أوراق و دراساتسياسية

الأزمة الليبية: الفواعل المحركة للصراع والمسارات المستقبلية

د. محمد القايــدي

باحث في الفكر السياسي بمدينة باجة التونسية، متحصل على درجة الماجستير والدكتوراه اختصاص (شريعة وقانون) من جامعة الزيتونة / تونس، له العديد من الإصدارات والمشاركات في الندوات والمؤتمرات الدولية، من بين أهم إصداراته، النزاع الروسي / الاوكراني (بين حلم التاريخ وفخ الاستراتيجيات الدولية – دار أكوان للنشر والتوزيع-مصر 2022.

الملخص:

 تُعتبر الأزمة الليبية أحد أبرز الأزمات التي تشهدها المنطقة العربية، وذلك بالنظر لتداعياتها المختلفة على الأمن والاستقرار في الإقليم، فالدولة الليبية في عهد الملكية وفترة القذافي لم تحظَ بعقد اجتماعي حقيقي يُجذر مفهوم المواطنة ويؤدي إلى نجاح مشروع الدولة الحديثة في البلاد ممّا جعل الحكم يختزل في الأشخاص فلم تبنى مؤسسات حقيقية وغاب مفهوم الدّولة. ولذلك انتهت الثورة الليبية بسرعة إلى أزمة عميقة عنوانها الأكبر انقسام مؤسسي خطير تمثل بوجود حكومة في الشرق الليبي، تقابلها حكومة الوفاق الوطني في الغرب ورغم انتهاء المهلة القانونية للمؤسسات القائمة فلم ينجح الفرقاء السياسيون في طي صفحة الانقسامات والتوافق على دستور جامع وقانون انتخابي للذهاب إلى انتخابات عامة تجدد المؤسسات المنتهية.

من أجل ذلك يسلط الباحث الضوء في هذه الورقة على طبيعة الأزمة الليبية وأبرز التحديات التي أفرزها المشهد السياسي المتشظي من أجل استشراف المسارات المستقبلية للوضع الليبي.

ويتطلع الباحث من هذه الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف منها: توضيح خلفيات هذا الصراع الخطير وأهم تحدياته، وقد اعتمد الباحث في دراسته لتحقيق الأهداف على المنهج التاريخي والتحليلي. وفي الخاتمة توصلت الدراسة لمجموعة من النتائج من أبرزها: أهمية فهم هذا الصراع وإعداد الرؤى الاستباقية لكل المآلات الممكنة لهذه الأزمة. لذلك أوصى الباحث بضرورة تتبع مسارات هذه الأزمة وتشجيع لغة الحوار لفض النزاعات والعمل على إقامة انتخابات عاجلة كفيلة بحقن دماء الليبيين وتجديد مؤسسات الدولة.

كلمات مفتاحية: الأزمة الليبية – ليبيا – حكومة الوفاق – الثورة الليبية – خليفة حفتر.

الأزمة الليبية: الفواعل المحركة للصراع والمسارات المستقبلية

د. محمد القايــدي / الجامعة الزيتونية (تونس)

الملخص:

 تُعتبر الأزمة الليبية أحد أبرز الأزمات التي تشهدها المنطقة العربية، وذلك بالنظر لتداعياتها المختلفة على الأمن والاستقرار في الإقليم، فالدولة الليبية في عهد الملكية وفترة القذافي لم تحظَ بعقد اجتماعي حقيقي يُجذر مفهوم المواطنة ويؤدي إلى نجاح مشروع الدولة الحديثة في البلاد ممّا جعل الحكم يختزل في الأشخاص فلم تبنى مؤسسات حقيقية وغاب مفهوم الدّولة. ولذلك انتهت الثورة الليبية بسرعة إلى أزمة عميقة عنوانها الأكبر انقسام مؤسسي خطير تمثل بوجود حكومة في الشرق الليبي، تقابلها حكومة الوفاق الوطني في الغرب ورغم انتهاء المهلة القانونية للمؤسسات القائمة فلم ينجح الفرقاء السياسيون في طي صفحة الانقسامات والتوافق على دستور جامع وقانون انتخابي للذهاب إلى انتخابات عامة تجدد المؤسسات المنتهية.

من أجل ذلك يسلط الباحث الضوء في هذه الورقة على طبيعة الأزمة الليبية وأبرز التحديات التي أفرزها المشهد السياسي المتشظي من أجل استشراف المسارات المستقبلية للوضع الليبي.

ويتطلع الباحث من هذه الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف منها: توضيح خلفيات هذا الصراع الخطير وأهم تحدياته، وقد اعتمد الباحث في دراسته لتحقيق الأهداف على المنهج التاريخي والتحليلي. وفي الخاتمة توصلت الدراسة لمجموعة من النتائج من أبرزها: أهمية فهم هذا الصراع وإعداد الرؤى الاستباقية لكل المآلات الممكنة لهذه الأزمة. لذلك أوصى الباحث بضرورة تتبع مسارات هذه الأزمة وتشجيع لغة الحوار لفض النزاعات والعمل على إقامة انتخابات عاجلة كفيلة بحقن دماء الليبيين وتجديد مؤسسات الدولة.

كلمات مفتاحية: الأزمة الليبية – ليبيا – حكومة الوفاق – الثورة الليبية – خليفة حفتر.

مقدمة:

لا تزال الأزمة الليبية تؤرق الشعب اللّيبي وبلدان الجوار عمّا تسببت به من كوارث سياسية وعسكرية وأمنية وإنسانية، ومأساة هي الأسوأ في تاريخ ليبيا الحديث. فقد أصبحت هذه الأزمة تمثل بؤرة توتر في العلاقات الدّولية ونقطة تقاطع لمصالح الفاعليين الإقليمين والدوليين. فبعد أكثر من عقد من الصراعات والحروب الداخلية لم ينجح الفرقاء السياسيين الليبيين في التّوصل إلى حل ينهي حالة الانقسام التي باتت تهدد النسيج الاجتماعي ولم توفر المبادرات المختلفة حلولاً ترضي مختلف الأطراف فتضع حداً لهذه الأزمة الحادة. ومع ما شهده العالم من تغيرات كبرى التي قد تُؤثر على مستقبل النظام العالمي، وخريطة التحالفات الإقليمية والدّولية يتفاءل كثيرون بقرب التوصل إلى حل لهذه الأزمة .

وتأتي هذه الورقة لتذكر بطبيعة هذه الأزمة والخلفيات المحركة لها ثمّ لتبحث في المسارات المستقبلية التي يمكن أن تؤول إليها الأوضاع في ليبيا، وذلك ضمن سؤال مركزي: ماهي المتغيرات المؤثرة على المشهد السياسي والآفاق المستقبلية لعملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا؟

إن الأزمة السياسية الليبية التي يعيشها المجتمع الليبي بعد أكثر من عقد من الزمان بعد انهيار نظام حكم القذافي ليست وليدة الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة، بقدر ما هي أزمة بنيوية أصيلة ومتجذرة في بنية السلطة السياسية منذ سنوات طويلة جداً، ولكن سقوط نظام القذافي عام 2011 ساهم في تفجرها نتيجة انهيار القبضة الشمولية للسلطة على الحكم، فأغلب النظم الشمولية والسلطوية تعاني أزمات سياسية مشتركة تسمى في الأدبيات السياسية بأزمات التنمية السياسية، من أهمها أزمة الهوية والمشاركة السياسية والشرعية والتغلغل والتوزيع العادل للثروة.

ومع مرور السنوات تزداد تعقيدات الأزمة وتضيق الخيارات بين الفرقاء السياسيين في ليبيا، خاصة بعد الانقسام المؤسسي. وتُبدي أوساط سياسية داخل ليبيا وخارجها مخاوف كبيرة إزاء هذا الوضع، وهي مخاوف.

حقيقية قد تقود البلاد إلى حالة من التقسيم تتولد عنها كيانات سياسية جديدة تزيد الوضع تدهورا وتجربة الجارة الجنوبية (السودان) ليست بعيدة على الأذهان، إذ أن ضمانات المحافظة على شرعية ومشروعية مؤسسات الدولة تلاشت تماما، ومن مظاهر تلاشيها:

1-انقياد المشهد السياسي وراء المشهد العسكري.

2-غياب القوة الموحدة عسكريا الضامنة للنظام السياسي والمحافظة على استقراره.

3-غياب الإرادة العامة الداعمة للشرعية.

ويزداد القلق تجاه مؤسسات الدولة في ظل انتشار الميليشيات المسلحة، والتشكيلات العسكرية المختلفة التي تستنزف مقدرات الدولة المادية والمعنوية. وقد ذكاها الصراع الشرس على السلطة. وقد برزت آثار وتداعيات سلبية لهذه الظاهرة على الدولة والمجتمع معا، ويمكن رصد أبرزها فيما يلي:

-توتر المزاج العام للمجتمع وسرعة الاستثارة بسبب العسكرة المجتمعية، وانتشار ثقافة العنف والقتل

التي تشبع بها الشباب جراء تعايشهم مع السلاح، وأسلوب استخدام القوة واستعراضها.

-سعى الكثير من التشكيلات المسلحة لمحاولة ملء فراغ القوة الناتج عن انهيار الدولة المركزية.

-كسر احتكار تلك التشكيلات المسلحة غير الرسمية لأهم عمل من أعمال السلطة وهو ما يسميه (ماكس

فيبر) احتكار الدولة لاستخدام القوة داخل المجتمع.

-فقدان الأمن وانعدام الأمان على المستويين الشخصي والعام.

وهذه الحالة من الفوضى تعود إلى الصراع الاجتماعي الذي تعمق في العقد الأخير بعد سقوط النظام السابق الذي أطاحت به “ثورة فبراير”، فدخلت الدولة الليبية في أزمة معقدة ومركبة، ولم تنعم البلد بواقع سياسي ومؤسساتّي يسمح بنضج الثورة وبلوغ كمالها، إذ سرعان ما أجهزت قوى خارجية على تجربة التغيير الثوري مبكراً، ولم تمنحها نَفَساً لتعبيد طريقها نحو تحقيق أهدافها والحفاظ على مكتسباتها.

فغياب النضج الوطني والمؤسسي ساهم في بعثرة المكتسبات وتلغيم الواقع الليبي، ممّا شجيع أطرافا خارجية عديدة على الاستثمار في الدم اللّيبي بتغذية الصراعات والخلافات، مستغلة حالة عدم الثقة بين الفرقاء لتحقيق أطماعها وخدمة أجنداتها السياسية وتصفية حساباتها الإقليمية والدولية على التراب اللّيبي.  وكان ذلك على حساب أولويات المشهد الليبي، واستحقاقاته السياسية والأمنية والاجتماعية.

إنّ هذه الإخفاقات زادت من تراكم المظالم التي تنضاف للمظالم السابقة التي طالت الكثير من القوى السياسية والاجتماعية. وهو ما عسّر ملف العدالة الانتقالية خاصة بعد أن أصبحت ليبيا جزءا من مخطط ترأسه قوى عربية إقليمية ودولية.

وبرغم جهود الدعم الحثيثة التي بذلتها الأمم المتحدة وبعثتها على مدى سنوات عدة، لإيجاد مخرج للأزمة القائمة، إلا أنها لم تنجز اختراقاً حقيقياً لجمع الفرقاء الليبيين وتجاوز المعضلات التي تمثل جوهر الصراع الليبي، كما لم تنجح كل المبادرات والخيارات السياسية في إحراز أي تقدم يذكر في مسار حل الأزمة، نظراً للكوابح الإقليمية والدولية ودورها في تغذية الفرقة بين الليبيين، حتى أدّت تدخّلاتها إلى مزيد من تصلّب مواقف الأطراف المحليّة في ظل عجز النخب الليبية الحاكمة عن التحرك بصفة مستقلة، فدخلت البلد في حروب بالوكالة، لصالح أجندات دولية وإقليمية، لتذهب ليبيا بعدها منقسمة على نفسها بين شرق وغرب متناحرين، ممّا جعل خيار التسوية بين الفرقاء مشكلة يصعب فك طلاسمها وحلحلة كل تعقيداتها.

وفي خضم التغيرات التي تشهدها الساحة الداخلية الليبية في مسار إنهاء الأزمة القائمة، يبدو أن هناك الكثير من المؤشرات الإيجابية التي توحي بقرب انفراج الأزمة التي طال أمدها، بعد نجاح مختلف اللّجان التي تشتغل على الملف الليبي في إحراز تقدم جعل الأمم المتحدة تتفاءل بإنجاز انتخابات مع نهاية هذا العالم  تنهي حالة الانقسام المؤسسي في أجهزة الدولة وتغلق حالة الحكم المؤقت لصالح نظام سياسي جامع لكل الليبيين ودولة مستقرة بعيدة عن التجاذبات الاقليمية والدولية تنكب على حل مشكلات الشعب الليبي الحقيقية وتحقيق التنمية والأمن والازدهار.

المبحث الأول: الخلفيات المحركة للصراع

أولاً-طبيعة الأزمة في ليبيا:

عندما يصرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في معرض رده على محاولة مليشيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر السيطرة على العاصمة الليبيّة بأن طرابلس خط أحمر وأن الجزائر كانت مستعدة للتدخل لمنع سقوط العاصمة الليبية[1]. ندرك حينها ثقل الوضع في ليبيا في الاستراتيجية الأمنية الجزائرية وحساسيته بالنسبة لبلدان الجوار.

وعندما يُشير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أن “سرت والجفرة” خط أحمر، وأنّ أي تدخل مصري مباشر في ليبيا بات شرعيا، وأن “جاهزية القوات المصرية للقتال صارت أمرا ضروريا” [2]نستشعر حينها حجم التدخل الإقليمي في الملف الليبي. 

وعندما تؤكد القائمة بأعمال بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أنسميل/UNSMIL ) ستيفاني ويليامز، عن وجود «مرتزقة أجانب على نطاق واسع» في البلاد (قدّرتها بعض التقارير بقرابة 20 ألف مقاتل أجنبي منهم 2000 من قوات فاغنر الروسية)، قائلة لأعضاء مجلس الأمن: إنّه في شهر جويلية 2020 وحده «هبطت نحو 70 طائرة في مطارات الشرق دعماً لقوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير خليفة حفتر «في حين أُرسلت 30 طائرة إلى مطارات في غرب ليبيا» دعماً لـ«حكومة الوفاق الوطني» برئاسة فايز السراج. وهي نشاطات «تشكّل خرقاً خطيراً لسيادة ليبيا، وانتهاكاً صارخاً لحظر التسليح الذي فرضته الأمم المتحدة» على هذا البلد عام 2011.[3] عندها نتيقن أنّ الأزمة الليبية معقدة كثيرا، تتداخل فيها أطرافا إقليمية ودولية جعلت من التراب اللّيبي ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدّولية. وهو ما قلص من حجم الأطراف اللّيبية في الصراع وجعلها لا تشكل عوامل محدِّدة في الأزمة الناشبة في البلاد. وانعكست الاستقطابات المختلفة الإقليمية والدولية على الساحة الليبية وحالت دون قيام نظام سياسيّ مستقر يستجيب للمطالب المجتمعية منذ ثورة 17 فيفري عام 2011 وهذه التعقيدات تتمظهر في:

– استقطاب إقليمي يتمثل في محور الإمارات العربية المتحدة – السعودية – مصر – إسرائيل ويقابله محور قطر – تركيا.

-استقطاب أوروبي على الملف الليبي بين فرنسا وإيطاليا

-استقطاب دولي بين روسيا والولايات المتحدة

وتتَّسمُ الأزمة الليبية بالتداخل والتعقيد في الوقت نفسه، حيث ترقى إلى مستوى الأزمة الإقليمية بل والدولية في الوقت ذاته. وعلى الرغم من أن العديد من القوى الإقليمية والدولية أيَّدت في البداية ثورة فيفري ضد القذافي، إلا أن أغلبها تراجع عن ذلك وساهم في دعم الثورة المضادة منذ 2014 م. ومع أن ليبيا شهدت عملية تحول ديمقراطي ملحوظة خلال السنوات، 2012 -2014 م، إلا أن الحرب الداخلية قد اندلعت في الشرق والجنوب والغرب الليبي منذ 2014 م الأمر الذي زاد الأزمة تعقيدا.

كل هذه العوامل والتناقضات الإقليمية والدّولية جعلت من الأزمة اللّيبية أزمة إقليمية ودوليّة تتشابك خيوطها وتتعقد أوراقها ومن ثمة يظل مستقبل الدولة الليبية مرهونًا بتفاعلات وتدخلات الأطراف الخارجية في الأزمة وقدرتها على الوصول إلى محاصصة مُرضية في الموارد الليبية، ولا سيما قطاع الطاقة، كما يتضح حاليًا في تنافس الشركات الكبرى، وبعض القوى الإقليمية، على إنتاج البترول والغاز وتصديرهما منذ جويلية 2020، فضلا عن تطمينات كافية للقوى الإقليمية (خاصة في مستوى الملف الأمني)، ومن ثم القدرة على ضبط مواقف الأطراف الداخلية المتناحرة وصولًا إلى تسويةٍ سياسيةٍ تمضي في مسار مقلوبٍ، في واقع الأمر، نهايةً بتحقيق قبول شعبي للتسوية وإقامة مؤسسات “ديمقراطية” تتفق مع مخرجات هذه المحاصصة وضوابطها[4].

ورغم تقارب خطابات القوى المختلفة وتقاطعها على جملة من المبادئ الأساسية التي تحكم مستقبل العملية الحوارية من مثل وحدة الأراضي الليبية، والحفاظ على أمنها، واستقرارها، وضمان انتقال سياسي سلمي بها، وشمول كل أطراف النزاع الليبية في التسوية النهائية للأزمة التي رعتها الأمم المتحدة، عبر خريطة طريق أممية تم إقرارها في سبتمبر 2017. فإنّ الخروج من الأزمة يظل مرهونا باستيعاب المعادلة الصعبة المتحكمة في الأزمة اللّيبية وتحقيق جملة التوافقات اللازمة بين مختلف الأطراف وطنيا وإقليميا ودوليا.

فالأزمة الليبية في الوقت الراهن هي إحدى أكثر الأزمات الإقليمية حساسية سواءً على المستوى العربي أو الإفريقي، فمنذ سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا سنة 2011 ورغم تعاقب 11 حكومة، لم تعرف الدولة الليبية شكلا مستقرا لنظامها السياسي حيث تفجرت أزمة شرعية كانت الأساس لأزمة سياسية عميقة تطورت فيما بعد إلى صراع عسكري يتفاوت في حدته من فترة الى أخرى، ويتأثر كل ذلك بالتدخلات الإقليمية والدولية وعدم القدرة على السيطرة على توريد السلاح بالرغم من القرارات الأممية المتعددة وتعدد المؤتمرات الدولية.

ويتضح مما سبق، أن الأزمة الليبية تتسم بالخصائص التالية:

1-أنها تطورت من المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي والدولي في وقت قصير.

2-ليست أزمة بين دولتين ذات سيادة، بل هي أزمة بين طرفين وطنيين متنازعين تدعمهما قوى إقليمية وعالمية.

3-إنها تعكس سلسلة متصلة من الأحداث هي أقرب إلى الحرب منها إلى السلام.

4-على الرغم من قيام الحرب الداخلية الليبية، إلا أنه يلاحظ وجود وقت سمح للشعب الليبي بالمشاركة السياسية، مثل انتخابات مؤتمر الشعب العام في 2012 م، ومجلس النواب ولجنة صياغة الدستور في 2014 كما استمرت وتيرة الانتخابات البلدية بعد 2014 ،حيث انتخب مثلاً العديد من المجالس البلدية.

5-المخاوف من حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية، مثل صراع تركيا ضد مصر وفرنسا وروسيا.

6-على الرغم من أن التدخل الأجنبي في 2011 كان في الأساس موجهاً ضد نظام القذافي، إلا أن التدخل الخارجي منذ عام 2014 أصبح موجها لنصرة الثورة والثورة المضادة.

7-إن التدخل الأجنبي في الأزمة الليبية يكون إما بأسلوب معلن أو غير معلن.

8-أدت الأزمة الليبية إلى أزمات فرعية على المستويات الوطنية، مثل الأزمات الاقتصادية والمالية والإنسانية والمالية.

9-أدت الأزمة الليبية أيضًا إلى قلق عالمي حول زيادة حدة الإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان، وزيادة تدفق المرتزقة إلى ليبيا، وارتفاع وتيرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

10-أدت الأزمة الليبية إلى تحالفات جديدة وإعادة تحالفات بين القوى الإقليمية والعالمية على أساس المصالح المتبادلة وترتيبات مختلفة لتوازن القوى:[5]

أ-الجذور العميقة للأزمة الليبية:

تبدو الأزمة الليبية للكثير من المراقبين عصية على الفهم، نظرًا لصعوبة تحديد مآلات الأحداث وفق المؤشرات المتعارف عليها، فضلًا عن حالة السيولة المخاتلة التي توحي بعكس مسار الأحداث، إضافة إلى هشاشة التحالفات وتغيرها باستمرار، فأصدقاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد، إلا أن الأمر اللافت في الأزمة الليبية ليس فقط تداخل العامل الخارجي بالداخلي، بل في تعويل الداخل على الخارج وبشكل يكاد يكون كليًّا، إلى حدِّ أن معظم الفاعلين المحليين الليبيين لا يثقون في قدرات المفاوض الليبي، ويرون أن الحل لا يمكن إلا أن يكون خارجيًّا، عكس نهايات الحروب الأهلية الثلاثة والستين التي عرفها عالمنا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي دارت سبع وأربعون منها في العالم الثالث.[6]

إنّ سطوة حضور العامل الخارجي في الأزمة الليبية، عملت على إخراج الأمر برمته من أيدي الليبيين، وأحال الفاعلين المحليين المتصارعين على الشرعية والنفوذ والسلطة إلى وكلاء حرب بالإنابة عن صراع إرادات دولية اختلطت فيه التطلعات الجيوسياسية لقوى إقليمية صاعدة تحاول أن تلعب دورًا، مع إرادة اللاعبين الكبار لإعادة رسم خريطة المنطقة بعد فيضان ما سمي بالربيع العربي. وبين هذا وذاك، انخرطت في وحل الأزمة الليبية دول ترى أن تداعيات الأزمة الليبية أصبحت تشكِّل تهديدًا جديًّا لأمنها واستقرارها. لذا، يعد المراقبون الأزمة الليبية نموذجًا غاية في التكثيف للعبة الأمم! ومرَدُّ استعصاء وصعوبة فهم المشهد الليبي، حسب عديد الدراسات، أمور عديدة، يورد (الحسين الشيخ علي) أبرزها، وهي عوامل أربعة:[7]

ب -الميراث الكارثي لحقبة الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي: وهو الذي ترك ليبيا دون مؤسسات حقيقية كما هو متعارف في جميع دول العالم. ذلك أن أربعة عقود من السياسات العبثية والارتجالية، في إبحار عكس التيار، جعلت أجيالًا من الليبيين لا ترى في السياسة غير العنتريات والمعارك الوهمية، والخطب الحماسية، أورثت أجيالًا من الليبيين هذا الخلط المريع بين الثورة والدولة.

ج-ضعف التجربة السياسية: حيث تم حل الأحزاب السياسية في أقل من شهرين من نشأة دولة الاستقلال في 19 فبراير/شباط 1952، وفي العام 1972 تم تجريم الحزبية[8] وسن قانون تنص مادته الثالثة على عقوبة الإعدام لكل من دعا الى إقامة تجمع أو تنظيم حزبي.

د-الدولة الريعية: قبل حقبة النفط، كان معظم الليبيين يعيشون في القرى والنجوع والواحات بعيدين عن أي ارتباط بالدولة المركزية في الحواضر الشمالية. لكن الوضع اختلف تمامًا مع حقبة النفط مطلع ستينات القرن المنصرم؛ حيث سيطرت الدولة على النشاط الاقتصادي وأصبح المواطن معتمدًا بشكل كلي على الراتب والهبات والعطايا الدورية للدولة الريعية.

هـ-ميراث البداوة: عمل الآباء المؤسسون على التأصيل المرحلي للدولة المدنية لنقل المجتمع الليبي من مرحلة البداوة إلى التحضر والتمدن، والمخرجات على ضعفها تشي بجهد لا يخفى لتمدين المجتمع الليبي في حقبة الملكية، وتم هذا في مقابل عملية الإبحار العكسي التي جذَّرها نظام القذافي حيث حرص طيلة عقود أربع على بَدْوَنَةِ الحواضر الشمالية لليبيا، وجعل البداوة بقيمها ومثلها تكتسح الشارع الليبي. من أبرز تمظهرات عقلية البداوة على المستوي السياسي أنها لا تقيم وزنًا لمؤسسات الدولة ولا تحفل بنظام التقاضي، واعتادت على أخذ الحق باليد وبالقوة.

لقد مرَّت الأزمة الليبية منذ العام 2011 وحتى الآن بمراحل عدة، لعل أعنفها المرحلة الأخيرة (من العام 2014 إلى يوم النّاس هذا) والتي بدأت بانقسام البرلمان الليبي إلى كتلتين، تدَّعي كل منهما الشرعية وتمثيل الشعب الليبي، وجرى اختزال الصراع في ليبيا في هذه الطرفين الرئيسيين، اللذين دارت حولهما الأحداث والوقائع.[9]

ثم تطور الأمر حكومتان في البلاد، برلمان وحكومة مستقلة في الشرق الليبي يرأسها عبد الله الثني، يقابلها حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الغرب، يقودها رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، وتداخلت في نطاقهما ليس السياسة والأيديولوجيا فقط، وإنما أيضاً المصالح والأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية المحلية والخارجية، في إطار التجاذب الكبير[10]

وعلى الرغم من الجهود الأممية من أجل دفع الفرقاء الليبيين باتجاه إنهاء الأزمة القائمة، إلا أنها لم تتحقق

لأسباب مختلفة، أهمها:

 أ- عدم وجود سيادة حقيقية للدولة الليبية : تمكنها من الإفلات من سيطرة بعض القوى الخارجية الإقليمية والدولية، والتحرر من تأثيرها، لذلك، يصعب الحديث عن حكومة ليبية حرة الإرادة ضمن معطيات الوضع الحالي، بسبب تبعية بعض الأطراف السياسية للخارج، لا سيما وأن بعض اللاعبين المحليين باتوا مجرد أدوات مرتهنة واقعاً وسلوكاً للخارج، وتحت سيطرة دول عربية وإقليمية، فأصبحت مجرد منفذ لأوامر تلك القوى الخارجية، وهو ما جعل المصالحة بعيدة عن التحقق من هذه الزاوية.

ب- أسهمت الخلافات السياسية والأيديولوجية بين القوى والأحزاب السياسية وتباين مصالحها المختلفة،

حول العديد من القضايا ذات العلاقة بالشأن الليبي العام في إحداث مزيد من الانقسام والتشظي في صفوف الليبيين. هذا التناقض الحاد في الرؤى والأهداف بين الطرفين جعل من الصعوبة بمكان إيجاد صيغة للتوافق بينهما نتيجة لتغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا. فضلاً عن غياب

الثقة المتبادلة بين الطرفين، وهو ما يدفع كل طرف إلى تجنب تقديم تنازلات تفضي إلى المصالحة الشاملة.

ج- فشل معادلة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، كثير من الليبيين يعتبرون أنّه لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية وهناك تركة كبيرة من الأحقاد والمظالم التي تنخر المجتمع الليبي ووحدة صفه وثوابته الوطنية، فتعثر مسار العدالة الانتقالية عطّل بدوره مسار المصالحة الوطنية فعلى الرغم من إقرار المؤتمر الوطني العام في 2 ديسمبر 2013 القانون رقم 29 بشأن العدالة الانتقالية.[11] ولكن بقي الأمر حبرا على ورق.

د- سياسة إقصاء الطرف الآخر وإلغائه، والتي كانت سبباً رئيساً من بداية الأزمة عام 2011 وما زالت مستمرة حتى الآن، مما عطلّت صوغ أي حل توافقي، وهو التحدي الأكبر الذي يواجهه الليبيون في الوقت الراهن، لا سيما أن كثيراً من الصراعات وحالة عدم الاستقرار ناجمة عن غياب الدولة أو مرتبط بها، بفعل ممارسات الإقصاء وتأثيراتها السلبية في مسار بناء الدولة وترسيخ مؤسساتها. وهو ما يتطلب ضرورة إيجاد صيغ مقبولة تحمي مصالح كل الفرقاء وفق منطق الشراكة الوطنية.

هـ- مغذيات الأزمة: لا يمكن تجاهل ممارسة بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية، التي لعبت أدواراً سلبية تغذي حالة الخلاف والخصومة وبثّ الكراهية أو الصورة الذهنية لكلا الطرفين عن الآخر. زاد الأمر سوءًا أن هناك أكثر من فاعل إقليمي ودولي له مصالح في ليبيا ويسعى من أجل ذلك توظيف جميع الوسائل للحفاظ عليها، دون الأخذ بعين الاهتمام مصالح الشعب الليبي وحاجته لبناء تجربة تصالحية تقوم على ضرورة بناء ما دمرته الأيام الخوالي من حكم القذافي.[12]

المبحث الثاني: تحديات المرحلة الانتقالية ومسارات التسوية

أولاً-أبرز تحديات السلطة الانتقالية الليبية:

ثمة تعقيدات نوعية متأتية من طبيعة الأزمة الليبية والظروف المحيطة بها قد تعرقل نجاح الأجندة الوطنية لكل سلطة ليبية مستقبلية ستتسلم مقاليد أمور الحكم وفهم هذه التحديات واستيعابها هو يسهل على الباحثين عملية استشراف المسارات المستقبلية لهذه الأزمة ومن أهم تلك التحديات:

1-تحدي توحيد القوات النظامية: وهو أبرز التحديات التي ستواجه إدارة السلطة الجديدة، ما يتعلق

بعبء توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية، والذي يحتاج إلى مزيد من الوقت، بيد أن هناك مؤشرات إيجابية، خاصة مع تضاءل خيارات الحسم العسكري لهذا الطرف أو ذاك.

2-تحدي الاستحقاق الانتخابي: وهو مفتاح نجاح عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا وتحقيق الأمن والاستقرار والذي يعتمد نجاحه على مدى التوافق بين مختلف الأطياف والعناصر الليبية، وذلك من خلال إنجاز عدة نقاط:

أ- الإسراع في عقد مصالحة شاملة، والنظر في قضية إطلاق سراح معتقلي الرأي والسياسة القابعين في السجون منذ بداية الأزمة، وعودة المهاجرين والنازحين،  ..إلخ.

ب-مدى نجاح اللجنة العسكرية في تثبيت وقف إطلاق النار وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وهو أمر مطلوب تحقيقه لإنجاز متطلبات الاستحقاق الانتخابي على أرضية صلبة من الوفاق المجتمعي والاستقرار الأمني.

ج-فتح باب المشاركة السياسية للجميع، ونبذ سياسات «العزل السياسي» دون إقصاء فئة أو تيار/فصيل معين، والقبول بالنتائج كما هي.

3-التحديات العابرة للحدود: إذ خلال عشر السنوات السابقة، ومنذ اندلاع الأزمة الليبية، أصبحت ليبيا مرتكزا للقوى الخارجية والصاعدة لخدمة أجنداتها السياسية والاقتصادية، عبر توظيف أوراقها المتباينة مثل: نقل وتوطين المرتزقة بالداخل، توظيف ملف الإرهاب، استقطاب الوكلاء المحليين، الضغط على الكيانات السياسية المتنوعة لعرقلة المسارات الأممية الداعمة لاستقرار الدولة الوطنية». لذا، سيصبح أمام السلطة الانتقالية الجديدة تحدٍ نوعي يتطلب مزيدا من التحركات لتطويق مثل تلك الممارسات للفواعل الخارجية والحد من أدوارها بالداخل المحلي –جنبا إلى جنب-مع البناء على التفاهمات الليبية بالإضافة لمخرجات اللجنة العسكرية وما انتهت إليه الحوارات السياسية للأطراف الليبية في كل من مصر والمغرب وتونس.

4-تحدي الأدوار النوعية للميليشيات المسلحة: يرتكز ذلك التحدي على ثلاث نقاط أساسية، الأولى: مدى تعاون التشكيلات المسلحة وانصياعها للمشهد السياسي الجديد، وعدم تدخلها في عمل المجلس والحكومة أو ابتزازهم. الثانية: تحدي نجاح «الحكومة الجديدة في ترسيخ العمل على احتكار امتلاك الدولة للسلاح، ممثلة في جيشها وشرطتها عقب إنجاز تعهد توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية، والثالثة: احتواء نمط «العسكرة الهجينة والإسراع بإنجاز التعهد الأممي الخاص بتفكيك الميليشيات المسلحة وإنهاء وجود قوى المرتزقة. فعلى سبيل المثال: ثمة رصد ميداني حول استمرار التوترات الأمنية بين ميليشيات طرابلس، إذ دخلت بعض الميليشيات في مواجهات مسلحة في إطار الصراع المستمر على النفوذ ومناطق الهيمنة لكل منها، وهو ما يطرح تحديًا كبيرًا متعلقًا بموقف تلك الميليشيات، سواء من عملية توحيد المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، بالإضافة لاختبار قدرة السلطة التنفيذية الجديدة على ضبط واحتواء تلك الميليشيات.

5-تحدي غياب القاعدة الدستورية: فمن المرجح أن تظل أزمة بناء دستور توافقي وجامع لكل الأطياف من أهم التحديات التي تنتظر الطبقة السياسية الليبية خاصة بعد انقضاء مهلة التعهدات السابقة للاتفاق على قاعدة دستورية منظمة للاستحقاقات دون الوصول لنتيجة مرضية.

6-تحدي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: إحدى أهم الملفات الشائكة التي ستواجه كل سلطة جديدة متمثلة في تحدي إنجاز التعهد الخاص بالمصالحة الوطنية بين القبائل ومختلف الأطراف بالمعادلة الليبية، بما تشمله من تقديم تعويضات للمتضررين، وعودة النازحين والمهجرين إلى منازلهم، بالإضافة إلى معاقبة المتورطين في جرائم القتل والاغتيالات منذ إسقاط النظام السابق عام 2011.

7-تحدي الأطراف الخارجية: إذ ستُختبر قوة كل حكومة جديدة بمدى نجاحها في «فك الارتباط مع الدول الخارجية التي استطاعت إخضاع الفاعلين السياسيين لأجنداتها هذا فضلا عن إدارة المشهد السياسي بحيادية، ومد جسور الثقة مع مختلف الأطياف بالمعادلة الليبية -خاصة قيادة الجيش-وإنجاح مسارات عمل مختلف اللجان، ومنح رسائل طمأنة لجميع الدول المشتركة بحلحلة الملف الليبي بألا تنحاز لمصلحة دولة على حساب الأخرى.

8-تحدي توحيد المؤسسات الاقتصادية: حيث يتمثل في نجاح الحكومة الجديدة في حلحلة الأزمة المالية والاقتصادية، وتقويض أذرع الفساد بالداخل الليبي؛ وذلك بالدفع نحو إنجاز التعهد الخاص بتوحيد المؤسسات المالية والاقتصادية، حيث بناءً على مخرجات الاجتماع بين حكومة الوفاق والحكومة المؤقتة في البريقة في جانفي 2021، شُكلت لجنة تحت اسم اللجنة المالية الموحدة تكون مهمتها الرئيسة إقرار ميزانية 2021، في إطار الحديث عن «توحيد الميزانية العامة للدولة الليبية لذلك فإنّ تحدي “توحيد المؤسسات الاقتصادية” وتحدي «الاتفاق على ميزانية موحدة سيبقى هو الخطوة الأبرز ضمن مجموعة الإصلاحات اللازمة لوضع ترتيبات اقتصادية أكثر ديمومة وإنصافاً وخضوعاً للمساءلة في ليبيا، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تحسين الحوكمة المالية وإدارة عائدات النفط.

9-تحدي دعم المجتمع الدولي: ويتمثل في مدى صدق/فاعلية تعاون «المجتمع الدولي» مع «السلطة المرتقبة لإنجاز متطلبات خريطة الطريق المتفق عليها سابقا، وما انتهت إليه الحوارات السياسية الليبية المختلفة في جنيف-فيفري 2021، وكذا لإحداث التوازن المطلوب خارجيا وتقويض ومحاصرة تحركات المعارضين داخليا:

-مسارات الحل السياسي في ليبيا:

أربعة مسارات رئيسة ستكون داعمة لأجندة الاستقرار السياسي، وبالتالي إنجاز الاستحقاق الانتخابي وتشكيل حكومة جديدة جامعة وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وهي مسارات ضرورية وعاجلة:

1-المسار السياسي: والذي ينقسم بدوره لجزأين،

  • الأول: لجنة الحوار السياسي الرئيسة والتي تكونت من ممثلين عن أقاليم ليبيا الثلاث «برقة -طرابلس -فزان.
  • §     بينما الثاني: لجنة اختيار شاغلي المناصب السيادية 13+13 المنبثقة عن مجلسي النواب والمجلس الأعلى للدولة لاختيار شاغلي هذه المناصب وفقاً للمادة 15 من اتفاق الصخيرات، واتخذت من مدينة بوزنيقة المغربية مقراً لاجتماعاتها.

2-المسار الدستوري: والمكون من لجان شكَّلها مجلسَا النواب والأعلى للدولة من أجل العمل على إيجاد قاعدة دستورية لإجراء الاستحقاقات الانتخابية.

3-المسار الاقتصادي: وذلك بمواصلة عمل اللجنة التي تكونت من وزيري المالية بحكومتي السراج والثني ومحافظي المصرف المركزي لتوحيد الموازنة العامة للدولة، وتوحيد المؤسسات المصرفية في البلاد.

4-المسار العسكري: والذي انطلق بأعمال اللجنة العسكرية ( 5+5 )المكونة من خمسة عسكريين من كل جانب بهدف الوصول لتوحيد العسكريين تحت مظلة واحدة تعمل على خروج المرتزقة من البلاد وتنفيذ وقف إطلاق نار دائم في ليبيا.

المبحث الثالث: الأزمة الليبية والمسارات المستقبلية:

أولاً-مأزق الملف الليبي واللاعبين الجدد:

وصلت الأزمة الليبية إلى مفترق طريق جديد بين الراغبين في الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية 2023، وبين من يتحركون باتجاه مرحلة انتقالية أخرى تبدأ بتغيير السلطة التنفيذية بما فيها المجلس الرئاسي والحكومتين المتنازعتين.

فبعد أن نشر مجلس النواب الليبي تعديل الإعلان الدستوري بالجريدة الرسمية قبل مصادقة المجلس الأعلى للدولة عليه وهو ما اعتبره البعض مؤشر على انهيار التوافق بين فريق الشرق وفريق العاصمة طرابلس.وأكد رئيس المجلس النيابي عقيلة صالح من العراق أن مجلس النواب هو “الجسم الشرعي الوحيد المعترف به دوليا”، وهي رسالة سياسية مضمونة الوصول للمحور السياسي في غرب ليبيا رد عليها نائب رئيس المجلس الرئاسي مباشرة واعتبر أن الذهاب من جديد لانتخابات دون تفاهمات سياسية وتوافق على قاعدة قانونية جامعة هو بمثابة عملية عبثية لا تقدم حلا لليبيين. وهو الأمر الذي دعا حزب “العدالة والبناء”[13] للمطالبة بتولي المجلس الرئاسي وضع قاعدة دستورية تكون مدخلا لانتخابات عامة تجدد الأجسام السياسية الحاكمة في ليبيا بعد فشل مجلسي النواب والدولة في التوافق عليها.

ولا يبدي المجتمع الدولي حماسة لمقترح عقيلة صالح بتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، لأنه سبق وأن جرب اللّيبيون 11 حكومة منذ ثورة فيفري 2011، دون أن يحسم ملف الانتخابات.فالحل في ليبيا -وفق عدة دول مهتمة بالملف -هو الذهاب إلى انتخابات وفق قاعدة دستورية وقوانين متفق عليها، بينما إعادة تشكيل مجلس رئاسي وحكومة جديدين لن يؤدي سوى إلى الدخول في مرحلة انتقالية جديدة.وهذا ما عبر عنه نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، قائلا: “أي عملية سياسية تخرج بسلطة تنفيذية جديدة لن تصل بليبيا إلى بر الأمان، بل لجسم جديد يحكم لفترة أخرى دون إجراء انتخابات”.[14]

فسيناريو تشكيل حكومات جديدة أصبح مكررا في ليبيا، إلى الدرجة التي أصبح فيها من السهل توقع نتائجه ومآلاته، وفق ما أسمته المستشارة الأممية السابقة ستيفاني وليامز، “لعبة الكراسي الموسيقية”.أي في كل مرة يخرج واحد من اللعبة بعد أن يفقد مقعده، لأن المناصب لا تكفي الجميع.

لقد أخذت العملية الانتخابية في ليبيا منعطفًا خطيرًا عندما سّن مجلس النواب بقيادة عقيلة صالح قانونًا انتخابيًا مثيرًا للجدل في سبتمبر 2021 من دون تصويت، وهو ما أثار استياءً كبيرًا في الأوساط السياسية الليبية، كونه صُمم خصيصًا على مقاس أشخاص بعينها (المشير خليفة حفتر)، بحسب رأي الكثيرين، ويفسر ذلك بغياب توافق في الآراء في شأن الأساس القانوني للاقتراع، وتضارب في المصالح وبعض الثغر في وساطة الأمم المتحدة، وهو ما أدى إلى فشل في إجراء الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر 2021. ووجهت الانتقادات إلى رئيس مجلس النواب والمرشح الرئاسي عقيلة صالح على أنه المسؤول عن قوانين الانتخابات التي تمثل كارثة حقيقية[15].

في 21 سبتمبر صوّت مجلس النواب على سحب الثقة من حكومة الدبيبة لأسباب تتعلق بسلبيات حول إعداد الميزانية والإنفاق الحكومي، إلا أن هذا الإجراء قوبل بالرفض داخليًا ودوليًا، اعتقادًا بأن طبيعة الحكومة ومهمتها مؤقتة، وتتمثل بتسيير أمور البلاد إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتسليم السلطة للمؤسسات المنتخبة، إذ أعلنت البعثة الأممية في ليبيا عبر بيان لها بهذا الشأن، أن حكومة الوحدة الوطنية هي «الحكومة الشرعية حتى إجراء الانتخابات.[16]

وهكذا ظلت الأزمة الليبية تراوح مكانها، ولعل من أبرز تجلياتها أنها لم تسفر في مجملها، عن نصر حاسم لطرف على حساب طرف آخر. في سياق حالة من الاستقطاب الإقليمي والدولي، وغياب إرادة دولية فاعلة لوضع حدٍ لهذه المأساة. النتيجة الأهم بعد دخول الدعم العسكري التركي في ليبيا، كانت القناعة التامة للأطراف المحلية وكذا الأطراف الخارجية المنخرطة فعليًا في الصراع الليبي باستحالة حسم الأمور عسكريًا وبعدم جدوى السلاح في إقصاء الطرف الآخر من المعادلة السياسية، ومن ثم ضرورة العودة إلى حل السياسي في ظل توازن الأوضاع ميدانيًا، وهو ما أعطى دفعة كبيرة للجهود الأممية والدولية. وأسهم في توقف المعارك عند تخوم سرت والجفرة، وفتح هامشًا لحراك دبلوماسي؛ ليصلا في نهاية الأمر إلى تفاهم يرتكز على وقف دائم لإطلاق النار، والجلوس إلى طاولة حوار بهدف الوصول إلى تسوية سياسية تنتج منها حكومة توافق جديدة تضم جميع الفرقاء. أو تسوية تجنّب ليبيا الدمار، واستنزاف طاقاتها البشرية وإهدار مواردها ومقدراتها[17]

لا شك في أن دخول أمريكا بثقلها على خط الأزمة الليبية ودعمها جهود المبعوثة الأممية بالإنابة آنذاك «ستيفاني وليامز»، كان له دور حاسم في الضغط على طرفَي الصراع الليبي وتوجيهها نحو الاتفاق بأسرع ما يمكن. وفي السياق نفسه، جاء تصريح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو رافدًا لذلك، عندما قال إن «على الدول التي تتدخل في الشأن الليبي أن تكف يدها بأقرب وقت، وتترك المجال للفرقاء الليبيين كي يصلوا إلى حلول سريعة، نظرًا إلى ما لطول الأزمة من مخاطر على أمن واستقرار ليبيا وكامل المنطقة.  وفي إثر ذلك، تم التوصل بين طرفي النزاع الليبي إلى اتفاق دائم وشامل لإطلاق النار. وتأليف لجنة عسكرية ليبية مشتركة (5+5)، تحت إشراف الأمم المتحدة، وبدعم من قوى دولية وإقليمية، كما تم التشديد على أن حل المشكلة يبقى بيد الليبيين أنفسهم.

يأتي هذا الدور في إطار حرص الولايات المتحدة على كبح الحضور والنفوذ الروسيين المتزايدين والداعمين للمشير حفتر، والحؤول دون استحواذ روسيا على السوق النفطية الليبية، وهو ما بات يؤرق أمريكا ويثير مخاوفها، وهذا ربما ما دفعها إلى التغاضي عن تدخل تركيا وتمتعها بهامش واسع في ليبيا، لوقف التمدد الروسي وحلفائه من المعسكر العربي، ومن هنا باتت أمريكا تنتظر الفرصة المواتية لدخولها على خط الأزمة الليبية بعد أن تكون رحى الصراع قد أنهكت الطرفين، وعدم قدرة أي طرف على حسم الصراع لمصلحته. فأمريكا تدعم القوى الإقليمية للحفاظ على التوازنات، بغية استنزاف القوى الفاعلة وإعادة رسم خارطة النفوذ والتوازنات، وتحتفظ بالتدخل في اللحظات الأخيرة.[18]

ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني والحصار الغربي الكبير على الروس تبقى أمريكا اليوم اللاعب الوحيد القادر على أن يقود جهدًا شاملًا من أجل التوصل إلى اتفاق مُجمع عليه من جانب جميع الأطراف المؤثرة في الساحة الليبية، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن أمريكا قادرة بصورة فريدة على دفع الفرقاء الليبيين إلى الدخول في عملية مفاوضات أساسها حسن النيات، وكذلك الضغط على الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في ليبيا كروسيا وتركيا وفرنسا ومصر والإمارات لوقف دعمها للأطراف المتنفذة على الأرض، وخصوصًا أن إدارة جو بايدن، ربما لن تتهاون مع التدخلات العبثية في ليبيا كما هي الحال مع إدارة ترامب السابقة، التي كانت تعبث بتبادل أدوار من طريق وكلائها في المنطقة. وربما أن الحل لن يأتي من قوى منغمسة في الصراع الليبي، وتشحن وتعبئ الساحة الليبية على مقاس مصالحها بعيدًا من مصالح البلد الحيوية والمصيرية.[19]

لعل أبرز التطورات في السنتين الأخيرتين التي لها علاقة بالملف اللّيبي والتي يمكن أن  ترجح سيناريوهات المستقبل الليبي هي:

-تراجع الدور الروسي في الساحة الليبية بعد تورطها في المستنقع الأوكراني ودخولها في حرب استنزاف طويلة الأمد وسط حصار رهيب وشامل سيحد من تحركاتها ومناوراتها خارج روسيا وهو ما قد يدفعها لسحب قوات فاغنار بصفة نهائية للاستعانة بهم في الساحة الأوكرانية

-دخول الطرف التركي بصفة مباشرة في الصراع بالدعم العسكري وخاصة بالمسيرات قلب موازين القوى على الساحة العسكرية ممّا عدّل الأمور على المستوى السياسي. ولعل من أبرز تداعيات الدخول التركي أنّح حجّم قوة المشير حفتر وراجع خيار الحسم العسكري الذي كان يعتبره كثيرون ممكنا على الساحة الليبية وذلك لصالح طاولة المفاوضات والحل السياسي.

– تزايد الدور الأمريكي مع قدوم إدارة بايدن للحكم بعد التخوف من التغلغل الروسي في أفريقيا وتحديدا في ليبيا.

-تزايد حاجة المجتمع الدولي للطاقة بعد الحرب الروسية / الأوكرانية وقطع الامدادات من الغاز والنفط الروسي وهو أمر لن يتحقق بدون استقرار وتفاهمات على طاولة المفاوضات وضغط من الطرف الأمريكي للتفرغ للطرف الروسي في أوركرانيا.

ثانياً-سيناريوهات معقدة:

لا شك أن الحديث عن مستقبل الأزمة الليبية في ظل هذه التشابكات والصراعات وتباين المصالح يصبح أمراً في غاية الصعوبة. فالحديث عن سيناريوهات التسوية والصراع تبدو متساوية، بالنظر إلى تداخل المسارين السياسي والعسكري في الأزمة الليبية، وهذا ما أثبتته تطورات العامين الأخيرين، فالعلاقة بين المسارين أقرب إلى علاقة الفعل ورد الفعل، ولذا تأتي النتائج على أحد المسارين “تالية” زمنياً على مسبباتها في المسار الآخر.[20]

ومن اللافت أنه كلما طال الوقت الفاصل بين التطورات التي يعرفها المسارين، كان التأثر أعمق وأشد وضوحاً. ولعل الأطراف المنخرطة في الملف الليبي بدأت تدرك هذه الآلية أو المنهج المميز للعلاقة بين الميداني والسياسي، وهو ما يفسر تصاعد النشاط الدبلوماسي والمساعي الحثيثة التي بدأت لاحتواء تداعيات التحول الميداني الجذري الذي نجم عن التدخل العسكري التركي، والذي بدأ قبل أكثر من ستة أشهر.

وما يزيد من تعقيد المشهد الليبي هو تعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة وتعارض مصالحها بشكل كبير للغاية بشكل يجعل أي حديث عن تسوية محتملة أمراً في غاية الصعوبة، وكذلك الحال بالنسبة للحسم العسكري، إضافة إلى تبدُلات مواقف هذه الأطراف بين فترة وأخرى. فمن ناحية، لا شك أن كلاً من روسيا وتركيا قد أصبحا فاعلين رئيسيين وشريكين أساسيين في مجريات الأزمة وإدارتها، سواء على المستوى الميداني أو السياسي، ولكن الصراع بينهما محتدم على الأرض. كما أن أي توافق بينهما لن يحظى بقبول الأطراف الأخرى العربية والأوروبية التي لا تريد “مسار سوتشي” أخر في ليبيا يخضع لهيمنة تركيا وروسيا فقط.[21]

إن كل هذه العوامل تجعل الأزمة الليبية مفتوحة على كل الاحتمالات من خلال:

1-سيناريو التسوية السلمية وهو أفضل السيناريوهات لأنه يجنب ليبيا مزيد من الفوضى والدماء، ويفترض هذا السيناريو حدوث توافق سياسي بين الأطراف الليبية، يستند في أحسن الأحوال إلى وجهة النظر الأممية، بحيث تتم الموافقة على إعلان جدول زمني للانتخابات في ليبيا بعد التوافق على القاعدة الدستورية وقانون الانتخابات والالتزام بمخرجاتهما وذلك في إطار اتفاق الصخيرات. وقد يتم ذلك بناء على قناعة مختلف الأطراف بتحقيق بعض مصالحها، وأن الحسم العسكري لن يتم لأي منها، وأن استمرار الوضع الحالي ليس في صالح أي طرف بمفرده. ولكن هذا السيناريو يحتاج أولاً إلى توافقات واسعة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية التي لا يهم بعضها دماء الليبيين أو مصالحهم. ولا يمكن أن ينجح هذا السيناريو إلّا إذا تمكن أعضاء البرلمان الليبي من تجاوز خلافاتهم، وتتحرروا من سيطرة عقيلة صالح والمحور المصري / الإماراتي على مجريات الأمور باستبداله، أو كبح تصرفاته من أجل الوصول إلى دستور وقانون انتخابي جامع وتوافقي يؤدي إلى إنجاز الاستحقاق الانتخابي وتجاوز حالة الانقسام المؤسسى والتشرذم في مؤسسات الدولة.وهذا السيناريو له حظوظ كبيرة بعد التدخل الأمريكي القوي في الملف الليبي لدفع الأطراف لطاولة المفوضات وفرض حل سلمي تقوده الأمم المتحدة ويكون ملزما للجميع، عبر الضغط على الأطراف الاقليمية وخاصة مصر والامارات والسعودية.

2-سيناريو التقسيم (الحالة العراقية) :الذي يبدو محتملا أيضاً مع استمرار دعم القوى الخارجية لطرفي الصراع والتدخل المباشر لمنع أي طرف من تحقيق الحسم العسكري على الطرف الآخر. وحينما يمكن أن تقسم ليبيا إلى ثلاثة كنتونات ، إقليم الشرق تحت حكم حفتر وبرلمان عقيلة صالح – إقليم الغرب – إقليم الجنوب للقبائل الجنوبية.

3-سيناريو “سورنة ليبيا”(نسبة إلى سوريا)، الذي يجري على قدم وساق، من خلال التدخل المتزايد من قبل الأطراف الإقليمية في الصراع، كأن يتدخل الجيش المصري و يقيم منطقة عازلة على طول حدوده بحجة حماية الأمن القومي ومحاربة المجموعات الإرهابية وتتدخل تركيا في الغرب بمباركة حكام طرابلس الغرب  وهو ما سيفتح الباب من جديد لنقل آلاف المسلحين والمرتزقة للتراب الليبي وخاصة من سوريا .ويخرج القرار السيادي الليبي من أيدي المحليين لصالح قوى خارجية تتحكم في مصير البلاد كما هو الأمر في سوريا وتصبح مساحات كبرى من ليبيا تحت السيطرة المباشرة لقوى خارجية

4-السيناريو العسكري المفتوح: الذي تزداد احتمالاته مع استمرار غطرسة بعض الأطراف. كأن يقوم خليفة حفتر بمغامرة عسكرية جديدة بدفع من الإمارات ومصر تكون المنطقة الوسطي والجفرة والجنوب مسرحًا لها، مما سيربك المشهد برمته، كما سبق أن قام بما يشبه ذلك في حربه على العاصمة قبيل مؤتمر المصالحة الوطنية الشامل، في أفريل 2019. وهذا السيناريو مبني على احتمال تجدد المواجهات المسلحة على نطاق واسع (تصاعد الأزمة)، ويفترض هذا السيناريو تصاعد الأزمة بين الأطراف الليبية، وزيادة التدخلات الإقليمية والدولية فيها، ومن ثم، زيادة وتيرة الفوضى، وعدم الاستقرار على نحو يصبح معه حلم ليبيا الموحدة بعيد المنال. حيث يفترض هذا السيناريو سعي كل طرف داخلي بدعم إقليمي ودولي ما إلى المواجهات المسلحة من أجل فرض السيطرة على الأرض. ورغم أنَّ هذا السيناريو نذره سهلة وحاضرة في كل لحظة إلا أن الظرف الدولي الحالي ودخول الولايات المتحدة على خط التسوية لن يسمحا بحدوثه بالشكل الكارثي كما حدث في حرب العاصمة.

5-سيناريو الوضع الحالي (لا حرب ولا حل): وهو ما يعني استمرار الوضع على ما هو عليه، ويفترض هذا السيناريو عدم التوصل إلى توافق سياسي بين الأطراف الرئيسية في ليبيا، واستمرار الصراع بين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، برئاسة عبد الحميد دبيبة في طرابلس، وبرلمان غير معترف بهذه الحكومة وداعم لحكومة أخرى ستخلف حكومة باشاغا الذي سحبت منه الوكالة، وجيش وطني برئاسة المشير خليفة حفتر، ومليشيات مسلحة منتشرة في مختلف أنحاء الدولة.

الخاتمة:

تتسم الأزمة الليبية بالتعقيد والتداخل، نظرا لتعدد أطرافها الداخلية والخارجية، فالأزمة الليبية تأثرت وستتأثر بالعوامل الداخلية والخارجية معا. ولقد وصلت الأزمة الليبية إلى مستويات خطيرة من التعقيد وأصبحت تنذر بصراع إقليمي ودولي جديد ومفتوح على الأراضي العربية. وما لم يتم تدخل الأطراف الدولية الفاعلة ولا سيما الولايات المتحدة، والأمم المتحدة لوضع حد لهذا الصراع، فإن عواقبه ستكون خطيرة على جميع القوى ومدمرة على أبناء الشعب الليبي.

وملامح هذه التسوية معروفة، وهي ترك الأمور للشعب الليبي لاختيار من يريد أن يحكمه بعملية انتخابية شفافة وذات مصداقية، وإخراج جميع القوات والميليشيات المرتزقة من ليبيا، وكذلك الجماعات المتطرفة التي لا تشكل خطر على الشرق الأوسط فقط، بل وكذلك على أوروبا.

فالأزمة اللّيبية غذّتها العديد من العوامل التاريخية والداخلية والخارجية مما جعلها بخصائص معينة:

1-لا تقتصر الأزمة الليبية على البعد السياسي، لكنها تمتد لتشمل أبعادا أمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية، مثل أزمات السيولة، والهجرة غير الشرعية، والجهوية، وخطاب الكراهية.

2-إن أهداف طرفي الصراع الداخلي والخارجي تتجسد عموما إما في محاولة فرض نموذج تسلطي للحكم، أو السير قدما في عملية التحول الديمقراطي.

 3-لقد نتج عن الأزمة الليبية منذ 2011 م فراغ سياسي وأمني ساهم فيه نظام القذافي الذي أضعف مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسات العسكرية والأمنية، وبالتالي فقد ملأ هذا الفراغ جماعاتٌ مسلحة

على المستوى المحلي، وقوى خارجية على المستويين الإقليمي والدولي.

-إن قواعد اللعبة في إطار الأزمة الليبية لم تعد في أيدٍ وطنية، بل أصبحت تحت سيطرة قوى دولية وإقليمية.

2-إن التدخل الخارجي في الأزمة الليبية قد بدأ منذ الأسابيع الأولى لثورة فيفري2011، وازداد مستوى

التدخل كمًّا وكيفا بعد 2014 عندما اندلعت الحرب على بنغازي.

ومن خلال ما تقدم فإنّ الباحث ولتعزيز فرص نجاح الاتفاق السياسي والخروج بليبيا من أزمتها الراهنة، يقترج الآتي:

1-اعتماد الحوار والتوافق خيارًا استراتيجيًا من جانب القوى الليبية كافة، فلا يجب أن يكون خيارًا تكتيكيًا مرحليًا تفرضه متغيرات ومصالح آنية ضيقة.

2-اعتماد الانتخابات المقبلة كنقطة انطلاق نحو تحقيق الوحدة الوطنية والتوافق الوطني وإعادة ترتيب البيت الليبي، والحؤول دون أن تتحول من نقطة التقاء إلى نقطة تزيد من مساحة التباعد والخلاف.

3-الضغط على الأطراف الخارجية لوقف تدخلاتها السلبية في ليبيا ومحاولاتها وضع العراقيل أمام إجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل.

4-مشاركة القوى الدولية الفاعلة في الإشراف على سير واستكمال العملية الانتخابية حتى نهاية حلقاتها، بما يضمن نزاهتها وشفافيتها، ويحول دون أي عملية تزوير لإرادة الناخبين، بحيث ينضوي في إطارها جميع قوى الشعب الليبي.

5- قبول نتائج الانتخابات واحترام إرادة الشعب الليبي، في اختيار قياداته، وتجنُّب التعامل بازدواجية مع إرادة الناخبين ونتائج العملية الديمقراطية.


الهوامش:

[1]- قال الرئيس الجزائري تبون خلال استقباله فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية السابق في06 جانفي 2020، إن “طرابلس في نظر الجزائر تعتبر خطا أحمر ترجو عدم تجاوزه” وذلك ردا على محاولة مليشيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر السيطرة عليها. (https://arabicpost.live)

 [2] –   قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم السبت 20/01/2020، أن أي تدخل مصري مباشر في ليبيا بات شرعيا، مؤكدا أن “جاهزية القوات المصرية للقتال صارت أمرا ضروريا “وجاء حديث السيسي أثناء تفقده عناصر المنطقة الغربية العسكرية بالقرب من الحدود الليبية، بحضور القائد العام للقوات المسلحة ورئيس أركان القوات المسلحة وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، وعدد من شيوخ القبائل الليبية. https://anfarabic.coml

[3]– قدمت القائمة بأعمال بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ستيفاني ويليامز تقريرها لأعضاء مجلس الأمن ذكرت فيه انتهاكات الأطراف المتداخلة في الملف الليبي وجدّدت الأمم المتحدة التعبير عن «القلق البالغ» من استمرار الانتهاكات الجسيمة للقرارات الدولية في شأن ليبيا، بعدما كشف خبراء تابعون للجنة العقوبات المفروضة على هذا البلد أن دولاً وجهات غير حكومية واصلت إرسال شحنات محظورة إلى الأطراف المتحاربة، ومنها ما يصل إلى 338 رحلة شحن عسكرية أُرسلت غالبيتها من قاعدة حميميم العسكرية في سوريا إلى مجموعة «فاغنر» بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 ويوليو (تموز) 2020، وسفن وطائرات شحن من كل من تركيا وقطر ودول أخرى https://aawsat.com/home/article  

[4]– محمد عبد الكريم أحمد، مستقبل الدولة الليبية: مسارات التسوية وتهديدات المحاصصة، https://www.alaraby.co.uk/opinion

[5]  – خشيم مصطفى عبد الله، الأزمة اللّيبية المفهوم والأبعاد، ضمن متابعات إفريقية، (مجموعة مؤلفين) مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض 1442هـ، ص 11/12.

[6]  – Richard Pallardy: List of wars, Encyclopaedia Britannica, (Publishing date: Jul 10, 2015), (Accessed: Dec 17,2020): https://www.britannica.com/topic/list-of-wars-2031197/additional-info#history

[7] الحسين الشيخ علي، الأزمة الليبية: بين صراع الإرادات الدولية والانقسام الداخلي، https://studies.aljazeera.net/ar/article/4872

[8]  – في عهد المملكة الليبية، عام 1952، دعا الملك إدريس السنوسي إلى حل جميع الأحزاب السياسية، على خلفية الاضطرابات التي وقعت في 19 فبراير/شباط بين الشرطة والمواطنين، بعد تشكيك حزب المؤتمر الوطني في نزاهة الانتخابات واستمر منعها حتى أيام حكم العقيد القذافي وإعلان النظام الجماهيري، الذي أصدر القانون رقم (17) لسنة 1972 بشأن تجريم الحزبية الذي نص في مادته الثالثة على عقوبة الإعدام لكل من دعا الى إقامة تجمع أو تنظيم حزبي.

[9] – عرف البرلمان الليبي فترتين انتخابيتين؛ أولهما العام 2012 (تحت اسم مؤتمر الشعب العام) وحققت فيه التيارات الاسلامية أغلبية مريحة بـ ـ123 مقعدًا (61.5% من مجموع المقاعد البالغ 200 مقعد)، والثانية في أواخر يونيو/حزيران 2014، التي تم فيها انتخاب 188 مقعدًا فقط، ولم يتم إجراء الانتخابات في مدينة درنة وضواحيها نظرًا لسيطرة القاعدة عليها في تلك الفترة، وتراجعت حصة التيارات الاسلامية إلى 30 مقعدًا فقط، 25 منها لحزب العدالة والبناء، المحسوب على الإخوان المسلمين. وتوزعت بقية المقاعد بين التيارات الليبرالية والفيدراليين والمستقلين؛ الأمر الذي جعل التشكيلات العسكرية التابعة لتيارات الإسلام السياسي تتكتل في قوات واحدة سُميت بـ”قوات فجر ليبيا” عملت على إخراج قوات الزنتان وترهونة وغيرها من التشكيلات المناصرة للتيارات الليبرالية والفيدراليين والمستقلين من العاصمة، طرابلس.

[10] – محمد عبدالحفيظ الشيخ، تطورات الوضع الليبي سياسياً وعسكرياً وانعكاساته إقليمياً على ضفتي المتوسط، مجلة: شؤون عربية، القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، 2020 م(، العدد 181، الاسترجاع في: 3، مارس، 2021 م،

[11] – عبد المجيد خليفة الكوت، فتحي محمد أميمة، «تجربة العدالة الانتقالية في ليبيا بعد 2011 : الآليات والتحديات »، مجلة: الإعلام والفنون، )جنزور:الأكاديمية الليبية للدراسات العليا، 2020 م(، العدد الثالث، ص 333.

[12]  – محمد عبدالحفيظ الشيخ، «المصالحة الوطنية في ليبيا: التحديات وآفاق المستقبل»، مجلة: جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية،) ليبيا: مركز جيل البحث العلمي، 2018 م(، العدد 21، ص 42.

[13]– البناني: أطالب المجلس الرئاسي بتولي ملف إنجاز القاعدة الدستورية للانتخابات، موقع الساعة 24بتاريخ (24/02/2023)

[14] – المشهد الليبي أمام مفترق طرق: انتخابات أم مرجلة انتقالية؟ (28/02/2023) https://www.aa.com.tr/ar

[15] -رائد الجبوري، «الانتخابات الليبية بين الجدل الداخلي والدعم الدولي،» شؤون عربية، العدد 188 (ديسمبر 2021)، <https://bit.ly/3JuH1aW>

[16] – المرجع السابق

[17] – عبد الحي علي قاسم، «خيار التسوية السياسية الليبية في ضوء معطيات المساعي الدولية الراهنة،» مجلة المؤتمرات الدولية، العدد 7 (ماي 2021)، ص 168

[18] – محمد عبد الحفيظ الشيخ، «التدخل العسكري التركي في ليبيا وتداعياته إقليميًا ودوليًا،» شؤون عربية، العدد 184 (سبتمبر 2020)، <https://bit.ly/3v3YJvV>.

[19] – عبد الحي قاسم، «خيار التسوية السياسية الليبية في ضوء معطيات المساعي الدولية الراهنة،» م.س، ص 169.

 [20]- محمد خلفان الصوافي، الأزمة في ليبيا: خارطة الصراع وتطوراته ومساراته المستقبلية، (24/06/2020) https://trendsresearch.org/ar/insight

[21] – المرجع السابق.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى