أوراق و دراساتمقالات

الحرب الروسية الأوكرانية بين قوة القانون وقانون القوة

د . زهرة علي المزوغي تيبار

دكتوراة في القانون الدولي ، ليبيا

الملخص:

تأسس القانون الدولي المعاصر على جملة من المبادئ والمفاهيم، لعل أهمها السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وقبل هذا وذاك نبذ استعمال القوة أو التهديد بها، الأمر الذي تم تجاوزه في الحالة الروسية الأوكرانية، حيث يأتي هذا النزاع مثالاً حيّاً ومعاصراً في سياق انتهاكات القانون الدولي، الأمر الذي قد يدفع العالم إلى حروب لا يحكمها قانون .

فالنزاع الروسي الأوكراني لسنة 2022، الذي وصل إلى مرحلة المواجهة المسلحة، يعد بلا ريب من الأحداث الدولية المعاصرة التي ألقت بظلالها على الواقع الدولي، وأثار العديد من الإشكاليات القانونية، بسبب تعدد الأطراف المعنية بالصراع، وتدخل قوى دولية، وتعقّد المشهد الدولي إجمالاً أمام التداعيات التي ترتبت على تفاقم الأزمة، الأمر الذي يفرض البحث في مدى مشروعيته.

الكلمات المفتاحية: الحرب ـــ روسيا ـــ أوكرانيا، القانون الدولي، انتهاك.

مقدمة :

من الأحداث الدولية المعاصرة التي ألقت بظلالها على الواقع الدولي، النزاع الروسي الأوكراني 2022، الذي وصل إلى مرحلة المواجهة المسلحة، وأثار العديد من الإشكاليات القانونية، بسبب تعدد الأطراف المعنية بالصراع، وتدخّل قوى دولية، وتعقّد المشهد الدولي إجمالاً أمام التداعيات التي ترتبت على تفاقم الأزمة .

تأسّس القانون الدولي المعاصر على جملة من المبادئ والمفاهيم، لعل أهمها السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وقبل هذا وذاك نبذ استعمال القوة أو التهديد بها، الأمر الذي تم تجاوزه في الحالة الروسية الأوكرانية، حيث يأتي هذا النزاع مثالاً حيّاً ومعاصراً في سياق انتهاكات القانون الدولي، الأمر الذي قد يدفع العالم إلى حروب لا يحكمها قانون .

إشكالية الدراسة:

مما لا شك فيه أن الحرب الروسية الأوكرانية قد أدت إلى عودة الاستقطاب الحاد بين روسيا والغرب ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، الذي انتهى بتفكك الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة بين القطبين، وانهيار توازن القوى، وسيطرة نظام القطب الواحد، الأمر الذي يثير تساؤلات قانونية، تدخل في إطار الإشكالية الرئيسة للبحث، وهي هل الواقع الدولي المعاصر تحكمه قوة القانون أم قانون الأقوى الذي تجاوز القواعد القانونية في سبيل الحفاظ على مصالحه؟،  ما هو التكييف القانوني للنزاع الروسي الأوكراني؟ وما مدى مشروعيته؟ وماهي القواعد القانونية التي تم انتهاكها في إطار هذا النزاع؟

أهداف البحث:

يهدف البحث إلى إيجاد تأصيل قانوني للأزمة الروسية الأوكرانية، من ناحية مدى انتهاك قواعد القانون الدولي، وتحديد الإطار القانوني لمدى مشروعيته، والبحث عن الأسس القانونية التي استند عليها الأطراف في هذا النزاع، وتأثيرها على احترام قواعد القانون الدولي .

أهمية البحث:

كانت وما زالت الحرب وسيلة تدمير بغض النظر عن حجج وأسانيد أطرافها لتحقيق مصالحهم، ذلك أن التساهل في تجريم من يقوّض السلام والأمن العالميين، يدفع بلا شك إلى سيادة استعمال القوة بعد أن تجاوز العالم هذه المرحلة إلى حد ما بظهور التنظيم الدولي، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة، هنا تكمن أهمية هذا البحث، من ناحية مدى مشروعية هذه الأزمة، وآثار انتهاك مبادئ القانون الدولي على العلاقات الدولية واستقرارها .

نطاق البحث:

يتمحور نطاق البحث في النزاع المسلح الروسي الأوكراني 2022، والإشكاليات القانونية التي يثيرها، الأمر الذي يستثني من نطاق البحث أي صراعات أخرى بين الطرفين إلا في معرض تأصيل مدى مشروعيته والقواعد محل الانتهاك.

مناهج البحث:

استجابة لمتطلبات البحث، والوصول في مراحله إلى النتائج المرجوة، فرض سياق البحث اتباع المناهج البحثية ذات العلاقة والمؤدية إلى نتائج متوائمة مع الإشكاليات التي يثيرها، فكان المنهج التاريخي لسبر العلاقة الروسية الأوكرانية، والمنهج الموضوعي من خلال التطرق إلى أسباب النزاع ودوافعه، والمنهج التحليلي للبحث في مدى مشروعية النزاع والقواعد التي تم انتهاكها وتأثيرها على النظام الدولي .

خطة البحث:

في سبيل الوصول إلى الإجابة عن تساؤلات البحث، تم تبني الخطة المنهجية التالية:

المبحث الأول : الحرب الروسية الأوكرانية ” الأسباب ، الأسانيد ، الآثار ” .

المبحث الثاني:  التكييف القانوني للحرب الروسية الأوكرانية ومدى مشروعيتها .

المبحث الأول: الحرب الروسية الأوكرانية : الأسباب ، الأسانيد ، الآثار

في 24 فبراير 2022 شنت روسيا حربها على أوكرانيا، جاء ذلك بعد مرور ثمانية أعوام على ضمها شبه جزيرة القرم وبداية النزاع في شرق أوكرانيا، ومما لا شك فيه أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد شكَّل أزمةً إنسانيةً شديدة التعقيد، امتدت تداعياتها إلى دول العالم قاطبة .

المطلب الأول: أسباب الحرب الروسية الأوكرانية

الحرب الروسية الأوكرانية لم تكن مفاجأة، فمنذ تفكّك الاتحاد السوفيتي سنة 1991، وحصول أوكرانيا على استقلالها في نفس السنة، وتوقيع مذكرة (بودابست) التي بموجبها تعهدت روسيا الاتحادية باحترام حدود أوكرانيا مع تعهد الأخيرة بالتخلي عن ترسانتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي، ومنذ هذه الأحداث والعلاقة بين الدولتين تشهد تذبذباً وأزمات متتالية ([1]).

 نشير هنا إلى أن توتر العلاقة بين روسيا وأوكرانيا قد بدأت مؤشراته تقريباً بعد ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، وإنجاز جسر القرم في مايو 2018، حيث أصبحت السفن الأوكرانية تلاقي صعوبة في المرور عبر مضيق كيرتش، ومن ذلك واقعة رفض خفر السواحل الروسي السماح لسفن تابعة للبحرية الأوكرانية في مضيق كيرتش، قبالة شبه جزيرة القرم، حيث قامت القوات الروسية باحتجاز ومصادرة ثلاث سفن أوكرانيا، كانت متوجهة من أوديسا في البحر الأسود إلى ماريوبول في بحر آزوف بحجة دخولها المياه الإقليمية الروسية بصفة غير قانونية، حسب ما أفادت به الاستخبارات الداخلية الروسية([2]).

أضف إلى ذلك بصمة دول الغرب -خاصة الولايات المتحدة الأمريكية- الواضحة، التي كانت أهدافها في تفكيك روسيا حاضرة، رغم كل تعهداتها للسوفيات، وظهرت هذه الخطوات في توسع حلف الناتو شرقاً وانضمام دولٍ من جمهوريات الاتحاد السوفيتي المنهار، ودولٍ من جمهوريات حلف (وارسو) السابقة إلى حلف الناتو([3]).

وقد ظهرت نية الغرب تجاه روسيا في جملة من المؤشرات، منها عدم الرد على طلب روسيا الانضمام إلى حلف الناتو سنة 2000، ودعم الغرب لأوكرانيا عند إعلان كييف عن رغبتها في امتلاك السلاح النووي، الأمر الذي يؤكد أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا قد جاء نتيجة لمخططات الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي في محاصرة روسيا، واستخدام أوكرانيا كجبهة لتحقيق ذلك، أضف إلى ذلك استياء روسيا من انتهاكات أوكرانيا لسكان إقليم دونباس الذي يُشكّل الناطقين بالروسية غالبية سكانه، حيث كانوا دائماً عرضة للقصف والاستهداف، وعدم احترام كييف لالتزاماتها التي جاءت في اتفاقات مينسك .

وبالتالي فإن الحرب الروسية الأوكرانية كانت نتيجة حتمية لأهداف غربية في ضرب روسيا باستخدام أوكرانيا، وما زاد الوضع تعقيداً محاولات أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي، حيث تعتبر روسيا دولة أوكرانيا ليست مجرد دولة جارة لها، إنما هي جزء مهم من روسيا، وإنها جزء جوهري في أمنها القومي، تعاملت معه دائماً بالمساعدة والدعم، وتمثل ذلك الدعم في مجموعة من الاتفاقات الروسية الأوكرانية، من بينها قيام روسيا بسداد كافة ديون الاتحاد السوفيتي، شرط تخلي تلك الدول عن نصيبها في الأصول السوفياتية، غير أن أوكرانيا لم تلتزم بهذه الاتفاقات، بل وإنها قد اتجهت إلى إنكار كل ما يجمعها بالدولة الروسية، وتصريحات القيادة الأوكرانية عن التكامل الأوروبي، الأمر الذي جعل الروس يرون أن مستقبل روسيا ومكانتها المستقبلية في العالم على المحك، وأنه يجب اتخاذ خطوة حاسمة في سبيل تلافي ذلك، وجاءت هذه الخطوة في إعلان الحرب .

المطلب الثاني : أسانيد الحرب الروسية الأوكرانية

إن توتر العلاقات الروسية الأوكرانية يرى فيها كل من الطرفين قانونية حجته، وتختلف حجج كل من الطرفين بين القانونية والواقعية.

أولاً: المبررات الواقعية للنزاع

1ـــ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 1999 وفوزه بانتخابات 2000 و2004، واتجاه سياسته إلى فرض الهيمنة الكاملة على كل مقدرات الدولة السوفيتية، للحفاظ على ما أسماه الاتحاد الروسي، وإعادة دور روسيا كقوة عالمية كبرى، في نفس الوقت ظهرت في جورجيا وأوكرانيا نخب سياسية تنتهج نهجاً يقترب من الفكر الليبيرالي الغربي، الأمر الذي جعله يرى مؤامرة أمريكية تهدد النفوذ الروسي([4]).

2-زاد من حدة التوتر وعدم استقرار العلاقات بين الطرفين سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم سنة 2014، وإنجاز جسر القرم، حيث استندت روسيا في عملية الضم إلى استفتاء لم تعترف به أوكرانيا والمجتمع الدولي، مما يقدح في قانونية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم .

3ــــ الحكومة الأوكرانية تتهم روسيا بإلحاق الضرر بالبيئة وعرقلة مرور السفن الكبيرة التي تمر في مضيق كيرتش الذي يربط بحر آزوف بالبحر الأسود نتيجة إنجاز الجسر .

4ــــ أظهرت استطلاعات الرأي بين عامي 2015 ــــ 2021 داخل أوكرانيا، اتجاه الرأي العام في أوكرانيا إلى تأييد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو([5]).

5ـــ إعلان بوتين الاعتراف رسمياً بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين، أو ما يعرف بـ”إقليم دونباس” في 22 فبراير 2022 وإعلانه دعم الانفصاليين والدفاع عن دونباس .

6ـــــ انفجار الجسر في 8 أكتوبر 2022 اعتبره رئيس مجلس الدوما الروسي بمثابة إعلان حرب، في حين قال مستشار الرئيس الأوكراني إن الانفجار مجرد بداية، وإن كل شيء غير شرعي يجب تدميره، مشيراً بذلك إلى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم طاعناً في عدم قانونيته .

7ــــ تدمير الجسر يُشكّل أهمية استراتيجية لأوكرانيا، من ناحية عزل القوات الروسية عن مصادر الإمداد، وكذلك ما يُشكّله من أهمية رمزية للرئيس بوتين([6]).

8ـــــ روسيا تُقدم مشروع قرار إلى مجلس الأمن، تدعو فيه إلى إنشاء لجنة من أعضاء المجلس للتحقيق في انتهاك الولايات المتحدة وأوكرانيا اتفاقية حظر تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة الجرثومية، بعد اتهامات توجهها روسيا لأوكرانيا حول مساعٍ لامتلاك قنبلة محظورة دولياً .

9ـــــ الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا “الولايات المتحدة – بريطانيا – فرنسا “، تصدر بياناً مشتركاً يفند مزاعم روسيا، بشأن دعم هذه الدول لأوكرانيا بشأن أسلحة محظورة، وأن ما تقوم به روسيا من مزاعم هو من باب إطالة النزاع وتصعيده([7]).

10ـــــ الولايات المتحدة تتهم إيران بدعمها روسيا بطيران مسير لضرب أوكرانيا، الأمر الذي يُشكّل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن، خاصة القرار رقم 2231 لسنة 2015، بشأن حظر أي عمليات نقل أسلحة إلا بإذنٍ من مجلس الأمن[8].

11ــــ بعد الحرب الروسية الأوكرانية، الدول الغربية فرضت عقوبات شديدة على روسيا، مضمونها وقف كافة أشكال التعاون بين الغرب وروسيا في المجالات السياسية والعلمية والأكاديمية والاقتصادية، باستثناء مشروع واحد يتعلق بالتعاون الفضائي([9]).

ثانياً: المبررات القانونية

-حق الدفاع الشرعي: بالاستناد إلى نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس …… “، فإن الدول التي تستخدم العنف في علاقاتها الدولية، تعتمد حق الدفاع الشرعي المنصوص عليه في هذه المادة مرتكزاً لشرعية أعمالها، حتى تنأى بنفسها عن الوقوع تحت بند تحريم استعمال القوة أو التهديد باستعمالها، كما تلجأ إلى الظروف والملابسات وخطورة المواقع لتبرير تصرفاتها، وقد عرّفه الفقيه Delivanis Jean بأنه “رد مسلح على عدوان مسلح تتعرض له دولة ما، وهو مبدأ مُسلّم به قديماً في جميع الأنظمة القانونية “([10]).

وفي إطار العلاقات الدولية هناك من يرى أن الدفاع الشرعي يدخل في إطاره الدفاع الوقائي؛ أي أنه يمكن لدولة أن تبدأ بالهجوم توقياً لهجوم متوقع من دولة أخرى، خاصة أمام التطور المتسارع في الأسلحة الهجومية، والنووية منها على وجه التحديد وأسلحة الدمار الشامل([11]).

وهنا لابد أن نشير إلى أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة قد اشترطت أن يكون الاعتداء -الذي يُصرح الدفاع في مواجهته- هجوماً مسلحاً، بما يعنيه من اعتداء مباشر أو غير مباشر، كما أن السماح باستخدام القوة في حالة الدفاع الشرعي الوقائي، هو فتحٌ لباب الأعمال العدوانية الانتقامية بدعوى الدفاع الشرعي، الأمر الذي يهدد السلم والأمن الدوليين .

أما فيما يتعلق بتطور الأسلحة -خاصة النووية والقذرة منها- فإنه في المقابل تطورت أجهزة الأمن والإنذار المبكر، ما يجعل الدول تستطيع معرفة ما قد يجعلها في منطقة الخطر أو الأمان من هذه الناحية .

أضف إلى ذلك أن الحق في البدء بالهجوم، أو ما يعرف بالهجوم الاستباقي في مواجهة العدو، تم استبعاده بنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي تتضمن حظر الاستخدام الأحادي للقوة إلا بإذن من مجلس الأمن([12]).

وفي الحالة الروسية الأوكرانية، يمثل إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا الحدث الأبرز والأكثر خطورة، حيث صرّح الرئيس الروسي أن الهدف من إطلاق عمليات عسكرية ضد أوكرانيا هو نزع السلاح منها، وأنها تريد تطوير صواريخ يمكن أن تسقط على موسكو، وما يمكن أن تُشكّله من خطر على المصالح الروسية التي باتت مهددة لو نجحت أوكرانيا في التسلح النووي، ولتبرير هذا التدخل استند الكرملين إلى المادة (51) من الجزء السابع من الميثاق المتعلقة بحق الدفاع عن النفس.

في هذا الإطار وخوفاً من استخدام نص المادة 51 فإن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان قد أنشأ مجموعة عمل سنة 2004، كان نتاج عملها تقرير “عالم أكثر أماناً: عملنا المشترك “، استهدف وبالاستناد إلى الميثاق توضيح أن حق الدفاع الشرعي مقيد بشروط، أهمها ضرورة تعرض الدولة المحتجة به إلى عدوان مسلح، وأنه مؤقت، حتى يقوم مجلس الأمن بمهامه في اتخاذ التدابير ضد الدولة المعتدية، وأن هذا الحق يخضع قولاً واحداً لرقابة مجلس الأمن، الأمر الذي يفرض على الدولة التي تنوي ممارسته إبلاغ مجلس الأمن.

غير أنه -ومن الثابت أنه- مهما كانت المبررات التي تستند إليها الدولة المعتدية من خرق لمبدأ عدم اللجوء إلى القوة بحجة الدفاع الشرعي، يظل المجتمع الدولي حريصاً على أن يبقى هذا الاستثناء ضيقاً ومتمتعاً بقيمته القانونية، بل إنه من القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، وفقاً لنص المادة 53 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات 1969.

ــــــ نشير هنا إلى عضوية روسيا في مجلس الأمن وأسانيده القانونية، الأمر الذي أشارت إليه أوكرانيا، بأن سقوط الاتحاد السوفيتي قد أعطى الحق القانوني لكل الجمهوريات المكونة للاتحاد -بما في ذلك روسيا- في الحصول على المقعد، وليس روسيا فقط، حيث لم يجرَ تعديل الميثاق ولا حتى تمّ عرض قرار بإعطاء روسيا هذا الحق دون بقية المكونات، حيث ما زال قرار العضوية للاتحاد السوفيتي وليس لروسيا كعضو دائم في مجلس الأمن.

المطلب الثالث: آثار الحرب الروسية الأوكرانية

1 – تفاقمُ النزاع الروسي الأوكراني، وتدخّل روسيا العسكري في أوكرانيا، أدى إلى خسائر في الجانب الروسي، تنوعت على كل الأصعدة، من خسائر بشرية أنتجتها العمليات القتالية، إلى خسائر اقتصادية نتجت عن العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا، الأمر الذي طال النفط والغاز وتجميد الأرصدة وانهيار البنوك التجارية وبرامج التوريد إجمالاً .

هذه الحرب فرضت على روسيا عزلة دولية، الأمر الذي أدى إلى قطع التبادل التجاري والثقافي والسياسي، وتفاقم العقوبات الغربية على روسيا بغلق المجال الجوي في وجه الطيران الروسي في أغلب الدول الأوروبية، وحظر حركة السفن الروسية في الموانئ الأوروبية، كما وصلت تلك العقوبات إلى وقف كافة الأنشطة والمشاركات الروسية في العديد من الاحتفاليات والبرامج .

2- على الصعيد الأوكراني تفاقمت خسائر الاقتصاد الأوكراني، الأمر الذي انعكس على العديد من الأنشطة الاقتصادية، وتضرر البنية التحتية، التي طالتها عمليات التدمير واسعة النطاق الموجهة من قبل القوات الروسية، حيث استهدفت العمليات أهدافاً مدنية وليست عسكرية فقط.

كما أن استمرار الحرب أدى إلى وقف الملاحة البحرية، حيث تم إغلاق الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود، وتوقفت حركة النقل البحري، كما تسببت الحرب في دمار للقدرة الإنتاجية لأوكرانيا، وتدهور التجارة الخارجية، وانهيار الأوضاع المالية إجمالاً في الدولة، حيث تضاءلت القدرة على تحصيل الضرائب وارتفاع أسعار السلع الغذائية والطاقة والمعادن، والانكماش الاقتصادي([13]).

3- انعكست الحرب الروسية الأوكرانية على الدول الأوروبية عامة، من ناحية تباطؤ النمو الاقتصادي، وبسبب تأثير العقوبات الغربية لروسيا على العلاقات التجارية انخفض حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول الاتحاد، حيث كانت تُشكّل موسكو خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي . كما امتدت آثار الحرب إلى تهديد الاستثمارات والأصول الأوروبية في روسيا وخطر حدوث المصادرة والتأميم كردة فعل من روسيا على العقوبات الغربية. وحيث أن روسيا تعتبر أكبر مورد للطاقة في الاتحاد الأوروبي، فإن أمن الطاقة الأوروبي تزعزع، وتعرض للانهيار الجزئي([14]).

كما يعتبر الأمن الغذائي أحد أهم الأسس التي طالتها يد الحرب الروسية الأوكرانية، ذلك أن روسيا تعد أكبر مصدر للقمح في العالم، وتوفر روسيا وأوكرانيا أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية، وبسبب الحرب فإن أسعار السلع الغذائية في أوروبا قد تضخمت، خاصة منها السلع الغذائية المعتمدة على القمح والذرة .

4- تفاقم أزمة اللاجئين الأوكرانيين، فمنذ بداية الحرب خرج من الدولة الأوكرانية حوالي 4 ملايين شخص .

5- تضرر السياحة وقطاع الطيران والعلاقات الدولية الروسية الأوكرانية إجمالاً.

6- مما لا شك فيه أن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية قد طالت العالم برمته، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، الأمر الذي عانت منه كل الدول من ناحية ارتفاع أسعار الاحتياجات الإنسانية إجمالاً وأسعار العملات، حيث للمرة الأولى منذ حوالي عشرين سنة يتساوى سعر اليورو والدولار.

7- بالنسبة إلى تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على الدول العربية، هنا الأمر يتقاسمه اتجاهين، فالدول العربية تتوزع إلى مجموعتين حسب علاقتها بروسيا، المجموعة الأولى وهي تلك الدول التي تعتمد على روسيا في استيراد السلع المدنية، وهي تحديداً “مصر، المغرب، الإمارات، السعودية، تونس، الأردن، قطر “، والتي تبقى حاجة روسيا لها باعتبارها تُشكّل سوقاً مهماً لصادراتها، أما المجموعة الثانية فهي الدول التي تعتمد على روسيا في السلع العسكرية، وهي غالباً سوريا، والجزائر والعراق ومصر والإمارات العربية، ونشير هنا إلى أن العقوبات الاقتصادية تشمل السلع المدنية أكثر من السلع العسكرية.

8 روسيا مع الولايات المتحدة ضد الصين؟ أم سيحدث العكس وتتحالف مع الصين في ظل حربها الحالية مع أمريكا المتمثلة في دعمها لأوكرانيا؟ أم أن روسيا ستترك الطرفين وتستفيد من تنافس القوتين العظميين لتعزيز قدرتها التنافسية والتفاوضية مع الطرفين.

9- تهديدات غربية بتجريد روسيا من عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وإن كان تَحقُّقُ ذلك يواجه صعوبات، إلا من منع روسيا من التصويت على قرار مجلس الأمن المتعلق بحربها على أوكرانيا.

10 من الآثار القانونية المهمة للنزاع الروسي الأوكراني، أنه كشف عن ضعف واضح في النظام الدولي الحالي، خاصةً في مجلس الأمن، حيث تبين بعد هذا النزاع أن حق النقض في مجلس الأمن يُشكّل عقبة كبيرة أمام السلام الدولي، وإضعاف دور منظمة الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين، فمثلاً في النزاع الحالي، نرى أن حق النقض الروسي في مجلس الأمن يجعل أمر فرض العقوبات سيكون رهن تضامن الراغبين، إلا في حالة تعديل المادة 27، بتفعيل رأي الأغلبية التي تمثل ثلثي الدول الأعضاء لتجاوز تأثير حق النقض كما في حالتنا محل البحث.

11- إنشاء آلية لتوثيق جرائم الحرب، وكان ذلك بإدارة جون بايدن، عندما أطلق حملة لتوثيق جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا في مارس 2022.

12- الحرب في أوكرانيا أوضحت حقيقة اعتقدها الأوروبيون مستحيلة، وهي إمكانية نشوب حرب كبيرة في قارة أوروبا.

المبحث الثاني : التكييف القانوني للحرب الروسية الأوكرانية ومدى مشروعيتها

مما لا ريب فيه أن مصالح البشر لا تتفق، وأن تضاربها سبب رئيسي للنزاعات في أي صورة كانت، وكما أسلفنا يكون النزاع مدمراً عندما يكون مسلحاً، ولعله من نافلة القول أن القانون الدولي المعاصر قد تأسس على نبذ استعمال القوة أو التهديد بها، فأين هذا المبدأ -ومبادئ أخرى- من النزاع الروسي الأوكراني؟.

إن القانون الدولي الإنساني، دستور النزاعات المسلحة الدولي، يضع أسساً وقواعد للحرب، أهمها مبدأ الإنسانية، والتناسب، وتجنب الضربات العشوائية، وحماية المدنيين.

أين قواعد القانون الدولي عموماً وقواعد القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين من حيثيات النزاع وأحداثه؟ للإجابة عن هذا التساؤلات وغيرها نحاول الوصول إليها من خلال التقسيم التالي: 

المطلب الأول: التكييف القانوني للحرب الروسية الأوكرانية

المطلب الثاني: مواضع انتهاكات القانون الدولي في الحرب الروسية الأوكرانية

المطلب الأول: التكييف القانوني للحرب الروسية الأوكرانية

إن مسألة تكييف الحرب الروسية الأوكرانية تعد من قبيل إيجاد الوصف القانوني لما يدور على ساحة الأحداث مؤخراً ويقلب الأسس والمعايير، فهل الحرب الروسية الأوكرانية له صورة قانونية، أو يدخل تحت إطار قانوني معين؟ أم أنه لا تكييف قانونياً لها؟ وبالتالي فهي خرق قانوني؟

لاحظنا -ولا شك- في هذه الحالة ومن قبلها في العديد من الأحداث الدولية السابقة، أن القانون الدولي يتأرجح بين الوجود والغياب، وأن قواعده تتجاذبها الأطراف كل حسب رؤيته ومصالحه، بحيث صار في مفترق طرق، حيث نرى بعض الأطراف تستشهد به عندما يوافق مصالحها، وتتجاهله عندما يخالفها، ويبدو ذلك جليّاً عندما تتعارض التصرفات صراحة أو ضمناً مع قواعد القانون الدولي .

منذ بداية النزاع كان الخطاب السياسي الغربي المرافق للأزمة ينادي بأن روسيا قد تجاهلت قواعد القانون الدولي، وذلك بالطبع ليس حرصاً على القانون الدولي، ولكن زيادة الدفع في اتجاه حرب المصالح التي تفرض -بالنسبة للغرب- تجريم روسيا في هذا النزاع، ووصفها بالمنتهكة لقواعد القانون الدولي، كالسيادة ومبدأ عدم التدخل ونبذ استعمال القوة أو التهديد بها، في حين أنهم قد مارسوا هذا الانتهاك تلبية لمصالحهم سابقاً.

وهنا لا يمكن تجاهل ما قامت به الولايات المتحدة سابقاً من خرق لبنود الميثاق في إطار الحفاظ على مصالحها، دو ن احترام لتلك القواعد، منها دعمها لقصف حلف الشمال الأطلسي لصربيا سنة 1999 الذي جاء إهداراً للقانون الدولي ودون سند منه، الأمر الذي عارضته روسيا حينها بشدة، خاصة بعد استقلال كوسوفو عن صربيا، واتخذته ذريعة لاستحواذها على شبه جزيرة القرم([15]).

وتكررت عملية تجاهل القانون الدولي وتجاوز قواعده وحرب المصالح في الحرب على أفغانستان والعراق، في تجاهل لصلاحيات مجلس الأمن، ورغم اعتراض مجلس الأمن إلا أن مسألة الانتهاك كانت مدمرة في الحالتين، ولعلنا لاحظنا بعض نقاط التشابه بين الحرب الروسية الأوكرانية والحرب العراقية الكويتية، واختلاف التكييف والنظرة والعواقب من قبل الدول العظمى.

نشير هنا أيضاً إلى ما قام به حلف الشمال الأطلسي في ليبيا إبان أحداث فبراير 2011، وتدخلاته في الإطاحة بالنظام السياسي القائم حينها، حيث بعد قيام مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي، وتدابير حماية المدنيين، اتجه الحلف إلى استخدام القرار لصالحه للتدخل والإطاحة بنظام الحكم، ويأتي ذلك في تجاهل للحالة السورية واليمنية، حيث صرح أمين عام الحلف بعدم وجود خطط للتدخل عسكرياً في سوريا، وأن تدخله في ليبيا كان خدمة للقانون الدولي وآلياته الممثلة في مجلس الأمن، الأمر الذي يعد تدويراً للقانون حسب المصلحة.

إن مسألة التلاعب بقواعد القانون الدولي، وتجاهل الأسس والمبادئ التي يقوم عليها من طرف الدول العظمى -هو بلا ريب- قد تكرر في السنوات الأخيرة، ونحن هنا لا نبرئ روسيا أو نُخلي مسؤوليتها عما حصل مؤخراً من انتهاك صريح لأهم مبادئ القانون، وأن استنادها على نص المادة 51 هو استناد هش، ذلك أن نص المادة 51 المتعلقة بالدفاع الشرعي -كما سبق وأسلفنا- مشروط ومقيد، ولا يمكن استخدامه على إطلاقه.

وبالرجوع إلى ما يستند إليه كل طرف في هذه الحرب لتبرير ما يقوم به من انتهاك، ولإضفاء المشروعية على تجاوزاته، نرى روسيا قد استندت إلى استخدام القوة العسكرية للدفاع عما تقول إنه حق لها وهو أمنها القومي وخشيتها من انتشار الأسلحة الاستراتيجية بما فيها السلاح النووي على حدودها، بينما نجد دولة أوكرانيا -وبدعم الدول الغربية أيضاً- تستند إلى قواعد القانون الدولي في عدم وفائها بالتزاماتها مع روسيا، وحقها في اختيار نمط سياستها الخارجية باعتبارها دولة ذات سيادة، من ناحية طلبها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي، الأمر الذي كان السبب الرئيس في اندلاع هذه الحرب.

وبالتالي ونحن في معرض تكييف مدى مشروعية النزاع الروسي الأوكراني من ناحية أسانيد كل طرف في هذه الحرب، نرى النزاع واضحاً بين القوة والقانون، ذلك أن أوكرانيا باعتبارها دولة ذات سيادة فمن حقها تصريف شؤونها دون تدخل من أي طرف خارجي، حتى لو كانت دولة مجاورة، الأمر الذي تأسس عليه ميثاق الأمم المتحدة، وبالنسبة للطرف الروسي الذي اعتمد منطق أن روسيا دولة عظمى، وأن مصالحها وأمنها في خطر، فانتهج منطق القوة، الذي جرمه الميثاق في نصوصه تجريماً واضحاً، الأمر الذي يجعل حرب روسيا على أوكرانيا وفقاً لنصوص القانون الدولي هي انتهاك صريح لقواعد القانون الدولي، إضافةً إلى أن ما يتم الآن في ساحة النزاع هو خرق لأبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني.

المطلب الثاني : القواعد الدولية محل الانتهاك في الحرب الروسية الأوكرانية و موقف منظمة الأمم المتحدة منها

إن التتبع لمجريات الحرب الروسية الأوكرانية ينتج عنها متاهة من الخرق لقواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، من ناحية أسانيد هذه الحرب التي يراها كل طرف قانونية، ومن ناحية أخرى ما ترتب عنها من عبث بالإنسانية، وخرق يومي لقانون النزاعات المسلحة، والتساؤل حول دور المؤسسات المتخصصة في انهائها.

الأمر الذي يفرض على سياق البحث تناول أهم القواعد التي تم انتهاكها في هذه الحرب، وتلك التي تم توظيفها لإسباغ المشروعية على هذه الحرب من كلا طرفيه، ومدى الدور الذي تلعبه منظمة الأمم المتحدة في تسويتها.

أولاً- القواعد الدولية محل الانتهاك في الحرب الروسية الأوكرانية

1 – انتهاك روسيا لمبدأ عدم التدخل: مبدأ عدم التدخل من أهم قواعد القانون الدولي المعاصر، الذي جاء النص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وأكثر المبادئ تأكيداً في العلاقات الدولية، كما أثبت الواقع الدولي أنه أكثر مبادئ القانون الدولي انتهاكاً.

مما لا شك فيه أن من أهم خصائص الدولة وفقاً لقواعد القانون الدولي عدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو أهم مظاهر ممارسة سيادتها في شقها الخارجي، أياً كان هذا التدخل من دولة أو من منظمة دولية.

والتدخل المحرم دولياً هو تعرض دولة أو منظمة دولية للتدخل في شؤونها الداخلية أو الخارجية، دون أن يكون لهذا التعرض سند قانوني، لأي سبب كان، كأن يكون من باب إلزام الدولة المتدخل في شؤونها اتباع نهج معين، أو الامتناع عن سلوك معين، أو ايديولوجيا ما، الأمر الذي يعد تقييداً لحرية الدولة واعتداء على سيادتها واستقلالها([16]).

ووفقا لميثاق الأمم المتحدة جاء النص على هذا المبدأ في المادة الثانية الفقرة الرابعة منه، حيث جاء في النص: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة “.

كما نصت الفقرة السابعة من نفس المادة على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما “.

كما جاء النصُّ عليه في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول لسنة 1970: “ليس لدولة أو لمجموعة من الدول الحق في التدخل المباشر أو غير المباشر ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى . ونتيجة لذلك اعتبار ليس فقط التدخل العسكري بل كل أنواع التدخل أو التهديد الموجه ضد شخصية الدولة أو ضد مكوناتها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مخالفاً للقانون الدولي ……. “[17].

وبتفحص النصوص السابقة، ومراجعة الحالة محل البحث، وفي إطار البحث عن مدى انتهاك مبدأ التدخل كأحد مبادئ القانون الدولي الجوهرية، الذي يتضمن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويظهر ذلك مثلاً في عدم ممارسة أي ضغط أو إكراه من دولة ما على أشخاص أو مؤسسات دولة أخرى، ولا أن تمارس أي نوع من التدخل في علاقات هذه الدولة مع رعاياها، ذلك أنه وفقاً لهذا المبدأ كل دولة لها كامل الحرية في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن تضع ما تشاء من القوانين في سبيل ذلك شرط أن لا تلجأ إلى أنظمة الإبادة الجماعية للسكان أو التمييز العنصري ضد بعضهم.

كما أن هذا المبدأ يتضمن عدم الامتناع عن أي تشجيع أو مساندة أو إيواء للأنشطة الضارة بغيرها من الدول، ومن ذلك مثلاً الامتناع عن تجنيد المرتزقة أو دعمهم، وعدم التدخل في الحروب الأهلية في دولة أخرى ومساعدة المتمردين فيها([18]).

 وهذا التدخل الذي يحظره القانون الدولي جاء النص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، قد يكون تدخلاً سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو أيديولوجياً أو مالياً . وصورته قد تكون مباشرة أو غير مباشرة، وقد يكون تدخلاً فردياً تقوم به دولة واحدة، وقد يكون جماعياً تقوم به مجموعة دول أو منظمة دولية.

ورغم حظره وعدم مشروعيته، فإن العديد من الدول قد قامت بانتهاكه استناداً إلى مبادئ أخرى في القانون الدولي، مثل مبدأ الدفاع الشرعي، أو لحماية حقوق الإنسان، أو حماية رعايا الدولة وممارسة التدخل في الحالة الروسية الأوكرانية لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة في الواقع الدولي، فقد مارسته دولٌ أخرى لتحقيق أغراضها ومصالحها.

2- انتهاك مبدأ حظر استخدام القوة العسكرية: إن مبدأ تحريم استعمال القوة أو التهديد بها من المبادئ الجوهرية المؤثرة في العلاقات الدولية، ذلك أن القانون الدولي المعاصر قد تأسس على تنسيق العلاقات بين مكونات المجتمع الدولي بما يكفل الحد الأدنى من الاستقرار، وقد تم إدخال هذا المبدأ للمرة الأولى في نص المادة الثانية، الفقرتين الثالثة والرابعة من ميثاق الأمم المتحدة، حيث جاء النص واضحاً في الفقرة الثالثة بأنه: “يفضّ جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر” .

وجاء في الفقرة الرابعة بأن “يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة” .

وتناوله القرار رقم 2625 الخاص بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة بالنص على أن ” كل دولة واجب الامتناع في علاقاتها الدولية عن اللجوء للتهديد أو لاستعمال القوة، سواء ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو بأي شكل آخر لا يتماشى مع أهداف الأمم المتحدة. إن مثل هذا التهديد أو الاستعمال للقوة يُمثّل خرقاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ويجب ألا يُستخدمَ أبداً كطريقة لحل المشاكل الدولية “.

“إن حرب العدوان تُشكّل جريمةً ضد السلام، وتُرحّب بالمسؤولية طبقاً لأحكام القانون الدولي “.

“على كل دولة واجب الامتناع عن اللجوء إلى التهديد أو استعمال القوة لخرق الحدود الدولية القائمة لدولة أخرى ….”.

“إقليم الدولة لا يمكن أن يكون موضوعاً للاحتلال العسكري الناجم عن استعمال القوة بالمخالفة مع أحكام الميثاق “.

أما على صعيد المواثيق الإقليمية فإن ميثاق جامعة الدول العربية على سبيل المثال قد نصّ على هذا المبدأ في المادة الخامسة منه بأنه “لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة……..”.

جاءت النصوص السابقة حاسمة وقاطعة في مسألة تحريم استعمال القوة في العلاقات الدولية، وكافة أشكال العنف المسلح، غير أن واقع تلك العلاقات قد يفرض في بعض الأوقات حالات يكون فيها استعمال القوة مشروعاً، ومن تلك الحالات تدابير الأمن الجماعي التي تقوم بها الأمم المتحدة بالاستناد إلى الميثاق لحفظ السلم والأمن الدوليين.

وكذلك إعلان النزاع المسلح في حالة إنفاذ قرار قضائي صادر عن محكمة العدل الدولية وفقاً لنص المادة 94 الفقرة الثانية التي نصت على: “إذا امتنع أحد المتقاضين ……. “، وأيضاً حالة الدفاع الشرعي بموجب نص المادة 51 من الميثاق السابق تفصيلها، وكذلك الحرب تنفيذاً لحق الشعوب في تقرير مصيرها.

من النصوص أعلاه نستنتج أن استعمال القوة في العلاقات الدولية أو حتى التهديد بها يُعدّ فعلاً مُجرَّماً دولياً وفقاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يجعل الموقف الروسي محل جدل وتجريم، ذلك أن أوكرانيا دولة ذات سيادة، لا يجوز استعمال القوة ضدها أو الاعتداء عليها أو تهديدها، وحيث أن روسيا قد استندت إلى المادة 51 من الميثاق المتعلقة بالدفاع الشرعي، فإنها تكون قد استندت على مبرر غير مشروع، ما يجعل تصرفها ذاته غير مشروع إجمالاً، ذلك أن نص المادة 51 قد جاء واضحاً ومحدداً في هذا الشأن .

3-انتهاك مبدأ المساواة في السيادة: شهد هذا المبدأ اختلافاً كبيراً في التفسير والإدراك بين العديد من الاتجاهات الفقهية القانونية الدولية، فهو ليس إشكالياً على الصعيد النظري، ولكن تطبيقه في الواقع الدولي يثير مجموعة من الصعوبات العملية، ويعود ذلك إلى الخلاف حول أبعاد السيادة وحدودها([19]).

هذا المبدأ يقوم عليه القانون الدولي المعاصر وأحكام القانون الدولي، وهو أحد المبادئ الخمسة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، الذي تضمَّن جملةً من المواد ذات علاقة مباشرة بهذا المبدأ بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث جاء في ديباجة الميثاق على المساواة في الحقوق بالنص: (إذ تؤكد من جديد ……. من حقوق متساوية ).

كما تضمنته المادة 1/2 بالنص على (إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب ).

والمادة 2/1 نصت على أن (تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها ).

كما تناولته المادة 2/4 في إشارات عامة، عندما أكدت على امتناع الدول عن استعمال القوة أو التهديد بها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.

وكذلك المادة 55 بالتأكيد على ضرورة تحقيق الاستقرار والرفاهية للشعوب المؤسسة على احترام التسوية في الحقوق بين الشعوب، وأن يكون لها حق تقرير المصير .

وأخيراً نصت المادة 78 الخاصة بنظام الوصاية الذي جاء فيه:  (أن العلاقات بين أعضاء هذه الهيئة يجب أن تقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة ).

بمراجعة النصوص السابقة، نلاحظ بلا شك أن المساواة المقصودة هي المساواة القانونية، التي يترتب عليها أن أية دولة لا يمكنها أن تمارس سياسة الضغط أو الإجبار تُجاه دولة أخرى، ويكون ذلك بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول .

أي أن الدول في إطار علاقاتها الدولية تخضع لأحكام القانون الدولي في التزاماته وتنفيذها بحسن النية واحترام حقوق غيرها، وهو نفس المبدأ الذي يجب أن تحترمه الدول عند نشوب أي نزاع بين الأطراف، على اعتبار أن تلك الدول تتمتع بالشخصية القانونية الكاملة ومتساوية مع غيرها في السيادة، الأمر الذي يتجاوز الفرق بين الدول الكبرى والصغرى والغنية والفقيرة، ويتأكد هذا المبدأ من خلال لجوء الدول إلى القضاء الدولي، فالدول جميعاً تتساوى من حيث المركز القانوني، حيث لا يجوز اللجوء إلى القضاء إلا برضا الأطراف، كما لا يجوز الرجوع إلى القضاء إلا برضا الأطراف، كما أن الفصل في النزاع لا يكون إلا باتفاق الأطراف بغض النظر عن نوعية الدول المشتركة في النزاع ([20]).

تلك هي الصورة الحقيقية لمبدأ التساوي في السيادة، الأمر الذي يُجرّم بصورة أخرى انتهاك دولة لدول أخرى تحت أي ظرف .

والحالة هي كما رأينا بموجب النصوص الواردة في الميثاق وأكثر تحديداً وصراحة نص المادة 2/1 التي تقول أن المنظمة (تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها )، فإن الدول تُعد متساوية أمام القانون من حيث التمتع بالمساواة أمامه، غير أن جزءاً مهماً وأساسياً من أحكام القانون الدولي يستند إلى أسبقية القوى العظمى، ويعود ذلك إلى التداخل بين القانون الدولي العام والسياسة الدولية، حيث العلاقة بينهما تحدّ من المساواة القانونية الكاملة بين مختلف الدول .

وبالرجوع إلى نص المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة، فإن الدول دائمة العضوية تتمتع بممارسة حق الفيتو، ذلك الحق الذي يراه جانب من فقه القانون الدولي متعارضاً مع مبدأ المساواة في السيادة، وأن الاعتراف بهذا الحق لتلك الدول يُعدّ إهداراً لحقوق الدول الأخرى، ويجعل مبدأ المساواة في السيادة نسبياً، ومن جانب آخر يُعطي تلك الدول أحقية في ذلك، من ناحية أن الدول الكبرى تمتلك المال والمعدات والسلاح، الأمر الذي يجعلها قادرة على الدفاع عن أحكام الميثاق، بينما غيرها من الدول المتخلفة عاجزة حتى عن حل مشاكلها، أضف إلى ذلك أن الدول الكبرى كانت السبب في إخماد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي منحها مكانة مهمة في الميثاق([21]).

ومن ناحية موضوع بحثنا، ترى الباحثة أن موضوع المساواة في السيادة موجود ومطبق في أغلبية أحكام الميثاق، وإن كانت هناك بعض النصوص تعكس عدم المساواة، بالاستناد إلى تبريرات الدول العظمى للامتيازات التي منحها لها الميثاق، رغم اعتراض البعض، الأمر الذي جعل الدول العظمى تعتدي على سيادات الدول الأخرى باسم الشرعية الدولية، التي تفتقر في بعض جوانبها إلى شروط الشرعية، أضف إلى ذلك ما تمارسه تلك الدول من سياسات وضغوط على الدول النامية خدمة لمصالحها من خلال المنظمات المهمة في العالم مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ولعل بقاء نص المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية -الذي ذُكرت فيه الأمم المتمدنة- دليل على عدم المساواة الواقعية، ويفرغ المبدأ من مضمونه، ويجعل تعدي دولة على أخرى مستندا إلى القانون الذي قسم أشخاصه إلى متمدنة ونامية ومتخلفة .

وبوجهة نظر محايدة نرى أن مجرى الأحداث في الحرب الروسية الأوكرانية يجعل مبدأ المساواة في السيادة محل انتهاك، ويتضارب مع صريح النص في القانون الدولي، فالهيمنة والقوة وإن كانت مجرد حدث سياسي غير أنها بقبولها فترة زمنية وعدم الاحتجاج الدولي ضدها يجعلها تستقر دولياً، وأن نص الميثاق في حاجة إلى التعديل بما يتوافق والتطور المتسارع في العلاقات الدولية .

ثانياً: موقف منظمة الأمم المتحدة من الحرب الروسية الأوكرانية

الأمم المتحدة باعتبارها الهيئة العالمية المتخصصة في تنسيق مصالح أطراف العلاقات الدولية عن طريق أجهزتها، وعلى وجه التحديد في ذلك النوع من النزاعات التي تهدد السلم والأمن الدوليين التي يُعدّ مجلس الأمن هو الجهاز المكلف بتسويتها من ناحية فرض عقوبات أو التصريح باستخدام القوة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما([22]).

وقد ناقشت فعليّاً الجمعية العامة مسألة عدم تمكّن مجلس الأمن الاضطلاع بمسؤولياته، الأمر الذي تمّ وصفه بأنه تحدٍّ خطير يهدد السلم والأمن الدوليين ليس في أوروبا فقط بل العالم أجمع، حيث صرح الأمين العام بأن الغزو الروسي كان “أشد اللحظات حزنا في فترة ولايتي “، ودعا بوتين إلى سحب قواته “باسم الإنسانية”([23]).

وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى أنه في كثير من الحالات لا يمكن اتخاذ قرارات حاسمة، ويعود ذلك إلى تمتع الأعضاء الدائمين بحق الفيتو، حيث يلجؤون إلى استخدام هذا الحق ضد أي مشروع قرار يتعارض مع مصالحهم، إلا في حالة امتناع عضو دائم عن التصويت([24]).

وتبدو الأهمية الحقيقية لحق النقض عندما تكون الدولة التي لها حق النقض طرف في النزاع المعروض للتصويت، كما في حالتنا موضوع البحث، ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أنه في سبيل تقييد حق النقض، قامت فرنسا والمكسيك في سنة 2020 بتقديم اقتراح لتنظيم استخدام حق النقض([25]).

ومن ردود فعل مجلس الأمن على ما يحدث دولياً في الساحة الروسية الأوكرانية، فإن المجلس يوم 25 فبراير 2022 قد دعا إلى تصويت إجرائي على مشروع قرار يدعو إلى عقد جلسة استثنائية للجمعية العامة بشأن أوكرانيا، ومن أجل تمرير هذا القرار كان المجلس في حاج إلى تصويت إيجابي لتسع دول، أيدت القرار إحدى عشرة دولة وامتنعت ثلاث دول، وتم رفض القرار باستخدام روسيا لحق النقض([26]).

وفي الثاني من مارس عقدت الجمعية العامة جلسة طارئة صوت الأغلبية الساحقة (141 ـــ 5) على قرار يدين الغزو ويطلب من موسكو سحب قواتها العسكرية، وهو قرار الإدانة الأول الذي تتخذه الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ بدء الحرب، حيث صوتت أربع عشرة دولة مع القرار وصوتت دولة واحدة ضده.

وفي إطار تأثير العضوية الدائمة لمجلس الأمن على صلاحية مجلس الأمن لإصدار القرارات، فقد سجلت الأحداث مؤخراً فشل مجلس الأمن في تمرير مشروع القرار المسمّى “الاستفتاءات غير القانونية في أوكرانيا ” الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية وألبانيا من أجل إدانة الاستفتاءات الروسية على الأراضي التي تحتلها روسيا في أوكرانيا، حيث صوتت معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على ذلك([27]).

وكان ذلك بعد مضي سبعة أشهر، في 12 أكتوبر 2022، صوتت 143 عضواً في الأمم المتحدة لصالح هذا القرار الذي يدين الاعتداء الروسي على أوكرانيا، ويُعربون عن قلقهم الزائد إزاء تدهور الوضع في أوكرانيا، وضرورة احترام سيادتها ووحدة أراضيها، وضرورة الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الراسخة في القانون الدولي .

وفي يوم الاثنين السابع من مارس 2022 كانت أولى جلسات محكمة العدل الدولية التي انعقدت بطلب من أوكرانيا على خلفية غزوها من قبل روسيا، غير أن روسيا قد قاطعت الجلسات منذ بدايتها، ووجد الوفد الأوكراني نفسه أمام مقاعد شاغرة عند عرض قضيته .

ونشير هنا إلى أن قرارات محكمة العدل الدولية التي يكون صدورها في صيغة أحكام قضائية لها طابع إلزامي، الأمر الذي يضعنا أمام خرق دولي واضح في حال عدم تنفيذ أحكامها، ومخالفة صريحة للقانون الدولي، ما يحرك المسؤولية الدولية، وأن هذا القرار قد صدر بناءً على الفقرة الأولى من المادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة فيما يخص (اتخاذ تدابير مؤقتة)، الأمر الذي لا يعني أن المحكمة قد حكمت لصالح أوكرانيا، إنما هو إشارة إلى أن القضية ما زالت قيد النظر، ولم يصدر فيها حكم بات، وأن اتخاذ هذه التدابير هو من باب الحفاظ على حقوق أطراف القضية ليس إلا . وهنا لا يجب نغفل على  افتقار قرار محكمة العدل الدولية لمفهوم القوة التنفيذية أو الشرطة الدولية، لذا يظل غير قابل للتنفيذ رغم إلزاميته، ما يحرر روسيا من الانصياع له([28]).

وفي هذه الحالة لا يكون أمام الطرف الذي صدر الحكم لصالحه وفقاً للمادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، إلا التقدم بشكواه لمجلس الأمن، للتحرك ضد الدولة التي نكلت عن التنفيذ، وفي حالتنا محل البحث سنعود لنفس الانسداد، المتمثل في حق الفيتو الروسي، الذي سيواجه توجه أوكرانيا بشكواها لمجلس الأمن.

كما أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بعد الغزو بأيام قليلة أنه سيقوم بإجراء تحقيقات حول الجرائم التي ارتكبت في الحرب الروسية الأوكرانية، وأنه يسعى للحصول على تفويض لفتح تحقيق بأسرع ما يكون، رغم أن أوكرانيا ليست عضواً في المحكمة، ولكنها في 2014 وافقت على الاختصاص القضائي للمحكمة، وفي نفس الوقت انسحبت روسيا من المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي قد يُشكّل عائقاً أمام وصول المحكمة للمواطنين الروس، إلا اذا أوقفوا على أراضي دولة تعترف بالولاية القضائية للمحكمة، أو أن يكون هناك تحويل من مجلس الأمن، كما جاء في البند 13 من نظام روما الأساسي، الأمر الذي لن يحدث بسبب تحكم الدول الثلاث الكبرى التي لم تدخل المحكمة وتتدخل فيمن يحول إلى المحكمة أولا.

أضف إلى ذلك أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية مقاضاة روسيا عن جريمة العدوان، الذي تتضمن صورته هجوم دولة على غيرها، لأنها ليست طرفاً في نظام روما الأساسي([29]).

وفيما يخص إنهاء عضوية روسيا في مجلس الأمن، حيث تتردد مؤخراً تهديدات بطردها من مجلس الأمن، ومن ذلك تصريحات رئيس الوزراء البريطاني، بأن الحكومة البريطانية منفتحة على طرد روسيا من مجلس الأمن الدولي .

وهنا نشير إلى أن المادتين الخامسة والسادسة من الفصل الثاني من الميثاق، حول عضوية الدول الأعضاء وشروطها وإمكانية حرمان دولة ما من حقوقها كعضو، بما في ذلك التصويت في الجمعية العامة، فإن الحالة المطروحة في البحث، تؤكد أن ذلك يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن، وهنا يصدمنا الواقع مجدداً بحق الفيتو الذي يمكن أن تستخدمه روسيا، وحتى في أحسن الأحوال التي لا تتمكن روسيا فيها من استخدام هذا الحق، فإن الصين ستكون باباً آخر لنجاتها([30]).

وبالرجوع إلى النصوص المذكورة نجدها تتضمن عدم قدرة الجمعية العامة على إيقاف أي عضو اتخذ مجلس الأمن بحقه إجراءً احتياطياً أو منعاً عن مباشرة حقوق عضويته ومزاياها، وأن ذلك لا يكون إلا بناء على توصية من مجلس الأمن، وهنا يكون لمجلس الأمن أن يعيد لهذا العضو عضويته .

وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى اتفاقية مونترو لسنة 1963 بشأن تنظيم حركة عبور السفن سواء الحربية أو التجارية في مضائق البوسفور أو الدردنيل، والتي بموجبها تتمتع تركيا بسلطة تنظيم الحركة البحرية بين البحر الأبيض والبحر الأسود، وهو ما قامت به تركيا فعلاً في 29 مارس 2022، حيث أغلقت مضائقها البحرية في وجه السفن الحربية للدول المطلة أو غير المطلة على البحر الأسود، في محاولة قانونية لتخفيف حدة النزاع، وتجاوز ازدواجية المعايير مع طرفي النزاع([31]).

ووفقاً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة بشأن عدم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وقواعد المسؤولية الدولية لسنة 2001، باعتبار هجوم روسيا على دولة ذات سيادة هو فعل مجرم دولياً، يترتب عليه قيام المسؤولية الدولية في حق روسيا، الأمر الذي يفرض قيامها بما تفرضه تلك القواعد من إعادة الوضع إلى ما كان عليه في أوكرانيا، وجبر الضرر الذي طال أوكرانيا.

وإنه بناءً على المادة الثالثة من قانون المسؤولية الدولية، فإن خطورة الحال تقتضي أن تتعاون الدول لوضع حد لهذا النزاع، ومنع أي محاولة لتقديم الدعم لأي من الطرفين لإطالة زمن النزاع .

الخاتمة:

في محاولة لسبر التفاصيل القانونية للحرب الروسية الأوكرانية، وتحديد مواطن عدم المشروعية فيه، تناول البحث القواعد التي تعرضت للانتهاك في هذا الحرب، وموقف القانون الدولي مما حصل أثناء أحداثها.

وخلصنا إلى أن القانون الدولي قد تعرضت فعليّاً قواعده للخرق الواضح، ذلك أن ميثاق الأمم المتحدة قد تأسس على جملة من المبادئ الأساسية، التي جاءت في إطار سعي منظمة الأمم المتحدة كمنظمة عالمية للحفاظ على استقرار العلاقات الدولية، بعد ما عانت الرقعة العالمية من حربين كادت أن تفنى على آثارهما البشرية .

وأن القانون الدولي بموجب قواعده قد جرّمت فعلاً الحرب الروسية الأوكرانية، واعتبرها فعلاً غير مشروع يهدد السلم والأمن الدوليين، ولكن صياغة الميثاق المتمثلة في حق الفيتو الروسي، جعل مجلس الأمن -باعتباره الجهاز الرسمي المكلف بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين- يقف عاجزاً عن اتخاذ قرار يُوقف هذا النزاع ويُنفذ عقوبات حقيقية وصارمة بحق الدولة المعتدية.

وبالحالة هذه، فإننا نصل إلى مُسلّمة لا يمكن تجاهلها تتمثل في هشاشة وبدائية القانون الدولي المعاصر، وقابلية قواعده للانتهاك بموجب نصوصٍ موجودة في ذات الميثاق، فهذا النظام القانوني تنقصه السلطة التنفيذية والتشريعية وإلزامية أحكام القضاء الدولي مقارنة بالقوانين الداخلية، الأمر الذي جعله لعبة يتم تطويعها حسب مصالح الدول العظمى، وسبغ آلياته بتهمة ازدواجية المعايير .

وهنا يبرز حق الفيتو الذي تمتلكه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن كوسيلة مُعطّلة ومُعرقِلة لمهام مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين، ولعل أحداث الحالة محل البحث خير شاهد على عجز مجلس الأمن في تحقيق أي إنجاز في التخفيف من حدة الحرب أو إنهائها، باعتبارها تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وسابقة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة .

وهنا نوصي الجماعة ال[32]دولية بضرورة إعادة النظر في النظام القانوني الدولي الحالي من ناحية تعديل الميثاق بما يتوافق والتطورات الدولية المعاصرة، ومراجعة هيكلية الأمم المتحدة وآلياتها العاملة على إنفاذ القانون .


[1]– نشير هنا إلى تمدد حلف الناتو شرقاً، حيث وصل عدد الدول التي انضمت للحلف من الجمهوريات السوفيتية والتشيك والمجر وبولندا والجبل الأسود ومقدونيا بين عامي 1999 و2020 نحو 14 دولة، تُشكّل تقريباً نصف الدول الأعضاء في الحلف الذي تأسس عام 1949، ولم يبقَ من الدول الفاصلة بين روسيا والناتو سوى بيلاروسيا وأوكرانيا .

[2] – خمس حقائق عن النزاع الروسي الأوكراني حول بحر آزوف، 27/12/2018 ، على الرابط : www.m.dw,com

[3] – روسيا وأوكرانيا … ما هي أسباب النزاع؟، على الرابط: www.almayadeen.net

ــــ نشير هنا إلى أن ذلك يشكل بلا ريب حصاراً لروسيا داخل حدودها، وزادت مخاوفها بعد قمة الناتو في بوخارست سنة 2008 عندما أعلن الحلف تطلعه إلى انضمام أوكرانيا وجورجيا، الأمر الذي اعتبرته روسيا حرباً من الغرب عليها .

يمكنك الرجوع إلى: عصام عبد الشافي، الحرب الروسية الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي، مركز الجزيرة للدراسات، 3/مايو/2022، على الرابط: www.studies.aljazeera.net

[4]– في إيطار تلك المخاوف اتجه بوتين للعمل على منع أي وجود لحلف الناتو على حدوده، حيث طلب في وثيقة أمنية في نهاية عام 2021، توقيع اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن والناتو بهدف وضع ضمانات أمنية من أجل خفض التوترات الأمنية في أوروبا وتخلي الحلف عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا وعدم انضمامهما للحلف، وكذلك وقف نشر أنظمة التسلح في الدول الملاصقة لروسيا، هذا الطلب رفضته واشنطن، فاتجه بوتين للحل العسكري.

ـــ يمكن الرجوع إلى: عصام عبدالشافي، الحرب الروسية الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي، مرجع سابق .

[5]– استطلاع الرأي في 17 ديسمبر 2021، أظهر تأييد 58% من الأوكرانيين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتأييد 54% الانضمام إلى الناتو، بينما أيد 21% فقط الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي بقيادة روسيا .

-International Republican Instiute . “Ukraine Poll Shows Support for EU/NATO Membership .Concerns over Economy and Vaccines for COVID-19 .”iri.org.December 17,2021 . “accessed March 26.2022”. http//bit.ly/3NHgy3g

[6] – روسيا وأوكرانيا … أهمية حيوية واستراتيجية لجسر كيرتش، 10/10 / 2022 ، على الرابط: www.m.dw.com

[7] – بيان ثلاثي غربي يرفض مزاعم روسيا بشأن “قنبلة قذرة” أوكرانية، 24/10/2022، على الرابط: www.m.dw.com

[8]– ـأوكرانيا -هجمات جوية روسية وإيران ترفض اتهامات بدعم موسكو بمسيرات، 22/10/2022، على الرابط: www.m.dw.com

[9]– ـانطلقت رائدة الفضاء الروسية أنا كيكينا كأول رائدة فضاء روسية منذ 20 عاماً، تسافر إلى محطة الفضاء الدولية “ISS “على مركبة أمريكية .

ــــ رغم العقوبات والحرب، استمرار التعاون الفضائي بين روسيا والغرب، 19/10/2022، على الرابط: WWW.M.DW.COM

[10] -Jean Delivanis . la legitime defense en droit international public . LGDJ.1971 .p25               ــ

[11]– محمد بوبوش، الإشكاليات القانونية للحرب الروسية الأوكرانية، المعهد المصري للدراسات، مارس 2022، ص 2 .

[12]– المادة الثانية من الميثاق .

[13]– تصاعد الانكماش الاقتصادي بنسبة تتراوح بين 25 و35 % حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي.

[14] – نشير هنا إلى أن 40% من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي، ونحو 33%من وارداتها من النفط مصدرهما روسيا، يمكن الرجوع إلى: عصام عبدالشافي، الحرب الروسية الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي، مرجع سابق.

[15] – محمد بوبوش، الإشكاليات القانونية للحرب الروسية الأوكرانية، مرجع سابق .

[16]– منصور ميلاد يونس، مقدمة في دراسة العلاقات الدولية، منشورات جامعة ناصر، 1991، ص 185 .

[17]– نفس المرجع، نفس الصفحة .

[18] – المرجع نفسه، ص 187 .

[19]– محمد الناصر بوغزالة، المساواة في السيادة في ميثاق الأمم المتحدة، مجلة العلوم القانونية، جامعة الشهيد محمد لخضر بالوادي، العدد الخامس عشر، جانفي 2017، الجزائر، ص 3 .

[20]– حسام أحمد محمد هنداوي، القانون الدولي العام وحماية الحريات الشخصية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1992، ص 80.

-[21] محمد الناصر بوغزالة، المساواة في السيادة في ميثاق منظمة الأمم المتحدة “دراسة تحليلية نقدية”، مجلة العلوم القانونية والسياسية، العدد 13، جانفي 2017، ص 24 .

[22] – يتكون مجلس الأمن من (15) خمسة عشر عضواً، منهم الخمسة الدائمون، وعشرة أعضاء غير دائمين يتم انتخابهم من جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتوازن إقليمي، والرئاسة تكون لمدة شهر بالتناوب بين الجميع .

[23] – الحماية الدولية لحقوق الإنسان في إطار منظمة الأمم المتحدة والوكالات الدولية المتخصصة، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2005، ص100 .

[24] – روسيا وأوكرانيا: ما هو مجلس الأمن وما آلية عمله؟، 7/4/2022، على الرابط: www.bbc.com

[25] – دعمت أكثر من 100 دولة هذا الاقتراح، ودول أخرى طالبت بإلغاء هذا الحق نهائياً .

[26]– وقال السفير الفرنسي في هذا الشأن: “إن هذه الجلسة الخاصة هي خطوة جديدة مهمة للدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ….. “، أنظر في : www.news.un.org

[27]– علق الأمين العام للأمم المتحدة على ذلك بقوله: “الميثاق واضح، وأي ضم لأراضي دولة من قبل دولة أخرى نتيجة التهديد باستعمال القوة أو استخدامها هو انتهاك لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي “. في حين تدافع روسيا عن الضم وتراه متفقاً مع مبادئ الميثاق الدولي .

[28]– محمد يوسف، الاجتياح الروسي لأوكرانيا وتداعياته من منظور القانون الدولي، المركز العربي الديمقراطي، 12 /ابريل / 2022، على الرابط www.democraticac.de

[29]– نشير هنا إلى أن روسيا قد وقعت على نظام روما في 13 سبتمبر 2000، وذلك لا يجعلها طرفاً فيه، فهي حتى تكون ملزمة يجب أن تقوم بالمصادقة عليه، ويكون نافذاً بعد مصادقتها في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع تلك الدولة صك التصديق، هذا وهي قد سحبت توقيعها في 16/11/2016، الأمر الذي جاء عقب انسحاب دول أخرى، ويشكل تقليلاً من أهمية المحكمة وفاعلية دورها .

وعللت روسيا انسحابها من المحكمة بعدة اتهامات وجهتها إلى المحكمة، منها مثلاً افتقارها للاستقلالية، وأنه رغم مضي فترة طويلة منذ إنشائها غير أنها لم تنجز سوى القليل جداً من الأحكام، وإن كان السبب الحقيقي هو خوفها من مساءلة قادتها العسكريين.

[30]– ـبسيوني محمد شريف، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003، ص 120 .

[31] – ومحمد يوسف، الاجتياح الروسي لأوكرانيا وتداعياته من منظور القانون الدولي، مرجع سابق .

 

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى