الفيتو الأمريكي والإبادة في غزة: جدل الشرعية والعدالة الدولية

رشيد غفران
باحث مغربي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
الملخص:
تتناول هذه الدراسة دور الفيتو الأمريكي داخل مجلس الأمن كقوة مؤثرة في تعطيل مسارات العدالة الدولية، مع تركيز خاص على تداعياته في سياق الحرب على قطاع غزة (2023 – 2025).
تنطلق الورقة من فرضية أن الفيتو لم يعد أداةً إجرائية محايدة، بل أصبح آلية سياسية تمنح بعض الدول حصانة فعالة أمام المساءلة الدولية، بما يفتح مجالاً واسعاً للإفلات من العقاب ويفرغ مبادئ القانون الدولي الإنساني من مضمونها.
تعرض الدراسة الإطار النظري للفيتو، وتستعيد التاريخ الأمريكي في استخدامه، ثم تفحص غزة كنموذج راهن يبرز أبعاد الانتقائية في التطبيق، وتستعرض انعكاسات ذلك على بنية النظام الدولي. وأخيراً تختم الدراسة بتقديم عدد من المقترحات مقترنة باستشراف مسارات ممكنة للإصلاح، مع إبراز دور الفاعلين المدنيين والإقليميين في الضغط على قرارات السياسات الكبرى.
مقدمة :
لم يعد حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن مجرد آلية إجرائية لضبط التوازنات داخل النظام الدولي، بل تحول مع مرور الوقت إلى أداةٍ حاسمة في رسم مصائر الشعوب وتحديد مآلات النزاعات. وإذا كان هذا الحق قد صُمِّم في الأصل ليحمي السلم والأمن الدوليين من قرارات متسارعة في سياق الحرب الباردة، فإن استخدامه اليوم، وخاصة من طرف الولايات المتحدة، يكشف عن انحراف خطير في وظيفة الشرعية الدولية. فبدل أن يكون وسيلة لضبط القوة بالقانون، صار في كثير من الأحيان وسيلة لإضفاء حصانة سياسية على انتهاكات جسيمة ترتقي إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تتجلى هذه المعضلة بأوضح صورها في الحرب الجارية على غزة، حيث تحوّل الفيتو الأمريكي إلى مظلة واقية لإسرائيل، تمنع صدور قرارات دولية لوقف إطلاق النار أو لفتح مسار مساءلة جدّي للانتهاكات المرتكبة ضد المدنيين. وهكذا يجد ملايين الفلسطينيين أنفسهم أسرى معادلة قاسية: عدوان عسكري مدمر من جهة، وعجز دولي بالفيتو من جهة أخرى.
إن هذا الواقع يطرح أسئلة جوهرية حول مدى مصداقية النظام الدولي وقدرته على حماية المستضعفين، وحول جدوى القانون الدولي الإنساني في ظل خضوعه لمنطق القوة. كما يدفع للتساؤل: هل ما زالت الأمم المتحدة الإطار الأمثل لحماية الأمن الجماعي، أم أنها تحوّلت إلى أداة لتكريس اختلال ميزان القوى العالمي؟
بهذا المعنى، تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك أبعاد الفيتو الأمريكي في الحالة الفلسطينية، من خلال قراءة نقدية في الخلفيات التاريخية والسياسية، واستجلاء انعكاساته على غزة تحديدًا، باعتبارها ساحة تُختبر فيها مصداقية العدالة الدولية ومعنى الشرعية الأممية في القرن الحادي والعشرين.
المحور الأول : الإطار النظري لحق الفيتو
حين وُقّع ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945[1]، كان واضعوه يدركون أن تأسيس نظام دولي جديد بعد حربين عالميتين يقتضي توازنًا دقيقًا بين مبدأ المساواة بين الدول وبين واقع الهيمنة الذي فرضته القوى المنتصرة. فجاء “حق النقض” أو “الفيتو” كآلية استثنائية تمنح الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، بريطانيا، فرنسا، والصين)، القدرة على تعطيل أي قرار لا يتوافق مع مصالحهم الإستراتيجية.
من الناحية النظرية، برر الميثاق هذه الميزة الاستثنائية باعتبارها ضمانة لالتزام القوى الكبرى بالنظام الأممي وعدم انسحابها منه كما حدث مع عصبة الأمم. أي أن الفيتو لم يكن في الأصل أداة للهيمنة، بل كان ثمنًا سياسيًا لتأمين مشاركة الكبار في مشروع الأمن الجماعي. غير أن الممارسة العملية سرعان ما أظهرت وجهًا آخر: إذ تحول الفيتو إلى وسيلة لتعطيل قرارات تمس مصالح القوى الخمس، حتى لو تعلق الأمر بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني.
تُظهر النظريات الكبرى في العلاقات الدولية تباينًا في تفسير هذا الحق. فالمقاربة الواقعية ترى أن الفيتو مجرد انعكاس لمنطق القوة في النظام الدولي: الدول الأقوى هي التي تضع القواعد، وهي وحدها التي تستطيع تعطيلها. في المقابل، تعتبر المقاربة الليبرالية أن الفيتو إعاقة لعمل المؤسسات الدولية، لأنه يُفرغ مبدأ التعاون المتعدد الأطراف من محتواه ويجعل الشرعية الدولية رهينة قرار خمس دول فقط. أما الاتجاهات النقدية (مثل الماركسية والبنائية) فتنظر إلى الفيتو باعتباره أداة لإدامة بنية غير عادلة في النظام العالمي، حيث يُمنح “حق الاستثناء” للقلة بينما تُحرم الأغلبية الساحقة من الدول من التأثير الفعلي في القرارات المصيرية.
وبهذا المعنى، فإن الفيتو ليس مجرد مادة قانونية جامدة، بل هو انعكاس للتوتر الدائم بين مثالية القانون وواقعية السياسة. فهو يجسد المفارقة الكبرى للنظام الأممي: أن العدالة الدولية تظل دومًا مشروطة بموافقة الأقوياء، وأن القانون يُطبق على الضعفاء أولاً، بينما يجد الأقوياء دائمًا في الفيتو مظلة للهروب من المساءلة.
المحور الثاني: الفيتو الأمريكي تاريخيًا
منذ إنشاء الأمم المتحدة، استخدمت القوى الخمس حق النقض في مناسبات متعددة، لكن الولايات المتحدة برزت بوصفها الدولة الأكثر توظيفًا لهذا السلاح في سياقات ترتبط مباشرة بالصراع العربي–الإسرائيلي. وإذا كانت موسكو خلال الحرب الباردة قد لجأت إلى الفيتو لحماية حلفائها في مناطق النفوذ السوفياتي، فإن واشنطن جعلت من الفيتو أداة مركزية لحماية إسرائيل من أي مساءلة دولية.
تشير الإحصاءات إلى أن الولايات المتحدة استعملت الفيتو أكثر من 80 مرة منذ 1945، منها ما يزيد عن النصف في القضايا المتعلقة بفلسطين والصراع العربي–الإسرائيلي. فابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، برزت واشنطن كحامية مطلقة لإسرائيل داخل مجلس الأمن.
ففي عام 1972، استخدمت لأول مرة الفيتو ضد مشروع قرار يطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الفيتو الأمريكي خط الدفاع الأول ضد أي قرار يدين السياسات الإسرائيلية، سواء تعلق الأمر بالاستيطان، بالعدوان العسكري، أو بانتهاكات حقوق الإنسان[2].
أحد الأمثلة البارزة وقع عام 1982، عندما شنّت إسرائيل حربها على لبنان وارتكبت مجازر مروعة في صبرا وشاتيلا. ورغم الإدانات الواسعة في الجمعية العامة ومجلس الأمن، تدخل الفيتو الأمريكي مرارًا لعرقلة قرارات تُدين العدوان الإسرائيلي وتطالب بوقف إطلاق النار. هذا النمط تكرر في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987–1993) والثانية (2000–2005)، حيث عُطلت مشاريع قرارات كانت تدعو إلى حماية المدنيين الفلسطينيين أو إرسال قوات مراقبة دولية.
أما في العقود الأخيرة، فقد أصبح الفيتو الأمريكي أداة متجددة لحماية السياسات الإسرائيلية الأكثر إثارة للجدل. ففي عام 2011، استخدمت واشنطن النقض ضد مشروع قرار يدين الاستيطان، رغم أن القرار كان يحظى بتأييد واسع من المجتمع الدولي. وفي السنوات الأخيرة، ومع تزايد الانتهاكات في القدس والضفة الغربية وغزة، تكررت عمليات التعطيل الأمريكي لأي قرار يفرض مساءلة أو حتى مجرد إدانة لفظية لإسرائيل.
إن قراءة هذا التاريخ تكشف بوضوح أن الفيتو الأمريكي لم يعد استثناء ظرفيا، بل أصبح سياسة ممنهجة تعكس التزاما استراتيجيا بحماية إسرائيل من الضغوط الدولية. ولعل خطورة هذا السلوك لا تكمن فقط في تعطيل القرارات، بل في الرسالة الرمزية التي يبعثها: أن قوة واحدة في العالم قادرة على تقويض إرادة الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء، حتى لو تعلق الأمر بجرائم تمسّ جوهر القانون الدولي الإنساني.
المحور الثالث: غزة كنموذج راهن
تشكل الحرب على غزة (2023–2025) النموذج الأكثر سطوعًا لفهم الدور الذي يلعبه الفيتو الأمريكي في تعطيل العدالة الدولية. فمنذ اندلاع الهجوم الإسرائيلي واسع النطاق على القطاع، وما خلفه من آلاف الضحايا المدنيين ودمار هائل للبنية التحتية، حسب تقارير مكتب الأمم المتحدة لتوثيق الشؤون الإنسانية،[3]OCHالذي من خلاله جرى توثيق عدد الشهداء وحجم الدمار والنزوح الجماعي وتأثير الحصار على المدنيين في قطاع غزة تتابعت الجلسات الطارئة لمجلس الأمن في محاولة لتمرير قرارات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار أو على الأقل السماح بدخول المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، اصطدمت كل هذه المحاولات بجدار النقض الأمريكي.
لقد استخدمت الولايات المتحدة الفيتو مرارا في هذه الحرب، ليس فقط لتعطيل مشاريع قرارات مقدمة من دول مثل البرازيل أو الإمارات، بل حتى لإفراغ نصوص القرارات من مضمونها عبر المساومة على صياغات مبهمة تساوي بين المعتدي والضحية. وهكذا، تحول الفيتو إلى مظلة سياسية تسمح لإسرائيل بمواصلة حربها دون خشية من صدور قرار ملزم من مجلس الأمن.
تُظهر التجربة الغزّية كيف يمكن للفيتو أن يُفرغ القانون الدولي من مضمونه. فالمواثيق الدولية واضحة في حظر استهداف المدنيين، وتجريم العقاب الجماعي، ورفض التهجير القسري. ومع ذلك، فإن هذه النصوص تبقى حبرًا على ورق حين تُعطَّل آليات التنفيذ بقرار أمريكي واحد. وبذلك، يصبح الفيتو أداة لشرعنة الإبادة، أو على الأقل لتمكينها عبر ضمان غياب أي عواقب دولية على مرتكبيها.
الأدهى من ذلك أن الفيتو الأمريكي لا يقتصر على تعطيل القرارات فحسب، بل ينعكس أيضًا على عمل مؤسسات أخرى مرتبطة بمجلس الأمن، مثل المحكمة الجنائية الدولية. فعندما تحاول هذه الأخيرة فتح تحقيقات في الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، تواجه ضغوطًا وتهديدات أمريكية صريحة بالتمويل والعزلة، مما يجعل العدالة الجنائية الدولية رهينة للإرادة السياسية.
إن حالة غزة تكشف بوضوح كيف يمكن للفيتو أن يساهم في إنتاج “مساحات إفلات من العقاب”، حيث تُرتكب الفظائع على مرأى ومسمع العالم، لكن من دون أي آلية ردع أو مساءلة. وهذا ما يجعل ملايين الفلسطينيين يشعرون بأن دماءهم بلا قيمة في ميزان الشرعية الدولية، وأن حياة المدنيين في غزة تُقاس دائمًا بمعايير مزدوجة مقارنة بغيرهم من الشعوب.
وبهذا المعنى، فإن غزة ليست مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل هي اختبار تاريخي لصدقية النظام الدولي برمّته: فإذا كان الفيتو قادرًا على تعطيل حماية شعب يُباد أمام الكاميرات، فماذا تبقى إذن من مفهوم “الأمن الجماعي” الذي قامت عليه الأمم المتحدة
المحور الرابع: الفيتو والإفلات من العقاب
من أخطر تداعيات الفيتو الأمريكي أنه لا يقتصر على تعطيل القرارات الدولية، بل يُكرس ثقافة الإفلات من العقاب. فحين تدرك دولة مثل إسرائيل أن هناك قوة عظمى ستمنع أي إجراء دولي ضدها، فإنها تُطلق يدها في ارتكاب الانتهاكات دون خوف من العواقب، وهكذا يتحول الفيتو من أداة إجرائية إلى ضمانة سياسية لمرتكبي الجرائم الدولية.
لقد كان القانون الدولي الإنساني، منذ اتفاقيات جنيف وما تلاها، يقوم على مبدأ أساسي: أن الجرائم الكبرى كالقتل الجماعي، التهجير القسري، أو استهداف المدنيين لا تسقط بالتقادم ويجب أن يعاقب عليها المسؤولون أيًا كانت مواقعهم. غير أن الفيتو الأمريكي يقوّض هذا المبدأ من أساسه، لأنه يعرقل إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو يحول دون إنشاء لجان تحقيق دولية ذات صلاحيات ملزمة[4].
يتجلى هذا الإفلات من العقاب في عدة مستويات:
1. المستوى السياسي: حيث يحول الفيتو دون صدور قرارات تدين بوضوح الانتهاكات، مما يمنح إسرائيل هامشا واسعا للتصرف باعتبارها فوق القانون.
2. المستوى القضائي: إذ يعيق مجلس الأمن إحالة القضايا المتعلقة بفلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، في الوقت الذي سبق أن أحال قضايا أخرى — مثل دارفور أو ليبيا — دون تردد.
3. المستوى الرمزي: إذ يُنتج الفيتو شعورًا عالميًا بأن هناك “شعوبًا محمية” وأخرى “مستباحة”، وهو ما يعزز خطاب الكيل بمكيالين ويفقد النظام الدولي شرعيته الأخلاقية.
إن استمرار الإفلات من العقاب بفضل الفيتو الأمريكي لا يضر بالفلسطينيين وحدهم، بل يقوّض فكرة العدالة الدولية ككل. فعندما يُعاقب مجرمون في أفريقيا أو البلقان بينما يُستثنى آخرون في فلسطين بحماية أمريكية، تتكرّس صورة انتقائية القانون الدولي، ويُصبح الحديث عن “المساواة أمام العدالة” مجرد شعار أجوف.
بهذا، يتحول الفيتو إلى عائق أمام بناء نظام دولي عادل، لأنه يُنتج حصانات غير مشروعة لدول بعينها، ويغلق الباب أمام الضحايا للجوء إلى العدالة. وما لم يُكسر هذا النمط، فإن جرائم غزة لن تكون الأخيرة، بل ستشكل سابقة مشجعة لقوى أخرى قد تستلهم النموذج الإسرائيلي وتراهن على حماية حلفائها في مجلس الأمن.
المحور الخامس: انعكاسات الفيتو على النظام الدولي
لا يمكن النظر إلى الفيتو الأمريكي في معزل عن الديناميات الأوسع التي تحكم النظام الدولي. فالتكرار الممنهج لاستخدامه في القضايا المتعلقة بفلسطين، وخاصة غزة، أنتج سلسلة من الانعكاسات العميقة التي تمسّ شرعية المؤسسات الأممية ومستقبل العلاقات الدولية برمّتها.
أولاً، على مستوى الأمم المتحدة نفسها، أدى الفيتو الأمريكي إلى إضعاف مجلس الأمن وتحويله إلى مؤسسة عاجزة في أعين الشعوب. ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون المجلس الجهاز التنفيذي الأهم لحفظ السلم والأمن الدوليين، صار يُنظر إليه كأداة رهينة لإرادة الخمسة الكبار. ومع كل فيتو جديد، تتسع الفجوة بين الشعارات المؤسسة للأمم المتحدة وبين الواقع العملي الذي يكشف ازدواجية المعايير.
ثانيًا، على مستوى القانون الدولي، يساهم الفيتو في تآكل قواعد ملزمة مثل حظر الإبادة الجماعية وتجريم استهداف المدنيين. إذ أن تعطيل المساءلة الدولية في غزة يُرسل رسالة خطيرة مفادها أن القوانين لا تُطبق إلا على الضعفاء، بينما يُستثنى الأقوياء وحلفاؤهم. هذا الانتقائية تُفقد القانون الدولي سلطته الأخلاقية، وتجعله مجرد أداة تفاوضية تخضع للتوازنات السياسية.
ثالثًا، على مستوى النظام العالمي، يعزز الفيتو الأمريكي شعورًا متناميًا لدى قوى صاعدة كالصين وروسيا والهند والبرازيل بأن النظام الحالي لم يعد عادلًا ولا قادرًا على الاستجابة لتحديات القرن الحادي والعشرين. وهذا يفتح الباب أمام مساعي بناء أطر بديلة، مثل “البريكس” أو تجمعات إقليمية أخرى، قد تسعى إلى تجاوز شلل مجلس الأمن.
رابعًا، على مستوى الرأي العام العالمي، أدت ممارسات الفيتو إلى تآكل صورة الولايات المتحدة كحامية للديمقراطية وحقوق الإنسان”. ففي زمن العولمة الإعلامية، لم يعد من الممكن إخفاء التناقض بين خطاب واشنطن حول حقوق الإنسان وبين استخدامها المتكرر للفيتو لحماية سياسات تُصنفها منظمات دولية وحقوقية بأنها ترقى إلى جرائم حرب[5].
خامسا، على مستوى العلاقات الدولية، يُنتج الفيتو حالة من “اللاعقاب المُمأسس” التي تُغذي النزاعات بدل حلها. فحين يُدرك الفاعلون أن قرارات مجلس الأمن يمكن تعطيلها بسهولة، فإن ذلك يدفعهم إلى الاعتماد أكثر على موازين القوى العسكرية بدل الالتزام بالقانون الدولي. والنتيجة هي نظام دولي أكثر هشاشة وأقل قدرة على منع الحروب أو حماية المدنيين.
بهذا المعنى، لا يشكل الفيتو الأمريكي مجرد مسألة إجرائية في مجلس الأمن، بل يمثل معضلة بنيوية تهدد مصداقية النظام الدولي كله. وإذا كانت غزة أبرز تجلياتها اليوم، فإن انعكاساتها تتجاوز فلسطين لتطال مستقبل الشرعية الدولية نفسها.
المحور السادس: مقاربات العلاقات الدولية
إن فهم ظاهرة الفيتو الأمريكي على ضوء الحرب في غزة لا يكتمل من دون استحضار الأدوات النظرية التي توفرها مدارس العلاقات الدولية. فكل مقاربة تقدم زاوية نظر مختلفة تساعد على تفكيك أبعاد هذه المعضلة.
1. المقاربة الواقعية
يرى الواقعيون أن سلوك الولايات المتحدة طبيعي ومُتوقع؛ فالنظام الدولي تحكمه القوة لا القانون. ومن هذا المنظور، يشكل الفيتو أداة لحماية المصالح القومية الأمريكية، وعلى رأسها ضمان تفوق إسرائيل كحليف استراتيجي في الشرق الأوسط. وعليه، فإن التضحيات الإنسانية في غزة ليست سوى “تكلفة مقبولة” من منظور المصلحة القومية.
2. المقاربة الليبرالية
بالنسبة لليبراليين، يكشف الفيتو الأمريكي عن فشل المؤسسات الدولية في تجاوز الحسابات القومية الضيقة. فمجلس الأمن، المفترض أن يكون تجسيدًا للتعاون المتعدد الأطراف، يتحول إلى ساحة لتجاذب القوى. من هذا المنظور، تكمن المعضلة في غياب إصلاح هيكلي يحدّ من سلطة الفيتو ويعزز دور القواعد والمؤسسات.
3. المقاربة البنائية
تسعى هذه المقاربة إلى تحليل كيف تُنتج الخطابات والهويات السياسية ممارسات كالفيتو. فالولايات المتحدة لا تدافع عن إسرائيل فقط باعتبارها حليفًا استراتيجيًا، بل أيضًا لأنها تبني هويتها السياسية على فكرة “التحالف الديمقراطي” و”القيم المشتركة”[6]. وعليه، فإن الفيتو يُفهم هنا كتجسيد لسردية أمريكية ترى في الدفاع عن إسرائيل جزءًا من تعريفها لذاتها كقوة عظمى.
4. المقاربات النقدية (الماركسية وما بعدها)
تنظر هذه الاتجاهات إلى الفيتو كأداة لإدامة علاقات الهيمنة في النظام الرأسمالي العالمي. فالدعم الأمريكي لإسرائيل لا ينفصل عن بنية أوسع من السيطرة الاقتصادية والعسكرية على المنطقة، حيث يشكل الشرق الأوسط محورًا استراتيجيًا لضمان تدفق الطاقة والأسواق. ومن ثم، فإن الفيتو يُستخدم لحماية بنية هيمنة أعمق، لا مجرد تحالف سياسي.
5. المقاربة ما بعد الكولونيالية
تطرح هذه المقاربة بعدًا آخر، إذ ترى أن الفيتو الأمريكي يكرس “عقلية استعمارية” تُصنف الشعوب بين مستحقة للحماية وأخرى يمكن التضحية بها. ومن هذا المنظور، يُنظر إلى الفلسطينيين كضحايا صامتين” في نظام عالمي ما زال يعيد إنتاج علاقات القوة الاستعمارية القديمة بلبوس جديد.
تُظهر هذه القراءات النظرية أن الفيتو الأمريكي ليس حدثًا معزولًا أو سلوكًا عرضيًا، بل هو تعبير عن بنية أعمق للنظام الدولي. وتجمع أغلب المقاربات، رغم اختلافها، على أن هذه البنية تُقصي العدالة وتُعطي الأولوية لمصالح القوى الكبرى، وهو ما يجعل غزة ليست استثناءً، بل تجسيدًا صارخًا لهذه المعضلة البنيوية.
المحور السابع: إصلاح مجلس الأمن وإمكانات تجاوز الفيتو
أعادت الحرب على غزة النقاش العالمي حول حدود فاعلية مجلس الأمن في ظل استمرار هيمنة حق الفيتو. فبينما يُفترض أن يكون المجلس أداة لحفظ السلم والأمن الدوليين، تحوّل في كثير من الأحيان إلى ساحة لتكريس ميزان القوى، حيث يعطل الفيتو أي محاولة لمساءلة الحلفاء الاستراتيجيين للقوى الكبرى.
لقد طُرحت في العقود الأخيرة مبادرات عديدة لإصلاح المجلس، منها توسيع العضوية الدائمة لتشمل قوى صاعدة كالهند والبرازيل، أو تقييد الفيتو في حالات الإبادة وجرائم الحرب، إضافة إلى تفعيل دور الجمعية العامة عبر آلية “الاتحاد من أجل السلم”. غير أن هذه المقترحات تصطدم بعقبة جوهرية: أي تعديل يحتاج إلى موافقة الدول الخمس ذاتها، وهو ما يجعل الإصلاح الجذري صعب التحقيق.
أمام هذا الانسداد، تبدو البدائل العملية أكثر واقعية، مثل تقوية أدوار المؤسسات القضائية الدولية، أو تمكين الأطر الإقليمية من لعب أدوار وقائية، إلى جانب الضغوط الشعبية والإعلامية التي ترفع الكلفة الأخلاقية والسياسية لاستخدام الفيتو.
وتكشف غزة أن استمرار الفيتو دون إصلاح يعني المزيد من فقدان الشرعية الدولية. فالمجلس، في صورته الحالية، لم يعد قادراً على الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات حماية المدنيين، وهو ما يجعل التفكير في تجاوز الفيتو ليس ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة سياسية وأخلاقية.
الخاتمة:
تكشف دراسة مسار الفيتو الأمريكي، وخاصة في سياق الحرب على غزة، عن مفارقة عميقة تضرب في صميم الشرعية الدولية. فمن جهة، يواصل الخطاب الأممي التأكيد على قدسية القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين، لكن من جهة أخرى، يُعطل الفيتو هذا القانون حينما يتعارض مع مصالح القوى الكبرى. وهكذا، تتحول العدالة من مبدأ كوني إلى أداة انتقائية، وتغدو حياة الشعوب رهينة بمعادلات القوة.
إن ما يجري في غزة ليس مجرد صراع محلي، بل هو اختبار تاريخي للنظام الدولي في القرن الحادي والعشرين. فإذا كان بالإمكان استخدام الفيتو لحماية حرب تدميرية بهذا الحجم، فإن ذلك يرسل رسالة واضحة إلى بقية العالم: أن القانون الدولي بلا مخالب، وأن من يمتلك الحماية في مجلس الأمن يستطيع أن يفعل ما يشاء. وهذا ما يفتح الباب أمام مستقبل أكثر فوضوية، حيث تتغلب منطق القوة على أي رادع قانوني أو أخلاقي.
ورغم قتامة هذا المشهد، فإن هناك ديناميات صاعدة قد تُعيد تشكيل المعادلة. فحجم التضامن الشعبي العالمي مع غزة، واتساع رقعة التغطية الإعلامية، وتزايد ضغوط منظمات المجتمع المدني، كلها عوامل تضعف تدريجيًا قدرة الولايات المتحدة على تبرير استخدام الفيتو دون كلفة سياسية وأخلاقية. كما أن بروز قوى دولية جديدة غير راضية عن الوضع القائم، مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، قد يفتح المجال لتوازنات جديدة تعيد طرح مسألة العدالة الدولية على نحو أكثر إلحاحًا.
يبقى أن الفيتو، في صيغته الحالية، يمثل عقبة بنيوية أمام العدالة الدولية، وهو ما يفرض على الباحثين وصنّاع القرار التفكير بجدية في بدائل عملية، سواء عبر تفعيل أدوار الجمعية العامة، أو دعم المحاكم الدولية، أو حتى بناء أطر إقليمية قادرة على حماية المدنيين حين يعجز مجلس الأمن. فالمأساة الغزّية تُذكرنا بأن الشرعية الدولية ليست مجرد نصوص، بل هي أيضًا ممارسات، وأن مصداقيتها تُقاس بقدرتها على حماية الأضعف لا بقدرتها على إرضاء الأقوى.
[1] ميثاق الأمم المتحدة 1945
[2] جلسات مجلس الأمن المتعلقة بالقضية الفلسطينية 1972_2024
[3] – Ochaعن غزة ” تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية
[4]تقارير مجلس حقوق الإنسان، وتقارير تقصي الحقائق حول الإنتهاكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة .جنيف
[5] –هيومن رايتس ووتش، تقارير عن الإنتهاكات في غزة وفلسطين .نيويورك تواريخ متعددة
منظمة العفو الدولية، تقارير حول الإنتهاكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لندن، تواريخ متعددة
[6] — مركز الجزيرة للدراسات، أوراق تحليلية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الدوحة، تواريخ مختلفة
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF