فاعلية الحوار الحضاري في احتواء الاستقطاب الدولي الجديد

د. منجد الخشالي
استشاري اقتصادي، دولة قطر
الملخص:
تناول البحث المحاولات المستمرة للشعوب لتأسيس نظام وحكومة عالمية، وقد تم التركيز على محاولة الأمم المتحدة في هذا الشأن، وقد حاول البحث بيان أسباب فشل الأمم المتحدة في توظيف الحوار بين الأمم للحيلولة دون الانزلاق إلى الحرب البادرة إبان القطبية الثنائية، بسبب التناقضات التنظيمية للمنظمات المنبثقة من الأمم المتحدة التي عمقت الاختلال الاقتصادي بين الأمم .
ومع بروز مؤشرات على استقطاب دولي جديد ، ركزت الدراسة على تحليل أسبابه الرئيسية، التي تشمل صعود الصين كقوة اقتصادية بارزة، بالإضافة إلى تراجع التعاون الدولي، وأخيرا الحرب الروسية في شرق أوروبا، تظهر هذه المعطيات حاجة ملحة إلى تفعيل الحوار بين الأمم والشعوب، ولكن بناء على متطلبات وأسس مختلفة عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حددت هذه المتطلبات التي نعتقد أنها القادرة على تعزيز فاعلية الحوار الحضاري واحتواء الاستقطاب الدولي الجديد ، في أهم النقاط الآتية، تحقيق التوازن الاقتصادي الدولي ، تعزيز التعاون الدولي ، الحد من الاشتباك الثقافي عبر وسائل التواصل الافتراضي ، تقوية شعور الثقة في المستقبل لدى الشعوب .
الكلمات المفتاحية:
الحوار الحضاري، الاستقطاب الدولي، حكومة عالمية، التعاون، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين ،روسيا.
مقدمة:
دعوات الحوار بين الأمم والشعوب قديمة وكانت مرافقة لكل محاولات البشرية لإقامة نظام عالمي أو ما يمكن أن نطلق عليه حكومة عالمية لتنظيم العلاقات بين الأمم والشعوب، ولا يمكن اغفال أهمية هذا الحوار في تقليل حدة الصدام العرقي والثقافي وما يرتبط بهذا من مشاعر الكراهية والعنصرية، ولا يمكن التشكيك بالنوايا الصادقة لكل دعوات تبني الحوار بين الأمم تحت شعار الحوار الحضاري ليحل بديلاً لا غنى عنه عن الصدام الحضاري الذي بشر به صموئيل هنغتون في طروحاته (صدام الحضارات). إلا أننا نعتقد أن الحوار الحضاري بين الأمم قد أعاق مسيرته التنظيم الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية لما انطوى علية من ترتيبات دولية صيغت لمصلحة طرف دون آخر وقد سمح هذا لهيمنة اقتصادية لقوة دولية مثلتها الولايات المتحدة من خلال الاعتراف الدولي بعملتها المحلية وقبولها دولياً أو لدورها في المنظمات الدولية المنبثقة عن اتفاقية برتن ودوز هذه التناقضات اوجدت حالة عدم توازن اقتصادي دولي من وجهة نظر قوى دولية اخرى وقد تسبب هذا الشعور في محاولات مستمرة من الاستقطاب ومحاولات الانحراف عن المركز الدولي وهو ما أطلق عليه بالاستقطاب الدولي .
ومع تنامي المنافسة الاقتصادية وبروز قوى اقتصادية وعسكرية مهمة مثل الصين وروسيا تتضح ملامح للاتجاه نحو استقطاب دولي جديد لا غنى للحوار في احتواء هذا الاستقطاب ومنعه من الإنجرار إلى صدام دولي.
إلا أن الحوار في هذه المرحلة يتعين أن يتحول من مرحلة النوايا الحسنة إلى مرحلة أكثر تنظيماً يستوعب المتغيرات الاقتصادية، وينمي الشعور بالأمان والثقة في المستقبل لشعوب الأرض المعمورة، وعلى وفق هذا جاءت دراستنا لتحليل مسيرة محاولات البشرية في تأسيس حكومة عالمية وتقييم محاولة الأمم المتحدة في تأسيس مثل هذا التنظيم بعد الحرب العالمية الثانية ولماذا عجز الحوار الحضاري أن يوقف الصراع القطبي بعد الحرب، وأخيراً دراسة الأسباب المحفزة للاستقطاب الدولي الجديد حيث تصدرت المنافسة الإقتصادية هذه الأسباب بما ينذر باستقطاب دولي يتفوق فيه الإستقطاب العاطفي (الكراهية والتنابز الثقافي) على الإستقطاب السياسي بسبب هيمنة قنوات التواصل الرقمي والإفتراضي على التفاعل بين الشعوب والأمم .
تهدف هذه الدراسة إلى تحديد متطلبات الحوار الحضاري في ظل حالة متسارعة من الإستقطاب الدولي بين القوى الاقتصادية المؤثرة في النظام الدولي من خلال المحاور التالية :
- محاولات مستمرة لتأسيس حكومة ونظام عالمي موحد
- الامم المتحدة محاولة لتأسيس حكومة عالمية
- المنافسة الاقتصادية تمهد لاستقطاب دولي جديد
- متطلبات الحوار الحضاري لمواجهة الاستقطاب الدولي الجديد
وقد تبنت الدراسة إطار مفاهيمي يستند إلى العلاقة بين متغيرات الدراسة الرئيسية، من خلال تأثير التباين الإقتصادي في فرض الرؤية الدولية مما يعزز من حالة الاستقطاب الدولي كبديل عن نظام عالمي موحد تحت مظلة الأمم المتحدة، مما يجعل من الحوار الحضاري غير فعال، وقد حاولت الدراسة توظيف هذه المفاهيم وصولاً إلى متطلبات الحوار الحضاري الفعال في ظل الاستقطاب الدولي الجديد.
يطرح هذا البحث تساؤلات محورية تتعلق بجدوى الحوار الحضاري في تقليل حدة الصراعات في عالم يتسم بالتعددية القطبية. فهل يمكن للحوار الحضاري أن يمثل أداة فعّالة لتعزيز التفاهم والتعايش بين مختلف الأطراف؟، أم أننا أمام بصدد مواجهة واقع يميل نحو صدام حضاري محتوم؟، وهل يسمح السياق الدولي الراهن بإطلاق حوار حضاري جاد وفعال ، أم أن العقبات الثقافية والسياسية ستظل العائق الأكبر أمام تحقيق هذا الهدف؟
أولاً – محاولات مستمرة لتأسيس حكومة ونظام عالمي موحد
في كل مرحلة من مراحل حياة البشرية كانت محاولات التنظيم وتكييف أنماط العيش والتعامل مع العالم الخارجي هدفاً أساسياً للمجتمعات البشرية من أجل ايجاد نظام علاقات يحكم المجموعة ويجعلها قادرة على الإستمرار، وفي خضم هذه المحاولات تراكمت أفكار ومعتقدات عديدة ترسم ملامح هذه الأنظمة وتحدد العلاقات بين المجتمعات. ولم يكن لهذه المحاولات أن تحقق أهدافها لو لا وجود تنظير اقتصادي حيادي يحدد حقائق العلاقات القائمة بين مكونات النشاط الاقتصادي، وعندما تبذل جهود لتبني هذا التنظير وتطبيقه على أرض الواقع، فإنه يتحول إلى مذهب اقتصادي يشكل الأساس الذي يستند إليه النظام السياسي في ترسيخ سلطته وشرعيته، ومن هنا فإن محاولات بناء نظام عالمي موحد لم تكن منفصلة عن بناء تنظير اقتصادي قادر على تحليل آلية هذا النظام والتوافق معه.
إن فكرة بناء حكومة عالمية ونظام عالمي موحد هي فكرة قديمة يمكن تتبع مسارها عبر مدرسة الرواقين على يد المفكر *(Zenon ) منذ القرن الثالث الميلادي حيث دعا هذا الفيلسوف إلى مدينة عالمية يكون فيها البشر متساوون، ثم جاءت محاولات الدولة الرومانية التي تبنت القانون الطبيعي، أعقبها ظهور المسيحية التي وضعت مبادئ خضوع البشر إلى نظام واحد هو حكم الله، ومن ثم الدولة العربية الإسلامية التي استندت إلى العالمية من خلال دعوة لا فرق بين الشعوب إلا بالتقوى . أي أن فكرة الحكومة العالمية وبناء نظام عالمي فكرة قديمة وأصيلة وغير مستحدثة[1].
وعلى الرغم من انهيار فكرة الحكومة العالمية نتيجية أسباب وظروف متعددة، إلا أن محاولات تأسيس نظام عالمي موحد استمرت في الظهور مجدداً. وقد بدأت هذه المحاولات من أوروبا التي حاولت تبني نظم مؤسساتية على أساس القانون الوضعي ، بعد أن أنهكتها حروب الإمارات والإقطاعيات، وكانت معاهدة (وستفاليا) سنة 1648 نقطة بارزة في هذا السياق، حيث أسست لمبادئ جديدة في في مجال القانون الدولي، ووضعت قواعد لتدوين القوانين والمعاهدات الدولية االتي تلزم الأطراف الموقعة عليها .
شهدت أوروبا لاحقاً موجة من التغيرات، تأثرت فيها بالأفكار التي أطلقتها الثورة الفرنسية عام 1789، أعقبها مؤتمر فينا لسنة 1815 الذي وضع رسوم خارطة جديدة لأوروبا، وإن كانت نتائج هذا المؤتمر ذات أبعاد دولية. وجاءت معاهدة باريس 1856 التي شملت أحكامها الدولة العثمانية أي أنها شملت الشعوب المسيحية والإسلامية. وفي وقت لاحق، تعززت الجهود الدولية من خلال معاهدة جنيف 1864 و1867، ثم اتفاقية لاهاي 1899- 1907 المتعلقة بقواعد دولية للحرب والسلم أي منظمة لعلاقات دولية بين أعضاء المجتمع الدولي ، وهكذا تستمر المحاولات الساعية لبناء تنظيم دولي يخضع إليه جميع البشر، وبحكم آلية التغيير المستمر والحتمي وتقلبات المصالح الدولية لابد أن تنضج بذور تناقضات دولية مولدة إلى تنظيم جديد وقد كانت هذه التناقضات التي أفرزت الحرب العالمية الأولى في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين والتي أفرزت النظام الدولي المتعدد الأقطاب بإشراف عصبة الأمم[2].
كانت عصبة الأمم (1920-1946) أول منظمة حكومية دولية أُنشئت لتعزيز التعاون الدولي وتحقيق السلم والأمن الدوليين ، وغالباً ما يشار إليه على أنها “سلف” الأمم المتحدة خلال مفاوضات السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى وهي تمثل قانون المنتصرين في هذه الحرب لذا تم تنظيم المجتمع الدولي على أساس خدمة مصالح الدول المنتصرة للحرب وكان هذا التناقض سبباً لإشعال الحرب العالمية الثانية عام 1939 التي أفرزت نظام القطبية الثنائية، في ظل الأمم المتحدة وبروز الولايات المتحدة كقوة صاعدة جديدة أزاحت النفوذ الأوروبي، وقد مهدت القطبية الثنائية إلى الحرب الباردة بين القطبين وانقسام العالم أيدلوجيا إلى معسكرين، إلى أن جاءت مرحلة الإصلاح والمكاشفة في الاتحاد السوفيتي والتي انتهت بانهيار وتفكك هذا القطب الدولي ليتمهد الطريق للولايات المتحدة كقطب آحادي يسعى لبناء نظام عالمي موحد مستخدماً مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة لتنفيذ هذا البرنامج وإشاعة الثقافة الكونية والتي شاع صيتها بالعولمة (Globalization )لمختلف مظاهر الحياة الاقتصادية والسياسة والثقافية[3].
يعكس المسار التاريخي لمحاولات إقامة حكومة عالمية، منذ عهد الرواقيين وحتى نظام القطبية الأحادية ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي 1991، اصراراً مستمراً من قبل المجتمع الدولي على توحيد المجتمعات البشرية تحت نمط موحد للعيش المشترك. ولكن السؤال المطروح هنا هو : هل كانت هذه المحاولات تستند إلى حوار حضاري بين الأمم؟، أم أنها كانت وليدة تبدلات القوة والنفوذ وحب السيطرة بهدف تنميط نظام عالمي موحد؟، هذا ما سيتم الاجابة عليه لاحقاً بعد مناقشة آخر محاولة عالمية تحت مظلة الأمم المتحدة، والتي برزت بعد الحرب العالمية الثانية.
ثانياً- الأمم المتحدة محاولة لتأسيس حكومة عالمية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية برزت الحاجة إلى تنظيم دولي جديد لترتيب المجتمع الدولي لمرحلة ما بعد الحرب، وتمخض عن هذا انبثاق الأمم المتحدة وهي مرحلة لاحقة لعصبة الأمم، وقد تزامن مع هذا انعقاد برتن ودوز 1944 لترتيب النظام الاقتصادي العالمي، حيث أفرزت هذه المفاوضات عن تأسيس أهم المنظمات الاقتصادية الدولية والمتمثلة في : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة، وهي منظمات تتبع الأمم المتحدة أي لها حصانة دولية، حيث كان يؤمل أن تلعب الأمم المتحدة دورا مشابها لحكومة عالمية تدير المجتمع الدولي.
إلا أن الملفت للنظر، أن هذه المحاولة الأخيرة قد اختلفت عن سابقتها من خلال اضافة الأذرع الاقتصادية الدولية، أي أنها أدخلت العامل الاقتصادي وتحديداً المالي في ترتيب أوضاع المجتمع الدولي، وفي تقديرنا أن هذا هو الذي أوجد تناقضات التنظيم الدولي الجديد لأنه وضع احتكار القوة الاقتصادية بيد الدولة الأكثر نفوذاً مالياً وكانت في حينها الولايات المتحدة الخارجة من الحرب العالمية الثانية منتصرة وقوية وبعيدة عن دمار الحرب ، لذا صاغت هذه الدولة تنظيمات المنظمات الدولية بما يتفق مع تعزيز نفوذها الدولي وكان من أبرز نتائج هذه الترتيبات هو الاعتراف بالدولار الأمريكي كعملة دولية أولى في العالم ، وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى انفراد الولايات المتحدة في السيطرة على الاقتصاد العالمي وما ترتب عن ذلك فيما بعد التحول إلى القطبية الأحادية ومحاولة تنميط الاقتصاد العالمي تحت ما يعرف بالعولمة وهي آخر مرحلة من محاولات إقامة نظام عالمي موحد .
إن إدخال العامل الاقتصادي في الترتيبات الدولية، أتاح فرصة للولايات المتحدة لتمديد نفوذها ليشمل منظمة الأمم المتحدة ومن ثم مجلس الأمن (من خلال حق النقض الفيتو ). وقد منح هذا النفوذ أبعاداً أوسع للحرب الباردة، حيث رفض الاتحاد السوفيتي أنذاك، هيمنة الولايات المتحدة على منظمات الأمم المتحدة، مما أدى إلى شرخ في شرعية الحكومة العالمية الجديدة.
هذا الصراع أضعف دور الأمم المتحدة ، لاسيما بعد تعطيل عمل مجلس الأمن بسبب استخدام حق النقض المتبادل من قبل القطبين، مما ساهم في إطالة أمد الحروب والنزاعات الإقليمية التي عجز مجلس الأمن الدولي عن ايقافها. نتيجة لذلك، بدأ ينظر إلى الأمم المتحدة بأنها حكومة عالمية غير فعالة . وحتى عندما انتقل العالم إلى مرحلة القطبية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ، وبروز أطروحة فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ الذي حسم لصالح ايدلوجية ليبرالية غربية،جاء رد صموئيل هنغتون بأطروحته عام 1993 “بصدام الحضارات، The Clash of Civilizations” الذي توقع بأن العالم لم يتوقف عنده التاريخ بل سوف يتجه إلى صدام حضاري قوي بين الحضارة الغربية والشرقية[4].
من هنا أدركت الأمم المتحدة غياب عامل رئيسي ومهمفي تحقيق استقرار المجتمع الدولي، وهو حوار الحضارات Dialogue of Civilizations”، كحل لمواجهة احتمالية تصاعد صراع الحضارات. استجابة لذلك، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات، مؤكدة الحاجة الملحة إلى التزام حازم من جانب جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من إزالة أي فكرة عن “صراع الحضارات” .
ويعني هذا الالتزام، تعزيز التبادلية في التواصل والقبول بأن الحقيقة لا تنتمي إلى مجموعة واحدة ولا يمكن أن تنتمي إليها. ولأن “الصراع يبدأ حيث يتوقف الحوار”، فمن الضروري البحث عن سبل تجاوز التفتت السياسي ، والسعي إلى إيجاد أرضية مشتركة للمناقشة، وعلى هذا فإن المثل الأعلى للحوار الأصيل بين الناس المنتمين إلى ثقافات وحضارات مختلفة لم يفقد زخمه أو قوته الدافعة قط، ولابد وأن يتكيف مع المشهد السياسي المتطور في عصر العولمة الحالي.
إن مفهوم الحوار بين الحضارات ليس جديداً بالنسبة للأمم المتحدة، وإن الحوار ليس مجرد حوار بل هو جزء من بنيته الأساسية كما أكد الأمين العام السابق كوفي عنان حيث قال : “لقد تم إنشاء الأمم المتحدة ذاتها على أساس الاعتقاد بأن الحوار يمكن أن ينتصر على الخلاف وأن التنوع فضيلة عالمية وأن شعوب العالم أكثر اتحاداً بمصيرها المشترك من انقسامها بسبب هوياتها المنفصلة، والمنظمة من المفترض أن تكون الموطن الطبيعي للحوار بين الحضارات والمنتدى حيث يمكن لمثل هذا الحوار أن يزدهر ويؤتي ثماره في كل مجال من مجالات المساعي الإنسانية واليوم في مواجهة مجموعة جديدة من التحديات يتعين على الأمم المتحدة أن تتمسك مرة أخرى بقيمها التأسيسية وأن تبني من خلال نهج مبتكرة للحوار الذي يخلق ثقافة جديدة من الانتماء[5].
في تقديرنا فإن دعوة الأمم المتحدة للحوار الحضاري جاءت متأخرة خصوصاً بعد أن هيمنت القوة العظمى على مقاليد الاقتصاد العالمي وإشاعة نمط عولمة الاقتصادات المحلية مما خلق مزيد من الانفتاح بين الأمم ، ومع تزايد انفتاح المجتمعات على بعضها البعض وتنويعها داخلياً أصبحت التهديدات الجديدة للسلام سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وبيئية وأحياناً مزيجاً من كل ذلك، ويمكن أن تتخذ هذه التهديدات شكل توترات داخل الدول أو بينها والتي قد تتحول إلى صراعات وحروب ونواقل أمراض عابرة للحدود الوطنية وإرهاب عالمي وتسونامي وفيضانات وجفاف ونزاعات على موارد المياه وإساءة استخدام الفضاء الإلكتروني.
وبالنظر إلى الأمم المتحدة باعتبارها منتدى للنقاش حيث تلتقي شعوب العالم المختلفة وباعتبارها محفزاً لعملية مستمرة من التفاعل والتغيير، وبعبارة أخرى فإن التفكير الجاد في دور الأمم المتحدة كوسيلة للحوار يتطلب أن تلعب الأمم المتحدة دوراً حيادياً متوازناً بين الأمم خصوصا وكما يتبين من استمرار التفاوتات الصارخة بين البلدان وداخلها فإنه في كثير من الحالات تولد القلق والخوف من فقدان الهوية[6]، والواقع أن الاتصال المتزايد والتزامن والترابط في حياتنا اليومية يولد عشوائية اللقاء من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وقد ولد هذه التواصل في أحيان كثيرة حالات من سوء الفهم[7]. وإن سوء الفهم هذا لم يعد استثناءً بل أصبح اتجاهاً متنامياً بالمعنى الذي استخدمه إدوارد سعيد بالاشتباك الثقافي بين الأمم[8] .
أدت الهيمنة الاقتصادية إلى بروز القطبية الأحادية، والتي أسهمت في تعميق التباين الاقتصادي بين الأمم. وفي ظل انفتاح عالمي غير مسبوق، مدعوم بتواصل اجتماعي الكتروني مكثف، تفاقم الصراع الثقافي ،وضعف الحوار الحضاري بين الأمم وأضعف من دور الأمم المتحدة في بناء حكومة عالمية . ومع بروز ملامح استقطاب دولي جديد، مدعوم بمنافسة اقتصادية متسارعة ليست بين قطبين بل تتوزع بين أقطاب متعددة ، تلوح في الأفق احتمالية عالية للتحول إلى نظام ثلاثي القطبية ( الولايات المتحدة ، روسيا ، الصين ). هذا التطور المتوقع يؤدي إلى خلق استقطاب دولي جديد يتطلب تبني معطيات جديدة للحوار الحضاري يتناسب مع المرحلة المقبلة .
ثالثاً – المنافسة الاقتصادية تمهد لاستقطاب دولي جديد
قد لا نحتاج إلى أدلة كثيرة للإشارة إلى أن ملامح منافسة اقتصادية جديدة بدأت تلوح بين قوى اقتصادية دولية، فاحتدام المنافسة التجارية بين الولايات المتحدة والصين أصبحت معلنة، والتلويح بالحرب التجارية أصبح واقعاً بالفعل في ظل الاجراءات المضادة التي تتخذها كلا الدولتين، ولم تقتصر هذه المنافسة بين القطبين المشار إليها فهناك روسيا التي عبرت عن رغبتها في الاعتراف بدورها القطبي من خلال شن الحرب على أوكرانيا وردت الولايات المتحدة بعقوبات غير مسبوقة على روسيا كان أبرزها محاولة تحجيم دورها في إمدادات الغاز إلى أوروبا، ومحاولة تطرح نفسها بديلاً ممكناً للطاقة في أوروبا، كما لا يمكن أن نغفل على محاولة روسيا في تحجيم نفوذ منظمات برتن وودز من خلال توسيع عضوية تجمع بيركس ليمتد ليشمل دول كانت تعد حليفة للولايات المتحدة الأمريكية.
احتدام هذه المنافسة يتوقع أن تقود العالم إلى استقطاب دولي جديد (New international polarization) ، هذا الاستقطاب سوف يتجه إلى ثلاثة مسارات، أي استقطاب ثلاثي وليس ثنائي، كما يمكن تحديد ثلاثة متغيرات أساسية ساهمت في تعميق الاستقطاب الدولي الجديد وهما (أنظر الشكل رقم 01):
شكل رقم 01 : متغيرات الاستقطاب الدولي الجديد

المصدر: الشكل من اعداد الباحث
1- تنامي القوة الاقتصادية للصين :
أسهمت الدعوة إلى الحرية التجارية وتفعيل آليات السوق، إلى جانب صعود االفكر الليبرالي الجديد ، في ظهور قوى جديدة في التجارة العالمية، كان لها تأثير واضح في إعادة هيكلية التجارة العالمية وتقسيم العمل الدولي. وتعد الصين أبرز هذه القوة الجديدة والمؤثرة، خاصة بعد تبنيها سياسة الانفتاح على العالم الخارجي، ودورها البارز في دعم للتجارة العالمية.
كما أظهرت الصين تفهماً عميقاً للعولمة والحرية الاقتصادية، وقد توجت جهودها بالإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية في ديسمبر عام 2001، مما خلق ظروفاً ممتازة لإجراء التعاون الاقتصادي والتكنولوجي الدولي، لقد اتجه النظام الدولي والإقليمي إلى ديناميكية التوازنات إقليمياً وعالمياً ، الأمر الذي مكن الصين، بعد أن طورت قدراتها ومؤسساتها من لعب دور رئيسي في عملية التوازن الدولي[9].
إن مشاركة الصين في تقسيم العمل الدولي والتعاون في هذا الإطار تهدف إلى تحقيق توزيع عادل وفعال لموارد العالم بأسره. ويمكن لجميع دول العالم أن تجد من خلال التعاون المتبادل القائم على المنفعة مع الصين فرصا لتنميتها الخاصة وفرصا تجارية جبارة مما يسفر عن دور إيجابي هام لتحريك نمو الاقتصاد الدولي.
وفي تقديرنا، لم يدرك الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة، أثناء ممارسته الضغوط على الصين لدفعها نحو المزيد من الحرية والاندماج العالمي، أن هذه الخطوة سوف تدفع الصين إلى تطوير مؤسساتها لتكون جاهزة لتوسيع علاقاتها الاقتصادية الدولية . ولقد أدركت الصين أن الإنفتاح على العالم الخارجي لا يمكن أن يتحقق بنجاح ضمن آليات ومؤسسات موروثة من النظام الشمولي، مما جعل التطوير المؤسسي يمثل العامل الأساسي في نجاح أو فشل الدول، وهذا يتفق تماماً مع أشار إليه (جيمس روبنسون ) من جامعة شيكاغو حول تحديد أسباب فشل الأمم، حيث فسر أن الفشل المؤسسي هو الأساس في نجاح أو فشل الأمم من خلال تعريفه للمؤسسات بأنها القواعد التي تحكم توفير الحوافز والقيود للسلوك الاقتصادي وعزا أسباب تخلف الأمم وكيف تصبح الأمم فقيرة أو غنية إلى تخلف التنظيم المؤسسي لهذه الأمم[10].
إن بروز الصين كقوة تجارية مهمة في الساحة الدولية، قد أربك خطط الولايات المتحدة في استثمار نظام القطبية الأحادية الذي كفل لها الزعامة كقوة متفردة على المستوى السياسي والاقتصادي[11]،حيث بدأت الصين تزحف على مناطق النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة، وهو ما تنبه إليه الرئيس الأمريكي السابق ( دونالد ترامب ) الذي رفع شعار أمريكا أولاً، وبدأ يضع الخطط لمواجهة النفوذ التجاري الصيني، وكان هذا بداية لانتقال العالم لمرحلة صراع تجاري جديد يهز أركان الحرية التجارية ليضع العالم أمام ما يمكن وصفه بالحمائية المتطرفة[12]. وقد ساهم كل من معيقات التعاون الدولي وبروز الصين كقوة تجارية في تجسيد هذا الشكل من الحماية التجارية مع وصول الجمهوريون للحكم في الولايات المتحدة عام 2016.
2-تراجع التعاون الدولي:
تواجه الكرة الأرضية ضغوطاً هائلة ناجمة من الضغط السكاني المتزايد على الموارد الطبيعية. مع تجاوز عدد سكان العالم 8 مليارات نسمة، ويتوقع أن يصل إلى 9 مليارات عام 2050، تصبح أزمة المياه والغذاء حقيقة يصعب تجنبها. وقد صاحب هذا التضخم السكاني عجز المجتمع الدولي عن منع التلوث البيئي الممنهج، إذ باتت النفايات تنقل من دولة إلى أخرى، مع تفضيل الدول التي يعتقد أن سكانها أقل اهتماماً بحماية البيئة لتحويلها إلى مكبات للنفايات الملوثة.
كما أدى النمو الهائل في المعرفة التقنية إلى تعزيز مشاريع التسلح الوطنية. ولم يتوقف سباق التسلح حتى مع انهاء الحرب الباردة أوائل تسعينيات القرن الماضي، بل على العكس فقد تطورت البحوث العسكرية بشكل أسرع من البحوث في المنتجات السلمية والمدنية، مدعومة بقوانين براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية، وقد أدى ذلك إلى تقليص فرص التعاون العلمي المشترك الذي يخدم الإنسانية.
وانتقل الصراع الدولي إلى مسار الحماية الفكرية، الذي تتطور فيما بعد ليصبح متعارضاً مع جهود التعاون الدولي الانساني، فقد استخدمت براءات الاختراع كأداة للاحتكار Monopoly ،تهدف إلى تحقيق وتعظيم الأرباح من خلال فرض أسعار احتكارية، وقد تجسد هذا بشكل واضح في مجالي الدواء والصحة، وهما من أكثر الجوانب أهمية في حياة الناس بغض النظر عن أعراقهم ومستوياتهم المعيشية. وتجلت هذه المشكلة بوضوح خلال الجائحة الصحية الأخيرة التي عرفت بأزمة كوفيد 19، التي ضربت العالم في عام 2020. ومع تسارع الجهود لاكتشاف لقاح لمواجهة هذا الوباء، اتجهت شركات الأدوية نحو هدفها الأساسي وهو تسجيل براءة اختراع في أسرع وقت ممكن. أدى هذا السلوك إلى إعاقة تحقيق تعاون دولي فعال في البحث العلمي لإنتاج لقاح أكثر كفاءة. علاوة على ذلك، عانت الدول الفقيرة من صعوبة بالغة في الحصول على الكميات الكافية من اللقاحات، بينما تمكنت معظم الدول الغنية أو تلك التي طورت لقاحات خاصة بها من تطعيم غالبية سكانها. أدى ذلك إلى بروز ظاهرة أطلق عليها ” عنصرية التطعيم”، مما كشف التفاوت الصارخ في توزيع الموارد الصحية عالمياً. وهذا ما دفع كل من الهند وجنوب افريقيا إلى تقديم اقتراح يفضي إلى تعليق حقوق الملكية الفكرية لمواجهة جائحة كوفيد 19 من أجل توفيرها لأكبر عدد ممكن وبأسعار ميسرة[13].
ومع تراجع التعاون الدولي في مجال البيئة وحماية الملكية الفكرية، كانت كل من الصين والولايات المتحدة يمدان نفوذهما الاقتصادي في مختلف دول العالم، فقد أصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة للغاز في العالم ، وعلى الجهة الأخرى كانت الصين مهتمة بمد خيوط الحرير عبر خطتها التي عرفت بالحزام والطريق والتي شكلت أكبر تهديد لتفاهمات العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وكان العالم أمام منافسة تجارية جديدة خصوصاً مع صعود قوة تجارية مهمة مهددة للتفوق الأمريكي في الهيمنة على الأسواق الخارجية والتجارة الدولية.
ومع احتدام هذه المنافسة بدأ الاستقطاب العالمي يلوح في الأفق، وبدأت الدول تضع استراتيجيتها الأمنية والتجارية وفق معطيات القوة والنفوذ الجديد، وبدأت الصين تبادر في الانتشار إلى مناطق نفوذ جديدة، والولايات المتحدة لاتزال بموقع الدفاع ومحاولة السيطرة على مناطق نفوذها، ولم تدرك تلك القوتين أن فشلهم في التعاون الدولي أنعش المنافسة والاستقطاب الدولي ثم جاءت الحرب الروسية لتضيف بعد آخر لحالة الاستقطاب الدولي الجديد .
3– الحرب الروسية في شرق أوروبا
في فبراير 2022 شنت روسيا هجوما واسع النطاق على أوكرانيا تحت ذرائع عددية، ولم يكن هذا الهجوم مفاجئا بل جاء بعد تراكمات طويلة، وإذا ما تم النظر إلى القرار الروسي بشن هذه الحرب من منظور استراتيجي فإن هذا القرار هو جزء من عملية الاستقطاب الدولي الجديد، وإن قرار روسيا هو تتويج لمحاولة الأخيرة وضع ترتيب عالمي جديد يمهد لعالم متعدد الأقطاب.
على المدى التكتيكي لهذه الحرب كانت فإن أسباب هذه الحرب تتمثل في[14]:
-منع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الإوروبي وتركها منطقة عازلة بين روسيا والاتحاد الأوربي، مع بقاء بيلاروسيا كالدولة الأخيرة التي لا تزال تسكل منطقة عازلة واضحة بين الجانبين.
-حماية الأقليات الروسية في مناطق شرق أوكرانيا.
إلا أنه في تقديرنا فإن البعد الاستراتيجي لهذه الحرب يكمن بما يلي:
-إعادة روسيا كقوة عالمية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991 .
-تطبيق استراتيجية استرداد النفوذ والمكانة الدولية لروسيا من خلال التدخل العسكري، وقد سبق لروسيا أن مارست هذا التدخل في جورجيا 2008 وسوريا 2015.
-تقديم دليل عن عجز القانون الدولي في حماية الدول، وهذا ما حدث سابقاً في احتلال العراق 2003 بعيداً عن القانون الدولي.
-المصلحة الاقتصادية والتبادل التجاري مع أوروبا لا يمنع روسيا من الدفاع عن مصالحها ودورها الدولي.
-الاعلان عن نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والدعوة إلى ترتيبات جديدة للعلاقات النقدية الدولية بعدا عن هيمنة الدولار الأمريكي.
هذه هي الأبعاد الاستراتيجية التي حاولت روسيا أن ترسلها للعالم، لذا ما انفك وزير خارجية روسيا من التذكير بعد العمليات العسكرية بأنه هناك ولادة لنظام دولي جديد.
الولايات المتحدة تلقت الرسائل واندفعت بكل قوة للدفاع عن أوكرانيا وتعزيز نفوذها في حلف الناتو، والضغط باتجاه توسيع عضويته وقد مارست حصار اقتصادي شديد على روسيا مستخدمه نفوذها في نظام التحويل المالي (سوفت وير). ولايزال الصراع قائم بقوة بين القوتين للدفع بنتائج هذه الحرب نحو المصلحة الوطنية لكلا القوتين.
إذن الصين اختارت التحدي الاقتصادي، في حين اختارت روسيا التحدي العسكري، والولايات المتحدة اختارت سياسة الاحتواء لكلا القوتين، من أجل الدفاع والإبقاء على النظام الدولي الحالي بقيادة الولايات المتحدة وابقاء الدولار الأمريكي العملة الدولية الأولى في العالم .
وبغض النظر عن ما سوف تؤول إليه الأمور فإن هذه الأوضاع أفرزت حالة من الاستقطاب الدولي الجديد الذي يسعى لخلق نظام دولي جديد متعدد الاقطاب، ولا يتوقع أن تنخرط روسيا بتحالف عميق مع الصين بل سوف تكتفي بعلاقات ودية مع هذا البلد وسوف تسعى لاكتساب نقاط تنافسية في صالحها مستفيدة من الحرب التجارية بين البلدين، ونفس الشيء بالنسبة للصين التي سوف لا تنخرط مع روسيا في حربها مع أوروبا، بل سوف تكتفي بالاستفادة من إمدادات الطاقة الرخيصة من روسيا بسبب نظام العقوبات المفروض عليها، وسوف تبقى الولايات المتحدة تحاول ضبط ايقاع هذا الصراع الدولي الجديد بما يضمن الابقاء على حالة القطبية الأحادية .
المنافسة الاقتصادية وتراجع التعاون الدولي، بالإضافة إلى الحرب الروسية في شرق أوروبا، قد عمقوا من حالة الاستقطاب الدولي الجديد، مما يثير العديد من الأسئلة حول دور الحوار الحضاري في تخفيف حدة هذا الصراع؟ ، هل الحضاري سيكون الحوار الحضاري فاعلاً في عالم متعدد الاقطاب؟، هل نحن أمام حوار حضاري أم صدام حضاري؟ .
رابعاً – متطلبات الحوار الحضاري لمواجهة الاستقطاب الدولي الجديد
يعبر مصطلح الاستقطاب عن حالة انحراف بعيداً عن المركز، وكلما اتسع هذا الانحراف تعززت فرصة ظهور أقطاب جديدة منافسة للمركز، وبغض النظر عن نوع هذا الاستقطاب سواء كان سياسي ( اختلاف ايدلوجي ) أو عاطفي ( الكراهية وعدم الثقة ) فإنه في كل الأحوال فان الاستقطاب بحد ذاته يفهم على أنه “انقسام أو صراع بارز يتشكل بين مجموعات رئيسية في مجتمع أو نظام سياسي، ويتميز بتجمع وتطرف الآراء والمعتقدات عند قطبين متباعدين ومتعارضين[15].
وفي موضعنا قيد البحث، فإن الاستقطاب الدولي هنا يعبر عن انحراف قوى اقتصادية ودولية عن القطب المركزي في محاولة للتوازي مع المركز، سواء بدوافع ايديولوجية أو عاطفية ناتجة عن عدم الثقة، وفقاً لذلك، تعد محاولات الصين و روسيا للانحراف عن الترتيبات الدولية التي تحكم الاقتصاد العالمي، والتي يهيمن عليها قطب رئيسي، تعبيراً واضحاً عن حالة استقطاب دولي جديدة ، وإن لم تكتمل ملامحها بعد.
وتبرز خطورة هذا الاستقطاب عندما تصبح مشاعر الأفراد وعواطفهم تجاه دولة معينة أكثر إيجابية، بينما تصبح مشاعرهم تجاه دولة اخرى أكثر سلبية، مما يؤدي هذا إلى زيادة العداء والافتقار إلى الرغبة في التسوية أو العمل مع أشخاص لديهم وجهات نظر سياسية مختلفة، يمكن رؤية هذه الظاهرة بشكل واضح في وسائل التواصل الاجتماعي حيث يهمين الاستقطاب العاطفي عن الاستقطاب السياسي.
خطورة حالة الاستقطاب الدولي الحالية تكمن في انعكساتها على الأوضاع الاقتصادية. ففي استطلاع رأي أجرته مجلة (ELSEVIER (في عام 2023 شمل 28 دولة، تبين أن الاستقطاب الدولي قد أسفر عن آثار اقتصادية سلبية تمثلت في إنتشار مشاعر التشاؤم الاقتصادي، وعدم الثقة في وسائل الإعلام والحكومة في معظم الدول التي شملها الاستطلاع. وكانت الثقة في قطاع الأعمال الخاص أقوى من الثقة في الحكومة، في حين كانت الثقة منخفظة بشكل كبير في الدول الديمقراطية، وازدادت تراجعاً في الأنظمة الاستبدادية. كما لوحظ في الدول المستقطبة أن الشركات تواجه مخاطر متزايدة للتحدث علنًا عن القضايا المجتمعية، وفقًا للبيانات الفعلية مما يضطر الشركات لحماية نفسها من التورط في السياسة من طريق إصدار معلومات موثوقة مدعومة بالبيانات أو العلوم، واتخاذ مواقف تتوافق باستمرار مع قيم السلطة[16].
خلاصة نتائج الاستطلاع أن حالة الاستقطاب السياسي تولد حالة من عدم الثقة لدى المواطنين، مما ينعكس في تنمية الشعور في عدم الأمان من المستقبل، وهذا له تأثير سلبي على استقرار الأفراد وانتاجيتهم أو قدرتهم على الإبداع. الجانب الآخر والمهم في متابعة الآثار الاقتصادية لحالة الاستقطاب الدولي السياسي هو تأثيره على التعاون الدولي.
فالاستقطاب السياسي يضعف تنسيق السياسات الدولية، بل وقد يقوضها أو يتحدى النظام الدولي ككل، حيث يصبح من الصعب تحقيق التعاون مع أطراف غير ملتزمة بالإجماع السياسي الراسخ لإيجاد حلول مشتركة للمشاكل الدولية، في الوقت ذاته، يمكن أن يجعل التعاون الدولي أكثر جاذبية، إذ يسهم في تجنب تنفيذ سياسات أكثر تطرفًا في بيئات بعيدة عن الاستقطاب، مثالاً على ذلك، شهد العالم إنشاء اتفاقيات دولية مثل حلف شمال الأطلسي، والاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات الجمركية، ومنظمة التجارة العالمية ،وأنظمة بريتون وودز، و الاتحاد الأوروبي، وحتى في المرحلة الراهنة وفي إطار التكتلات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول أن هناك احتمالات قوية لظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها القائمة قبل الأزمة، مع امكانية بناء تحالفات جديدة قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخاصة بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) التي قامت بتفعيل المادة (4)** من ميثاق حلف الناتو لمواجهة التهديدات الوجودية لأمنهاواستقرارها[17] .
وفقاً لذلك، فإن الاستقطاب السياسي المتزايد قد يجعل التعاون الدولي أكثر جاذبية كوسيلة لاحتواء الاستقطاب، لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من صعوبات. فعلى سبيل المثال ، فيما يتعلق بالسياسات البيئية، تختلف الدول وصناعو السياسات بشكل منهجي في اهتمامهم بالبيئة ، يتضح هذا التباين في مواقف الدول الاسكندنافية والدول النامية، أو بين الأحزاب الخضراء والأحزاب الأكثر محافظة، مما يؤدي إلى آثار إيجابية أو سلبية واضحة للسياسات الوطنية على الدول الأخرى . وقد يكون هذا التعاون فضفاضاً نسبياً كما في بروتوكول كيوتو الدولية لتخفيض انبعاثات الغاز 1997، حيث تباينت الدول في مستوى التزامها بهذه الاتفاقية تبعاً لمتطلبات مصلحتها الوطنية مما أضعف التعاون الدولي في هذه القضية البيئية المهمة .
ومع تصاعد الاتجاهات المعيقة للتعاون الدولي، تبرز الولايات المتحدة، التي تعلن اهتمامها بالمناخ وتحديات البيئة، في صورة تناقض هذا الإعلان. فقد أصبحت الولايات المتحدة مصدرا رئيسياً للطاقة والوقود، حيث ارتفعت صادراتها من الوقود بنسبة 24% ، ووفقاً للبيانات، أصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي المسال في العالم لأول مرة، متفوقة على منافستيها الرئيستين قطر وأستراليا. وذكرت وكالة “بلومبيرج” أن الولايات المتحدة صدرت خلال العام الماضي 2023 نحو 91.2 مليون طن من الغاز المسال وهي صادرات قياسية بالنسبة للولايات المتحدة، وقد بررت الولايات المتحدة هذاالتوسع في الانتاج لتعويض النقص في الصادرات الروسية، أي أنها قدمت مبررات الاستقطاب السياسي على التعاون الدولي[18].
على وفق ما تقدم، فإن زيادة حدة الاستقطاب الدولي تفضي إلى ما يلي:

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تفعيل الحوار الأممي لإعطاء مزيد من الثقة للمواطنين، وتعميق التعاون الدولي. ومع ذلك ينبغي إدراك أن متطلبات الحوار الحضاري في هذه المرحلة الجديدة من الاستقطاب الدولي تختلف عما كانت تشير إليه الأمم المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وذلك للأسباب التالية:
-أن النظام العالمي تحت إدارة الأمم المتحدة الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، وتكرست أسسه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، لم ينجح في تأسيس حكومة عالمية لأنه بني على أساس قواعد كرست التباين الاقتصادي بين الأمم فقد منح هذا النظام ومن خلال قواعد برتن وودز اليد الطولى لقوة دولية واحدة تفرض قواعد النظام النقدي الدولي وتقرر السيولة الدولية من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على احتياطات السيولة الدولية.
-تناقضات النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية أدخل العالم في الحرب البادرة في ظل الاستقطاب الثنائي وهو الآن يمهد إلى استقطاب ثلاثي جديد.
-المتغيرات التي هيئة للاستقطاب الدولي الجديد (القوة الاقتصادية للصين، الحرب الروسية، ضعف التعاون الدولي) عمقت التشابك الثقافي في ظل وسائل تواصل اجتماعي نشط واعلام موجه وهذا زاد من الاستقطاب العاطفي ليتفوق على الاستقطاب السياسي.
وهذا يعني أن فاعلية أية حوار حضاري في ظل الاستقطاب الدولي الجديد يتطلب فك تناقضات النظام الاقتصادي الذي أوجدته ترتيبات برتن وودز ، فالصين وروسيا لم تعد تقبل بهيمنة الدولار ولا بهيمنة المنظمات الدولية ( صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ) ، وقد أدرك الجميع ماعدا الولايات المتحدة إلى أن هناك حاجة لحوار يوقف تسارع الاستقطاب الدولي الجديد ، فقد حذر مدير عام منظمة التجارة العالمية (روبتو ازيفيدو) من الانجرار إلى مبدأ الفعل ورد الفعل في فرض الرسوم الجمركية واعتبر أن هذا سوف يؤدي إلى حرب تجارية لا يخرج منها أي منتصر، وبالفعل تلقت منظمة التجارة العالمية احتجاجات متعددة من أطراف دولية تعرضت لإجراءات حماية من قبل الولايات المتحدة ونعتقد أن منظمة التجارة العالمية هي في وضع لا يحسد عليه لأن التوترات التجارية الأخيرة التي أثارتها الولايات المتحدة تحت شعار أمريكا أولا تهدد وجود هذه المنظمة لأنها تهدد جهود استمرت لسبعين عاماً من العمل والمفاوضات الشاقة من أجل ترسيخ وخلق نظام عالمي متعدد الأطراف، وتحسين مستويات الدخل والمعيشة لمختلف دول العالم .
إلا أن ما يلفت النظر في هذه الأزمة، هو موقف صندق النقد الدولي الذي عبرت عنه مؤخرا ( كريستين لاغارد) المديرة التنفيذية السابقة للصندوق في مقالتها الأخيرة ( نحو خلق نظام تجاري عالمي أفضل )، حيث أقرت ضمنا أن النظام التجاري الدولي يحتاج إلى احداث تحسينات بعد أن برزت متغيرات مهمة على حركة التجارة العالمية لخصتها بما يلي[19]:
-زيادة الانتاجية، مما أحدث تحول في مكونات التدفقات من التجارة المادية إلى التجارة التي تستند الى البيانات.
-زيادة الاحتوائية، أي الاستثمار في التدريب وشبكات الأمان الاجتماعي حتى يتسنى الانتقال إلى وظائف أعلى جودة.
-زيادة التعاون الدولي، من أجل احداث تحسينات للتكييف مع عصر التجارة الجديد .
على الرغم من أن مديرة صندوق النقد الدولي أعلنت صراحة عبر الصحافة رفضها للحرب التجارية، لأنها تؤدي إلى خسارة الجميع إلا أننا نرى أن مقالتها الأخيرة فيها اشارة واضحة إلى أن نظام التجارة العالمية الحالي بحاجة أيضا إلى إحداث تحسينات جدية من أجل بناء نظام تجاري عالمي أكثر عدالة .
إن اقرار مديرة صندوق النقد الدولي إلى أهمية احداث تحسينات في النظام التجاري الدولي، هو اشارة ضمنية إلى أهمية توسيع الحوار الدولي من أجل ايجاد ترتيبات تجارية أكثر انسجاماً مع المتغيرات الجديدة، ونتوقع أن يفضي هذا إلى عودة جديدة من المفاوضات التجارية بين الأطراف الدولية الفاعلة في التجارة العالمية من أجل ايجاد نقاط مشتركة للمصالح التجارية وتجنباً للدخول إلى حرب تجارية.
أما في حال الابقاء على التباينات الاقتصادية بين الدول، فهذا يجعل الحوار الأممي غير فاعل ، كما أن العالم سيتجه نحو المزيد من الاستقطاب السياسي والعاطفي. فالحوار الحضاري في ظل عدم توازن اقتصادي يتحول إلى بروتوكول للنوايا الحسنة، اذ لا يمكن توقع حوار فاعل في ظل تباين اقتصادي دولي عكسته بيانات القوة الاقتصادية والنفوذ الدولي على النحو التالي:
شكل رقم 2 :التباين الاقتصادي الدولي

Source: www.albankaldawli.org
في ظل هذا التفاوت العميق في المقدرة الاقتصادية تتولد شكوك حول فاعلية الحوار الحضاري بين الأمم مالم يتم استحضار متطلبات موضوعية تشكل أرضية صلبة للتعاون الدولي.
ختاماً يمكن القول إن متطلبات فاعلية الحوار الحضاري في ظل الاستقطاب الدولي الجديد يتمثل في النقاط التالية (أنظر الشكل رقم 03) :
شكل رقم 3 : متطلبات الحوار الحضاري في ظل الاستقطاب الدولي الجديد

المصدر: الشكل من اعداد الباحث
ولا يختلف أحد على أهمية الحوار بين الأمم ومد الجسور بين الثقافات ، إلا أن هذا الحوار ليس مجرد قرار أو رغبة ، بل هو عملية متكاملة تستند إلى أسس تشكل منظومة من القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . في غياب هذه الأسس، سيصبح الحوار بين الأمم مجرد لقاءات بروتوكولية ، غير فاعلة وغير قادرة على تقليل التنافر الحضاري بين الأمم والثقافات.
النتائج الرئيسية :
-فكرة انشاء نظام عالمي وحكومة عالمية قديمة ومستمرة، وقد اقترنت هذه المحاولات دعوات الحوار بين الأمم .
-كانت محاولة الأمم المتحدة لتأسيس حكومة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية الأكثر تنظيما على المستوى الدولي، ومع ذلك، صيغ هذا التنظيم الدولي بما يخدم نفوذ المنتصرة في الحرب، وبخاصة الولايات المتحدة، مما أعاق الحوار بين الأمم .
-أدى احتكار النفوذ والهيمنة الدولية في منظومة الأمم المتحدة أفضى إلى تباين اقتصادي كان من نتائجه الحرب الباردة والثنائية القطبية وهو يتجه إلى استقطاب دولي جديد .
-إن تصاعد حدة المنافسة الاقتصادية بين الأمم سوف يسرع من حالة الاستقطاب الدولي والمتوقع أن يكون ثلاثي الأقطاب .
-لن يكون الحوار الحضاري فاعلاً مالم تراع متطلبات أساسية، أبرزها تحقيق توازن دولي في القوة والمصلحة الاقتصادية بين الأمم.
[1]– حسين خليل، النظام العالمي والمتغيرات الدولية، دار المنهل اللبناني، بيروت 2009، ص 37.
*-Zenon هو مؤسس المدرسة الرواقية سنة 342 قبل الميلاد التي تبنت الأفكار التي تسعى الى تحقيق المواطنة العالمية من خلال الفضيلة والأخلاق لتقويم سلوك الانسان وجعله مهيأ للاندماج الإنساني ، ومن أشهر الفلاسفة الرواقين هم سينيكا، ماركوس و أورليوس.
[2] -Also Known, peace of Westphalia, Britannica, www.britannica .com 2024.
[3]– ألكسندر دوغين، نظرية عالم متعدد الاقطاب، ترجمة ثائر زين الدين وفريد الشحف، دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت 2023، ص 39-43
[4]– صمويل هانتجتون ، صدام الحضارات ، اعادة صياغة النظام العالمي ، ترجمة طلعت الشايب ، دار سطور للنشر والتوزيع ،بغداد، ص 54-63 .
[5]– Hans Orville, what the UN do to promote dialogue among civilizations, United Nations, www.un.org
[6]– نوزاد الهيتي، مبادرة الأمم المتحدة لتحالف الحضارات ودور دولة قطر في تعزيزيها، مجلة تحالف الحضارات، اللجنة القطرية لتحالف الحضارات، الدوحة 2022 ، ص 53 .
[7]– Courtney Smith, the United Nations as a vehicle for dialogue, WILEY online library, www.onlinlibrary.wiley.com 2003 .
[8] – ادوارد سعيد، الاشتباك السياسي والثقافي مع الآخر، مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، فلسطين، الضفة الغربية، 2003 ، ص 2-4 .
[9]– كاظم هاشم النعمة، الصين تتحاشى الاحتواء، والسعودية تشكل مع جنوب افريقيا مثلث القوى الصاعدة، مجلة اراء حول الخليج، العدد 198 ، الرياض 2024، ص 30-35 .
[10] -دارن جلو وجيمس روبنسون، لماذا تفشل الأمم،( ترجمة : بدران حامد)، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، القاهرة ، ص 47-53 .
[11]– نوزاد الهيتي، تأمين منطقة الخليج من تداعيات الحرب التجارية الأمريكية الصينية، مجلة أراء حول الخليج، العدد 198 ، الرياض 2024 ،ص 52-53
[12]– منجد الخشالي، الحروب التجارية بين الحمائية المتطرفة والصدامات العسكرية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 504، بيروت، 2021 ، ص 63 .
[13]– منجد الخشالي، قيم التفاعل الحضاري في ظل اتجاهات جديدة للنظام العالمي، مجلة تحالف الحضارات، اللجنة القطرية لتحالف الحضارات، الدوحة 2023 ، ص 67 .
[14] -Elliott Davis Jr, why did Russia invade Ukraine, USNEWS, www.usnews.com 2024.
[15] -Carsten Huffier, Political polarization and international cooperation, ELSEVIER www.scienceirect.com 2023.
[16] -Carsten Huffier, op cit 2023.
**- تمنح المادة 4 من معاهدة حلف شمال الأطلسي الحق لأي دولة عضوة بالحلف وتشعر بأنها مهددة من قبل دولة أخرى أو منظمة إرهابية، في تقديم طلب لبدء الدول الأعضاء الثلاثين مشاورات رسمية للبتّ فيما إذا كان التهديد موجوداً وكيفية مواجهته، مع التوصّل إلى قرارات بالإجماع .
[17]– CNN, www, arabia.cnn.com 2024
[18] – Bloomberg, www.bloomberg.com 2024.
[19]– كريستين لاغارد، نحو خلق نظام تجاري عالمي أفضل، صندوق النقد الدولي www.imf.org 20218