أوراق و دراساتتحليلات و تقديراتسياسيةسياسية

صراع النفوذ في الساحل الإفريقي بين روسيا وفرنسا: الأسباب والمسارات

على مر عقود ظلت فرنسا البلد الأكثر حضورًا في إفريقيا على كل الأصعدة مستفيدة من تاريخها الاستعماري الطويل في العديد من دول القارة. وخلال تواجدها سعت فرنسا لترسيخ أنظمة سياسية محلية تكون بمثابة الحارس لمصالحها الاقتصادية فضلا عن نشر عدة قواعد عسكرية لذات الأهداف خاصة في دول الساحل الإفريقي.

وساعدتها هذه الأنظمة على الانتفاع بثروات بلدانهم التي ظلت تعاني الفقر والانفلات الأمني والإرهاب، مقابل ضمان استمرارهم في الحكم. أدى هذا الوضع تدريجيًا لظهور مواقف شعبية مناوئة لباريس وسياستها، وأصبح هناك ما يشبه الإجماع على أن الأخيرة مازالت تتعامل مع دولهم كمستعمرات وليس كدول مستقلة لا سيما في ظل المخاطر الأمنية الكبيرة التي تتفاقم باستمرار رغم ادعاء فرنسا أن تواجدها الأمني الواسع هناك هدفه وضع حد لهذه المخاطر.

شكلت هذه البيئة الشعبية الجديدة أرضية مناسبة للانقلابات العسكرية التي شهدتها دول الساحل بين عامي 2020 و2025، والتي أطاحت بالأنظمة الحاكمة. وكان نجاح الانقلابات العسكرية إيذانًا ببداية نهاية الوجود الفرنسي ودخول لاعبين كانوا يمهدون الطريق منذ سنوات لحضور أكبر وأوسع داخل الساحل الإفريقي على رأسهم روسيا التي تسحب تدريجيًا البساط من تحت أقدام فرنسا اقتصاديًا وأمنيًا.

تتناول هذه الورقة صعود الحضور الروسي في دول الساحل الإفريقي مقابل التراجع الفرنسي، والتحديات التي تواجه موسكو لضمان نجاح خططها في منطقة مشتعلة أمنيًا ومحل تنافس قوى دولية كبرى أخرى على غرار الصين وتركيا، سعيًا للإجابة على تساؤل رئيس: لماذا تُشكل إفريقيا عموما ومنطقة الساحل الأفريقي خصوصًا بيئة جاذبة للقوى الاستعمارية والباحثة عن مناطق نفوذ خارج أراضيها؟.

أولا: أسباب التنافس الدولي على إفريقيا

هناك جملة من العوامل التي تجعل إفريقيا وجهة جاذبة لعدة قوى دولية، أولا وأساسا الثروات الطبيعية الظاهرة والخفية التي تزخر بها، فهي تحتوي على 12 بالمئة من احتياطي النفط العالمي وحوالي 8 بالمئة من احتياطيات الغاز الطبيعي، وثلث الاحتياطات المعدنية العالمية، وما بين 40  و50 بالمئة من احتياطي الذهب في العالم، و90 بالمئة من الكروم والبلاتين، و65 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة، ونحو 10 بالمئة من مصادر المياه العذبة المتجددة، هذا فضلا عن كونها تمثل 20 بالمئة من اليابسة وحوالي 15 بالمئة من سكان العالم. كما أنها تعد قارة شابة وواعدة في وقت تعاني فيه قارات أخرى من التهرم.([1])

ورغم هذه الأرقام فإن كل المؤشرات مازالت تؤكد أن إفريقيا من أفقر قارات العالم، وتعاني من ارتفاع كبير في نسبة الأمية وبؤرة رئيسية للإرهاب ومسرحًا خصبًا للانفلات الأمني خاصة في منطقة الساحل. وهذه العوامل مجتمعة جعلت من القارة محور تنافس كبير من القوى الكبرى التي تسعى للاستفادة من حالة الهشاشة والتخلف السائدة للدخول بعناوين مختلفة في حين أن الهدف الرئيسي هو وضع اليد على الثروات الكبيرة المكتشفة وغير المكتشفة بهذه الدول.

وإذا كانت فرنسا قد استفادت من ماضيها الاستعماري وأنظمة سياسية موالية وشبه تابعة لها فإن روسيا بصدد الاستفادة من نجاح الانقلابات العسكرية التي أعلن جنرالاتها، الذين سيطروا على مقاليد الحكم، صراحة رفضهم للتواجد الفرنسي ورحبوا بالتعاون مع موسكو، بل ويتجهون عمليًا لتأسيس بدائل جديدة بعناوين أفريقية روسية.

ثانيا : صعود روسيا في الساحل الإفريقي

بعد وصول العسكريين إلى السلطة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو إثر سلسلة انقلابات (بين 2020 و2023) أطاحت بالرؤساء المدنيين الذين كانت تربطهم علاقات وطيدة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، لم يترددوا في الشروع في قطع علاقات عسكرية ودبلوماسية مع الدول الغربية ولا سيما باريس. واعتبروا أن فرنسا هي الطرف الأبرز في مشكلاتهم الوطنية، واتهموها بلعب دور مزدوج في حربها على الإرهاب بوقوفها علنا مع الحكومات المحلية والوقوف سرا مع الإرهابيين، وباستنزاف ثرواتها زمن الاستعمار وبعد استقلال بلدانهم بالاستعانة بحكام تآمروا معها ضد شعوبهم على مدار عقود من أجل بقاءهم على كراسيهم.

ولأنهم يعتبرون في أنفسهم المخلصين لشعوبهم من هذا الاستنزاف، فقد توجهوا مباشرة للقطع مع من يرونهم أسباب خراب بلدانهم والتي كانت بشكل خاص فرنسا. إذ قاموا بطرد قواتها في البداية ثم أخرجوا دولهم من المنظمات والتكتلات التي أسست بدعم أو إدارة فرنسية. وفي المقابل فتحوا الباب للعلاقات مع قوى أخرى ليس لديها خلفيات استعمارية مع دولهم، فكانت الاستدارة صوب روسيا التي لم تكن قد دخلت هذه البلدان حديثا بل مهدت لهذا الواقع الجديد منذ سنوات خاصة من خلال البوابة الأمنية سرا وعلنا، ورتبت الوضع من أجل مجالات تعاون أوسع تشمل الاقتصاد أيضًا.

(1) الدخول الروسي المتدرج أمنيًا

مر الحضور الروسي بمنطقة الساحل الأفريقي بمرحلتين، الأولى مرحلة الحضور أو النفوذ بالوكالة وكان هذا قبل الانقلابات بقليل وإبانها حيث حاولت روسيا إيجاد موطئ قدم في هذه المنطقة بأي ثمن مستفيدة من حالة التوتر في بلدان الساحل.

واستخدمت روسيا خلال هذه الفترة مجموعة المرتزقة “فاغنر”، والتي ظلت تنكر وجودها أو تبعيتها للسلطة الروسية أمام العالم في حين أنها كانت تمهد الطريق للحضور الرسمي للدولة الروسية أقوى وأكثر فاعلية. أما الثانية، فهي مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية وهي مرحلة التروي الروسي في إدارة حضورها في المنطقة والتي بدأت خلالها موسكو تحسب بدقة خطواتها الراهنة والقادمة وما يمكنها فعله وما ستستفيده ووفق أية آليات. وانتشرت قوات فاغنر (شركة عسكرية خاصة تربطها علاقات بالكرملين) بالساحل الإفريقي منذ سنة 2020 تحديدًا مع الانقلابات العسكرية التي غيرت المشهد الجيوسياسي في المنطقة.([2])

(أ) دولة مالي

كانت المحطة الأولى دولة مالي التي قاد فيها العقيد أسيمي غويتا في أغسطس/آب 2020، انقلابًا عسكريًا عززه بآخر في 24 مايو/ أيار2021، ثم أصبح رئيسًا للمجلس العسكري الحاكم وطرد القوات الفرنسية من البلاد في أغسطس/ آب 2022، ثم بعثةَ الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي في ديسمبر/ كانون الأول 2023.

في المقابل أبدى المجلس انفتاحًا لافتًا على روسيا التي أرسلت شحنات أسلحة سنة 2022 تضمنت 12 طائرات ومروحيات عسكرية وشحنات من الصواريخ المتنوعة، ومدربين إلى جانب المئات من عناصر “فاغنر” الذين توافدوا للمشاركة في القتال إلى جانب الجيش المالي، الذي حقق مكاسب مهمة في مواجهة الانفصاليين الطوارق، وتكبدت أيضا خسائر فادحة.([3])

(ب) بوركينا فاسو

في 23 سبتمبر/ أيلول 2022،  أطاح النقيب إبراهيم تراوري بالنظام القائم في بوركينا فاسو، ونصب نفسه رئيسا لمجلس عسكري، وقطع التعاون العسكري مع فرنسا وطرد قواتها من البلاد. وكما هو الحال مع مالي، أبدت بوركينا فاسو انفتاحًا كبيرًا على روسيا تُرجم في البداية باستلام أسلحة ومعدات ومنظومات دفاع جوي ومدربين أرسلتهم روسيا إلى العاصمة واغادوغو إلى جانب قوات من مجموعة “فاغنر” التي قاتلت إلى جانب الجيش البوركيني في منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي تعد معقلًا هاما لنشاط الجماعات المسلحة.[4]

(ج) جمهورية النيجر

في 26 يوليو/ تموز 2023، قاد الجنرال عبد الرحمن تياني، انقلابًا عسكريًا في النيجر وبات قائدًا للمجلس العسكري، وخرج بدوره عن التبعية الفرنسية وكذلك الولايات المتحدة. إذ غادرت القوات الفرنسية النيجر في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2023، ثم تركت القوات الأميركية قاعدة أغاديز الجوية نهائيًا في الخامس من يوليو/ تموز 2024. ([5])

وفي الأثناء توافدت عناصر من مجموعة “فاغنر” إلى العاصمة النيجرية نيامي مجهزين بأسلحة متطورة في بداية أغسطس/ آب 2023 لتوفير الدعم العسكري للقادة الجدد في البلاد خاصة بعد تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بشن عملية عسكرية ضد النيجر لإعادة النظام السابق للحكم.

استطاعت مجموعة “فاغنر” تعبيد الطريق أمام التواجد الروسي في الساحل الإفريقي بعد الدعم المعلوماتي والاستخباراتي الذي قدمته لهذه الدول لتعزيز أمنها وضمان بقاء واستقرار المجالس العسكرية الثلاث ودعمها في مواجهة أي تهديدات محتملة. وبفضلها أصبحت روسيا الشريك الأمني الرئيسي لمنطقة الساحل خاصة بعد انسحاب ما لا يقل عن 4300 جندي فرنسي و1000 أمريكي و10000 جندي من الأمم المتحدة من الدول الثلاث.

ورغم أن مجموعة “فاغنر” كانت تعمل لتحقيق مصالح الدولة الروسية وتنفذ أجنداتها، إلا أنها كانت تقوم بذلك بشكل مستقل يمكن الكرملين من انكار ارتباطهم بالسلطات الروسية، خاصة في ظل اتهامها بارتكاب جرائم ضد مدنيين في منطقة الساحل والانتقادات التي طالتها جراء ذلك.

واستخدام الشركات الأمنية الخاصة من قبل الحكومات ليس استثناء روسيا، إذ كثيرا ما تتعاقد وزارات الدفاع أو الحكومات في العالم وخاصة الدول الكبرى مع هذه الشركات في إطار مهام عسكرية غير رسمية أو سرية تريدها الدول أن تبقى خفية خاصة عندما تكون هذه المهام في مناطق لا ترغب الحكومات أن يكون تدخلها العسكري فيها معلومًا.

ومن بين الشركات المعروفة عالميا إلى جانب “فاغنر” هناك شركة “بلاك ووتر” الأمريكية، التي تأسست عام 1997 ضابط البحرية الأميركية السابق إيريك برنس. وقد قامت بمهام وعمليات عسكرية عديدة لحساب وزارة الدفاع الأميركية في عدة مناطق أبرزها العراق وأفغانستان.([6]).

وبهذا تكون روسيا قد أنهت المرحلة الأولى من تواجدها خاصة الأمني في دول الساحل وانتقلت إلى المرحلة الثانية التي تخلت فيها عن التدخل بالوكالة (عبر فاغنر) ومضت إلى الدخول المباشر والرسمي والعلني للدولة الروسية. حيث أنشأت موسكو “فيلق أفريقيا” بدعم من وزارة الدفاع الروسية في ديسمبر/ كانون الأول 2023 ليحل محل مجموعة “فاغنر”، بعد أن قاد مؤسس الأخيرة يفغيني بريغوجين والقائد ديمتري أوتكين تمردا فاشلا ضد قيادة الجيش الروسي في يونيو/ حزيران 2023، وقتلا بعد شهرين في حادث تحطم طائرة.

وبدأ الفيلق نشاطه الرسمي في دول الساحل في 2024. وبهذه الخطوة أعلنت موسكو عن استراتيجيتها الجديدة في هذه المنطقة وفي إفريقيا عموما، قوامها الحضور الرسمي المباشر المدعوم بالأجهزة العسكرية والاستخباراتية الروسية، في قلب المناطق المشتعلة في الساحل الإفريقي.([7])

وبدأت روسيا فعليا في تعزيز التنسيق مع بلدان الساحل الثلاث ودعم تسليحها بشكل تدريجي، حيث كشفت جملة من التقارير أن روسيا قد مكنت هذه الدول بأسلحة متقدمة بينها مدافع هاوتزر، معدات تشويش، ودبابات ومركبات مدرعة، فضلا عن إرسال الخبراء والمستشارين العسكريين.

وخلال سنة 2025 زادت روسيا من وجودها العسكري في مالي والنيجر، وقامت بتوسيع نطاق الدور الذي يقوم بها “فيلق أفريقيا” الذي تم تزويده بقدرات جوية، وباتت المعدات العسكرية التي تصل إلى دول أفريقيا خاصة دول الساحل لا ترسل فقط إلى الجيوش المحلية بل بالدرجة الأولى إلى “فيلق أفريقيا”. كما بدأت موسكو في تجنيد مقاتلين من الداخل الروسي بعقود رسمية، تشمل رواتب تصل إلى 2.1 مليون روبل (نحو 26.500 دولار)، ومكافآت أخرى لينضموا إلى الفيلق في دول الساحل.([8])

وتريد روسيا بهذا الفيلق أن تؤسس نموذجًا دائمًا ومرنًا للنفوذ في منطقة الساحل وفي إفريقيا عمومًا بعيدًا عن دوائر نشاط المرتزقة الذي عادة ما يكون قصير المدى ووراء الستار، وأن ترسم ملامح جديدة للتموقع في هذا المجال الحيوي بعد أن نجحت في إبعاد أصحاب النفوذ التقليدي (الغرب خاصة فرنسا) من المنطقة من خلال حكام الساحل الجدد.

ويتوقع أن تنجح روسيا قريبًا في إنشاء قواعد عسكرية في ظل عمليات التنزيل المتواصلة للعتاد العسكري للفيلق وهو توجه اعتمدته سابقًا في سوريا تمهيدا لإنشاء القواعد العسكرية. علمًا أن إرساء القواعد من أهداف موسكو الكبرى منذ سنوات ولكن لم تنجح سابقًا في تحقيقه ولكن الأرضية والظروف اليوم ملائمة لتبلور هذا الهدف علانية. وهذا الخروج الروسي من الظل في هذه المنطقة التي تشكل محور تجاذب وصراع القوى الكبرى بصدد خلق واقع جديد للتمركز الدولي في الساحل وإفريقيا عموما، لا يمكن للغرب تجاهله وهو الذي ظل دائما يخشى أن تجد روسيا موطئ قدم في إفريقيا.

كما اتجهت روسيا لدعم التكتلات الناشئة التي تريد ثالوث دول الساحل (النيجر، مالي، بوركينا) تشكيلها كبديل لتلك المدعومة فرنسيًا وغربيًا. ففي مارس/ آذار 2024 أعلن قادة جيوش الدول الثلاث في نيامي عن تشكيل “قوة مشتركة” بقوام 5 آلاف مقاتل سيكون لديها قدرات جوية ومعدات وموارد استخباراتية لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي تشن هجمات في الدول الثلاث.([9])

وأعلنت روسيا في أبريل/ نيسان 2025 استعدادها لدعم ثلاثي دول الساحل الأفريقي من أجل تشكيل القوة المشتركة، وتريد الدول الثلاث أن تكون هذه القوة بديلا عن القوة المشتركة “لمجموعة الساحل G5” المدعومة أوروبيا والتي انسحبوا منها، وفي المقابل تريد موسكو أن تستفيد من حالة الفراغ الذي تركه طرد القوات الفرنسية والغربية عمومًا لإرساء تكتلات جديدة عنوانها روسيا، ولهذا لم تتردد في إعلان استعدادها دعم هذه القوة على لسان وزير خارجيتها سرغي لافروف.([10])

و”مجموعة الساحل G5″ تأسست بنواكشوط في الـ16 من فبراير/شباط من سنة 2014، وهي متكونة من خمس دول هي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا بهدف مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية. وشكلت المجموعة قوة مشتركة تضم 5000 جندي، وافق عليها مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي في الـ8 مارس/آذار 2017. وقد دعمت هذه المجموعةَ ماليا وعسكريا الدول الأعضاء، وفرنسا والاتحاد الأوروبي.([11])

وفي الـ2 من ديسمبر/كانون الأول 2023 أعلنت حكومتا بوركينا فاسو والنيجر انسحابهما من تجمع دول الساحل الخمس، فيما اتخذت مالي هذه الخطوة في الـ15 من مايو/أيار 2022. وفي الـ6 من ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت تشاد وموريتانيا حل المجموعة بعد انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر منها.([12])

ولا تتوقف خطط روسيا الراهنة عند الجانب الأمني والعسكري بل تذهب إلى قطاعات ومجالات أخرى حيوية. ففي أواخر يونيو/ حزيران 2025 حل الرئيس المالي، الجنرال أسيمي غويتا، ضيفا على موسكو في زيارة، شمل مناقشةَ التعاون في مجالات الأمن والطاقة، والواقع أن أهداف هذه الزيارة تتجاوز حدود مالي وتشمل أغلب دول الساحل ومن وراءها كل إفريقيا.

وكانت روسيا قد وضعت قبل هذه الزيارة حجر الأساس لمشروع مصفاة الذهب في مالي، تشرف على بنائها شركة “يادران” الروسية. ويهدف المشروف للحصول على معالجة تصل إلى 200 طن من الذهب سنويا. وتتطلع باماكو من خلال هذا المشروع إلى تحول البلاد إلى مركزا إقليميا لتكرير الذهب في غرب إفريقيا.([13])

كما تجري موسكو منذ فترة مفاوضات في كل من مالي وبوركينا فاسو، لبناء مفاعلات نووية صغيرة لتوليد الكهرباء، تستخدم لمواجهة أزمات الطاقة المتفاقمة في المنطقة. وتسعى روسيا للنجاح في إقناع دول المنطقة بهذه المشاريع لأنها ستمكنها من نفوذا طويل المدى في قطاع الطاقة، وستفتح لها الأبواب لاقتحام مجالات أخرى مثل التعدين، خاصة اليورانيوم والذي تسيطر عليه فرنسا، هذا فضلا عن مشاريع البنية التحتية التي تعتبر سوقا مزدهرة في هذه الدول التي أدت الحروب والفقر والتهميش في افتقارها لبنى تحتية مناسبة وعصرية.

وفي هذا الإطار تُشارك موسكو في مشاريع كبرى تتعلق بتطوير السكك الحديدية، وشبكات الاتصالات، والصناعات المحلية. كما تلعب دورًا رئيسيًا في تزويد هذه الدول بالحبوب والمنتجات الزراعية التي تعتبر عنصرًا هامًا للأمن الغذائي في المنطقة والقارة عمومًا.([14])

ومن أجل هذه الأهداف تحاول موسكو إظهار التزامها الكامل بدعم دول المنطقة بوصفهم حلفاء استراتيجيين وتقديم نفسها كقوة بديلة تقدم الدعم دون شروط سياسية وملف حقوق الانسان التي لا تستسيغها الأنظمة العسكرية وتعتبرها بمثابة إملاءات وتدخل في شؤونها الداخلية. ولعل هذا ما يجعلها تبدو شريكًا موثوقًا مقابل العزوف الكبير من الغرب.

كما تركز روسيا على تعزيز الاستثمارات المباشرة والتبادل التجاري مع هذه الدول بدل تقديم مساعدات مالية مشروطة كما تفعل ذلك المؤسات المالية الغربية، وهو ما يجعلها خيارا مفضلا للدول الأفريقية الطامحة إلى تحقيق استقلال اقتصادي وسياسي كدول الساحل.

ثالثا : الانسحاب من التكتلات المدعومة فرنسيا

ظل نفوذ فرنسا قويا في مستعمراتها الإفريقية حتى بعد حصول تلك الدول على استقلالها في ستينيات القرن الماضي، إذ استطاعت أن تبقى ذات تأثير كبير عسكريا واقتصاديا. إذ استطاعت إنشاء عدة قواعد عسكرية يناهز عدد الـ100 وتوقيع اتفاقيات دفاع عسكرية مشتركة مع أكثر من عشرين دولة إفريقية مكنتها من التدخل عسكريا عشرات المرات.([15])

وفي المقابل أبرمت أيضا اتفاقيات اقتصادية مكنتها من الاستفادة من الموارد والثروات الهائلة التي تتمتع بها دول إفريقيا، وفرضت الفرنك الإفريقي في 14 بلدًا إفريقيا كانت تستعمرها، لتفرض سيطرة كاملة على إدارة الموارد المالية لدول منطقة الفرنك في غرب ووسط القارة الإفريقية. واستمر هذا الوضع عقودا طويلة استفادت من خلاله فرنسا كثيرا في حين كانت هذه الدول تغرق في الفقر والجهل والإرهاب لا سيما في ظل وجود أنظمة تدعمها باريس مقابل عدم تهديد هذه الامتيازات.

اعتقدت فرنسا أن بوسعها الاستمرار في لعب هذا الدور والتمتع بكل الامتيازات ما دامت قادرة على وضع حكام تابعين لها، ولكنها ربما لم ترتب لحقيقة أن يتحول كل هذا إلى عامل أساسي لإنهاء نفوذها أو على الأقل تعرضه لضربة موجعة لا سيما في دول الساحل الإفريقي ذات الثروات الهائلة والموقع الجغرافي المهم.

منذ سنة 2013 بدأ السخط الشعبي ضد فرنسا يظهر في دول الساحل الإفريقي مع فشل عمليتي “عملية سيرفال” لمحاربة الجماعات الجهادية في مالي سنة 2013 وعملية “برخان” التي انطلقت في 2014 من أجل مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء (بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر والتشاد) .([16])

ورغم انكار باريس لفشل هذه العمليات، إلا أن السخط استمر وتفاقم منذ عام 2017 حيث نفذت شعوب دول منطقة الساحل احتجاجات متكررة وحملات إلكترونية واسعة على منصات مواقع التواصل الاجتماعي من اجل إنهاء الوجود العسكري الفرنسي، في ظل تنامي وجود التنظيمات الإرهابية، مقارنة بما كان عليه الوضع عند تدخل القوات الفرنسية في مالي سنة 2013.

بل إن شريحة واسعة من سكان هذه الدول كانوا يعتقدون أن فرنسا لا ترغب في هزيمة هذه الجماعات المسلحة وتريد أن تبقى حالة الانفلات الأمني سائدة في المنطقة. واستمر هذا الوضع حتى حدوث سلسلة الانقلابات العسكرية التي تبعها مباشرة قرارات من الحكومات الجديدة بقطع التعاون الأمني مع فرنسا وطرد قواتها. وفي غضون سنوات قليلة تراجع النفوذ العسكري الفرنسي، حيث خسرت أغلب قواعدها العسكرية وغادر كل جنودها دول الساحل بالكامل. كما قامت هذه الدول بإلغاء اتفاقيات اقتصادية تاريخية مع فرنسا وتأميم عدة شركات كبرى، مثلا قامت النيجر بإلغاء الوصاية على منجم “إيمورارين”، أحد أكبر مناجم اليورانيوم في العالم، وتسحب رخصة تشغيله من شركة “أورانو الفرنسية. وقامت بوركينا فاسو بتعليق تصدير الذهب لفرنسا، بعد أن أممت عدة مناجم للذهب، فيما قامت مالي بدورها بتأميم أهم مناجم الذهب وباشرت جملة من المشاريع بهدف الاستفادة من ثرواتها وإنعاش اقتصادها.

ولكن القطيعة التي أرادها منفذو الانقلابات في الساحل الإفريقي مع فرنسا لم تقتصر على الجانبين العسكري والاقتصادي بل شملت حتى التكتلات التي ساهمت فرنسا في تأسيسها أو التي تتبعها.

(1) الانسحاب من المنظمة الدولية للفرانكفونية

أعلنت النيجر وبوركينا فاسو في الـ17 من مارس/آذار انسحابهما من المنظمة الدولية للفرنكفونية، تزامنا مع أسبوع اللغة الفرنسية والفرانكفونية. فيما اتخذت مالي نفس القرار بعد يوم فقط، معتبرين أن المنظمة أداة لخدمة مصالح فرنسا ولم تعد إطارا ثقافيا يؤسس للتعاون بين الحكومات الناطقة بلغة مشتركة. وكانت هذه الخطوة ردا على تعليق باريس لعضوية الدول الثلاث في المنظمة قد علقت بعد الانقلابات العسكرية التي عرفتها هذه البلدان المستعمرة سابقا من فرنسا والناطقة بالفرنسية، ومطالبتها بعودة الرؤساء المدنيين وإنهاء الانقلابات.

وشكل هذا الانسحاب ضربة معنوية قوية لفرنسا خاصة أن النيجر الدولة الأولى في قرار الانسحاب كانت المحتضنة للاجتماع التأسيسي للمنظمة الفرنكفونية عام 1970، وكانت عضوا مؤسسا لها، كما أنها اعتمدت عند استقلالها الفرنسية لغة رسمية للبلاد. ويبلغ عدد الناطقين بالفرنسية فيها بنحو 3 ملايين فرد، أي 13 بالمئة من عموم السكان.([17])

وهذا ما يعني أن هذه اللغة لم تعد قادرة على الاستمرار كواجهة ثقافية، بل تحولت في الوعي الأفريقي الشعبي إلى رمز للهيمنة والتبعية السياسية، ولهذا لم تتوقف القرارات عند الجانب الأمني وشملت الجانب الثقافي والتعليمي باعتبار الفرنسية لغة التعليم بهذه الدول، علما أن هذه التوجهات تحظى بتأييد شعبي. وهذا من شأنه أن يتسبب في مزيد تراجع اللغة الفرنسية في العالم لا سيما وأن بعض هذه الدول بدأت عمليا التوجه لاستخدام اللغة الوطنية والحد من انتشار اللغة الفرنسية كما هو الحال في مالي التي بدأت تنفيذ هذا القرار منذ سنة 2023.

كما قامت سلطات هذه الدول باستبدال الشوارع والساحات التي كانت تحمل أسماء شخصيات فرنسية بأخرى وطنية وأفريقية. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 قامت السلطات في العاصمة النيجرية نيامي بتغيير اسم شارع ديغول الذي يقع وسط العاصمة إلى شارع “جيبو باكاري” أحد زعماء جيل الاستقلال. كما تم استبدال اسم “ساحة الفرانكفونية” بساحة “تحالف دول الساحل” الذي يجمع النيجر ومالي وبوركينافاسو، وأطلق على المركز الثقافي الفرنسي، اسم مصطفى آلاسان، أحد المثقفين الوطنيين العاملين في المجال السينمائي.([18])

(2) المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إيكواس

في 28 يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت دول تحالف دول الساحل عن نيتها الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، ونظرا لاستحالة الانسحاب الفوري فإن الأمر قد تم بعد سنة وتحديدا في الـ28 من يناير/كانون الثاني 2025، عندما أعلنت بوركينا فاسو ومالي والنيجر رسميا انسحابهم من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”.([19])

و”الإيكواس” هي مجموعة اقتصادية تأسست عام 1975 في أبوجا في نيجيريا، متكونة من 15 دولة من الساحل والصحراء الأفريقيين وتعتبر أحد أقدم التجمعات الإقليمية وأنجحها في القارة السمراء. ولكنها أيضا تضم هذه أكبر عدد من الدول الفقيرة في العالم التي يقل دخلها الفردي عن دولارين في اليوم.

وفي يوليو/تموز 2024 أعلن قادة “تحالف دول الساحل”، بوركينا فاسو والنيجر ومالي، إنشاء “كونفدرالية دول الساحل” لدولهم الثلاث والقطيعة التامة مع دول غرب أفريقيا “إيكواس”. واتهمت دول الساحل هذه المنظمة بأنها أداة تحركها باريس وبأنها لا توفر لها دعما كافيا في مكافحة الجهاديين.([20])

فيما دعا رئيس المجلس العسكري الحاكم في النيجر عبد الرحمن تياني إلى جعل التحالف الجديد “بديلا من أي تجمع إقليمي مصطنع عبر بناء مجتمع سيادي للشعوب، مجتمع بعيد من هيمنة القوى الأجنبية”. وهذا التحالف جاء ردا مباشرا على التهديد بتدخل عسكري من قبل “الإيكواس” بعد الانقلابات العسكرية وفرضها عقوبات على هذه الدول ومطالبتها بإعادة النظام الدستوري. ففي مالي، أغلقت “الإيكواس”، في أغسطس/آب 2020، الحدود الجوية والبرية وفرضت حظر على التبادلات المالية والتجارية، باستثناء المنتجات الأساسية. ومنعت القادة العسكريين الذين نفذا الانقلاب في النيجر من السفر وفرضت عقوبات اقتصادية أثرت بشكل كبير على البلاد، في حين قامت بتعليق عضوية بوركينا فاسو هي هيئات المنظمة.([21])

كانت “الإيكواس” المحكومة بشكل كبير من فرنسا تعتقد أن العقوبات ستضغط على قادة الانقلابات في الدول الثلاث وتدفعهم للتراجع ويعود خلفاء باريس للحكم. ولكن ما حدث أن العقوبات أثرت بشدة على المدنيين المستائين أساسا من المجموعة الاقتصادية ومن فرنسا، وهو أجج المشاعر المعادية لها. في الأثناء التقط القادة العسكريون الفرصة وقاموا بالتحريض على المجموعة ومن وراءها فرنسا، لتنادي الشعوب بالانسحاب من “الإيكواس”. ولهذا بدا القرار الرسمي بالانسحاب وتشكيل كونفدرالية الساحل بمثابة الاستجابة لإرادة الشعوب التي رحبت جدا بما تم حتى اليوم.

وقد لا يؤدي انسحاب الدول الثلاث من “الإيكواس” لحلها ولكن سيضرب مصداقيتها على الساحة الدولية، لأنها ستبدو أمام العالم أنها لم تنجح في الحفاظ على وحدة هذا التكتل وتسببت سياستها وسوء قراءتها لنتائج قراراتها للتفكك الحاصل. كما سيؤدي لتراجع النفوذ الغربي ولا سيما الفرنسي في إفريقيا وخاصة في منطقة الساحل في ظل استعداد روسيا لملء الفراغ وفق آليات وشروط تبدو مقبولة لدى الحكام الجدد وحتى الشعوب أكثر من الغرب ولا سيما باريس.

(3) لماذا خسرت فرنسا؟

بات واضحا أن فرنسا قد خسرت مكانها القديم في الساحل الإفريقي وفي القارة عموما، وأن السنوات القادمة ستحمل الكثير من الخسائر لها وهي التي كانت تستفيد على عدة أصعدة من التواجد القوي في إفريقيا. وهناك جملة من الأسباب أوصلت فرنسا لهذا المستوى من تراجع علاقاتها مع دول كانت حتى وقت قريب تتمتع بنفوذ كبير داخلها.

منذ استقلال المستعمرات الإفريقية عن فرنسا سعت الأخيرة لإيجاد آليات تعامل قائمة أساسا على الاستغلال الاقتصادي لموارد تلك الدول، وانتهجت سياسة حولت بمقتضاها إفريقيا الى مجرد منجم لا ينضب من الثروات الباطنية ترسل إلى فرنسا أو تشرف على تصديرها، وتوزع نسبة صغيرة على وكلائها في السلطة، دون أن تكترث للمشاكل الكبيرة التي تتخبط فيها هذه الدول من فقر ومجاعة وإرهاب وأمية.

كان الرهان الوحيد على الثروات وعلى سبيل المثال كانت دولة النيجر توفر وحدها 35 بالمئة من الاحتياجات الفرنسية من اليورانيوم، الذي يستخدم في تشغيل محطات الطاقة النووية لتوليد 70 بالمئة من الكهرباء في فرنسا، في المقابل كانت النيجر تحصل على حوالي 70 بالمئة من احتياجات الكهرباء من جارتها نيجيريا. كما بلغ معدل الفقر المدقع في النيجر 44.5 بالمئة سنة 2024، وحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن 4.8 ملايين شخص سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية سنة 2025 بما في ذلك أكثر من 3 ملايين بحاجة إلى مساعدات غذائية طارئة. في حين يعيش أكثر من 40 بالمئة من السكان بوركينافاسو تحت خط الفقر وفي عام 2024 بلغ معدل الفقر المدقع 24.9 بالمئة. فيما بلغ معدل الفقر المدقع في مالي 19.1 بالمئة.([22])

وكانت باريس تعتقد أنها طالما هي قادرة على استمالة الحكام وضمان ولاءهم بل التحكم في مصير كراسيهم، فإنه لا خوف على مصالحها الاقتصادية. وربما اعتقدت أن شعوبا تعاني مستويات متقدمة من الأمية والفقر والإرهاب لن تثور يوما ضدها، ولن تفهم أنها المسؤولة عن جزء كبير من أزماتهم وتطالب بخروجها.

وحتى عندما بدأت الأصوات تتعالى ضدها منذ سنة 2014 لم تُبال ولم تحاول تعديل سياستها مع هذه الدول واستمرت في استغلال ثروات البلاد لأنها ظلت تنظر إلى هذه الدول كمستعمرات يحق لها استنزافها كما شاءت، لا كدول مستقلة، وشعوب حرة. كما عمل الفرنسيون على الحصول لشركاتهم، على عقود طويلة الأجل بشروط مجحفة مستفيدين من غياب المنافس القوي.([23])

ولهذا عندما جاءت قرارات الطرد من النيجر ومالي وبوركينا فاسو ارتبكت باريس وظلت حتى اليوم عاجزة عن إيجاد حلول، ولم تدري كيف بوسعها أن تعود وتستعيد نفوذها، واكتفت بمتابعة قوى أخرى تسحب البساط من تحت أقدامها. فهي تدرك أن أي مغالطات أو خطابات مسكنة لن تجد من يصدقها اليوم بعد عقود من الانتهازية والاستغلال الفاحش لثروات هذه البلدان على حساب شقاء وفقر مواطني هذه الدول.

ولم تتوقف الأمور عند الجانب الاقتصادي، ففرنسا تتعاطى مع قادة دول المنطقة بمنطق حراس مستعمراتها لا غير، ولا يخفي رؤساؤها ذلك، وعلى سبيل المثال زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مالي في مايو/ أيار 2017 ليحاول إبراز التزام بلاده العسكري بمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي وزار القاعدة العسكرية لجنوده. وتبين فيما بعد أن الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا لم يكن يعلم بسير هذه الزيارة ولا بتنظيمها، وأن ماكرون هو الذي تولى الأمر، وحتى عند اجتماع الرجلين للتشاور حول سير العمليات العسكرية كان ماكرون يوجه أوامره، وعند نهاية الحديث قال إبراهيم أبوبكر كيتا “إن شاء الله”، ليرد عليه ماكرون “لا تقل لي إن شاء الله”.([24])

وهذه واحدة من حوادث كثيرة تبين أن فرنسا لم تخرج من جلباب القوة الاستعمارية حتى في معاملاتها الدبلوماسية حتى مع وكلائها وحارسي مصالحها هناك. ولهذا كان الاستياء الشعبي فيما بعد من فرنسا كبيرا ولم تستطع احتواءه لأنها لم تقدم لهذه الشعوب أي مزايا حقيقية يمكن أن تشفع لها. ظلت فرنسا تروج لأهداف وهمية لها في القارة معتقدة أنها ستبقى تنطلي على الشعوب الأمية الفقيرة، ولكنها نسيت أن الأفعال والأرقام تفضح سياستها لاسيما وأن هذا يجري في زمن باتت فيه المعلومة متاحة ولا يمكن التلاعب بها.

وفي خضم انحسار نفوذها، ربما ستقوم فرنسا بتعديل سلوكها المستقبلي مع الدول التي لا تزال ترتبط بها بعلاقات تعاون في أفريقيا. فالأكيد أن ما حدث سيبين لها أن الاستمرار في التعاطي مع دول مستقلة بعقلية البلد المستعمر لن تكون مناسبة مع الأجيال الشابة الجديدة الطامحة لتطوير بلدانها والواعية جدا لمخاطر استمرار التعامل مع دولهم بهذا المنطق ومستعدة للرفض ليس بالكلام فقط بل بالفعل أيضًا.

كما أنها ستدرك الثمن الباهض لسياستها في هذه المنطقة لأنها لا تدري هل ستعود مجددا لا سيما في ظل قوى بصدد أخذ مكانها على كل المستويات وتحاول الاستفادة من أخطاءها. وربما تكون باريس بصدد استيعاب الدرس ولو نظريا مبدئيا.

ففي أبريل/ نيسان2024، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره من جمهورية أفريقيا الوسطى، فاوستين آركانج تواديرا، في باريس. وفي بيان مشترك، قال البلدان إنه يجري إعداد “خارطة طريق لإطار عمل للشراكة البناءة التي تحترم سيادة الدولة، حيث ستساهم باريس في الاستقرار وتدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية”. وهذا الخطاب يعكس استفاقة فرنسية لو  متأخرة ولكنها تبقى مجرد شعارات حتى تفعل ذلك على الأرض مع الدول الأفريقية التي لم تقطع علاقاتها معها.([25])

خاتمة

إن صراع القوى الكبرى على النفوذ في منطقة الساحل الإفريقي على أشده، ولكن المتغيرات السياسية والعسكرية الحاصلة خلال السنوات الأخيرة تثبت أن تصاعد الدور الروسي في منطقة الساحل، وهو السيناريو الأكثر طرحا بل والأكثر واقعية في ظل توجه موسكو السريع نحو توسيع علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع معظم دول المنطقة، وتفعيلها لكل أدواتها الرسمية الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والخروج من جلباب الحضور عبر الوكلاء والمرتزقة، مستفيدة في ذلك من تزايد التأييد الشعبي للوجود الروسي في الساحل الأفريقي. ومن المرجح أن تحمل المراحل القادمة ترسيخا لأقدام روسيا في إفريقيا وهو السيناريو الذي يخيف الغرب كثيرًا.

في المقابل لن تبق فرنسا مكتوفة اليدين تتابع بصمت كيف تخسر مناطق نفوذ هامة، وستجد نفسها ملزمة على مراجعة أسلوبها وسياستها مع دول إفريقيا والتخلص من موروثها الاستعماري وتتكيف مع متغيرات القارة والعالم، حتى تتمكن من الحفاظ على مكانة معقولة في قارة طردت من أغلب دولها لأنها لم تتخلص على مستوى الممارسة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية معها من إرثها الاستعماري.

ولكن ما هو أكيد أن فرنسا لن تستطع استعادة كل نفوذها القديم وستكون على موعد مع خسارات اقتصادية كبرى لأن القوى التي أخذت مكانها وعلى رأسها روسيا لها ذات المطامع في الثروات ولكن بآليات أخرى فيها هامش لا بأس به من الفائدة لدول المنطقة.


[1] برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقرير عملنا في إفريقيا  https://www.unep.org/ar/regions/africa/mlna-fy-afryqya

[2]  فاغنر”… وجه روسيا الجديد في أفريقيا ، موقع فرانس 24، الرابط.

[3]  بشحنة أسلحة.. موسكو تكسب نقطة جديدة أمام الغرب بمالي، موقع سكاي نيوز عربية، الرابط.

[4]  وصول عشرات المدرّبين العسكريين الروس إلى بوركينا فاسو، موقع سكاي نيوز عربية، الرابط.

[5]  الجيش الأمريكي يكمل انسحابه من النيجر بعد حوالي سنة من انسحاب الجيش الفرنسي، موقع فرانس 24، الرابط.

[6]  خطورة الشركات الأمنية الخاصة: “بلاك ووتر” و”فاغنر” نموذجاً، موقع الميادين، الرابط.

[7]  الفيلق الأفريقي.. “فاغنر” روسية جديدة في القارة السمراء، موقع الجزيرة نت، الرابط.

[8]  روسيا تتحايل على العقوبات الغربية لتعزيز وجودها العسكري بأفريقيا، موقع صحيفة الشرق الأوسط، الرابط.

[9]  النيجر ومالي وبوركينا فاسو تعلن إنشاء «قوة مشتركة» لمكافحة الإرهاب، موقع صحيفة الشرق الأوسط، الرابط.

[10]  لافروف: روسيا مستعدة للتعاون والمساعدة في تشكيل قوات موحدة لدول الساحل، موقع روسيا اليوم، الرابط.

[11]  مالي انسحبت منها.. تعرف على مجموعة دول الساحل الخمس، موقع الجزيرة نت، الرابط.

[12]  بوركينا فاسو والنيجر تنسحبان من مجموعة الساحل، موقع وكالة أنباء الأناضول، الرابط.

[13] مالي تبني مصفاة ذهب ضخمة بالتعاون مع روسيا: خطوة جريئة لإنهاء التبعية وتحقيق السيادة الاقتصادية، موقع الخبير، الرابط.

[14]  دبلوماسية الغذاء.. كيف توظف موسكو ورقة القمح لتعزيز نفوذها في أفريقيا؟، مركز فاروس للدراسات، الرابط.

[15]  تناقصت مساحة نفوذها.. هل تتحرك الرمال في أفريقيا تحت أقدام فرنسا؟، موقع الجزيرة نت، الرابط.

[16]  مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل…كيف فشلت إستراتيجية فرنسا في مكافحة التمرُّد؟، مجلة قراءات أفريقية، الرابط.

[17]  النيجر تقرر “سياديا” الانسحاب من المنظمة الدولية للفرانكفونية https://alakhbar.info/?q=node/59638

[18]  النيجر تعيد تسمية شوارع وساحات بأسماء وطنية وإفريقية، مجلة قراءات أفريقية، الرابط.

[19]  إيكواس في مهب الريح.. أكبر 3 دول تنسحب ولا أفق لوساطة، موقع سكاي نيوز عربية، الرابط.

[20]  تجمع إقليمي جديد في الساحل بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، موقع دويتش فيله، الرابط.

[21]  ارتدادات قاتلة: كيف أخفقت عقوبات الإيكواس في الساحل؟ https://www.geeska.com/ar/artdadat-qatlt-kyf-akhfqt-qwbat-alaykwas-fy-alsahl

[22] بعد خصومتها مع الغرب.. كيف تدير النيجر ثرواتها؟، موقع الجزيرة نت، الرابط.

[23]  تراجُع النفوذ الفرنسي في إفريقيا: الأسباب والمآلات، مركز أبعاد للدراسات، الرابط.

[24]  المهدي الزايداوي، كش ملك”.. حكاية سقوط قطع الشطرنج الفرنسية في الساحل الأفريقي، موقع الجزيرة نت، تاريخ النشر 16 أغسطس 2023، تاريخ التصفح 19 سبتمبر 2025، الرابط.

[25]  غارديان: ما هو التالي لروسيا في أفريقيا بعد فاغنر؟، موقع الجزيرة نت، تاريخ النشر 23 مايو 2024، الرابط.

فاطمة بدري، تونس

فاطمة بدري، باحثة وصحافية تونسية، متخصصة في الشأن السياسي والاجتماعي الأفريقي والعربي

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى