سياسية

الأزمة الليبية: قراءة في سياسات دول الجوار

د سعد سلامة

المدير التنفيذي لمجموعة منحى الأزمة الليبية

مقدمة / مداخل مفاهمية

توجهات السياسة الخارجية: يُعرَّف التوجـه في السياسة الخارجية بأنه المسار الذي تخطه الوحدة الدولية في تعاملها مع أطراف البيئة الخارجية، والذي يعبِّر عن قيمها ورؤيتها لشكل السياسة الدولية وقضايا النظام الدولي السائد وفلسفتها لبناء علاقاتها الخارجية، وفي حل الصراعات الناشئة عن التفاعلات الدولية بالشكل الذي يعزِّز من المكانة العالمية للدولة في المستقبل. أما التوجه الإقليمي للسياسة الخارجية فهو يعبِّر عن نمط السياسات التي تنتهجها الوحدة الدولية في تعاملها مع محيطها الإقليمي، والذي يتضمن القيم والأيديولوجيا ونمط الوسائل التي تتم بها معالجة وإدارة مصالحها، وتحقيقها لمقاصد سياستها بالشكل الذي يعظِّم من مكانتها الإقليمية.  ويتضمن برنامج السياسة الخارجية لأية وحدة دولية توجهًا عامًّا يصبغ سياستها الخارجية ويوضح ملامحها ونمط أيديولوجيتها وطبيعة إدراكها للأطراف الدولية وعلاقاتها الخارجية.

دول الجوار الحدودي: جغرافياً، تشترك ليبيا كدولة، ومنذ أن ظهرت للوجود بشكلها الحالي في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي في حدودها مع ستة دول، أربع دول منها عربية ودولتان غير عربيتين، ومجموعه أربعة آلاف وسبعمائة وخمسة وأربعون كيلو متر مربع (4745 كم )، بواقع 1400كم مع الجزائر، و1115كم مع مصر، 1050كم مع تشاد، و460كم مع تونس، و380كم مع السودان، و340كم مع النيجر.

الأزمة الليبية: يقصد بها في هذه الورقة حالة الانقسام والانسداد السياسي الناجم عن النزاع على الشرعية الذي بدأت فصوله عام 2014 عقب الانتخابات التشريعية وما ترتب عليها وعلى نتائجها من جدل قانوني وصراع سياسي وعسكري في شأن شرعية الأجسام التشريعية والتنفيذية المنبثقة عنها لا يزال مستمر حتى وقتنا الحاضر.

الفكرة المركزية للورقة: هذه الدراسة معنية فقط بالتوجهات السياسية التي تبنتها دول الجور الحدودي للدولة الليبية نحو الأزمة السياسية التي تمر بها هذه الدولة، وتنطلق من تساؤل مبدئي عام يبحث في حقيقة الدوافع التي تقف وراء هذه التوجهات السياسية، متبنيه في ذلك افتراض مباشر يقول أن هذه التوجهات كانت في مجملها محكومة بمجموعة من المخاوف والهواجس الأمنية ومن الشكوك والظنون المسبقة وبعيدة كل البعد عن كونها انعكاساً لرؤى استراتيجية جامعة تستشرف قيمة الأمن الجماعي المشترك كمحدد رئيسي ينبغي الأخذ به في حركة وسلوك وتوجهات هذه الدول نحو الأزمة الليبية وما قد يترتب عليها من تداعيات آنية ومستقبلية.

أولاً / المحددات الحاكمة في التوجهات السياسية لدول الجوار الحدودي تجاه الأزمة الليبية:

ما من شك أن هناك محددات معينة متعارف عليها منهجياً ينبغي التعرض إليها عند دراسة السياسة الخارجية لأي وحدة دولية. يأتي في مقدمتها المحدد الجغرافي والمحدد الأمني والمحدد  الاقتصادي والمحدد الاجتماعي ومحدد البحث عن دور لتعزيز الزعامة والنفوذ، ومع إدراكنا بأن هناك محددات خاصة بكل دولة من الدول الستة قيد الدراسة  تجاه الأزمة الليبية، إلا أن ضحالة النتائج وهامشية تأثير الدور الجمعي لهذه الدول طوال السنوات العشرة الماضية التي مرت من عمر الأزمة الليبية، وتتبع السياق الزمني للكيفية التي تعاملت بها هذه الدول مجتمعة مع التطورات المختلفة التي مرت بها الأزمة الليبية يجعلنا نعتقد جازمين بأن المحددات الحاكمة في التوجهات السياسية المشتركة لدول الجوار الحدودي لليبيا نحو الأزمة الليبية تنحصر في المخاوف و الهواجس السياسية و الأمنية التالية:

1- المخاوف والهواجس المرتبطة بأن تتحول ليبيا إلى منصة لتهريب السلاح.

2- المخاوف والهواجس المرتبطة بأن تتحول ليبيا منصة للعمليات الإرهابية.

3- المخاوف والهواجس المرتبطة بأن تصبح ليبيا مقرا لحركات و جماعات المعارضة المسلحة لهذه الدول.

4 -المخاوف الهواجس المرتبطة بأن تصبح ليبيا ساحة دائمة للصراع على النفوذ و للحروب بالوكالة ولتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية غير متجاورة جغرافيا مع ليبيا.

5 – الخوف من سيطرة وتمكن تيارات أو توجهات سياسية معينة من إدارة مفاصل الدولة الليبية غير مرحب بها عند هذه الدول.

6- المخاوف والهواجس من أن تتحول ليبيا إلى نموذج ديمقراطي محفز للتغيير و للتقليد عند شعوب و نخب ومؤسسات هذه الدول.

ثانياً / المظاهر العملية للتوجهات السياسية لدول الجوار الحدودي حيال الأزمة الليبية:

1-الاجتماعات البينية:

فيما يبدو أنه محاولة عملية منها لتلافي ومواجهة التداعيات السلبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً التي قد تطال دولها ومجتمعاتها جراء الأزمة الليبية، لجأت دول الجوار الحدودي مع ليبيا إلى تبني منهجية عقد اجتماعات دورية بلغت في مجملها حتى تاريخ كتابة هذه الورقة سبعة عشر اجتماعاً وزارياً، لا تعدو في مجملها عن كونها لقاءات رسمية مخصصة لاستعراض الأزمة الليبية والتطورات المترافقة زمنياً مع فترة عقد أياًمن هذه الاجتماعات السبعة عشر. وتكون دائماً على مستوى وزراء الخارجية ويشارك فيها في الغالب ممثلين عن جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، كما أن بعض الاجتماعات حظيت بمشاركة ممثلي قوى إقليمية ودولية معنية مباشرة بالأزمة الليبية، كما أن أغلب هذه الاجتماعات السبع عشر كانت تجري على هوامش مؤتمرات إقليمية ودولية مما يضفي كم هائل من الشكوك حول قناعة هذه الدول بجدية هذه الاجتماعات و قيمتها السياسية. وعلى الرغم من أن كلا من السودان و تشاد و النيجر كانت و لا تزال من أكثر الدول الست تأثراً بالانفلات الأمني في ليبيا إلا أنه عادة ما يتم تهميش هذه الدول الثلاثة بأن تعطى مساحات أكبر في إدارة الأزمة الليبية إقليمياً ودولياً لكل مصر والجزائر وتونس  وهذا نظرًا لما تملكه الدول الثلاثة من ثقل سياسي وعسكري وإقليمي مقارنة بالدول الثلاثة الأخرى أولاً، وثانياً لأنها جزء لا يتجزأ من القرار السياسي الليبي، فكانت مصر هي مكان صناعة القرار السياسي في شرق ليبيا، ولعبت الجزائر وتونس  الدور ذاته فيما يتعلق بصناعة القرار السياسي في غرب ليبيا و إن كان هذا الدور أقل بكثير جداً من حيث فاعليته بما هو عليه الحال من في الدور المصري. هذه الوضعية يمكن أن ينظر إليها من حيث كونها نتاج طبيعي لارتباط مصالح كل دولة من الدول الثلاث بعدد من الفاعلين القادرين على حماية هذه المصالح داخل ليبيا، واعتماد الفاعلين في الداخل الليبي على الدعم المقدم من كل دولة في إطار حماية هذه المصالح. وبالتالي، فإن أبسط تعارض في الرؤى بين هذه الدول الإقليمية الثلاث سينعكس تلقائياً على توجهاتها السياسية حيال الأزمة الليبية، كما هو الحال عندما لم تتمكن دول الجوار الحدودي لليبيا من عقد اجتماعها المقرر مسبقاً على هامش قمة الاتحاد الإفريقي في مدينة نواكشوط في يوليو 2018، عندما غادر الوفد المصري فجأة و بدون سابق إندار، و أيضا كما هو الحال عندما لم تتمكن هذه الدول من عقد اجتماعها المقرر على هامش الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب المنعقدة في القاهرة في سبتمبر 2022، عندما انسحب الوفد المصري من الاجتماع فيما ظهر كأنه دعماً مصرياً لأحد أطراف الصراع الرئيسين في التطورات التي تزامنت مع توقيت الاجتماع في الأزمة الليبية. وفقا لهذا الفهم، انعكست هذه الخلفية على كل اجتماعات دول الجوار الحدودي لليبيا و التي يمكن حصرها على النحو التالي:

رقم الاجتماعمكان الاجتماعالتاريخ
الاجتماع الأولالجزائرمايو – 2014
الاجتماع الثانيغينيايونيو – 2014
الاجتماع الثالثتونسيوليو – 2014
الاجتماع الرابعالقاهرةأغسطس – 2014
الاجتماع الخامسالخرطومديسمبر – 2014
الاجتماع السادسأنجامينايونيو – 2015
الاجتماع السابعالجزائرديسمبر – 2015
الاجتماع الثامنتونسمارس – 2016
الاجتماع التاسعنياميأكتوبر – 2016
الاجتماع العاشرالقاهر يناير – 2017
الاجتماع الحادي عشرالجزائرمايو – 2017
الاجتماع الثاني عشرالخرطومنوفمبر – 2018
الاجتماع الثالث عشرالقاهرةمارس – 2019 
الاجتماع الرابع عشرتونسيونيو – 2019
الاجتماع الخامس عشرالجزائريناير – 2020
الاجتماع السادس عشرالجزائرأغسطس – 2021
الاجتماع السابع عشرتونسيونيو – 2022

وفي كل هذه الاجتماعات حرصت دول الجوار الحدودي لليبيا، على أن تعكس بياناتها المنبثقة عنها، درجة عالية من التوافق فيما بينها حول الكيفية التي بها ومن خلالها يمكن الوصول إلى تسوية سلمية للأزمة الليبية، وكذلك فهماً متقارباً فيما بينها حول كل القضايا المعنية بهم بشكل مباشر في الأزمة الليبية، عليه فإن أغلب إن لم يكن كل البيانات الصادرة عن الاجتماعات الثماني عشر كانت تركز على التأكيد على النقاط التالية:  

1-أهمية اجتماعاتهم الدورية المشتركة باعتبارها الإيطار الذي يجمع جهود دول جوار ليبيا للتباحث حول التحديات التي تواجهها هذه الدول، والناتجة عن الوضع الأمني بليبيا، والتنسيق والتشاور للمساعدة على إرساء حوار وطني ليبي في كنف الوئام والتوافق بين أبناء الشعب الليبي.

2- إن دول الجوار تمثل طرفاً أساسياً في التعاطي مع المسألة الليبية وفي أي جهد يساعد على حل الأزمة ويخدم مصلحة الشقيقة ليبيا.

3- ضرورة معالجة بؤر الإرهاب في ليبيا باعتبارها مصدر قلق لليبيا ولدول الجوار المباشر وتجفيف منابعه.

4-إن غياب حل للأزمة يصب في مصلحة الإرهاب بمختلف شبكاته ذات الصلة بالجريمة المنظمة وكل أشكال التهريب العابر للحدود، لاسيما تلك المتعلقة بالمخدرات والأسلحة والمقاتلين الأجانب والهجرة غير الشرعية، والتي تشكل تهديداً لأمن واستقرار ليبيا ودول المنطقة.

5-التأكيد على أهمية استتباب الأوضاع في ليبيا، والدور المنوط بدول الجوار في دعم التوصل لتسوية شاملة تصون مقدرات ليبيا، وتحفظ سيادتها بمنأى عن أي تدخلات خارجية، بالإضافة إلى ملف الانتخابات، والتأكيد على أهمية إجرائها كخطوة مهمة نحو تحقيق الاستقرار.

6-إن أيّ تدخل عسكري أجنبي لمكافحة الجماعات الإرهابية يجب أن يكون في إيطار الشرعية الدولية وبناءاً على طلب من الحكومة الوطنية الليبية.

7-الحاجة الملحة لتعزيز تدابير بناء الثقة من أجل تهيئة المناخ الملائم لإنجاح الانتخابات القادمة في ليبيا، والتشديد على الأهمية القصوى لمصالحة وطنية شاملة وذات مصداقية، في إطار مساعي الاتحاد الإفريقي ودول الجوار الليبي.

8-الدور المحوري لآلية دول الجوار في دعم المسار الليبي برعاية أممية، والعمل على التنسيق ما بين اللجنة العسكرية المشتركة “5+5” ودول الجوار الليبي بشأن موضوع انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية، لوضع آلية فعالة وعملية بين الجانب الليبي ودول الجوار.

9-ضرورة انسحاب كافة القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة وفقاً لقرار مجلس الأمن 2570، وعلى النحو المنصوص عليه في اتفاق وقف إطلاق النار الدائم، مؤكدين على الحاجة لإشراك دول الجوار بشكل كامل في المحادثات أو المسارات التي يتم إطلاقها في هذا الصدد.

10-ضرورة قيام المؤسسات الليبية المختصة بتمهيد الأرضية القانونية والدستورية لإجراء الانتخابات، وبذل كل الجهد الممكن من أجل انسحاب القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة، وتوحيد المؤسسة العسكرية.

11-الأهمية القصوى لإنجاز مصالحة وطنية شاملة وذات مصداقية في إطار مساعي الاتحاد الإفريقي ودول الجوار الليبي من أجل تمهيد الطريق لعقد مؤتمر المصالحة الوطنية بين الليبيين بالتنسيق مع دول الجوار.

12- دعم السلام وتحقيق المصالحة المشتركة بين الفرقاء الليبيين،  والتحذير من أن عدم إجراء الانتخابات في ليبيا يهدد بخطر تقسيم البلاد.

2- الاتفاقيات البينية:

في هذا الايطار تم الإتفاق على توقيع الإتفاقيتين التاليين:

-الاتفاق على تشكيل لجنة أمنية ولجنة سياسية ( 14 يوليو 2014 ) :

وقع على هذا الاتفاق إضافة إلى ليبيا كل دول جوارها الحدودي الست، وذلك على النحو التالي:

1-تشكيل فريق عمل أمني على مستوى الخبراء الأمنيين، وتتولى الجزائر تنسيق أشغاله ويُعنى بمتابعة المسائل الأمنية والعسكرية بما فيها مراقبة الحدود والمساعدة على بلورة تصور محدد فيما يتعلق بتجميع الأسلحة الثقيلة وفق منهج تدريجي يهدف إلى التعامل الجاد مع هذه المسألة التي تهدد الأمن والاستقرار في ليبيا ودول الجوار.

2- تشكيل فريق عمل سياسي على مستوى كبار الموظفين وتتولى مصر تنسيق أشغاله ويعنى بالمسائل السياسية بما في ذلك الاتصال بالطبقة السياسية ومكونات المجتمع المدني في ليبيا.

-الاتفاقية الرباعية لحماية الحدود المشتركة ( 23 يوليو 2018 ):

 تم توقيع هذه الاتفاقية بين كل من دول ليبيا وتشاد والنيجر والسودان، وتعهدت الدول الموقعة على الاتفاق بتعزيز التعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية فيما بينها بغية مكافحة الجرائم العابرة للحدود بمختلف أشكالها توطيداً للسلام والأمن والتنمية بالمناطق الحدودية المشتركة، وإنشاء إيطار تشاوري وعملي لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة. واتفقت الدول الموقعة كذلك على إنشاء لجنة للتنسيق والمتابعة بحيث تضم ممثلاً على الأقل من كل دولة، وعلى أن تكون رئاسة لجنة التنسيق والمتابعة دورية لمدة ستة أشهر حسب الترتيب الأبجدي للغة العربية. تم الاتفاق أيضًا على إنشاء مركز لإدارة العمليات المشتركة أو الدوريات الموازية ودعمه بالوسائل المناسبة، وأن تحدد طريقة تكوينه ومهامه ومقره بواسطة لجنة التنسيق والمتابعة خلال شهرين من تاريخ التوقيع على هذا الإتفاق، على أن تتحمل الدول الأطراف النفقات، كما يمكن للدول الأطراف طلب الدعم الفني واللوجستي والتدريب من المجتمع الدولي حسب الحاجة. وجاء في الاتفاق أيضًا، أنه عند تعرض إحدى الدول الأطراف لعدوان من مجموعات متطرفة أو مرتزقة على الحدود، يسمح للدولة الضحية بملاحقة المعتدين فيما وراء الحدود من خلال التنسيق المسبق مع الدولة المعنية. وتعهدت الدول الأطراف بتوقيع اتفاق للتعاون القضائي لمكافحة المجموعات الإرهابية، المرتزقة والمتورطين في كافة أنواع الاتجار غير المشروع طبقاً للأهداف المنصوص عليها في هذا البروتوكول، وتطوير تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الأجهزة المختصة.

ثالثا / ملاحظات نقدية عامة على التوجهات السياسية المشتركة لدول الجوار الحدودي مع ليبيا:

على الرغم من توافر كل المقومات المفترضة لإدراك صانعي القرار في هذه الدول الست بأن الأزمة الليبية هي مهدد حقيقي لأمنها القومي وبأن استمرارها سيترتب عليه كلفة سياسية واقتصادية واجتماعية عالية، وبأن المقاربة الجماعية فيما بينها هي الوسيلة الأنجح والأفضل للتعامل مع الأزمة الليبية وتداعياتها، إلا أن واقع الحال يظهر بوضوح أن كلا من هذه الدول الست اختارت أن تنتهج توجهاتها الخاصة بها وبما يستجيب للمحددات التي تحكم السياسة الخارجية لكل منها. عشر سنوات مرت حتى الآن على مسار دول الجوار الليبي، العنوان الأكبر المعبر عن هذا المسار هو أن هذا المسار يظهر عدم قدرة حتى لا نقول فشل هذه الدول في تحقيق حتى الأدنى الكافي من التنسيق والتعاون فيما بينها. عشر سنوات كانت مليئة بالاجتماعات واللقاءات إلا أن هذه الدول لم تتمكن من أن تصنع فيما بينها آلية أو إطارا لاستراتيجية واضحة المعالم تسير وفقها وتتعامل من خلالها مع الأزمة الليبية، بل على العكس من ذلك تماماً كانت هذه الدول فرادة حريصة وأكثر تناغماً مع علاقاتها الاستراتيجية التقليدية مع قوى إقليمية ودولية أخرى متدخلة ومعنية بالملف الليبي حتى ولو كان ذلك على حساب أمنها الجماعي مع غيرها من دول المنطقة. فيبدو أن الكم الهائل والمتجدد من التحديات التي غصت بها الأزمة الليبية، والحجم الكبير من التشابك والتداخل في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية بين هذه الدول الست مع الدولة الليبية، قد جعل من هذه الدول تحت طائلة ما تعانيه من أوضاع اقتصادية وسياسية داخلية متأزمة تواجه حالة عجز، المتصف بدرجة عالية من الارتباك  في صياغة توجهاتها السياسية المشتركة تجاه الأزمة الليبية، وبدلاً من أن تكون هناك مقاربة جماعية مشتركة شاملة للتعامل مع الأزمة الليبية تبنت كلا منها مقاربتها المنفردة الخاصة بها، مقاربات مختلفة يكاد يكون القاسم المشترك فيما بينها فقط هو تركيزها الحاد على تبني المعالجات الأمنية، مع الاستهانة التامة، وربما عدم الإدراك بالدور الذي يمكن أن تلعبه وتساهم به بالمعالجات الاجتماعية نظراً للتداخل والتشابك الكبير بين المكونات السكانية الجامعة بين مواطني كل هذه الدول وبعضها البعض.

ولتبيان ذلك عملياً، قد يصلح الوقوف على بعض من نماذج السياسات التي تبناها كل من الدولة المصرية والدولة الجزائرية تجاه الأزمة الليبية:

1-النموذج المصري :

الدولة المصرية كانت ولا تزال، لها مقاربة سياسية وأمنية خاصة بها حيال الأزمة الليبية، بها أظهرتها في تبنيها للكثير من المواقف الراديكالية من التطورات المتلاحقة من الأزمة الليبية، وإلى درجة أنها أعلنت في يونيو 2020 وعلى لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي، وبمنطق الدولة العظمى بقرب التدخل العسكري المصري المباشر في ليبيا، معتبرا ـ الرئيس المصري ـ أي تدخل مصري مباشر في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية، سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة، بحق الدفاع عن النفس، أو بناء على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي متمثلا في مجلس النواب، مضيفاً بأن هناك خمسة أهداف رئيسية تقف وراء التدخل المصري المزعوم الأول منها هو تأمين العمق الاستراتيجي للدولة المصرية ضد تهديدات ما وصفها بـ”المليشيات الإرهابية والمرتزقة”، وبأن الهدف الثاني هو فرض الأمن والاستقرار على الساحة الليبية باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي المصري والعربي”. أما الهدف الثالث من التدخل المصري المزعوم، فهو حقن دماء الشعب الليبي، بتهيئة الظروف لوقف إطلاق النار، ومنع أي من الأطراف من تجاوز الأوضاع الحالية، ما يعني التزام جميع القوى المتصارعة خطوطها الحالية، أما الهدف الرابع فهو وقف إطلاق النار الفوري، والخامس إطلاق مفاوضات عملية تسوية شاملة تحت رعاية الأمم المتحدة ووفق مخرجات مؤتمر برلين. أهداف خمس ختمها الرئيس المصري بقوله بما معناه أن الأزمة الليبية تشكل أخطاراً وتهديدات تستوجب التعاون بين الجيش المصري والقبائل في منطقة الصحراء الليبية غرب مصر وشرق ليبيا، فضلا عن التعاون بين مصر والدول العربية والشعب الليبي والدول الصديقة لحماية كل من مصر وليبيا من العدوان الذي تشنه المليشيات الإرهابية والمرتزقة بدعم من قوى تعتمد على أدوات القوة العسكرية لتحقيق طموحاتها التوسعية وتهديد الأمن القومي العربي. إلا أن كل هذه الحدية التي تظهر في الموقف المصري تجاه الأزمة الليبية، لا تمنع من القول بأن هناك مساراً موازياً في السياسة الخارجية المصرية لا يخلو من الكثير الفاعلية، يتجسد في حرصها بأن تكون جزءا رئيسيا في كل المساعي السلمية المتعلقة بالأزمة الليبية سواء منها تلك التي ترعاها البعثة الدائمة للأمم المتحدة في ليبيا، أو تلك التي كانت برعاية قوى إقليمية ودولية بارزة بداية من مشاريع التسوية الإماراتية ومروراً بالمشاريع الفرنسية والإيطالية، وصولاً إلى أحدث هذه المساعي وأكثرها تأثيراً في برلين واحد واثنين ولقاء جنيف الأخير الذي انبثقت عنه حكومة الوحدة الوطنية الحالية، كما أن مصر حريصة أيضاً على أن يكون لها وجود في مسار لجنة خمسة زايد خمسة ومسار لجنة ستة زايد ستة، وجود تعكس الكثير من المؤشرات العملية بأن حجم التأثير المصري في الملف الليبي وخلافاً لما عليه هو في الدائرة الجماعية لدول الجوار الحدودي مع ليبيا شديد الفاعلية والتأثير إلى درجة من الصعب القول أن الوصول إلى أي تسوية سياسية ممكنة للملف الليبي دون أن يكون لمصر الدور الرئيسي فيها. مع الانتباه إلى أن هذه الفاعلية والتأثير تظل دائماً مرتبطة كما هو الحال في كل ملفات السياسة الخارجية المصرية بمستوى الهشاشة الدائمة في قوتها الاقتصادية وما تفرضها عليها من إكراهات قد لا تنسجم ومتطلبات أمنها القومي والإقليمي.

2-النموذج الجزائري :

ظاهرياً، لعل الدولة الجزائرية من أكثر الدول الإفريقية حرصاً على اظهار تمسكها بتبني سياسة عد التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى كمبدأ ثابت في التوجهات التي تتبناها في سياساتها الخارجية تجاه غيرها من باقي دول العالم. ووفقاً لهذا المبدأ فإن القراءة المتأنية للمواقف الرسمية الجزائرية والسلوك السياسي لرموز وقيادات الدولة تكشف عن حرص شديد من جانب هذه الدولة على اثبات تطبيقها لهذا المبدأ وتشجيعها للمساعي الليبية ليبية ورفضها للتدخلات الخارجية، إلا أن تتبع السياق الزمني للتعامل الجزائري مع الأزمة الليبية يظهر أن الجزائر لم تكن بمنأى بشكل أو بآخر عن التطورات المتلاحقة التي عرفتها هذه الأزمة، حيث استضافت الجزائر بعضاً من لقاءات القوى السياسية الليبية كما أنها كانت حاضرة في العديد من المؤتمرات الدولية المعنية بالأزمة الليبية وهي من بين دول قليلة تباشر أعمال سفارتها وقنصليتها من العاصمة طرابلس، كما أنها أعلنت مؤخراً بأنها في طريقها لأن تعيد فتح منافذها البرية مع ليبيا، بدون فرض أي تأشيرات على سفر المواطنين الليبيين إلى أراضيها. سبب آخر قد يعين على فهم التوجهات الجزائرية حيال الأزمة الليبية هو ذلك الكم الهائل من المخاوف والهواجس الأمنية عند السلطات الجزائرية الناجم عن الغياب التام لوجود شريك أمني حقيقي ليبي يعتمد عليه في حماية وحراسة حدودهما الطويلة المشتركة، مما أضاف الكثير من الأعباء الأمنية والكلفة المالية في تحمل القيام بهذه المهمة في بيئة تعج بكم هائل من المهددات الأمنية. وأخيراً وربما يكون هذا هو السبب الأهم محاولة فهم التوجهات الجزائرية حيال الأزمة الليبية هو محاولة كبح ذلك التمدد في الأدوار الفاعلة للمملكة المغربية التي أصبحت شيئا فشيئا لاعب  مؤثر  في الملف الليبي مكنتها من الوصول إليه دبلوماسية هادئة ونشطة استطاعت بها أن تبني علاقات ثقة ومصداقية مع طيف واسع من القوى الليبية المؤثرة الرئيسية شرقاً وغرباً، وبأن تكون كذلك،  المملكة المغربية الخيار الأنسب والوجهة المفضلة لأهم الاستحقاقات السياسية في الملف الليبي .

لكن مع ذلك يظل حجم النفوذ المصري في هذا الملف وما قد يترتب عن تمدد حليفها خليفة حفتر غرباً من ملامسة مصرية للحدود الجزائرية الشرقية أحد أهم الدوافع والأسباب التي جعلت من الدولة الجزائرية تعيد قراءة منهجياتها المتبعة حيال ليبيا وتتحرر شيئا فشيئا من قيد مبدئها التقليدي في عدم التدخل وتتحول، وإن كان بخطى مرتبكة حتى الآن ـ إلى أحد اللاعبين الرئيسيين في الملف الليبي، حتى أنها أعلنت صراحة على لسان رئيسها عبدالمجيد تبون في يناير 2020 خلال استقباله فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية السابق، عن رفضها القوي للهجوم الذي قامت به القوات التابعة لخليفة حفتر على العاصمة طرابلس، قائلا ـ تبون ـ  أن “طرابلس في نظر الجزائر تعتبر خطاً أحمر نرجو عدم تجاوزه”.

في المجمل، وخلافاً للدولة المصرية النافذة بقوة في الملف الليبي وتعبر بشكل علني عن رؤيتها وتصوراتها وتقدم دعمها العلني والمباشر لقوى ليبية مؤثرة في المسار والسياق العام والخاص للأزمة، فإن المتابع للملف الليبي لا يكاد يجد خطوطاً متماسكة وصلبة لملامح استراتيجية جزائرية حيال هذا الملف،  كل ما هنالك ردود أفعال على أفعال دول أخرى، وحرص على المشاركة في المؤتمرات الدولية المعنية بالملف الليبي دون أن يكون لهذه المشاركة لا قيمة مضافة للدبلوماسية الجزائرية ولا حتى لفرص التسوية السلمية للأزمة.

الخاتمة:

من الناحية المنهجية، دراسة وفهم وتفسير وكذلك التنبؤ بالسلوك السياسي للدول وبالتطورات المجتمعية المشتركة في منطقة جغرافية ما، تخضع لمجموعة من القواعد  المرتكزات المتفق عليها بين الكثير من الباحثين والدارسين في حقل العلوم السياسية وهي ما يطلق عليها علمياً بالنظرية. من هنا فإن الاقتراب من محاولة فهم السلوك السياسي من مجموعة دولية ما حيال أزمة سياسية ما تتعرض لها أحد الوحدات الدولية المكونة لهذه المجموعة، ستبدو أكثر علمية إذا ما تم التعامل معها من خلال النظريات المعتمدة في العلوم السياسية. وفي الحالة قيد الدراسة يمكن القول باطمئنان شديد أن الاهتمام المعاصر بالنظام الإقليمي أو ما يطلق عليه بـالإقليميّة الجديدة – New Regionalism يشكّل بلا شكّ أحد الاتجاهات المهمّة في العلاقات الدولية المعاصرة.

مفاهيماً،  يقصد “بالنظام الإقليمي” في أوسع معانيه تلك الحالة التي توجد فيها تفاعلات وثيقة بين دول متجاورة جغرافياً. ويرى الدكتور علي الدين هلال أن مفهوم “النظام الإقليمي” يتعلق بمنطقة جغرافية معينة، ويشمل ثلاث دول على الأقل، وألا يكون من بين وحداته دولة عظمى، وأن توجد شبكة معقدة من التفاعلات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تربط بين أعضائه. ويضيف إلى ذلك، ضرورة وجود تماثل اجتماعي وثقافي، أو وجود هوية إقليمية، والشعور بالتضامن والتكامل بين أعضاء النظام، أو السعي لذلك. ويميز دارسو النظام الإقليمي بين: دول القلب أو مركز النظام، ودول الأطراف، ودول الهامش.  يقصد “بدول القلب” هي تلك التي تمثل محور التفاعلات السياسية في النظام الإقليمي، وتشارك في الجزء الأكثر كثافة من تلك التفاعلات، وتحدد، من خلال ذلك، طبيعة المناخ السياسي السائد في النظام. أما دول الأطراف فهم أعضاء في النظام، ولكنها لا تدخل في تفاعلات مكثفة مع بقية وحداته، لاعتبارات جغرافية أو سياسية. وأخيرًا فإن دول الهامش، توجد على هامش النظام، وتُجاوره جغرافيا، ولكنها ليست منه، فدول الهامش هي بمثابة الجوار الجغرافي للنظام الإقليمي. وتتناول الدراسات المتعلقة بالنظم الإقليمية قضايا شتى مثل: السمات البنيوية للنظام، بمعنى الأوضاع والنظم السياسية والاقتصادية والاتصالية والاجتماعية…إلخ، ومستوى القوة وتوزيع عناصرها بين وحدات النظام، وكثافة التفاعلات بين أعضاء النظام وطبيعتها من تعاون ومُنافسة وصراع. ويتم التميز في هذا الصدد بين نوعين من العلاقات بين أعضاء النظام: علاقات القوة داخل النظام والتي تستند إلى شكل توزيع (تركز أو تشتت) مصادر القوة، ويؤثر ذلك على نمط توازن القوى في الإقليم وإدراك أطرافه لمصادر التهديد، وعلاقات التعاون والصراع والتي تستند إلى عوامل كاللغة والتاريخ والاقتصاد والجغرافيا، وينتج عن هذين النوعين من العلاقات أنماط متنوعة للتحالفات والتكتلات والصراعات الإقليمية، كما تركز الدراسات الإقليمية على علاقة النظام ببيئته الخارجية التي تأخذ شكل نظم إقليمية أخرى والنظام الدولي. وبالتالي وانطلاقا من كون أن أحد أهم أركان أي نظاماً إقليمياً هو إدراك أعضائه بوجود مصادر تهديد مشتركة، وهو ما يدفعها إلى التعاون الأمني فيما بينها وبناء نظام أمني يقوم على مبدأ الدفاع المشترك، فإن دراسة وتحليل السياسات المشتركة التي تبنتها دول الجوار الحدودي للدولة الليبية تجاه الأزمة التي تمر بها هذه الدولة سيساعد بلا شك على الوقوف على حقيقة الأسباب والدوافع الكامنة  وراء حالة القصور السياسي الكبير الظاهر في عجز صانع القرار في دول الجوار الحدودي مع ليبيا عن فهم طبيعة الأزمة الليبية بمنظور التفكير السياسي الاستراتيجي بدلا من ـ كما واقع الآن ـ من تبنيه لمنظور الفعل ورد الفعل والسعي وراء المكاسب الآنية الوقتية.

المراجع :

1 ـ جلين بالمر، السياسة الخارجية، ترجمة عبد السلام علي نوير، النشر العلمي والمطابع، جامعة الملك سعود، 2011.

2 ـ عبد الرؤوف بن الشهيب، السياسة الخارجية الجزائرية بين تهديدات دول الجوار ومتطلبات التكيف، مجلة الباحث الاجتماعي ، العدد 14، سنة 2018.

3 ـ الطيب البدري طه محمد أحمد، النظم الإقليمية والإقليمية الجديدة، مجلة كلية الدراسات العليا، جامعة النيلين، العدد 2 ، المجلد 15، 2020.

4 ـ محمود بيومي، مصر والأزمة الليبية، منتدى البدائل العربي للدراسات، أغسطس 2014.

5 ـ علي الدين هلال، الدراسات الإقليمية في مراحل التحول، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أبريل ، 2019.

6 ـ أي دور لتونس في الأزمة السياسية في ليبيا ؟https://www.independentara.com

7 ـ اجتماع دول الجوار يدعو لوقف العمليات العسكرية ليبيا ،https://www.alquds.co.uk

8 ـ اجتماع دول الجوار بالجزائر هل يُبعد شبح الحرب ليبيا ؟https://www.aa.com.tr/ar

9 ـ دول جوار ليبيا… مصر جزء من المشكلة أم الحلّ ؟https://www.alaraby.co.uk/

10 ـ اجتماع دول جوار ليبيا في الجزائر: إسناد المؤسسات الانتقالية ودعم خطة تنظيم الانتخاباتhttps://www.alaraby.co.uk/politics

11 ـ هل تتحول ليبيا إلى ساحة خلفية للصراع في  تشادhttps://www.skynewsarabia.co

12 ـ الأزمة الليبية وتداعياتها على السودانhttps://studies.aljazeera.net 

13 ـ موقع وزارة الخارجية الليبية https://foreign.gov.ly/MOFA    

14 ـ موقع الاتحاد الافريقي https://au.int/ar/node/3587

15 ـ موقع البعثة الدائمة للأمم المتحدة.  https://unsmil.unmissions.org/ar

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى