أوراق و دراساتسياسية

إعادة التوازن: الاستراتيجية الأمريكية في جنوب شرق آسيا

د. أمينة حلال

باحثة وأكاديمية جزائرية، متخصصة في الدراسات الصينية

كانت ثماني سنوات لحكم جورج بوش كافية لإضعاف صورة أمريكا الدولية، بتبنيه للمقاربة الوقائية والمذهب الأحادي. كما اقترنت فترة حكمه بالفشل في الانفتاح الخارجي، والصعوبات الاقتصادية والمالية، وتزايد المشاكل الاجتماعية الداخلية وصعود قوى جديدة.

ونتيجة لذلك، تولى باراك أوباما الحكم خلال فترة صعبة، حيث تسببت الازمة المالية العالمية سنة 2008 في ضيق شديد بالداخل الأمريكي، إلى جانب تصاعد أسئلة عميقة حول قابلية نجاح النموذج الاقتصادي الأمريكي لفترة طويلة والنظام الليبرالي الدولي الذي دافعت عنه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية؛ خصوصا عند اصطفافه مع النجاح المحسوس لاقتصاد الصيني.

ولّدت الازمة بالداخل إلى جانب الحرب في العراق وأفغانستان، قوة جاذبة في الولايات المتحدة بضرورة التركيز على داخل حدودها بدلاً من بذل جهود قوية في مجال السياسة الخارجية [1]. نظرا لذلك، تبنت إدارة أوباما مقاربة “التغيير” اتجاه شرق آسيا والسياسة الخارجية الدولية، كما تعهدت الادارة على مواجهة افتقار إدارة بوش للاهتمام بالبحر وشرق آسيا على نطاق أوسع.

المطلب الاول: أصول استراتيجية إعادة التوازن اتجاه جنوب شرق آسيا

في مارس 2010، أعلنت إدارة الرئيس الجديد عن استراتيجية الأمن القومي، التي حملت رؤية جديدة لقيادة الولايات المتحدة للعالم، من قوة منفردة إلى قوة مسؤولة عن العالم؛ وهذا من خلال ألية القوة الذكية والانفتاح على العالم بدلا من القوة العسكرية، والعمل على إعادة بناء القوة الاقتصادية بعد الازمة المالية سنة 2008 ومحاربة المنظمات الإرهابية وعدم تسليحها، وواصل تأكيده على هذه الرؤية في استراتيجية الامن القومي لسنة 2015.[2]  . سنعمل من خلال هذا المطلب التطرق إلى أصول الاستراتيجية الجديدة ودوافع الإعلان عنها.

الفرع الاول: أنطولوجيا استراتيجية إعادة التوازن

بمجرد الإعلان عن الاستراتيجية الامنية الجديدة سنة 2011، كان لكل جهة أوكلت لها مهمة الإفصاح عن الاستراتيجية الجديدة مفهوم مغاير للتعبير عنها.

أولا: اختلاف تسميات الاستراتيجية الامنية الجديدة “المحور” أو “إعادة التوازن”

عرف قاموس أكسفورد كلمة” PIVOT ” بمعنى المفصل hinge، محور shaft، وتد pin، نقطة بالغة الأهمية يتمحور حولها شيء معين. وبربطها بالسياسة الخارجية الامريكية، فهي تعني المفصل المركزي أو النقطة الحاسمة التي تدور حولها السياسة الأميركية بالكامل في التعامل مع القارة الآسيوية في العقد المقبل.

مفهمة ” المحور” هي عبارة عن مزيج من الجوانب المتطورة تدريجيا للسياسة الخارجية الامريكية، نشأت أساساً من الادراك الدفاعي للبنتاغون الأمريكي، والذي نظمه المارشال أنديMr. Andy Marshall أحد أبرز المفكرين في الجيش الأمريكي.[3] لأنه، مع مستهل حقبة ما بعد الحرب الباردة، أصبح مكتب البنتاغون مدركا للاتجاهات الاقتصادية والاستراتيجية العالمية المتباينة؛ خاصة النمو الصيني السريع.

ركزت إدارة أوباما بشكل كبير على عبارة “المحور” في عٌرف وزارة الخارجية، الذي ارتبط بشكل خاص بمساعد وزير الخارجية السابق لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ خلال فترة ولاية أوباما الأولى كورت كامبل Kurt Campbell (المهندس الرئيسي لاستراتيجية المحور)، والذي أوضح أن استراتيجية المحور، ارتكزت على الإقرار بأن حصة الأسد للتاريخ السياسي والاقتصادي للقرن الحادي والعشرين ستكتب في منطقة آسيا-الباسيفيك.[4] كما تهدف هذه الاستراتيجية إلى الاضطلاع بـ “الدور التقليدي الذي لعبته الولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية في المنطقة، مع الحفاظ على مصداقية التزامات التحالف ، ودعم “النظام العملياتي” في آسيا [5]. كما وصف كامبل الاستراتيجية بأنها شاملة ومتكاملة تتضمن:” تعزيز التحالفات التقليدية؛ إقامة شراكات جديدة؛ إشراك المؤسسات الإقليمية؛ تنويع القوات العسكرية؛ الدفاع عن القيم الديمقراطية؛ تبني الحكم الاقتصادي؛ تطوير نهج شامل ومتعدد الجوانب نحو تنامي الإصرار والمقدرة الصينية.”[6]

لكن مع مرور الوقت، تم استبدال عبارة” المحور ” بـ ” إعادة التوازن” Rebalance والتي ارتبطت بلغة البنتاغون. وفسّر البعض ذلك، بأن إدارة أوباما لم ترد إحداث انطباع بأنها تتحول كليا من الشرق الاوسط وآسيا الوسطى، أو تهمل مصالحها طويلة المدى في أوروبا ومناطق أخرى.[7] إلى جانب ذلك، أثارت عبارة “المحور” استياء الطرف الصيني، حيث اعتبرت أن الاستراتيجية موجهة لاحتوائها، الامر الذي دفعها إلى تكثيف أنشطتها الاصرارية خاصة ببحر الصين الجنوبي. لهذا خلال المرحلة الثانية من الاستراتيجية تم استبدال عبارة المحور بعبارة إعادة التوازن لتهدئة الاستياء الصيني.

وعليه، ارتبط استخدام مفهمة “إعادة التوازن” بالتصريحات الرسمية لوزارة الدفاع الامريكية، كما يظهر على سبيل المثال في دليل الدفاع الاستراتيجي سنة 2012 المعنون بـ ” القيادة الامريكية العالمية المستدامة: أولويات الدفاع للقرن الحادي والعشرين”، والذي أوضح استخدامه لمفهمة “إعادة التوازن في موضعين:

 “… ترتبط المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة ارتباطا وثيقا بالتطورات في القوس الممتد من غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا إلى منطقة المحيط الهندي وجنوب آسيا، مما خلق مزيجا من التحديات والفرص المتنامية. ووفقا لذلك، في حين سيواصل الجيش الأمريكي إسهامه في الامن العالمي، سنقوم بحكم الضرورة بإعادة التوازن اتجاه منطقة آسيا-الباسيفيك…” [8].

“… إلى جانب الانسحاب من العراق وأفغانستان، خلقت تلك فرصة استراتيجية لإعادة توازن استثمار الجيش الأمريكي في أوروبا، والانتقال من التركيز على الصراعات القائمة اتجاه التركيز على القدرات المستقبلية…”.[9]

وبهذا، استخدمت مفهمة ” إعادة التوازن” لأول مرة من طرف المسؤولين الامريكيين للإشارة إلى تحويل الموارد والاهتمام الاستراتيجي من الشرق الأوسط وأوروبا إلى آسيا.[10] كما أن ” إعادة التوازن” ليست مرتبطة بفك الارتباط الأمريكي وإعادة الارتباط في آسيا، بقدر ماهي مسألة التركيز والأولوية المبنية على أساس العلاقات الامريكية-الاسيوية التي كانت قائمة من قبل.

نخلص مما سبق، إلى أن مصطلح” إعادة التوازن” يحمل في طياته إقرار ضمني من طرف الولايات المتحدة باختلال ميزان القوى بمنطقة آسيا-الباسيفيك، و كذا تأكل نظام سان فرانسيسكو ؛ بمعنى إتجاه كفة الهيمنة أو التفوق بالمنطقة صوب قوى أخرى أبرزها :الصين .و يتضح هذا الاختلال بصورة واضحة بمنطقة جنوب شرق آسيا، نظرا لأهميتها ومكانتها الجيو استراتيجية في آسيا-الباسيفيك ، لذا حاولت الولايات المتحدة من خلال إستراتيجيتها الأمنية الجديدة إعادة التوازن لميزان القوى بالمنطقة ،بما يؤمن أمنها الوجودي؛ يحفظ استمرارية و ديمومة هيمنتها العالمية. وتجدر الإشارة إلى أنه سيتم اعتماد مصطلح “إعادة التوازن” خلال الدراسة بأكملها.

 ثانيا: مراحل استراتيجية إعادة التوازن”:

مرت استراتيجية إعادة التوازن اتجاه آسيا-الباسيفيك منذ الاعلان عنها في نوفمبر2011 بمرحلتين:

1-المرحلة الأولى 2011 -2012 : ركزت الاستراتيجية في البداية على المبادرات العسكرية في المنطقة وهو ما رفضته الصين واتخذت إجراءات لإظهار قوتها في الإقليم البحري المتنازع عليه مع حلفاء الولايات المتحدة: الفلبين واليابان؛ حيث ادعى المحللون الصينيون أن النزاعات مع الفلبين واليابان ناجمة جزئيا عن الدعم الأمريكي القومي لحفائها تحت مسمى السياسة الامريكية الجديدة.[11]  وسنخوض بالتفصيل حول تركيز استراتيجية إعادة التوازن على الشق العسكري في العنصر المتعلق بمكونات الاستراتيجية.

وتعرض هذا التركيز المفرط على المكون العسكري للانتقاد؛ حيث أظهرDonald Emmerson، مدير بمركز بحوث Shortenstein بمنطقة آسيا-الباسيفيك من جامعة ستانفورد بأن: ” ربط سياسة المحور بالأمن تجعل من السياسة في حد ذاتها غير متوازنة، فقد ألقت تأكيدات القوة العسكرية الامريكية بظلالها على المنطق الاقتصادي للسياسة، وخلقت انطباعا بأن الهدف من الاستفادة من الديناميكية المالية لآسيا الناشئة لا يعدو أن يكون أكثر من استدراك”.[12] كما أوضح البعض، أن تركيز الاستراتيجية على الشق العسكري دفع الصين إلى تفسير هذه الإجراءات على أنها مصممة في الأساس لاحتوائها، الشيء الذي دفعها إلى تصعيد تحركاتها وتأكيد مطالبها بالمنطقة خاصة ببحر الصين الجنوبي، فضلا عن رفعها لمستوى الانفاق العسكري.

  1. المرحلة الثانية 2012 : نظرا للانتقادات التي وجهت للتركيز المفرط لاستراتيجية إعادة التوازن على الشق العسكري، عدّلت إدارة أوباما من مقاربتها أواخر 2012؛ أين خفّضت من أهمية المبادرات العسكرية الامريكية وركزت على الشق الاقتصادي والدبلوماسي، إلى جانب دعوتها إلى توثيق الارتباط الأمريكي- الصيني، مما يساعد على تقليل مصدر التوتر في العلاقات بين الطرفين. في ذات السياق، أوضح ليون بانيتا -وزير الدفاع الأمريكي – في كلمته خلال حوار شنغاري في جويلية 2012:” تأتى الغالبية العظمى لإعادة التوازن الامريكية في مجالات غير عسكرية على غرار التجارة والتنمية.”[13]

الفرع الثاني: أصول استراتيجية إعادة التوازن في الخطابات الرسمية

قبل الإعلان عن الاستراتيجية الامنية الجديدة اتجاه آسيا-الباسيفيك، سبقتها العديد من التصريحات الاولية للمسؤولين الأمريكيين الرسميين بالبيت الابيض ووزارة الدفاع على حد سواء؛ حيث تولّى البيت الابيض ووزارة الخارجية توضيح الصفة الاولية لاستراتيجية إعادة التوازن؛ وذلك من خلال مقالة وزيرة الخارجية “هيلاري كلينتون” والخطاب الرسمي للرئيس “باراك أوباما” أمام البرلمان الاسترالي، في حين أُوكلت مسؤولية وصف الاهداف الامنية المتعلقة بالاستراتيجية لوزارة الدفاع من خلال ثلاثة تصريحات رسمية.

أولا- التصريحات الرسمية لوزارة الخارجية والبيت الأبيض

  1. مقال وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون “قرن أمريكا الباسيفيكي”

بتاريخ 11 أكتوبر 2011، نشرت مجلة السياسة الخارجية “Foriegn Policy“مقالا لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بعنوان “قرن أمريكا الباسيفيكي”، أوضحت فيه أنه نتيجة انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان والعراق، تطلب التحول الاستراتيجي أو “العودة الاستراتيجية” للولايات المتحدة نحو منطقة آسيا-الباسيفيك تنفيذ ذكي لاستراتيجية إقليمية منسجمة:

        “…أن هذا التحول الاستراتيجي اتجاه المنطقة يتلاءم منطقيا مع إجمالي الجهود العالمية لتأمين والمحافظة على القيادة الامريكية العالمية، وأنه بحكم جغرافيتنا الفريدة، فالولايات المتحدة قوة أطلنطية وباسيفيكية على حد سواء. لهذا، فالتحدي الذي يواجهنا في الوقت الحالي، هو إقامة شبكة من الشّراكات والمؤسسات عبر الباسفيك تكون دائمة، وتتماشى مع المصالح والقيم الامريكية مثل الشبكة التي أقمناها عبر الاطلنطي…”.[14]

إلى جانب ذلك، أوضحت هيلاري كلينتون الخطوط الستة العامة الاساسية لهذه الاستراتيجية المتمثلة في: [15]

  1. تقوية التحالفات الامنية الثنائية؛
  2. تعميق علاقات العمل مع القوى الصاعدة منها الصين؛
  3. الانخراط مع المؤسسات الاقليمية متعددة الأطراف؛
  4. توسيع التجارة والاستثمار؛
  5. التأسيس لوجود عسكري واسع النطاق؛
  6. تحسين الديمقراطية وحقوق الانسان.

   وأعطت هذه الخطوط الستة توضيحا للأهداف الواسعة للرئيس أوباما للدفع بالأمن، الازدهار والكرامة الانسانية. وفي تفصيلها للسبب الجوهري للاستراتيجية الجديدة، أوضحت هيلاري أن: ” …يعد تسخير النمو والديناميكية الاسيوية أمر حيوي للاقتصاد الأمريكي والمصالح الاستراتيجية، وتتوفر للولايات المتحدة الفرصة للمساعدة على بناء هندسة أمنية واقتصادية كاملة لتعزيز الاستقرار والازدهار…”[16]. وفيما يتعلق بتحديد أهمية منطقة آسيا-الباسيفيك، أوضحت بأن:” …العودة الاستراتيجية إلى المنطقة تتناسب منطقيا مع مجموع جهودنا العالمية لتأمين وإدامة القيادة الامريكية العالمية…”[17] وبهذا، شكلت مقالة هيلاري كلينتون الوصف الاولي للعناصر الرئيسية للتوجه الاستراتيجي الأمريكي اتجاه آسيا-الباسيفيك.

2-خطاب “باراك أوباما “: إعادة التوازن، استمرارية لهوية أمريكا الباسيفيكية:

كان التغيير البارز في السياسة الخارجية لأوباما اتجاه آسيا هو التركيز الموضوعي على المعايير والقيم التي اعتبرت جالبة للرفاهية؛ الاستقرار والامن إلى المنطقة.[18] في حين أنه اتبع بعض مبادرات جورج بوش الابن (في 2004، خططت إدارة بوش الابن خطط لإعادة توجيه دبلوماسي- عسكري نحو آسيا، بهدف منع الصين من تحدي التفوق الأمريكي في آسيا)، إلا أنه كان هناك واضح من الترويج لديموقراطية المحافظين الجدد نحو الشراكة القائمة على الهوية المشتركة والتضامن المتبادل.

بعد شهر من نشر مقالة هيلاري كلينتون، ألقى الرئيس باراك أوباما خطاباً رسمياً أمام البرلمان الاسترالي بكانبيرا في 17 نوفمبر 2011؛ اعتبر هذا الخطاب بمثابة إعلان رسمي عن الاستراتيجية الأمنية الامريكية الجديدة اتجاه منطقة آسيا-الباسيفيك. سنخص هذا الخطاب بالتحليل المعمق مستعينين بمقترب “التحليل النقدي للخطاب”، لإيضاح كيف حاولت الإدارة الامريكية من خلال مكون “الخطاب”، كأداة للممارسة القوة، استرجاع سمعتها المشوهة؛ إضفاء الشرعية على استراتيجيتها؛ كسب التأييد الداخلي والخارجي والاهم تأمين مكانتها المهيمنة والحفاظ على أمنها الوجودي بالمنطقة.

التحليل النقدي لخطاب أوباما أمام البرلمان الأسترالي في نوفمبر 2011 :

استنادا إلى الابعاد الثلاثة للتحليل النقدي للخطاب، نقوم بتحليل خطاب الرئيس باراك أوباما أمام البرلمان الأسترالي في 27 نوفمبر 2011، والذي كان بمثابة الإعلان عن الاستراتيجية الأمنية الامريكية الجديدة اتجاه منطقة آسيا-الباسيفيك وتحديدا جنوب شرق آسيا وأبعادها الثلاث (الأمنية؛ الاقتصادية والإنسانية).

أ-تحليل البنية اللغوية للخطاب: يركز هذا البعد على المفردات والعبارات الأكثر تكرار في الخطاب، لان اختيار كلمات معينة يمثل مواقف معينة، لهذا اختار أوباما استخدام مفردات وجمل تعبر عن انتماء الولايات المتحدة إلى الجماعة الباسيفيكية.

ب-التحليل على مستوى الممارسة الخطابية (قوة الكلام، تماسك النص): حاول أوباما من خلال خطابه استخدام اللغة كأداة لممارسة الهيمنة، وكذا خلق علاقات اجتماعية مع دول المنطقة. لهذا، استخدم الجمل التأكيدية والقوية وتكرار بعض العبارات، للتوضيح بأن الولايات المتحدة قوة باسيفيكية وستبقى كذلك. كما استخدم جملا معبرة عن التركيز الجديد:” يعكس تركيزنا الجديد في هذه المنطقة حقيقة جوهرية، وهي أن الولايات المتحدة كانت وستبقى دائما أمة باسيفيكية.”[19]  إلى جانب ذلك، ركز الخطاب على دور التحالفات والمؤسسات الإقليمية (اتحاد الآسيان) والترتيبات الإقليمية (قمة شرق آسيا والاباك) في تحقيق الأهداف الامريكية بالمنطقة.

ج-قوة الكلام: تشير الوظيفة النصية textual function إلى أن اللغة لديها أليات لجعل الخطاب المنطوق أو المكتوب نصاً متماسكا وموحدا وجعله فقرة حية بدلا من قائمة عشوائية من الجمل. واتسم خطاب أوباما بالقوة والتماسك، نتيجة لاستخدامه عبارات قوية ومتكررة، ركز أغلبها على القيم والقواعد الدولية:”… نحن ندافع من أجل نظام دولي الذي تحترم فيه حقوق و مسؤوليات كل الام و الشعوب ،أين يفرض القانون الدولي و القواعد ،أين لا يتم إعاقة التجارة و حرية الملاحة .حيث تسهم القوى الناشئة في الامن الإقليمي و يتم حلّ الخلافات بشكل سلمي.”[20]  وهذا بهدف إقناع الدول الاسيو-باسيفيكية وتأييدها بأنه وفريقه قادرون على القيادة، وهذا بإيضاح السياسات المخططة لها على المستوى الداخلي والخارجي، بشكل رسمي وطريقة قوية ومقنعة. لهذا احتوى خطابه على العناصر التالية:

  • التحية والتعبير عن الامتنان والشرف:” … أشكركم على شرف الوقوف في هذه القاعة العظيمة للتأكيد من جديد على الروابط بين الولايات المتحدة وكومنولث أستراليا، وهما من أقدم الديمقراطيات في العالم واثنان من أقدم أصدقاء العالم.”[21]
  • عرض وشرح للسياسات الداخلية والخارجية للحكومة الجديدة: ” توجيهاتي واضحة. بينما نخطط وميزانية للمستقبل، سنخصص الموارد اللازمة للحفاظ على وجودنا العسكري القوي في هذه المنطقة. سوف نحافظ على قدرتنا الفريدة لإسقاط القوة وردع الأخطار التي تهدد السلام.
  • تحليل للوضع المعاصر، في الداخل وفي العالم:

     “…أعلم أن البعض في هذه المنطقة يتساءلون عن الالتزام الأميركي بدعم هذه المبادئ. لذلك اسمحوا لي أن استعرض هذا مباشرة. بينما تقوم الولايات المتحدة بترتيب شؤوننا المالية، نقوم بتخفيض إنفاقنا. ونعم، بعد عقد من النمو الاستثنائي في ميزانياتنا العسكرية – وبما أننا ننهي الحرب في العراق بشكل نهائي، ونبدأ في إنهاء الحرب في أفغانستان – سنقوم ببعض التخفيضات في الإنفاق الدفاعي….”.[22]

  • الامل في مستقبل جميل ومزدهر للبلاد:

   ” وهذا هو ما ننشده. هذا هو ما نحن عليه الآن. وهذا هو المستقبل الذي سوف نسعى إليه، بالشراكة مع الحلفاء والأصدقاء، ومع كل عنصر من عناصر القوة الأميركية.  لذا، دعونا لا نشك في ذلك: ففي منطقة آسيا والمحيط الهادئ في القرن الحادي والعشرين، الولايات المتحدة الأمريكية هي كل شيء”.[23]

واستعمل الرئيس العبارة الامريكية المجازية “هي كل شيء all in” لإيضاح التحول الاستراتيجي بعيدًا عن حرب جورج بوش على الإرهاب نحو آسيا -الباسيفيك، حيث تدرك أمريكا أن تاريخ القرن الحادي والعشرين سوف يكتب في هذه المنطقة. إلى جانب ذلك، يضيف قائلا:

” …هنا، نرى المستقبل. باعتبارها المنطقة الأسرع نموًا في العالم – وتضم أكثر من نصف الاقتصاد العالمي… باعتبارها أمة باسيفيكية، ستلعب الولايات المتحدة دوراً أكبر وطويل الأمد في تشكيل هذه المنطقة ومستقبلها، من خلال التمسك بالمبادئ الأساسية وبشراكة وثيقة مع حلفائنا وأصدقائنا.”[24]

التحليل على مستوى الممارسة الاجتماعية (العلاقة بين الممارسة الخطابية والممارسة الاجتماعية):

تمثل الممارسة الخطابية discursive practice أحد أبعاد الممارسة الاجتماعية، حيث إن الممارسة الاجتماعية تشتمل على عناصر خطابية وغير خطابية. انطلاقا من ذلك، تضمن خطاب أوباما عناصر غير خطابية كثيرة، جاءت في شكل إيحاءات وإشارات ضمنية للتواجد الأمريكي القديم بالمنطقة؛ المساعدات الامريكية لدول المنطقة. وبتعبيره عن رغبته المنطقة الدائمة في العودة إلى أستراليا، فهو يعبر ضمنيا عن الرغبة الامريكية بالعودة إلى آسيا-الباسيفيك. وبإشارته إلى الحرب العالمية الثانية وهجمات 11 سبتمبر 2001، فهو يؤكد على الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تقدم وتطور المنطقة، وأنها لن تسمح بأن يتم استبدالها بقوة أخرى.

وفقا لمقترب التحليل النقدي للخطاب، كانت اللغة التي استخدمها أوباما في خطابه للدول الباسيفيكية، تهدف لخدمة الأيديولوجيا الليبرالية الامريكية. كما استخدمت اللغة كوسيلة سيطرة وهيمنة على ذهنيات صناع القرار بمنطقة آسيا-الباسيفيك، وإرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة بالمنطقة وستبقى كذلك:”… لذا، دعونا لا نشك في ذلك، في منطقة آسيا -الباسيفيك في القرن الحادي والعشرين، الولايات المتحدة الأمريكية هي كل شيء.”[25]

حاول أوباما من خلال فعل الخطاب اللغوي على تثبيت؛ تكريس عناصر هيمنة وسيطرة النظام الأمريكي على منطقة آسيا-الباسيفيك، والتأكيد مرارا وتكرارا بأن التواجد الأمريكي بالمنطقة لا يزال قائما، وسيتم العمل على تعزيزه. وهو ما دفعه للإشارة الضمنية إلى نظام التحالف أو ما يعرف بنظام سان فرانسيسكو، وهذا بإشارة إلى الدول المشكلة لهذا النظام دون ذكره بشكل صريح: ” … نحن نرى التواجد الامريكي المعزز في التحالف الذي قمنا بتقويته: في اليابان، حيث يبقى تحالفنا يشكل حجر الزاوية للأمن الإقليمي؛ في تايلاند، حيث نعمل على إقامة شراكة من أجل الإغاثة في حالات الكوارث. وفي الفلبين، حيث نعمل على زيادة زيارات السفن والتدريب. وفي كوريا الجنوبية، حيث لن يضطرب التزامنا اتجاه أمن جمهورية كوريا أبدا. “[26]

عموما، جاء خطاب أوباما في سياق اهتزاز وتراجع صورة ومكانة الامريكية العالمية وبالأخص بمنطقة آسيا-الباسيفيك، كما انتظم الخطاب حول منطق الملائمة. ومكننا مدخل التحليل النقدي للخطاب من توضيح أن أوباما انشغل باستعادة الدور الريادي العالمي للولايات المتحدة، وشرعية استراتيجية إعادة التوازن والتي ارتكزت حسب وصفه على الصفات القيمية.

مما سبق، بالرغم من أن لا خطاب الرئيس أوباما ولا مقالة هيلاري كلينتون نصّا على تفاصيل حول الاهداف الخاصة للاستراتيجية، إلا أن كلاهما أوضحا بنية التفكير حول المكونات الامنية لإعادة التوازن؛ حيث أوضحت هيلاري كلينتون بأن التحالفات الامريكية تستلزم إجماع سياسي، تحالفات بارعة؛ تكيفية، ولها القدرة على ردع استفزاز الدول.[27]

ثانيا- التصريحات الرسمية لوزارة الدفاع:

تولت وزارة الدفاع -البنتاغون- مهمة تبيان تفاصيل خطة إدارة باراك أوباما حول الشق الامني لاستراتيجية إعادة التوازن، اتضح ذلك من خلال:

1-دليل الدفاع الاستراتيجي Defence Strategic Guidance: كان دليل الدفاع الاستراتيجي الصادر في جانفي 2012، أولى الوثائق الرسمية لوزارة الدفاع الامريكية، والذي نص على أنه:” بحكم الضرورة سنعيد التوازن اتجاه منطقة آسيا-الباسفيك” [28]

كان أول من استخدم عبارة “إعادة التوازن” وزير الدفاع الاسبق روبرت غايتس خلال خطاب ألقاه في على هامش حوار شنغاري Shangri- la Dialogue بسنغافورة سنة 2010.[29] كما كان دليل الدفاع الاستراتيجي أول بيان عام و رسمي يستخدم عبارة “إعادة التوازن”؛ وذلك في سياق إعادة تحديد الموارد .و هو ما أشارت أليه كلينتون في مقالها : “… خلال عشر سنوات الأخيرة، خصصنا موارد هائلة في كل من العراق و أفغانستان، لهذا في السنوات العشر القادمة ،يجب أن نكون أذكى و منظمين فما يتعلق أين نستثمر الوقت و الطاقة….”[30] .هذا ، و أكدت وثيقة دليل الدفاع الاستراتيجي على جانبين من استراتيجية إعادة التوازن: العلاقات مع الحلفاء الأسيويين والشركاء الرئيسين ، و توازن للمقدرة والتواجد العسكري.

هذا و أشار الدليل إلى عشر مهمات للقوات الامريكية؛ مستعرضة طرق تحديد أولويات    المهام المشتركة في إقليم آسيا-الباسيفيك، تمثلت هذه المهام في:[31]

  1. محاربة الارهاب والحرب غير القانونية؛
  2. استعراض القوة رغم تحديات استراتيجية “منع الوصول / المنطقة المحرمة” A2 / AD
  3. مواجهة أسلحة الدمار الشامل؛
  4. العمل بفعالية في الفضاء والفضاء الإلكتروني؛
  5. الحفاظ على ردع نووي أمن وفعال؛
  6. الدفاع عن الوطن وتقديم الدعم للسلطات المدنية؛
  7. إحلال الاستقرار؛
  8. قيادة عمليات الاستقرار ومقاومة التمرد؛
  9. الإغاثة الإنسانية في حالات الكوارث وغيرها من العمليات.

2-تصريح وزير الدفاع ليون بانيتاLeon Panetta“:  خلال الحوار الأمني شنغاري Shangri -La Security Dialogue في جوان 2012، توسع وزير الدفاع الأمريكي “ليون بانيتا” في توضيح أبرز السمات الامنية لاستراتيجية إعادة التوازن، بوصف مجموعة لأربع مبادئ مشتركة: [32]

  • تعزيز النظم والقواعد الدولية،
  • تعميق وتوسيع الشراكات الثنائية ومتعددة الأطراف،
  • تحسين وتكييف التواجد الأمريكي،
  • إحداث استثمارات جديدة في الكفاءات الضرورية لاستعراض القوة بمنطقة آسيا-الباسفيك.

إضافة إلى ذلك، أشار تصريح وزير الدفاع إلى عدة تغيرات مهمة في الوضع الامريكي والكفاءات التي من الممكن أن تعزز الوضعية الامريكية في منطقة آسيا-الباسفيك؛ فعلى سبيل المثال أوضح بانيتا: “بأن القوات البحرية ستعيد تموضعها من اليوم تقريبا من حصة 50/50%ما بين المحيط الهادئ والهندي إلى حصة حوالي 60/40%ما بين هاذين المحيطين” [33] إلى جانب التصريحات السابقة، المدعومة بالاستثمارات الامريكية الجديدة في الناقلات الجوية للتزود بالوقود، القاذفات، طائرات المراقبة البحرية والطائرات الحربية المضادة للغواصات؛ تعطي جميعها توضيحات حقيقية للأثار الملموسة لإعادة التوازن.[34]

3- تصريح نائب وزير الدفاع أشتون كارتر”Ashton Carter”: بعد شهرين من التصريح السابق، ألقى وزير نائب الدفاع “أشتون كارتر” في أوت 2012 أمام المجتمع الاسيوي، خطاباً أوضح فيه أن: “…إعادة التوازن انعكست في قوة هيكلية القرارات …الاستثمارات الجديدة … الخطط العملية الابداعية …المواقف والتواجد…[35] .على شاكلة تصريح الوزير السابق، أوضح أشتون في تصريحه هيكل القوى الجديدة وتغيّر الوضع المرتبط باستراتيجية إعادة التوازن والمتضمن: حاملة طائرات، أربع مدمرات، 10 سفن حربية ساحلية وغواصتين في إقليم آسيا- الباسفيك. [36]

بالرغم من تغير القيادة الدفاعية سنة2013؛ أصبح تشاك هاجل Chuck Hagel وزيرا للدفاع، إلا أن توضيحات وزارة الدفاع لأهداف الاستراتيجية الأمنية ظلت ثابتة إلى حد كبير. كما أن تصريحات المسؤولين الجدد كانت أكثر وضوحا وواقعية مقارنة بسابقاتها.

4- تصريح الأدميرال لوك لير Admiral Lock Lear: بالرغم من أنه ليس تصريح رسمي، إلا أن الادميرال قدم توضيحات أكثر واقعية للجوانب الدفاعية للاستراتيجية الأمنية أمام الكونغرس الأمريكي حول الوضع الإقليمي الامريكي، وفي تصريحه الكتابي أوضح أن:” القيادة الامريكية الباسيفيكية PACOM تدير إعادة التوازن إلى جانب أربع خطوط للعمليات التي تشكل حجر الاساس لاستراتيجيتنا”[37] .هذه المجالات الاربع تعتبر توسيع لتفصيل هيلاري كلينتون للجوانب العسكرية للاستراتيجية.

5-خطابات وزير الدفاع Chuck Hagel: أطلق وزير الدفاع تشاك هاجل عددا من الخطابات المهمة، كان أبرزها خطاب مؤتمر شنغاري The Shangri-La Conference بسنغافورة في جوان 2013 و2014. ففي خطاب 2013، ركز هاجل على النواحي غير العسكرية لإعادة التوازن؛ عندما أوضح أن:” أمريكا تنفذ استراتيجية إعادة التوازن، وهي استراتيجية دبلوماسية، اقتصادية وثقافية في المقام الأول”. [38] وفي خطاب ماي 2014، سلّط الضوء على الدور المهم للأمن في إعادة التوازن حيث أوضح: “…أن المبادرات الدبلوماسية، الاقتصادية والتنموية هي مهمة لإعادة التوازن… لكن الازدهار ملازم للأمن…”. [39] من جانب أخر، أشار لاتفاقية التعاون الدفاعي المعززة مع الفلبين، تجدد التركيز على التعاون مع الهند وتزايد الاتفاق على التعليم العسكري الخارجي والتمويل.[40]

وبهذا، مثلت تصريحات الادميرال لوك لير والوزير تشاك هيجل، درجة عالية من الاستمرارية مع خطابات وزارة الدفاع السابقة، إلى جانب تشكيلها تغيرا ملحوظا في توجه وإطار العمل للجانب الامني لاستراتيجية إعادة التوازن.

مما سبق، نخلص إلى أن التصريحات الخمس السابقة؛ سواء الصادرة من وزارة الخارجية، البيت الأبيض أو وزارة الدفاع، شكلت جميعها الصيغة الاولية لمقاربة إعادة التوازن للحكومة الامريكية؛ بمعنى أنها كانت بمثابة الخطوط العريضة للاستراتيجية الجديدة والتي تم تفصيلها في ثلاث مكونات رئيسية: الشق الامني، الشق الاقتصادي والشق الديمقراطي، وذلك انطلاقا من مقال هيلاري كلينتون، ووفق ما صرح به الرئيس أوباما، ووصولا إلى صحيفة الوقائع Fact sheet لوزارة الخارجية.

وهنا تبرز جملة من الملاحظات تمثل أهمها في:

  • استحواذ الاولوية الامنية على الاهتمام الاكبر في استراتيجية إعادة التوازن مقارنة بباقي الاولويات،
  • التوضيحات المتعلقة بالشق الامني كانت أكثر تفصيلا وتحديدا، مقارنة بباقي العناصر (الاقتصادية، الانسانية) التي كانت أكثر عمومية ومبهمة،
  • فسر كل مسؤول عناصر الاستراتيجية وفق حسب وجهة نظره، إلا أنها لم تخرج من النطاق العام الذي أوضحته هيلاري كلينتون في مقالها وخطاب باراك أوباما.
  • إعادة انتخاب باراك أوباما لعهدة رئاسية ثانية في 2012، أدى إلى توضيح أكثر لملامح الاستراتيجية الأمنية الامريكية؛ اتضح ذلك من خلال خطابات المسؤولين الرسميين (توماس دونيلون، سوزان رايس مستشاري الامن القومي) والوثائق الحكومية الرسمية (البيت الابيض، وزارة الخارجية).

إلى جانب ذلك، تضمن الجدول إيضاح للفروقات بين مقالة هيلاري كلينتون؛ تصريحات المسؤولين الرسميين والوثائق الحكومية، نوضحها وفقا للتقسيم الموالي:

الاختلاف بين مقالة هيلاري كلينتون وتصريح توماس دونيلون:

رغم التشابه بين العناصر التي تضمنها تصريح توماس دونيلون مع خطوط العمل الستة التي أوردتها هيلاري كلينتون في مقالها، إلا أنه توجد ثلاث فروقات رئيسية بينهما:

  • قلّل تصريح دونيلون من شأن دور التواجد العسكري مقارنة بقائمة الاولويات لهيلاري كلينتون.
  • فضّل دونيلون دولة الصين عن باقي القوى الناشئة، تأكيدا منه على الاهمية التي تمثلها لتحسين العلاقات الامريكية معها، كما دعى إلى “نموذج جديد للعلاقات” بين الطرفان.[41]
  • نوّه دونيلون بشكل عابر للأولوية السادسة (تعزيز الديمقراطية وحقوق الانسان)؛ هذا التغير في التركيز، ترك انطباعا بأن الامن والازدهار هما الدعامتين الاساسيتان للاستراتيجية الامنية.

الاختلاف بين صحيفة الوقائع للبيت الابيض، وهيلاري كلينتون وتوماس دونيلون

  • يكمن الفرق الجوهري بين هذه الوثائق الثلاث في أن وثيقة البيت الابيض أدرجت الاهداف الاقتصادية لاستراتيجية إعادة التوازن قبل الاهداف الأمنية؛ ما يمثل تحول دقيق وربما هام عن الصيغ السابقة التي أصدرتها الإدارة. ويرجع سبب هذا التحول إلى التأثيرات الجانبية للازمة الاقتصادية لسنة 2008 على الاقتصاد الامريكي، هذه الاخيرة التي اُعتبرت أحد مبررات إطلاق استراتيجية إعادة التوازن، وهو ما سنأتي على تفصيله في العناصر المقبلة.
  • مقارنة مع خطاب دونيلون، لم يتم إدراج الاولوية الخامسة التي أشارت إليه هيلاري كلينتون (التأسيس لوجود عسكري واسع النطاق) في القائمة الجديدة، وتم استبدالها بـ «السعي إلى علاقة مستقرة وبناءة مع الصين”.
  • مقارنة مع خطاب بانيتا، حافظت وثيقة البيت الابيض على مرجعية تعزيز القيم العالمية والديمقراطية.
  • مقارنة مع الدعائم الخمسة التي طرحها دونيلون، في بيانها للأفعال التي تدعم هدف “تحسين الامن”؛ ركزت مستشارة الامن القومي سوزان رايس على التحالفات الامريكية والوضع العسكري على حد سواء، حيث أبرزت: “…نحن نجعل إقليم آسيا-الباسفيك أكثر أمنا من خلال التحالفات الامريكية ووضع القوى الامريكية التي تم عصرنتها لمجابهة التحديات الراهنة…[42]

نخلص مما سبق، إلى أن المقارنة الدقيقة لمحتوى التصريحات المدرجة في الجدول أعلاه، تظهر تحولات مهمة في طريقة عرض الأهداف العامة لاستراتيجية إعادة التوازن منذ الإعلان عنها في 2011، مع تركيز مجملها على الشق الأمني كهدف أساسي لصياغة الاستراتيجية الأمنية.

 الفرع الثالث: النقاشات الاكاديمية الامريكية حول استراتيجية إعادة التوازن

أثارت السياسة الخارجية والأمنية لإدارة أوباما بمجرد إطلاقها نقاشات مستمرة داخل الدوائر السياسية، وسائل الاعلام العامة، أبحاث العلاقات الدولية، حول طبيعة “عقيدة أوباما” ومسار الاستراتيجية الأمريكية الكبرى.[43] وفي خضم هذه النقاشات برزت مسألة حول ما إذا كان الرئيس أوباما سيواصل إتباع مسار استراتيجي ثابت من “المشاركة العميقة” و ” الهيمنة الليبرالية” للولايات المتحدة، أو أنه سيبدأ في تحول عميق في السياسة الخارجية والأمنية الامريكية نحو وضع من ضبط النفس العسكري والانسحاب الجيوسياسي. يمكن إيجاز هذه النقاشات في اتجاهين مختلفين ظهرا خلال المرحلة الاولية من تنفيذ الاستراتيجية وهما:

أولا- الاتجاه الارتباطيEngagement :

ضم هذا الاتجاه مجموعة من الباحثين الامريكيين المساندين لفكرة التدخل الأجنبي، والذين حاولوا زرع فكرة الارتباط أو المشاركة بمنطقة آسيا-الباسفيك، حيث يتحججون بأنه إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من الاحتفاظ بدفاع أمامي وردع إستراتيجي كافيين في المنطقة لاحتواء الصين، فسيتم إبعاد الولايات المتحدة من المنطقة، مما يُعرض الوضع الامريكي العالمي للخطر.[44] عموما، يمكن تصنيف الباحثين الداعمين لفكرة الارتباط المستمر إلى ثلاث مجموعات:

1-تأييد المشاركة العالميةGlobal Engagement :  تنكر المجموعة الأولى فكرة تراجع الولايات المتحدة وتدافع عن “المشاركة العالمية”، فيعتقد روبرت كاغان Robert Kagan مثلا، أن تراجع أمريكا ليس بالأمر الذي لا يمكن تفاديه، ومقارنة مع روسيا والصين، فإن الولايات المتحدة هي الخيار الاكثر ملائمة للعالم.[45]

وبمنطقة آسيا-الباسفيك، يعتقد هؤلاء أن الارتباط الامريكي متصل بشكل وثيق بالنظام الاقتصادي الليبرالي الاقليمي والاستقرار والامن الاقليمين، إلى جانب عدد كبير من التحالفات والالتزامات الامنية التي تربطها بالمنطقة. لهذا من المستبعد أن تستغنى الولايات المتحدة عن منطقة آسيا-الباسفيك بسبب التكاليف المترتبة عن عدم الوفاء بالتزاماتها اتجاه حلفائها. ويدعم هؤلاء حججهم، بأن الولايات المتحدة نجحت في الارتباط بالشؤون العالمية إلى جانب حفاظها على نفقاتها الدفاعية بنسبة لا تقل عن 5% من ناتجها المحلي الإجمالي، حتى خلال حربيها من افغانستان والعراق.[46] وبالنسبة لهم فإن الانسحاب أو تقليص الدور لا يتماشى مع الدور العالمي لأمريكا، فالمشاركة في آسيا-الباسفيك أمر ضروري وعملي.

2-دعم “المشاركة الانتقائية” Selective Engagement : بمعنى أنه يجب على الولايات المتحدة التركيز على مناطق استراتيجية معينة: أوروبا، الشرق الاوسط وشرق آسيا؛ في هذا الإطار، أوضح Robert J. Art بأن: “التفوق الاقتصادي والعسكري لأمريكا بالنسبة إلى القوى العظمى الاخرى سينخفض في المستقبل البعيد، ويجب أن يكون الوضع الاول والافضل للولايات المتحدة هو المشاركة الانتقائية في شرق آسيا”.[47]

وبناء على ذلك، خلٌص روبرت أرت إلى نتيجة مماثلة للمجموعة السابقة؛ بأنه ينبغي على الولايات المتحدة المحافظة على ارتباطها العميق في آسيا-الباسفيك والحفاظ على المعايير والنظم الاقليمية القائمة.[48] كما اقترح أنه ينبغي على الولايات المتحدة تنفيذ الردع الاستراتيجي فضلا عن التعاون مع الصين بالمنطقة، كما ينبغي عليها الحفاظ على تفوقها الاستراتيجي ومواصلة التعاون مع حلفائها وشركائها الاقليميين لكبح الصين من تحدي هيكل القوة الاقليمية والقواعد المؤسساتية.[49] و من جهة أخرى، يجب على الولايات المتحدة التعاون مع الصين للتصدي للقضايا الاقليمية على غرار شبه الجزيرة الكورية، تايوان وقضايا بحر الصين الجنوبي. لهذا، يعتقد أنصار هذه المجموعة أنه على الولايات المتحدة الاستفادة الكاملة من قوتها الاقليمية الحالية للحفاظ على مركزها العالمي.

3-دعم الدور الامريكي “كموازن خارجي“Offshore Balance : يرى أنصار هذه المجموعة أنه بسبب وضعها الاقليمي المهيمن المنفرد على النصف الغربي للكرة الارضية، يمكن للولايات المتحدة إحراز القيادة العالمية والحفاظ عليها. لذلك، فإن الهدف الاهم للاستراتيجية الامريكية الكبرى هو الحيلولة دون ظهور هيمنة إقليمية كبيرة.[50] ووفقا لهذا المنظور، ستكون الصين الصاعدة المهيمن المحتمل في شرق آسيا التي ستشكل تحديات للمكانة العالمية لأمريكا. لذلك، يرى جون ميرشايمر، أنه يجب على الولايات المتحدة أن تتصالح مع روسيا لأنها ستحتاج يوماً إلى مساعدة روسيا لاحتواء الصين الصاعدة.[51] إلى جانب ذلك، بإمكان الحلفاء الاقليميين كاليابان والفلبين احتواء الصين بواسطة قضايا أخرى كالنزاعات الاقليمية البحرية.

إلا أن الملاحظ في الواقع، أن الفلبين تحت قيادة الرئيس دوتيرتي، أعلنت إنهاء تحالفها مع الولايات المتحدة مقابل توطيد علاقاتها مع الصين. كما أن هذه الأخيرة، ضربت قرار المحكمة الدولية بشأن النزاع ببحر الصين الجنوبي المنصف للطرف الفلبيني عرض الحائط؛ بمواصلة بناء الجزر الصناعية بالمنطقة، إلى جانب سلوكياتها العدوانية، فضلا عن أن الطرف الفلبيني لا يمتلك القدرة على مواجهة التهديدات الصينية. لذا، يرى أنصار هذه المجموعة أن الصين هي المنافس الحقيقي الوحيد، ويدعمون فكرة “الموازنة” من الداخل.

ثانيااتجاه التقليص Retrenchement:

خلافا للاتجاه الارتباطي، يفضل أنصار هذا الاتجاه تقليص التواجد الامريكي بمنطقة آسيا-الباسفيك استنادا إلى أربعة أسباب رئيسية:

الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى عدو جديد، في هذا السياق أوضح مارفين كالب Marvin kalb، أن الصين ليست الاتحاد السوفياتي، وأنها لن تمثل تهديداً أمنيا للولايات المتحدة كما فعل الاتحاد السوفياتي، بالرغم من استمراريتها في كونها مصدر إزعاج دبلوماسي ومضايقة تجارية.[52] لهذا، ينبغي على الولايات المتحدة التعاون مع الصين بدلا من احتوائها وذلك في إطار استراتيجية إعادة التوازن.

احتمال وقوع الولايات المتحدة في “فخ ثيوديديس”Theydides Trap، إذا بالغت في خوفها من الصين. في هذا الإطار، تعتقد كل من Barry Posen and Susan Shirk، بأن الصين قوة عظمى هشة Fragile Superpower لا تملك القدرة للسيطرة على منطقة آسيا-الباسيفيك في المستقبل المنظور.[53] الامر الذي يدفع الولايات المتحدة للحفاظ على قيادتها العالمية وأمنها القومي دون إضفاء الطابع العسكري بشكل مفرط على استراتيجية إعادة التوازن.

اعتقاد بعض الباحثين الأمريكيين، أنه يتوجب على الولايات المتحدة الاهتمام بالقضايا الداخلية والتي تشكل أولوية قصوى. فمثلا، أوضح زبيغنيو بريجنسكي، بأن الولايات المتحدة تواجه مجموعة من المشاكل الداخلية المستعجلة جراء النظام المالي المتصدع؛ اتساع التفاوت الاجتماعي؛ تأكل البنية التحتية؛ السياسات المتعثرة وانسدادها، ومعالجة هذه المشاكل هي الضمان الاساسي للوضع القيادي الامريكي.[54]

ومع هذا، لم يصر بريجنسكي على أن تتخلى الولايات المتحدة عن منطقة آسيا-الباسفيك، بل دعى إلى التعاون مع الدول الاقليمية كالصين واليابان لبناء وضع إقليمي من التعاون والاستقرار؛ من شأنه أن يشجع الولايات المتحدة على حلّ مشاكلها الداخلية. وباختصار، رأى أنصار هذا الاتجاه أنه يتوجب على الولايات المتحدة تطبيق استراتيجية ضبط النفس للحفاظ على استقلالها الاستراتيجي.

 مما سبق، بعد عرض الاتجاه الارتباطي والانسحابي المتعلقين بتنفيذ استراتيجية إعادة التوازن، نخلص إلى أنه بالرغم من مقاربة الاتجاهين للواقع، إلا أن الحقائق والوقائع تغيرت عما كانت عليه وقت ظهور الاتجاهين وإصدار الاستراتيجية، فالتحالفات التي كانت تعول عليها الولايات المتحدة بالمنطقة غيرت وجهتها صوب الصين على غرار الفلبين. من جهة أخرى، نلاحظ أن الاتجاه المنادي بتخفيض الوجود الامريكي بمنطقة آسيا-الباسيفيك، كان قد نوه إلى ضرورة تجنب الولايات المتحدة الافراط في إضفاء السمة العسكرية على استراتيجية إعادة التوازن، إلا أن الخطأ المرتكب هو طغيان المكون العسكري على الاستراتيجية، ما دفع الصين لتفسير أن الاستراتيجية موجهة لاحتوائها؛ وأفضى إلى تصاعد فقدان الثقة الاستراتيجية بين الطرفين.

المطلب الثاني: دوافع الإعلان عن استراتيجية إعادة التوازن

بهدف إيضاح المكانة التي يشكلها التغيير في الاستراتيجية الأمنية الامريكية، تظهر القراءة المتأنية لتاريخ الفكر الاستراتيجي الأمريكي، أن التغيير ولد متأصلا فيه، لا بل مؤصلا له؛ إذ أن المفكرين الاوائل وجدوا ضالتهم في التغيير وبنو مشروعهم من التغيير، فلا غضاضة في القول، أن ولادة الولايات المتحدة نابعة من البحث عن التغيير. [55]

بالنسبة للتغيير الذي عرفته الاستراتيجية الامريكية اتجاه منطقة جنوب شرق آسيا، فإنه يمكن إدراجه ضمن نمط التغيير التعديلي أو الإصلاحي. هذا النمط من التغيير الذي لا يقوم على مبدأ نفي ما هو قديم، وإنما يهدف إلى إيجاد نوع من الموائمة بين القديم والجديد، وإيجاد نوع من التعايش بينهما[56].ومن خصائصه: أنه تغيير جزئي وليس شاملا؛ يقرر ويقاد من أعلى السلطة؛ تغيير تطوري؛ وضوح الهدف واستخدام الاليات السلمية غالبا. يهدف هذا النمط من التغيير للقضاء على الأخطاء التي تبرز عند الممارسة أو التنفيذ.

انطلاقا من ذلك، شكلت الديناميكيات الجيو-استراتيجية والترتيبات السياسية والاقتصادية للسياسة الدولية، المتزامنة مع تنامي المصالح الامريكية بإقليم آسيا-الباسيفيك، الحافز لتغيير التوجه الاستراتيجي الأمريكي اتجاه هذا الاقليم عموما ومنطقة جنوب شرق آسيا خصوصا، بإطلاق استراتيجية ” إعادة التوازن”، وفيما يلي تفصيل لأهم دوافع الإعلان عن هذه الاستراتيجية.

الفرع الأول: الدوافع الامنية والعسكرية:

يعد الدافع الامني السبب الرئيسي الاول لصياغة استراتيجية إعادة التوازن، بدليل تركيز تصريحات المسؤولين الرسميين، السابق ذكرها، على الملامح الأمنية للاستراتيجية والاسهاب في تفصيلها، وهو ما أكدته عبارات المستشار السابق للأمن القوميTom Donilon:        إن الهدف النهائي لسياسة إعادة التوازن هو تعزيز المصالح الامريكية؛ من خلال المساعدة على تشكيل مبادئ وقواعد منطقة آسيا-الباسيفيك، لضمان أن القوانين الدولية والمبادئ تُحترم، بأن التجارة وحرية الملاحة لن تُعرقل، بأن القوى الناشئة تُعزز الثقة مع جيرانها ويتم حل الخلافات بشكل سلمي دون تهديدات أو إكراه“. [57]

انطلاقا من ذلك، نسلط الضوء في هذا العنصر على أهم الدوافع الأمنية لإطلاق الاستراتيجية الأمنية الجديدة، المتمثلة في: تنامي القدرات العسكرية الصينية، الالتفاف حول التحالفات المناوئة، الامن البحري وضمان حرية الملاحة، مكافحة الإرهاب وضبط الانتشار النووي.

1-تنامي القدرات العسكرية الصينية: أثار التنامي السريع للميزانية العسكرية الصينية خلال العقدين الماضيين قلقا كبيرا؛ خاصة مع انفصال الانفاق العسكري الصيني عن مجمل نمو الناتج المحلي الإجمالي.[58] وحسب الدراسة التي قام بها معهد أبحاث السلام الدولي (SIPRI) بستوكهولم، استلزم تحديث القوات العسكرية على زيادة في الانفاق الدفاعي السنوي من حوالي 20 بليون دولار سنة 2000 إلى 120 بليون دولار أمريكي تقريبا سنة 2010.[59] كما أشارت تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، بأن الاتفاق العسكري في 2010 تجاوز الاتفاق العسكري لحلفاء الولايات المتحدة مثل: المملكة المتحدة، اليابان والمانيا.[60]

إلى جانب هذا، يغطي الانفاق العسكري الصيني النفقات الشخصية، تكاليف بناء وصيانة الممتلكات العسكرية، التدريبات العسكرية، الابحاث والتجارب والدعم اللوجستيكي[61]، في حيث تتعمد بكين عند نشرها لميزانيتها الدفاعية على عدم الافصاح عن نفقات قواتها الاستراتيجية، المشتريات الخارجية والابحاث العسكرية.

زيادة على ذلك، يرتبط التنامي العسكري الصيني باستراتيجية “منع الوصول / المنطقة المحرمة large anti-Access area denial(A2/AD) التي من المحتمل أن تشكل قدراتها البحرية تهديدا خطيرا على القوات الامريكية بإقليم آسيا-الباسيفيك في المستقبل، نظرا لان السفن البحرية الصينية الحديثة تضم مجموعة من صواريخ كروز ومضادات الصواريخ البالستية، التي يمكن أن تؤثر على مستوى فعالية مجموعة الطائرات الحربية الامريكية (CSG) في غرب المحيط الهادئ. [62] إلى جانب تهديدها للقواعد الجوية والبحرية الامريكية المتواجدة في جزيرتي أوكيناوا وغوام بسبب قدرتها بعيدة المدى.

وحسب دراسة لمركز التقييم الاستراتيجي، من بين التكتيكات الاستراتيجية التي يمكن أن تقوم بها لهزيمة القوات الامريكية، إجراء سلسلة من الهجمات الوقائية واسعة النطاق على المطارات، حاملات الطائرات والسفن المقاتلة. إضافة الى الاجراءات الوقائية الواسعة، تمثل أيضا تهديد خطير للقوات الامريكية في منطقة الباسفيك لان هذه الوحدات يمكن أن تمنع وصول المقاتلين البرية الامريكيين، إلى أقرب القواعد المجاورة.

2-السلوكيات الاصرارية الصينية: لم يقتصر تنامي القوة العسكرية الصينية على التعزيز العسكري الصيني، تنامي الانفاق الدفاعي الكبير، نقص الشفافية، بل تعداه إلى السلوكيات الاصرارية المهددة لاستقرار النظام الاقليمي. فخلال الفترة الممتدة ما بين 20002001، أظهرت الصين نهجا تصاعديا اتجاه مطالبها الاقليمية ببحر الصين الجنوبي والشرقي على حد سواء وكذا التواجد الامريكي بالمنطقة، حيث لم تتوانى في استخدامها للقوة والتي أتضحت من خلال:

في مارس 2001، واجهت سفينة حربية صينية السفينة الامريكية، USNS Bowditch أثناء قيام هذه الاخيرة بواجباتها للمسح العسكري، بالقرب من المنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ) التي تطالب بها الصين بالبحر الاصفر. [63]

في أكتوبر 2006، تعقبت سرا الغواصة الصينية مجموعة حاملات الطائرات الامريكية في المحيط الهادئ، هذه الحادثة ابرزت مدى الخطورة التي اصبحت تشكلها الغواصات الصينية للقوات البحرية الامريكية بالمحيط الهادئ.

خلال الفترة 2005-2009، اظهرت الصين تنامي استخدامها للقوة حول مطالب الاقليمية ببحر الصين الجنوبي، من خلال استهدافها لسفن الدول المتنازع معها وحتى الأجنبية منها، التي تقوم بدوريتها الروتينية بالبحر.

للفترة ما بين 1978 و2008 هددت الصين اليابان بخصوص السيادة حول ملكية خمس جزر ببحر الصين الشرقي والتي تعرف باسم Diaoyu في الصين وSenkaku في اليابان.[64] 

حتى بعد إطلاق الولايات المتحدة لاستراتيجية إعادة التوازن، واصلت الصين على نفس النمط السابق من السلوكيات الاصرارية، ارتكز أغلبها في: اعتقال الصيادين فيتناميين بالقرب من جزر باراسيل، النشر المكثف للسفن والطائرات العسكرية بجزر دياويو/سينكاكو المتنازع عليها مع اليابان، استهداف سفنها الحربية للسفن اليابانية. وبحجة حماية أمنها الاقليمي وفضائها الجوي؛ حددت الصين منطقة مجال الدفاع الجوي Air Defence Identification zone ببحر الصين الشرقي، ما اعتبرته اليابان بالخطوة الجريئة؛ خاصة أنها شملت جزء كبيرا من الفضاء الجوي فوق الجزر المتنازع عليها بين الطرفين.[65]

    كل هذه التحركات والسلوكيات الاستفزازية، دفعت بالعديد من الباحثين من بينهم جوزيف ناي وكذا الدولة المجاورة، إلى الاعتقاد بأن الصين تسعى جاهدة لتصبح قوة مهيمنة في المحيط الهادئ.[66] ووصف بعض المحللين، النهج الصيني الاصراري داخل المنطقة وبالتحديد اتجاه نزاعاتها الاقليمية بـ «استراتيجية تشريح السلامي” أو” تكتيك السلامي” أو “هجومات السلامي”[67]. *

 إن استراتيجية تقطيع السلامي هي الاستراتيجية المفضلة لبكين* لتغيير الوضع الاقليمي والبحري الراهن لصالحها، فهي تهدف من وراء تطبيق هذه الاستراتيجية، بدلا من العدوان الصريح، إلى الحد بشكل جدي من خيارات البلدان المستهدفة عن طريق إرباك خطط الردع الخاصة بها، إلى جانب الاعتماد على عنصر المفاجأة وتجاهل مخاطر التصعيد العسكري الواسع، بما يجعل من الصعب على تلك الدول تصميم ردود أفعال منسقة وفعالة.

واتضح أول تجسيد صيني لهذه الاستراتيجية للفترة ما بين 1954 و1962، باستيلائها على هضبة اكساي تشين Aksaï Chin بالهند*. وفي 1974، استولت الصين على جزر باراسيل، وفي سنة 1988، استولت على الشعب المرجانية Johnson Reef، وسنة 1995، استولت على الشعب المرجانية Mischief Reef، وفي سنة 2011، استولت على مجموعة الشعب المرجانية المعروفة بـ «Scarborough Shoal” وذلك باستخدام نفس الاستراتيجية.

من جانب أخر، وتأكيدا لمطالبها ببحر الصين الجنوبي والشرقي، وظفت الصين بشكل جريء تكتيك تشريح السلامي؛ التي تراوحت ألياتها ما بين عقود التنقيب عن المواد الهيدروكربونية والتأكيد على حقوق الصيد الواسعة.[68] تشكل هذه التكتيكات تحدياً متزايداً للعديد من الدول المجاورة، التي تواجه معضلة عميقة حول كيفية إحباط أو التصدي لهاته الاستراتيجية. فضلا عن الولايات المتحدة، والتي أصبحت تهدد الصين مكانتها بمنطقة شرق آسيا، فهذه الاخيرة تسعى من خلال تحركاتها متعددة الجوانب إلى امتلاك القدرة على تغيير ديناميكيات القوى الاسيوية بشكل جوهري لتشكيل منطقة تكون هي مركزها.

مخاوف وقلق الدول المجاورة وكذا الولايات المتحدة بخصوص نوايا الصين الاستراتيجية، ومن أن تهدد هذه التعزيزات الجديدة الامن الاقليمي والعالمي على حد سواء، أثار تحولا في السياسة الخارجية الامريكية نحو آسيا، حيث أكد العديد من كبار الباحثين، بأن الاستراتيجية الامريكية ما هي إلا استجابة مباشرة اتجاه التنامي الخطير للسلوك الصيني. وعليه، فإن التحرك الصيني المتنامي بآسيا-الباسيفيك كان الدافع الاساسي لصياغة استراتيجية إعادة التوازن، كإشارة منها إلى الصين بأن أمريكا لن تتخلى عن تواجدها بالمنطقة.

3-الالتفاف حول التحالفات المناوئة :

توج التحالف الروسي-الصيني بإنشاء منظمة شنغهاي للتعاون SCO سنة 1996، كتحالف مضاد لحلف الناتو وتوسعاته في شرق أوروبا وآسيا الوسطى. مع نهاية 2011، بحثت منظمة شنغهاي التوسع في القارة الاسيوية جنوبا بضم كل من الهند، باكستان وكوريا الشمالية، ومنحها العضوية الكاملة بدلا من صفة مراقب بهدف احتواء النفوذ الأمريكي في القارة الاسيوية، وتخفيف حدة التوترات بين الهند والصين، توطيد العلاقات مع باكستان واحتواء الطموح النووي لكوريا الشمالية.[69] وتكمن خطورة هذا التحول نحو جنوب شرق آسيا في استدعائه لتحالف دولي مناوئ للولايات المتحدة واختراقه لمنطقة حيوية بالنسبة لمصالحها، بما دفع الأخيرة لدعم وجودها العسكري وتوطيد منظومة تحالفاتها الإقليمية.[70]

4-الامن البحري وضمان حرية الملاحة:

بحكم أهمية منطقة آسيا-الباسيفيك للملاحة الدولية لتوفرها على أهم المضائق البحرية في العالم، تولى الولايات المتحدة لحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا أهمية قصوى نظراً لأهميتها الجيو استراتيجية لحركة التجارة الدولية، وقد سبق التطرق لتلك الأهمية في عناصر سابقة.

لهذا، فاحتدام الصراع بين الدول المطلة على تلك الممرات البحرية (فيتنام، الفلبين وتايوان)، وكذا تصاعد محاولات إثبات السيادة على الجزر المتواجدة بها، يؤثر سلبا على الامن البحري لتلك الدول وكذا الولايات المتحدة. ومع التنامي الملحوظ للسلوك الصيني الاستفزازي خاصة ببحر الصين الجنوبي (بناء جزر اصطناعية، قواعد بحرية استراتيجية والمناورات العسكرية…) دفع بدول الجوار المتنازع معها للترحيب بالوجود العسكري الأمريكي بالمنطقة.

5-مكافحة الإرهاب:

على الرغم من التعاون الأمريكي مع دول جنوب شرق آسيا منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، الذي أسفر عن القضاء على عدد كبير من قيادي الجماعات المتشددة. إلا أن حالات العداء التي تؤججها قيادات الجماعات الإسلامية المتطرفة بالمنطقة اتجاه الولايات المتحدة تثير مخاوف الإدارة الامريكية من استهداف مصالحها الحيوية في المنطقة.

6-ضبط الانتشار النووي :

بدأ سباق التسلح النووي في منطقة جنوب شرق آسيا مع إجراء كوريا الشمالية لأولى تجاربها النووية في 09 أكتوبر 2006 وخرقها لالتزاماتها وفق معاهدة حظر الانتشار النووي، بما أدى لتعقيد المعضلة الأمنية لدول الإقليم. كما أن امتلاك الصين، الهند وباكستان للسلاح النووي، دفع بعض دول المنطقة للسعي لامتلاك برامج نووية ذات تطبيقات عسكرية مثل ميانمار، التي كشف أحد جنرالاتها المنشقين في نهاية سنة 2010، عن مخطط لامتلاك سلاح نووي بدائي.[71] من جانبها، تلقت فيتنام عرضا من الولايات المتحدة لدعم برنامجها النووي من خلال توقيع اتفاقية تسمح لفيتنام باستخدام التكنولوجيا النووية الامريكية وتطبيقاتها … بهدف ضمها للتحالف المناوئ للنفوذ الصيني، مستغلة بذلك حالة العداء المتصاعد بين الدولتين.[72]

الفرع الثاني: الدوافع الاقتصادية:

يعد الدافع الاقتصادي السبب الرئيسي الثاني لصياغة الاستراتيجية الامريكية اتجاه إقليم آسيا-الباسفيك؛ بما يؤمن إستراتيجيا حلفاء وشركاء الولايات المتحدة ضد السلوك الاصراري الصيني. إلا أن ذلك لا يخفي حقيقة أن سعي الولايات المتحدة للاستفادة من النمو الاقتصادي لآسيا، يعد سببا أخر للاستراتيجية. بالرغم من أن الولايات المتحدة هي وجه اقتصادي بامتياز في الاقتصاد العالمي، إلا أن تلك المكانة تراجعت بشكل ملحوظ منذ الازمة المالية لسنة 2008، هذه الأخيرة التي أنهت عقدا من التحكم الصارخ الأمريكي في الاقتصاد العالمي. وجاءت هذه الأزمة بعد عشر سنوات من الازمة الاسيوية، مما أدى إلى تأجيج النقاشات الآسيوية التي تحتج على الاعتماد المفرط على الاقتصاديات الغربية الواهنة والتي تعد أهم أسواق التصدير التقليدية للمنطقة الاسيوية.[73]

انطلاقا من ذلك، نسلط الضوء في هذا العنصر على تأثيرات الازمة المالية لسنة 2008 على الاقتصاد الامريكي، ومن ثم نوضح مؤشرات الاهمية الاقتصادية لمنطقة آسيا وأهم المتغيرات التي طرأت على السوق الاسيوية خلال الفترة الاخيرة وعلاقتها باستراتيجية إعادة التوازن.

(1) تأثيرات الأزمة المالية العالمية 2008على السياسات الامريكية

اعتبرت الازمة المالية لسنة 2008 كارثة اقتصادية، أثرت بشكل عكسي على الاقتصاد الأمريكي. بدأت الازمة، حين قامت المؤسسات المالية إلى جانب سماسرة العقار Mort-gage Brokers بمنح قروض سكنية بصورة لم يسبق لها مثيل إلى أشخاص لا يتمتعون بقدرة كافية على السداد، وبعجزهم عن تسديد ديونهم للبنوك حدثت هزة قوية للاقتصاد الامريكي أطاحت بأكبر البنوك والمؤسسات المالية العالمية. حيث وصل عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة إلى تسع عشرة بنك، ولم تنجح مئات المليارات التي ضٌخت في أسواق المال العالمية بوضع حد لهذه الازمة. وبنهاية 2008، قدر المجموع الكلي للوظائف المفقودة حوالي 2.6 مليون وظيفة، وهو أعلى مستوى عرفته الولايات المتحدة لأكثر من ستة عقود.[74] كان لهذا الفقدان الكبير، تأثير كبير على معدل البطالة في الولايات المتحدة. ففي سنة 2007، كان معدل البطالة 5.0% ونهاية 2009 ارتفع بشكل حاد إلى 9.5 %.[75]

فضلا عن الأثار الاجتماعية والاقتصادية، كان للازمة تأثيرات على الأمن القومي، فحسب المدير السابق للاستخبارات الوطنية Dennis Blair:إن عدم الاستقرار في الدول حول العالم والناجم عن الأزمة الاقتصادية العالمية بدلا من الإرهاب هو التهديد الامني للولايات المتحدة.[76] وخلافا للآثار الجانبية التي خلفتها الأزمة على الاقتصاد الأمريكي ، إلا إن تأثيراتها كانت أقل حدة مقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا، ارتفع مجموع الإفلاس في الولايات المتحدة إلى 1.117.771 بعد أن كان 850.912 سنة 2007.[77] فإن الاقتصاديات الآسيوية لم تتأثر بشكل كبير بالأزمة وذلك نظرا للمزايا التي تتمتع بها.

(2) الأهمية الاقتصادية لآسيا: خلافا للولايات المتحدة، لم تواجه الدول الآسيوية بعد الأشهر الأولى للازمة المالية هذا القدر الكبير من الإفلاس، فالميزة بالنسبة لآسيا أنها كانت تملك كميات كبيرة من الاحتياطات الحكومية في بداية الأزمة، والتي ساعدتها على تقديم حزم التحفيز المالي على الفور، ضخ رؤوس الأموال في أنظمتها المالية، وتقديم ضمانات للتبادلات المالية الخاصة.[78] بعد الازمة المالية لسنة 2008، أصبحت الاقتصاديات الاسيوية أولوية قصوى للسياسة الخارجية الامريكية لثلاث أسباب أساسية:[79]

  • الاهمية الاقتصادية لآسيا تشمل عوامل متنوعة: عدد السكان الكبير، النمو الكبير في العلوم التكنولوجيا، الهندسة والتعليم الرياضي،
  • أسرع الاقتصاديات الناشئة موجودة في آسيا،
  • الاستفادة من التجارة.

إلى جانب الاسباب سالفة الذكر، طرأت على السوق الاسيوية خلال الحقبة الماضية متغيرات مهمة؛ والتي كانت عامل الجذب أو الدافع وراء إطلاق الولايات المتحدة لاستراتيجيتها بالمنطقة،نذكر من أهمها: [80]

الاتجاه نحو السوق الداخلية: بعد خروج آسيا من أزمة 2008، عمدت الكثير من الدول الاسيوية إلى تكريس اقتصادها نحو الطلب المتزايد في السوق الداخلية بدلا من توجيهه نحو الصادرات الخارجية، هذا الوصف ينطبق على الصين التي قامت بعد الازمة بتنمية استثماراتها في الاصول الثابتة، عن طريق الاستفادة من قيمة صادراتها التي قامت بتخفيضها، كما ظهر نموذج الاتجاه نحو الداخل واضح أيضا في كوريا الجنوبية. [81]

تغير علاقة الاقتصاد الاسيوي بالسوق العالمية: أغلب الاقتصاديات الغربية اليوم أصبحت تعتمد على المستهلكين الأسيويين فأصبحت بذلك الدول الاسيوية محركا للنمو الاقتصادي من خلال مشاركتها في البناء الاقراض والاستثمار.

الاقتصاد الاسيوي مصدر لرأس المال: أصبحت آسيا مصدرا لرأس المال وليس مجرد متلقي له وذلك بفضل شراء الآسيويين لحصصا وإسهامها في الشركات الاسيوية فضلا الشركات الامريكية والاوروبية، إلى جانب مساهمة التدفقات النقدية الصينية واليابانية والكورية عبر آسيا في تسريع إعادة تركز رأس المال.

خروج الدول الاسيوية من منطقة الاتفاقات الاقتصادية الغربية: لم تعد الاقتصادات الاسيوية الناشئة كالهند والصين راغبة في الخضوع للترتيبات واملاءات المؤسسات الاقتصادية الغربية الشيء الذي دفعها لرفع انتاجها المحلي الإجمالي وإنشاء مؤسسات مالية جديدة على غرار بنك الاستثمار الاسيوي للبنية التحتية AIIB.

الارتفاع الصيني: تعتبر الصين من أكبر اقتصاديات العالم، حيث تمتلك أربع تريليون دولار كاحتياطي من النقد الأجنبي. إلى جانب ذلك، فالصين هي أكبر مصنع وتاجر في العالم من حيث القيمة المضافة الاجمالية، كما أنها تمتلك سبع عشرة ميناء من أكبر موانئ الشحن في العالم. [82]

إجمالا، كان للازمة المالية أثار ضارة على الاقتصاد الامريكي والعديد من الاقتصاديات حول العالم، باستثناء الاقتصاديات الاسيوية التي تعافت بشكل سريع من أثارها.

(3) احتواء الصعود الاقتصادي الصيني إقليميا: تمثل المناوأة الصينية لمصالح الولايات المتحدة والصدام المحتمل مع الدولة الصاعدة الدافع الرئيسي لتكثيف الوجود العسكري الأمريكي بالإقليم، نظرا إلى أن الصين باتت على أعتاب تخطي الولايات المتحدة عل المستوى الاقتصادي بتحقيقها لنسب نمو تصل إلى 30 % في مجال التصدير و40 % في مجال الاستثمار الرأسمالي و 7.75 % للناتج المحلي الإجمالي خلال سنة 2011، لتحتكر الترتيب الثاني بين أقوى دول العالم اقتصاديا.[83] ووفقا لتوقعات Price Waterhouse Coopers سيكون الاقتصاد الصيني أكبر من نظيره الأمريكي قبل عام 2030، وستحتل الولايات المتحدة المركز الثالث ويتوقع الباحثون أن تكون أندونيسيا في المركز الرابع.[84]

ففي سنة 2018، سجلت الصين نموا اقتصاديا قدر بـ 6.9%، والذي أعتبر أسرع نمو لها منذ سنة 2010. وعلى المستوى العسكري، أعلنت الصين في نفس السنة عن رفع ميزانيتها الدفاعية لتبلغ 175 مليار دولار أمريكي أي بزيادة قدرها 8.1 % (مقارنة بالسنة الفارطة 151.4 مليار دولار، و143.7 مليار دولار سنة 2016)؛ وهو ما يشكل نسبة 1.4% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة مع الولايات المتحدة 3.4% وروسيا 2.8 %.[85]

الفرع الثالث: خطاب التهديد الصيني:

يعمل الحوار كدعم مركزي للهوية والذاتية، لأن الحوار له أهمية حاسمة في صياغة المعنى الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من تعريفات التهديدات والمصالح في بناء الأمن القومي [86].و  من الأمور الأساسية للأمن الوجودي لأية دولة، هي القدرة على سرد القصص المقنعة عن أنفسهم والآخرين واكتساب التقدير الذاتي ضمن المجموعات التي يتم إنشاؤها بشكل ذاتي. وتتألف عملية صياغة خطاب الأمن القومي من وضع سياسة مفضلة في إطار قيم مقبولة على نطاق واسع، وتعد هذه العملية ضرورية لأنها تشكل أسسا للحياة الاجتماعية وتجعل المجتمع متماسكا.

يرتبط بناء تهديد مقبول يمكن نسج حوله خطاب الأمن القومي، ارتباطًا جوهريًا بتصور أمريكا لذاتها وللأخرين المتمايز. فعندما يتعلق الامر بحباكة قصة متماسكة تتعلق بأنشطة الصين، يتم إنشاء خطاب ارتباطي بين الأحداث التاريخية، والتعبير عن مصالح الأمن القومي والتهديدات الأمنية المحددة التي تعزز الهوية وتبرر استخدامات معينة للقوة الأمريكية لتعزيز الأمن الأمريكي الوجودي. لأجل ذلك، هناك عمليتان حواريتان مترابطتان تحدثان في وقت واحد.

تتضمن العملية الحوارية الأولى الحفاظ على السيرة الذاتية، وهو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الشعور بالأمن الوجودي لأنها تتضمن قصة الذات (من أكون وماذا أريد) والخبرة السابقة (ما قمت به ولماذا). نطوي العملية الحوارية الثانية على “الآخر”، وهو أمر بالغ الأهمية لبناء الهوية المهيمنة.[87] وهو ما لاحظناه في العبارات التي تضمنها خطاب أوباما أمام البرلمان الأسترالي. كما تُضفي الاستثنائية Exceptionalism مزيدًا من الحماس على تعبير الإحساس الأمريكي بالهوية بشكل واضح، والذي يعتمد على المقارنة مع “الآخر” الفاسد والخطير في الإعلان عن خطاب الأمن القومي.

بالنتيجة، أصبحت المؤسسات الأمنية الأمريكية متوافقة بشكل كبير مع الخطابات المركزية وتمثيل مهددات الأمن القومي الأمريكي والتي يتم إعادة إنتاجها، وتضمينها، وتطبيعها عبر مجموعة أخرى من المؤسسات والممارسات الاجتماعية. بمرور الوقت، تم مأسسة الخطابات وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المؤسسات؛ الممارسات؛ المصالح المادية للمجتمع والسياسة الأمريكية، إلى الحد الذي تظهر فيه “الحقائق” المقبولة خارجية وبديهية. باختصار، تظهر أهمية امتلاك ونقل الخطاب السائد حول الأمن القومي ضرورية للتصور الإيجابي للإدارة من قبل الجمهور العام. وبدون ذلك، سيُنظر إلى الإدارة على أنها تفتقر إلى استراتيجية متماسكة للأمن القومي.

ارتكز التقييم الأمريكي للصعود الصين بأنه يمثل تهديداً لها، بالنظر إلى تنامي نفوذ بكين الإقليمي، معتبرةً أياها كقوة صاعدة مختلفة، تنوي استبدال الولايات المتحدة كقوة إقليمية مهيمنة في آسيا -الباسيفيك. حيث أعطى ثقل الصين الاقتصادي المتزايد والقدرات العسكرية القدرة على التأثير في النظام الإقليمي، مما شكل أكبر تهديد لنظام الهيمنة الليبرالي الأمريكي في المنطقة. من جهة أخرى، فسر عرض بكين للرؤية الصينية للنظام الإقليمي في آسيا -الباسيفيك، على أنه تهديد، للهيمنة الأمريكية عبر المحيط الهادئ، التي هي حجر الزاوية للأمن القومي الأمريكي.

كما شدّ انتباه سرعة ونوع التحديث العسكري ومستوى الإنفاق العسكري، خاصة منذ أن عمل جيش التحرير الشعبي الصيني على تطوير قدرات منع الوصول إلى المناطق أو رفضها anti-Access/area-denial، والتي قد تتحدى قدرة الجيش الأمريكي على العمل في غرب المحيط الهادئ، بالإضافة إلى أنشطة بناء الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي.[88] هذا، وأصبحت الأنشطة السيبرانية الصينية نقطة محورية للتأكيد على التهديد المباشر الذي تمثله الصين للولايات المتحدة، وذلك بالأساس لأن استعراض القوة الأمريكية، مثل الاقتصاد الأمريكي، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على شبكات الكمبيوتر من أجل القيادة والسيطرة.  وعليه، أسهم خطاب التهديد الصيني بشكل كبير في منح المبرر والذريعة لإعلان الاستراتيجية وكذا لكسب التأييد الإقليمي والعالمي.

الهوامش والمصادر


[1] Kurt Campbell, Brian Andrews, Explaining the US ‘Pivot’ to Asia (London, Chatham House, August 2013 (, p 02

[2]  يحي سعيد قاعود، “علا عامر الجعب، وثيقة الامن القومي الأمريكي 2017: قراءة تحليلية في استراتيجية دونالد ترامب”، قراءات استراتيجية، ع 20، أبريل 2018، ص 84.

[3] Beenish Sultan, US Asia Pivot Strategy: Implications for the Regional States, ISSRA Papers, Institute for Strategic Studies: Research and Analysis (ISSRA), National Defence University, Islamabad, 2013, p 139.

[4] Kurt Campbell, Brian Andrews, Explaining the US ‘Pivot’ to Asia, Opcit, p 02.

[5] Kurt M. Campbell, The Pivot: The Future of American Statecraft in Asia (New York: Twelve,2016), P 07.

[6] Ibid.

[7] Sigur Center for Asian Studies, Balancing Acts: The US Rebalance and Asia: Pacific stability, Rising Powers Initiative, Washington, August 2013, p 08.

[8] United states Department of Defence, Sustaining US Global Leadership: Priorities for 21st Century Defence (Washington, DC: United States Department of Defense, 2012), p 02.

[9] Ibid, p03.

[10] Phillip Saunders, The Rebalance to Asia: US-China Relations and Regional Security, Strategic Forum, No 81, August 2013, P02.

[11] Sigur Center for Asian Studies, Balancing Acts: The US Rebalance and Asia: Pacific stability, Opcit, p 07.

[12] Donald Emmerson, Challenging ASEAN: the US Pivot through South East Asia’s Eyes, Global Asia, No 7, Winter 2012, p 22.

[13] Leon Panetta, Speech at the IISS Asia Security Summit”Shangri -La Dialogue», Singapore, 2 June 2012.  

https://bit.ly/379WdGW (accessed on 28/07/2018).

[14] Hillary Clinton, America’s Pacific Century, Foreign Policy, 11 October, 2011,

https://bit.ly/37tRfG4  (accessed on 28/07/2018)

[15] Ibid.

[16] Ibid.

[17] Ibid.

[18] Michael kolmas, Sarika kolmasova, A Pivot that never existed: America’s Asian Strategy under Obama and Trump, Cambridge Review of International Affairs, vol 32, No 1, January 2019, P06.

[19] Barack Obama, Opcit.

[20] Ibid.

[21] Barack Obama, Opcit

[22] Ibid

[23] Ibid

[24] Ibid

[25] Barack Obama, op cit

[26] Ibid.

[27] Hillary Clinton, op cit.

[28] U.S Department of Defence, Sustaining U.S Global Leadership: Priorities for 21st Century Defence. (Washington D.C: U.S Department of Defence, January 2012), P 02.

[29] Robert M. Gates, Strengthening Security Partnership in the Asia-Pacific, Speech Delivered at the Shangri- la Dialogue, Singapore, 05 June 2010)

https://bit.ly/2ux4neT  (accessed on 27/06/2018)

[30] Hillary Clinton, America’s Pacific Century, Opcit.

[31] Ibid.

[32] Leon Panetta, Shangri-La Security Dialogue, Speech Delivered to the Shangri-La Security Summit, Singapore, 2 June 2012. 

https://bit.ly/2NXlddW (accessed on 27/06/2018).

[33] Ibid.

[34] David J. Berteau, Michael Green, Zack cooper, Assessing the Asia-Pacific Rebalance (Washington DC center for strategic and international studies, December 2014), P 05.

[35] Ashton Carter, The U.S Strategic Rebalance to Asia: A Defence Perspective, Speech Delivered to the Asia Society, New York, August 2012,

https://bit.ly/2NUC2WP  (accessed on 27/06/2018).

[36] Ibid.

[37] David J. Berteau, Michael Green, Zack cooper, Opcit, P 11.

[38] Chuck Hagel, Remarks by Secretary Hagel at the IISS Asia Security Summit, 2013.

https://bit.ly/2ISdcUv (accessed on 27/06/2018).

[39] Chuck Hagel, Secretary of Defence Speech: IISS Shangri-La Dialogue, Speech Delivered at the Shangri-La Dialogue, Singapore, May 31,2014

https://bit.ly/3aIcMwL  (accessed on 31/06/2018).

[40] Ibid.

[41] Tom Donilon, Remarks by Tom Donilon, National Security Advisor to the President: The United States and the Asia-Pacific in 2013, Speech Delivered at the Asia Society, New York, 11 March 2013.

https://bit.ly/2TWIrEH  (accessed on 30/07/2018).

[42] Susan Rice, Remarks as Prepared for Delivery by National Security Advisor Susan E. Rice, Speech Delivered at George Town University, Washington D.C, 20 November 2013

https://bit.ly/2NWN6m3  (accessed on 30/07/2018).

[43] Daniel W. Drezner, Does Obama have a Grand Strategy, Foreign Affairs, vol 90, No4, 2011, p 57.

[44] Montgomery EB, Contested Primary in the Western Pacific: China’s Rise and the Future of the U.S Power Projection, International Security, vol38, No04,2014, P 119.

[45] Zhao, x, Opcit, P 89.

[46] Ibid.

[47] Art. R.J, The United States and the Rise of China: Implications for the long haul, Political Science Quarterly, vol125, No3, 2010, P 359.

[48] Ibid.

[49] Zhao, Opcit, P90.

[50] Mearsheimer, J. J, The Tragedy of Great Power Politics (New York, WW. Norton), 2014.

[51] Ibid.

[52] Kalb Marvin, China is not the Soviet Union, 10 January 2012,

https://brook.gs/38GkuFE  (accessed on 14/01/2019).

[53] Barry Posen, Pull Back: The case for a Less Activist Foreign Policy, Foreign Affairs, vol92, No1, 2013, P 119.

[54] Zbigniew Brzezinski, Strategic vision: The United States and the Crisis of Global Power (New York, Basic Books), 2012, P 55.

[55]  فريد زكريا، مترجما، من الثروة إلى القوة: الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي (القاهرة: مركز الاهرام للترجمة والنشر، 1999)، ص 215.

[56] ثائر خليل محمد، مرجع سابق، ص 85.                                                                                                                                                                                

[57] Tom Donilon, “America is Back in the Pacific and will Uphold the Rules”, Financial Times, 27 November 2011 https://on.ft.com/38JWKRf (accessed on 06/07/2018)

[58] Zachary Keck, China’s Defense Budget: A mixed Bag, The Diplomat, 8 March 2014,

https://bit.ly/2sUkzq2  (accessed on 06/07/2018).

[59] China’s Military Rise: The Dragon’s New Teeth: A Rare Look Inside the world’s Biggest Military Expansion, The Economist, 7 April 2012  https://econ.st/38GLkh6 (accessed on 06/07/2018).

[60] Mayra MC Donald, Asia’s Defence Spending Overtakes Europe’s: IISS, Reuters, 14 March 2013

https://reut.rs/2GpD5d2  (accessed on 06/07/2018)

[61] Cruz Cruz Angel, The Strategic Shift to the Asia Pacific, Opcit, P 13.

[62] Andrew Krepinevich, Why Air sea Battle? (Washington DC: Center for Strategic and Budgetary Assessments, 2010), P 13. https://bit.ly/36nR51r  (accessed on 07/07/2018).

[63] Chris Plante, U.S Quietly Resumes Surveillance Flights off china’s, 15 may 2001,

https://cnn.it/2sXWlv7  (accessed on 09/08/2018).

[64] Tatsushi Arai and others, Clash of National Identities: China, Japan and the East China Sea Territorial Dispute, Woodrow Wilson International Center for scholars: Asia Program, Washington DC, 2013, P 05.

[65] Kimberly Hsu, Air Defence Identification zone Intended to Provide china Greater Flexibility to enforce East china Sea claims (U.S china economic and security) review commission, Washington DC, 14 January 2014, P 01.

*استخدم مصطلح تشريح السلامي لأول مرة من قبل الزعيم الأرثوذكسي الشيوعي المجري “ماتياس راكوسي” Matyas Rakosiسنة 1940، لوصف أعمال حزبه؛ حيث زعم أنه دمر باقي الاحزاب عن طريق تقطيعها مثل شرائح لحم السلامي. أنظر:

Joseph Cao, CAO: China’s Salami-Slicing Strategy: Beijing Presents a Serious Challenge to Obama’s Asian Pivot, 16 June 2014  https://bit.ly/37uyqlU  (accessed on 11/07/2018).

وفقا للتعبير العسكري، عرفها المحلل العسكري روبرت هاديك بأنها: “عملية التقسيم وقهر التهديدات والتحالفات للتغلب على المعارضة والحصول على أراضي جديدة” أنظر:

Robert Haddick, Fine on the water: china, America and the Future of the Pacific (Naval Institute Press, 2014), P 77.

كما عرفت بأنها:” التراكم البطيء أو التقدم المستمر للسلوكيات الصغيرة، التي لا تشكل أي منها مبرراً للحرب، لكن تراكمها مع مرور الوقت يؤدي إلى تغيير إستراتيجي رئيسي”.

Brahma Chellaney, China’s Salami-Slice Strategy  https://bit.ly/30UA3a3  (accessed on 11/07/2018).

كما تعني الاستراتيجية:” العمليات العسكرية السرية ضد البلدان المجاورة، والتي تتراكم في شكل مكاسب إقليمية مع مرور الوقت، وتكون كافية لإرباك الدول المجاورة حول كيفية الرد عليها”.

How India Plans to Counter China’s Salami Slicing Strategy, 12 July 2018

https://bit.ly/2RJrieM  (accessed on 11/07/2018).

ويطلق المسؤولون الصينيون على هذه الاستراتيجية اسم Cabbage Strategy.

*الصين هي البلد الوحيد الذي وسع نطاق سلطته الإقليمية بعد الحرب العالمية الثانية على حساب جيرانه.

[66] Joseph Nye, China’s Re-emergence and the Future of the Asia-Pacific Survival, Global Politics and Strategy, vol39, No 4,1997, PP 65-66.

[67] Ronald, O’Rourke, Maritime Territorial and Exclusive Economic Zone (EEZ) Disputes Involving China: Issue for Congress, CRS Report, Washington D.C, Library of Congress, Congressional Research Service 11 April 2014.

[68] BRAHMA Chellaney, Opcit.

*يعتبر النزاع على طول حدود الهيمالايا بين الصين والهند أطول حدود متنازع عليها في العالم.

[69] SCO,” India, Pakistan to become full members, Turkey Dialogue Partners, Afghanistan Observer”, Center for Research on Globalization, 4 November 2011

https://bit.ly/36pQAEk  (accessed on 13/07/2018)

[70] محمد عبد الله يونس، “تحول استراتيجي: الاستراتيجية الامريكية الجديدة في الباسيفيكي”، السياسة الدولية، م 77، ع 188، أفريل 2012، ص 91.

[71] محمد فايز فرحات، “مستقبل الانتشار النووي في شمال شرقي آسيا”، السياسة الدولية، ع 167، 2007، ص116.

[72] محمد عبد الله يونس، مرجع سابق، ص 92.

[73]  علي زياد العلي، آسيا الواعدة: الاستراتيجية الامريكية في القارة الاسيوية (عمان: دار أمجد للنشر والتوزيع ،2016)، ص.24

[74] David Goldman, Worst Years for Jobs Since 2.5, CNN,9 January 2009,

https://cnn.it/37lTQkQ (accessed on23/07/2018)

[75] Cruz Cruz Angel D, The Strategic Shift to the Asia Pacific, Master Thesis, Opcit, P, 40

[76] Ibid

[77] Andy Sullivan, UJ, Bankruptcy Fillings up 21 Percent in 2008, Reuters, 5 March 2009

https://reut.rs/2ZIwaV9 (accessed on 03/07/2018).

[78] Dick K Nanto, The Global Financial Crisis: Analysis and Policy Implications, CRS Report, No 34742, Congressional Research Service, Washington D.C, 2 October 2009, P 70.

[79] Hillary Clinton, America’s Pacific Century, Opcit.

[80]  علي زياد العلي، آسيا الواعدة: الاستراتيجية الامريكية في القارة الاسيوية، مرجع سابق، ص ص24-26

[81] جلال عبد الرحمن، التوجهات الامريكية في منطقة شرق آسيا (الجزائر: دار النبراس للطباعة، 2014)، ص 87.

[82] علي زياد العلي، مرجع سابق، ص 27.

[83] How to get a date: The Year when the Chinese Economy will truly eclipse America’s is in sight, The Economist ,31 December 2011 https://econ.st/36cTjl1  (accessed on 13/07/2018)

[84] Geoff Golvin, study: China will overtake the US as world’s Largest Economy before 2030, Fortune ,9 February 2017 https://bit.ly/2ZF8WPZ  (accessed on 13/07/2018)

[85] Shaurya karanbir Gurung, China Defence Budget 175 billion, India 45 billion, 06 March2018

https://bit.ly/2ZLg4u8  (accessed on 13/07/2018)

[86] Anisa Heritage, Interpreting the Obama Administration’s Rebalance Strategy: Sustaining U.S. hegemony in the Asia-Pacific, Opcit, P 126.

[87] Ibid, P127.

[88] Ibid, P131

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى