبل الحضارات الشرقية، وحضارات الشرق الأقصى،  وهو بذلك يحاول بوضوح أمننة الإسلام وشرق آسيا واعتبارهم كمنافسين[19].

وفي محاولة لمناقشة أطروحة “صدام الحضارات” وتطبيقها على منطقة المتوسط، عقدت ندوة في فيفري 1996 ببرلين، تم التأكيد من خلالها على وجود دلائل توحي بأن المواجهات بين المجتمعات المطلة على ضفتي المتوسط لها خواص يمكن إرجاعها إلى صدام بين الحضارات المسيحية اليهودية في الشمال والإسلام في الجنوب، والمأساة في البوسنة وكوسوفو بينت حدة هذا التناقض القائم والذي وصل إلى حد التصفية العرقية.  كما أشار في هذا الصدد الفيلسوف برودال F.Braudel بطرحه لمصطلح “الحضارة” كخط موجه لفهم الواقع المتوسطي وحتى الدولي، حيث يرى أن منطقة المتوسط تتوفر على ثلاث مجموعات ثقافية حضارية تتدافع فيما بينها عبر التاريخ متجاوزة حدود الدول، وهي:  الغرب، الإسلام، والعالم اليوناني، وهذه الثلاثية حسبه تشكل أعداء متكاملين[20]  وباعتبار أن منطقة حوض المتوسط تشكل تخوم حقيقية بين الشمال والجنوب، برزت حقيقتها بشكل واضح بعد نهاية الحرب الباردة، مما أدى إلى تحول المنطقة إلى خط مواجهة بعد زوال خطر الشرق، وقد ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغرب-  وعلى مدى واسع-  في تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي[21] .

فانهيار الإتحاد السوفياتي، تسارع الأحداث في أوروبا الشرقية، توحيد ألمانيا، تطور عملية الاندماج الأوروبي، مسار السلام في الشرق الأوسط، أحداث 11 سبتمبر 2001 والاحتلال الأمريكي للعراق في مارس 2003 من جهة، وما عرفته ولازالت تعرفه الضفة الجنوبية من المتوسط وخاصة الجهة الفرعية الغربية له، من تغيرات بنيوية معقدة، اتخذت في بعض الدول أشكالاً عنيفة كانت لها انعكاسات مباشرة على الأمن الإقليمي المتوسطي الذي لم يعد يخضع لمنطق توازن القوى التقليدي، بل يخضع لتوازنات جديدة بفعل تشكل التهديدات من أنماط مختلفة في الجهة المتوسطية، فالرهان الأمني الحقيقي والحالي من المنظور الأوروبي يكمن في اللاتوازن الثقافي، الديموغرافي، الاجتماعي والاقتصادي، البيئي وعدم انسجام الأنظمة السياسية، هذا الرهان يعتبر أكثر تعقيداً وشمولية من اللاتوازن العسكري[22].

وقد ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغرب- وعلى مدى واسع- في تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي  وهو – في الحقيقة- أكثر من مجرد حدود فاصلة بل يتعداها إلى انكسار بين منطقة شمالية مكونة من بلدان جنوب أوروبا القوس اللاتيني، ترى مستقبلها في الإتحاد الأوروبي، ولا تعرف مشاكل أمن فيما بينها، ما عدا بؤرة التوتر “البلقانية” على الجانب الشمالي، وهي دول متفوقة عسكرياً ومنضمة إلى أكبر حلف عسكري (حلف شمال الأطلسي)  ومنطقة جنوبية مكونة من بلدان عربية منقسمة تخضع لحالة تراجع فوضوي، وهي دول منكشفة وإمكاناتها العسكرية محدودة،  وإن امتلكت بعض دولها لترسانة عسكرية معتبرة، فهي موجهة بشكل رئيسي للاستعمال في النزاع المسلح جنوب-جنوب أكثر مما هي موجهة ضد دول الضفة الشمالية[23].

كما أن هناك تنامي الاهتمام بمسائل البيئة في الجهة المتوسطية منذ منتصف الثمانينات، إذ تم القيام بعدة دراسات ركزت تحديداً على تأثير كل من الحركات البشرية والسكانية، الحركة العمرانية، الزراعة، الصناعة، الطاقة، السياحة والنقل على النظام البيئي المتوسطي وبالتالي تأثيرها على الأمن فيه.  وقد خلصت العديد من مراكز البحث الأوروبية إلى اعتبار التهديد البيئي ينحصر أساساً في الخطر الديموغرافي، وندرة الموارد الطبيعية ويأتي في مقدمتها الماء كأحد الرهانات الأمنية في الجهة المتوسطية، وكذا ظاهرة التلوث البيئي سواء المائي منه أو الجوي وما تسببه مراكز البترول والغاز المتواجدة على طول السواحل المتوسطية وحركة ناقلات البترول العملاقة التي تتسبب في تسرب حوالي 650000 طنا سنويًا من البترول، من خلق مشاكل بيئية خطيرة تؤثر على استمرارية الثروة السمكية وعلى النشاط السياحي لبلدان المتوسط، وارتفاع نسبة كمية ثاني أكسيد الكربون التي تلوث الأجواء المتوسطية [24].

4 -أطروحة الجنوب كمصدر لتهديد الأمن في المتوسط الغربي:

من الأهمية بمكان التطرق لمفهوم التهديد كمتغير أساسي في هذه العلاقة، بما يسمح لنا فيما بعد بتبيان طبيعة التهديدات التي يمثلها الجنوب في نظر الفاعلين الآخرين في المنطقة المتوسطية، حيث يشير كل من باري بوزان Barry Buzan  وأولي وايفر Olé Weaver إلى أن التهديدات غالباً ما يتم بنائها بشكل إجتماعي من طرف فواعل النظام الدولي، وهو ما يعتبر تجسيداً لنظرة مدرسة كوبنهاجن للأمن (أين أخذت التهديدات بنظرة موضوعية واعتبرتها أساساً تهديدات عسكرية ضد الإقليم، السيادة، أو مصالح الدولة)[25]، وبالتالي ما يجعل مفهوم ” التهديد” صعب التحديد هو عاملين إثنين[26]: وجود مسألة الذاتية والموضوعية في تعريف التهديد، صعوبة التمييز بين التهديدات التي تشكل تهديداً للأمن القومي، والتهديدات التي تظهر كنتيجة عادية للحياة اليومية.

بالنسبة لــــــ :” أولريك بيكUlrick Beck فإن المقصود بالتهديدات الجديدة يعني الانتقال من فلسفة التهديدات إلى فلسفة المخاطر، بحكم أن المخاطر هي حركة داخلية، إجتماعية، مشكلة وغير مستقلة المحتوى ولا آليات التعبير، إلا أنها تتحول إلى تهديدات عبر وطنية تمس أمن الدول والمجتمعات[27]،  هنا يتداخل مفهوم “التهديد” مع مفهوم “الخطر”، وهنا يحاول “يان ايشلر Jan Eichler توضيح الفروقات بين هذه المفاهيم إنطلاقاً من أن[28] :

التهديد، لا يستخدم إلا لتمييز الظواهر الموضوعية التي تعبر عن إرادة إلحاق الضرر بفاعل معين مهما كان و /أو معاقبته. ويشترط في التهديد أن يسبب أضراراً ويثير خوف الطرف المهدد، فعلى المستوى الجيوسياسي قد تكون التهديدات تستهدف الدولة مباشرة أو مواطنيها، أو غير مباشرة تطال دول الجوار و /أو الحلفاء أو حتى الاستقرار الإقليمي، كما قد تكون حالة تتطلب رداً فورياً أو محتملة قد تصبح أكثر خطورة إذا تم إهمالها لفترة أطول، وبالتالي فالتهديدات حسب يان ايشلر تصنف ضمن القطاعات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والبيئية إلى جانب التهديدات العسكرية. 

2-المخاطر، ويستعمل هذا الوصف للتعامل مع الظواهر الاجتماعية المحضة والتي تنتج عن قرارات وأفعال الأطراف التي تتصرف نيابة عن التجمعات البشرية (الجماعات، الدول، الأحلاف)، وهكذا لا يمكن أن يكون الخطر موضوعيا، فهو يعكس المسؤولية المباشرة لمن يتبنى خطاب الخطر.

3-التحدي، وهو مفهوم تذاتاني ناتج عن مسار تقييم التهديدات.

يوضح” تيد كاربنتر، Ted Carpenter أن العديد من الصراعات التي تتعرض لها دول الجنوب لن تختفي بعد نهاية الحرب الباردة، فعدد من هذه الصراعات يرتبط بالحدود السياسية التي فرضتها الدول الاستعمارية على هذه الدول بصرف النظر عن الاعتبارات الإثنية أو السلطوية أو الاقتصادية، وهي الحدود التي قد تسعى بعض دول الجنوب إلى تغييرها[29]، كما أن إحتمال تصاعد الصراع بين دول الجنوب يرتبط باستمرار تسليح هذه الدول، وهنا يعتبر” روبيرتو موريتان، Roberto Moritan” أن استمرار اهتمام دول الجنوب بالتسليح لا يرتبط بحاجة هذه الدول إلى التحديات الخارجية، وإنما قد يكون الدافع الأساسي للحصول على مثل هذه الأسلحة هو مواجهة بعض المشاكل الداخلية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عدم الاستقرار الإقليمي، وانعكاس ذلك على مصالح القوى الكبرى، كما أن فشل الديمقراطية في الجنوب يمكن أن يشكل أيضاً مصدراً للتهديدات التي قد تواجه العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة ففي إطار المواجهة بين الدولة والشعب، قد لا يكون الانتصار الشعبي ضماناً لسلوك معتدل خارجياً، فالإنتصارات الشعبية يمكن أن تطيح بحقوق الأقليات، كما قد يترتب عليها تفجر النزاعات القومية.

هذا وإذا كانت أطروحة التهديد القادم من الجنوب قد استعملت بعد الحرب الباردة كبديل عن الخطر الشيوعي فإن الباحثين في العلاقات الدولية قد يشهدون استبعادا لهذا المفهوم لصالح مفاهيم أخرى قد لا تكون بديلة بشكل كلي – لمفهوم الجنوب – على الأقل في الوقت الراهن إلا أنه لها من الحمولات السياسية ما يجعلها مرشحة لأن تكون أكثر المفاهيم تعبيرًا عن جملة ما يشهده هذا الجنوب من توترات و أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية، ويقفز إلى صدارة هذه المفاهيم مفهوم “الدول الفاشلة” أو” الضعيفة” أو  “المنهارة” حتى غدا العالم الثالث أو “الجنوب” كله إما فاشلاً، ضعيفاً أو منهاراً[30].

من بين الذين انتقدوا هذه الأطروحة، نجد” باسكال بونيفاس، Pascal Boniface “، الذي أشار إلى كونها عبارة غير دقيقة قائلاً: “الواقع أن الجنوب لا يشير إلا إلى جزء من العالم الثالث، فإفريقيا جنوب الصحراء لا تنتمي إلى هذا المجال، كما أن المقصود من ذلك هو بصفة عامة البلدان العربية والإسلامية حتى وإن كان أنصار هذه الأطروحة يفضلون، بدافع الحذر أو الجبن، استخدام مصطلح الجنوب الذي يلجأ إلى التعميم ويفتقر إلى الدّقة.  وعلى الصعيد السياسي يتم جمع بلدان مختلفة عن بعضها تماماً في معسكر واحد رغم أنه من الصعب أن يتصور المرء مجموعة من البلدان من الجنوب تضم “نيكارغوا” و”بنجلادش”، وكذلك “الغابون” و”الفلبين”، تعبئ قواها معا للانقضاض على الغرب وثرواته”؟[31].

إن مختلف التهديدات التي تنشأ في حوض البحر الأبيض المتوسط ترجع بالأساس – حسب الرؤية الغربية – إلى دول الضفة الجنوبية ويكون مصدرها الجانب الاجتماعي، وغالبية تلك التهديدات لم توجد في الواقع بقدر ما تم بناءها بفعل غياب الوعي المجتمعي والتنشئة الاجتماعية ذات المعايير والقيم التي ترسخ قيمة الفرد في المجتمع، وتعمل على خلق طبيعة هوياتية خاصة به، غير أن غياب هذه العناصر يؤدي إلى نتائج عكسية في بناء تفاعلات وسلوكات مغايرة للسلوك المتوقع. ربما الشيء الذي زاد من تطور هذه البناءات المضادة للبناء الاجتماعي هو حالة اللااستقرار السياسي والاقتصادي الذي تعيشه معظم دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، والذي يغذي الجو المضطرب أصلاً، إلى جانب الصراع الموجود على السلطة في دوله، وهنا تصبح الدولة في حد ذاتها مصدر تهديد لأمن أفرادها، كما يؤكد ذلك باري بوزان Barry Buzan على أن “وصف قضية من قبل الحكومة بأنها مشكلة أمنية يشرعن استخدام وسائل استثنائية”، و نستنتج من هذا أن الاستخدام المفرط لمبررات الأمن يحول عملية الحكم من الممارسات الدستورية نحو ما هو في حقيقة الأمن أساليب “تسلطية” وهو ما تعبر عنه مدرسة كوبنهاجن بعملية أمنة القضايا[32].

وفي سياق التهديدات الأمنية الجديدة – القادمة من الجنوب – يمكن كذلك الإشارة إلى روبرت كابلان K.Kaplan الذي قدم أهم الأطروحات الجديدة ضمن براديغمات الفوضى التي سيطرت على أدبيات العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، حيث يرى في مقال نشر له بمجلة “أتلانتيك” The Atlantic تحت عنوان “الفوضى القادمة” The coming Anarch، أن: الندرة، الجريمة، الاكتظاظ السكاني، العشائرية، والأمراض تشكل تهديداً للأمن العالمي وبأنها تهديدات يمكن لها تدمير ما أسماه : “بالنسيج الاجتماعي لكوكبنا” ،ويقدم “كابلان” إفريقيا كأبرز من تتهددها الظواهر الأنفة الذكر، كما يعتبرها “رمزا للإجهاد” في جميع النواحي[33]، وكل هذه التهديدات يجعل من الضفة الجنوبية ” هاجس المستقبل “.

إلى جانب العناصر السابقة، يأتي تأثير السياق الهجرتي والسياق السياسي-الديني كعامل بارز، حيث عادة ما ينظر الأوروبيون إلى جنوب ضفة المتوسط على أنها لا تشكل فقط تهديداً قطاعياً أو مجزئاً بل يتم التعاطي مع المنطقة في كونها تحمل تهديدات شاملة ومعقدة. ولتوضيح هذا التوجه في مدركات الإتحاد الأوروبي نحو التهديدات التي تأتي من جنوب ضفة المتوسط، يكفي فقط أن نستشهد بهذين السياقين المتداخلين وهما السياق الهجرتي وكذا السياق السياسي-الديني.

حيث يمثل السياق الهجرتي تهديداً شاملاً، لاسيما وأن تداعياته تمس في الأساس التركيبة السكانية لأوروبا. فالنمو السكاني الناجم عن الهجرة يشكل أحد محاور التهديد للعديد من الساسة والمفكرين في أوروبا.  فعلى سبيل المثال وليس الحصر يرى الباحث “هارتموت ألزنهانس، Hartmut Elsenhans“،  “أن أخطار الصراعات العسكرية” في حال اكتظاظ سكاني في شمال إفريقيا وبقاء المشهد السكاني في حاله في أوروبا الغربية يجب أن ينظر إليها على أنها حقيقة، وعليه يمكن أن نتخيل سيناريوهات ينقاد فيها المغاربة، بفعل الضيق، إلى الادعاء بـ”حقوقهم التاريخية” على جنوب إيطاليا، صقلية وإسبانيا الجنوبية”[34]، فالهجرة ينظر لها من زاوية التهديد أو الخطر كونها ظاهرة معززة لعلاقات صراعية تعود أسبابها الرئيسة إلى إنتشار ثقافة عدم التسامح وكره الأجانب، وهي بذلك مقاربة بسيكو –ثقافية حيث يصرح الأوروبيون “بعد غزونا، سوف يغرقوننا بسيل من الأطفال في وقت سوف يؤدي فيه عقمنا المتنامي إلى اضمحلالنا وزوالنا[35].

أما في السياق السياسي- الديني، فإن أوروبا تخشى من ظاهرة الإسلاموية السياسية ومن دور الحركات الدينية البحتة أو الحركات السياسية –الدينية الأكثر راديكالية، كما تخشى من اتساع مجال اللااستقرار إذا ما استمر تسارع المد الأصولي إلى الدول المجاورة، خاصة في ظل تنامي ظاهرة الإرهاب. إن استقرار حوالي أكثر من ستة ملايين مسلم في أوروبا أي حوالي 3% من مجموع سكان أوروبا، والذين يشتغلون في مجالات سوسيو-اقتصادية وثقافية وسياسية، جعل الأوروبيين ينظرون إلى الإسلام على أنه لا يعتبر قوة تمثيل دينية فحسب، وإنما كقوة تمثيل سياسية، وهنا يكمن الخطر بحسب إعتقادهم[36].

خاتمة:

بعد زوال الخطر الشيوعي الذي كان بمثابة البوصلة التي توجه العالم الغربي، وتضبط مساراته، وتضمن تماسكه اتجاه الآخر، كان العمل على خلق عدو جديد وهو دول الجنوب، هذا التصور للعدو الجديد تشاطرته ضفتي الأطلسي وتم تغذيته بكم هائل من الدراسات والبحوث الغربية عملت على تضخيم هذا الاتجاه الصراعي الجديد وتصادم حضارته. وقد ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغرب- وعلى مدى واسع- في تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي.  وهو – في الحقيقة- أكثر من مجرد حدود فاصلة بل يتعداها إلى انكسار بين منطقة شمالية مكونة من بلدان جنوب أوروبا القوس اللاتيني، ومنطقة جنوبية مكونة من بلدان عربية منقسمة تخضع لحالة تراجع فوضوي، وهي دول منكشفة.

تتعدد التهديدات والرهانات الأمنية الموجهة ضد دول أوربا ضمن أبعاد مختلفة ومتنوعة، وهنا يبرز البعد المؤشر الديموغرافي كأهم الانشغالات الكبرى للأمن بمفهومه الحديث والموسع نتيجة لانعكاساته السلبية في تغذية التدفقات الهجرية من الجنوب نحو الشمال المتوسطي خاصة في الجهة الغربية منه حيث عرفت نمواً سريعاً، وتمثل دول المغرب العربي – بما فيها الجزائر- نموذجاً واضحاً للحركية الديموغرافية النشطة. هذا وإذا كانت أطروحة التهديد القادم من الجنوب قد استعملت بعد الحرب الباردة كبديل عن الخطر الشيوعي فإن الباحثين في العلاقات الدولية قد يشهدون استبعادًا لهذا المفهوم لصالح مفاهيم أخرى قد لا تكون بديلة بشكل كلي – لمفهوم الجنوب – ويقفز إلى صدارة هذه المفاهيم مفهوم “الدول الفاشلة” أو” الضعيفة” أو “المنهارة” حتى غدا العالم الثالث أو “الجنوب” كله إما فاشلاً، ضعيفًا أو منهاراً.


[1] Abis Sébastian le. (20/05/2012). «  L’inaltérable Problématique Méditerranéenne » Institut d’études Politiques de Lille .Disponible sur le lien suivant : https://2u.pw/67doq

[2] Yves Lacoste, (2009). Géopolitique De la Méditerranée, Paris : Armand Colin.

[3] Abis Sébastian, op.cit .

[4] Abis Sébastian, op.cit.

[5] عبد الله ظريف.(1988). البحر المتوسط في العالم المعاصر، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، ص18.

 [6] اليامين بن سعدون.(2012). الحوارات الأمنية في المتوسط الغربي بعد الحرب الباردة دراسة حالة مجموعة خمسة زائد خمسة (5+5)، رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية فرع العلاقات الدولية، جامعة باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، ص51.

[7] بخوش، مصطفى.(2006). حوض البحر الأبيض المتوسط بعد نهاية الحرب الباردة: دراسة في الرهانات والأهداف، (الجزائر: دار الفجر للنشر والتوزيع)، ص18.

[8] المرجع نفسه، ص23.

[9] جندلي، عبد الناصر.(2010). التحولات الإستراتيجية في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، (باتنة: دار قانة للنشر والتوزيع)، ص142.

[10]ماجدة صالح (1999)، ص308.

[11]جون كرستوف روفين.(ب.س.ن). أوهام الإمبراطورية وعظمة البرابرة، ترجمة: أمل أبي راشد، (طرابلس: دار الجماهيرية للنشر والتوزيع)، ص ص 19-39.

[12]  تفسر هذه النظرية بقاء ونمو وازدهار المدنيات التي لها تحديات وأخطار وتهديدات تواجهها، فهي التي تبقيها في مسار المنافسة تأبى الانحطاط والخمول الحضاري، وهي النظرية التي ضمنها دراسته الضخمة: Study of history وأصدرها في 12 مجلداً بين 1934 و1954. في هذا العمل قدم توينبي نظرة بانورامية للتاريخ ومفهوماً شاملاً للوجود البشري منذ بداية الحضارات التي سجلها التاريخ، ومثل هذه النظرة الشاملة للتاريخ هي التي جعلته يتحدى تمركز المؤرخين الغربيين حول تراثهم واعتبارهم أنهم بحضارتهم الغربية، إنما يقفون موقفاً متميزاً يحتكرون فيه التاريخ وكأنه توقف تماماً عند عالمهم الغربي.

[13]  ركز صامويل هنتنغتون Samuel Huntington على الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وعلى الرغم من الانتقادات الموجه لهذه النظرية من كلا الفريقين، إلا أن الغرب كان أكثر اقتناعاً بها بصورة عامة، فالغرب المتحكم بزمام السياسة الدولية جعل من القيم الليبرالية مرجعية طبيعية لها، وبالتالي قد تتعارض مع الكثير من القيم الحضارية الأخرى، ومن ثمة تبنى العلاقة بين الغرب والآخر على الطبيعة الصراعية. للمزيد أنظر في المؤلفات التالية لنفس الكاتب:

The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, Simon & Schuster, 1996.

Who Are We?: The Challenges to America’s National Identity, Simon & Schuster,2004.

[14] مصطفى بخوش، المرجع السابق، 120.

[15] الجاسور، ناظم. (2002). “الأبعاد الجیوستراتیجیة لحوار المتوسط“. شؤون الأوسط. العدد: 106، ص182.

[16]مصطفى بخوش، المرجع السابق، ص17 .

[17] غریفیثس، مارتن وأوكالاهان، تیري.(2008).المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، ترجمة: مركز الخليج للأبحاث، (الإمارات العربية المتحدة)، ص297.

[18] Huntington, Samuel. (1993).“The Clash of Civilizations”. Foreign Affairs.Vol.32. N.°3, P32.

[19] Buzan, Barry. (2006).” The War on Terrorism: as the New Macro-Securitization?” . Oslo Worshop, P6.

[20] Grange, Daniel J. (1996). « la Méditerranée : berceau au frontière ? ».Relations Internationales. N°87, PP.247-248.

[21] Zorgbibe, Charles. (1995). “ La Méditerranée: Nouvelle ligne de front ? ».Politique et Parlementaire. N°.980, P68.

    [22]بلعيد، منيرة. (2008).” الديناميكيات الأمنية الجديدة في الإقليم المتوسطي: دور الجزائر الأمني كفاعل في المنطقة“. الملتقى الدولي “الجزائر والأمن في المتوسط: واقع وآفاق”. جامعة قسنطينة، ص4 .

[23] Aliboni, Roberto. (1991).“ European Security Across The Mediterranean”. Chaillot Paper 2, P17.

    [24]منيرة بلعيد، المرجع السابق، ص25 .

[25] Williams, David. (2008). « Gouvernance, Security and Development ». Working Papers. CUTP, P3.

[26] بن عنتر، عبد النور. (أفريل 2005).” تطور مفهوم الأمن في العلاقات الدولية“. السياسة الدولية. القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، العدد: 160، ص58.

[27] مصطفى بخوش، المرجع السابق، ص26.

[28] Eichler, Jan. (2006). « Comment apprécier les menaces et les risques du monde contemporain ? ». Défense Nationale et sécurité collective. Vol.62. N.11, P161

[29] علي الحاج. (2005). سياسات دول الإتحاد الأوربي في المنطقة العربية بعد الحرب الباردة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، ص56.

[30]  هنا يمكن الاستشهاد برأي فرانسيس فوكوياما الذي أشار إلى العالم أصبح اليوم مسكونا بشبح ضعف الدولة في البلدان الفقيرة بشكل أكثر مباشرة وإلحاحا، فنهاية الحرب الباردة خلقت وراءها حزاما من الدول الضعيفة والفاشلة بشكل يمكن القول معه بأن “الدول الضعيفة” أو “الفاشلة” أصبحت جدلا المشكلة الكثير أهمية في النظام لأن هذه الدول ترتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وتهاجم جيرانها، وتدفع بموجات كثيفة من الهجرة، خارج أراضيها وتتسبب في كوارث إنسانية كبيرة. للمزيد أنظر في : فريجة لدمية، إستراتيجية الاتحاد الأوروبي لمواجهة التهديدات الأمنیة الجديدة – الهجرة غیر الشرعية أُنْمُوذَجًا، مذكرة مقدمة لنیل شهادة الماجستير في العلوم السیاسیة والعلاقات الدولیة ، تخصص: سیاسة مقارنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر بسكرة، 2009-2010، ص. 30. وفرانسيس فوكوياما، بناء الدولة النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: مجاب الإمام، المملكة العربية السعودية: العبيكان، 2007، ص37.

[31]بونيفاس، باسكال. (1997). إدارة العجز هل هي نهاية التطلعات الدولية والإستراتيجية، ترجمة: حليم طوسون، (القاهرة: دار العالم الثالث،1997)، ص18.

[32] Buzan, Barry. (1983). People, States and Fear. London: Harvester Wheat sheaf.,1983, P116.

[33] Robert D. Kaplan, (12/03/2016). “The coming Anarchy How scarity, crime, over population, tribalism, and disease are rapidly destroying the social fabric of our planet“. available in: https://2u.pw/4kkAo

[34] Deblock. Z.Christian. Drunelle.(1993). « Une intégration régional stratégique : Le cas Nord- Américain ». Etudes internationales. N.03, P597.

[35] Ravenel, Bernard. (1995). « Méditerranée, L`impossible Mur ». Paris : Le Harmattan, P85.

[36] Khader, Bichara. (1994). « L`Europe et Méditerranée, Géopolitique de la proximité ». France : Le Harmattan, P86.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى