الصراع السيبراني بين الواقعية والليبرالية: مقاربة نظرية

د. خالد وليد محمود
باحث متخصص في السياسة السيبرانية
الملخص:
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الصراع السيبراني من خلال منظور العلاقات الدولية، مع التركيز على النظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية. يتناول البحث التحديات التي يفرضها الفضاء السيبراني على مفاهيم القوة والأمن والسيادة في العلاقات الدولية، ويستعرض تأثير هذه التحديات على فهم الصراعات الدولية في العصر الرقمي. يوضح البحث كيف أن تطور التكنولوجيا الرقمية قد أعاد تعريف القوة في النظام الدولي، حيث أصبح التفوق السيبراني أحد العوامل الحاسمة في تحديد موازين القوى بين الدول.
بالإضافة إلى ذلك، يناقش البحث كيف يمكن للنظرية الواقعية تفسير الصراع السيبراني من خلال التنافس بين الدول الكبرى، بينما تشير الليبرالية إلى أهمية التعاون الدولي لمواجهة التهديدات السيبرانية. كما تتطرق الدراسة إلى تأثير التطورات السيبرانية على مفاهيم السيادة والردع في ظل الهجمات العابرة للحدود. في النهاية، يدعو البحث إلى تطوير أطر تحليلية جديدة تأخذ في الاعتبار الطبيعة المتغيرة والمتسارعة للصراع السيبراني وتُدمج بين النظريات التقليدية والمقاربات الحديثة لتفسير هذه الظاهرة المعقدة.
الكلمات المفتاحية: الصراع السيبراني، النظرية الواقعية، النظرية الليبرالية، العلاقات الدولية.
مقدمة:
تمثل الصراعات السيبرانية تحديًا معقدًا لفهم العلاقات الدولية وتفسيرها في العصر الحديث، إذ تجسد تفاعل القوى والمصالح في فضاء جديد وغير تقليدي يختلف عن المجالات التقليدية للصراعات كالأرض والبحر والجو. يُعد الفضاء السيبراني ساحة مفتوحة بلا حدود مادية، حيث تُمارس فيه الدول والفاعلون غير الدوليون أشكالًا جديدة من التنافس والتأثير، تتجاوز الحدود الجغرافية والقانونية. في هذا السياق، يفتح الفضاء السيبراني أبوابًا واسعة لفرص وتهديدات متزايدة، مما يغير بشكل جذري مفاهيم الأمن السيبراني والتكتيكات العسكرية والتجارية.
مع تصاعد أهمية الفضاء السيبراني، أصبحت الصراعات السيبرانية ليست مجرد مسألة تقنية، بل ظاهرة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية متعددة، تتداخل فيها مصالح الدول الكبرى مع الفاعلين غير الدوليين. من هجمات الفدية إلى الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية، تسلط هذه الصراعات الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه الدول في حماية أمنها الوطني والتعامل مع المخاطر المترتبة عليها. في ظل هذا التحول، أصبحت العمليات السيبرانية جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات الصراع السياسي والعسكري على المستوى العالمي.
في هذا السياق، تقدم الرؤى النظرية المفسرة في مجال العلاقات الدولية، مثل الواقعية والليبرالية، إطاراً تحليلياً يمكن من خلاله فهم هذه الظاهرة المعقدة. تسلط الواقعية الضوء على أبعاد القوة والصراع من خلال تركيزها على التنافس بين الدول في سبيل تحقيق مصالحها الوطنية. وفقًا لهذا المنظور، يُنظر إلى الفضاء السيبراني كأحد مجالات الصراع الجديدة التي يمكن أن تعزز من موازين القوى العالمية، إذ تسعى الدول الكبرى إلى تعزيز قوتها السيبرانية لأغراض الردع والهجوم، وهو ما يعكس التنافس الدائم بين القوى العظمى.
من ناحية أخرى، تقدم الليبرالية رؤية مغايرة تُبرز أهمية التعاون بين الفاعلين الدوليين لمواجهة التحديات السيبرانية المشتركة. وفقًا لهذا المنظور، يمكن أن يُؤدي التعاون عبر المؤسسات الدولية إلى بناء إطار من التعاون المشترك لمكافحة التهديدات السيبرانية، مثل تطوير آليات مشتركة لحماية الشبكات السيبرانية من الهجمات. كما يرى هذا الاتجاه أن الفضاء السيبراني، بالرغم من كونه مجالًا للصراع، يمكن أن يكون أيضًا منصة للتعاون الدولي في مجال الأمن وحوكمة الإنترنت.
تجدر الإشارة إلى أن التطورات التكنولوجية في مجال الفضاء السيبراني قد أثّرت تأثيراً بالغاً في نظريات العلاقات الدولية، سواء على مستوى أنساقها الفكرية أو أطرها المفاهيمية. فقد فرضت هذه التطورات إعادة النظر في مفاهيم كلاسيكية مثل السيادة، الردع، والأمن، لتتناسب مع التحديات الجديدة التي أوجدها الفضاء السيبراني. على سبيل المثال، وأصبح مفهوم السيادة الوطنية في الفضاء السيبراني غير محدد جغرافياً، مما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الدول على حماية حدودها السيبرانية من الهجمات العابرة للحدود. كما أدت هذه التحولات إلى إعادة تشكيل مفهوم الردع، حيث لم يعد مجرد احتكار الدول الكبرى للقوة العسكرية هو الوسيلة الوحيدة لضمان أمنها، بل أصبح التفوق السيبراني عاملًا حاسماً في تحديد موازين القوة العالمية.
أهمية الدراسة:
تتجسد أهمية هذه الدراسة في كونها تسلط الضوء على ظاهرة الصراع السيبراني التي أصبحت تشكل أحد أكبر التحديات في العلاقات الدولية الحديثة. في ظل التطورات السريعة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بات الفضاء السيبراني ساحة حيوية للصراعات بين الدول والفاعلين غير الدوليين، مما يهدد استقرار الأنظمة السياسية والاقتصادية على مستوى العالم. تتزايد أهمية دراسة هذه الظاهرة مع تصاعد الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، وتزايد قدرة الدول على استخدام الفضاء السيبراني كأداة لفرض القوة أو ردع الخصوم. إن هذا البحث لا يقتصر على تحليل الصراعات السيبرانية من منظور تقني، بل يتناول أيضاً أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية، ويهدف إلى تقديم رؤية نظرية وعملية لفهم تأثيراتها في العلاقات الدولية.
أهداف الدراسة:
-تحليل الصراع السيبراني كظاهرة جديدة في العلاقات الدولية وتأثيرها على موازين القوى العالمية.
-استكشاف النظريات المفسرة للصراع السيبراني، مثل الواقعية والليبرالية، وكيفية تطبيقها لفهم هذه الظاهرة.
-دراسة تأثير التطورات التكنولوجية في الفضاء السيبراني على مفاهيم مثل السيادة والأمن، وكيفية إعادة تشكيل الأطر التقليدية في العلاقات الدولية.
-تقديم تصور شامل حول كيفية إدارة الصراعات السيبرانية على المستوى الدولي، مع التركيز على التعاون بين الدول لمواجهة التهديدات المشتركة.
-فتح أفق البحث في العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة ودور الصراع السيبراني في تغيير مفاهيم القوة والردع في النظام الدولي.
إشكالية الدراسة:
تتمحور إشكالية هذه الدراسة حول كيفية استيعاب الصراع السيبراني ضمن الأطر النظرية التقليدية للعلاقات الدولية، مثل الواقعية والليبرالية، ومدى قدرتها على تفسير تأثيراته العميقة على موازين القوى والأمن العالمي. كما تسعى الدراسة للإجابة عن التساؤل حول ما إذا كانت الصراعات السيبرانية تمثل تحولًا نوعياً وجذريًا في طبيعة الصراع الدولي، أم أنها مجرد امتداد لأساليب تقليدية تتخذ أشكالًا حديثة؟. بالإضافة إلى ذلك، تطرح الدراسة تساؤلات حول القدرة على التفاعل بين النظريات التقليدية والمعطيات الجديدة التي يفرضها الفضاء السيبراني في تفسير العلاقات الدولية.
تساؤلات الدراسة:
-كيف يؤثر الصراع السيبراني على الصراع التقليدي بين الدول، وما هي العوامل التي تساهم في تعقيد هذا الصراع؟.
-كيف يمكن للواقعية والليبرالية تفسير الصراع السيبراني في سياق العلاقات الدولية الحديثة؟.
-ما هي التحولات التي فرضتها التطورات التكنولوجية في الفضاء السيبراني على مفاهيم السيادة والأمن والردع في العلاقات الدولية؟، إلى أي حد يمكن للتعاون الدولي أن يسهم في تقليص حدة الصراعات السيبرانية؟، كيف يؤثر التفوق السيبراني في تحديد موازين القوة العالمية، وما هي آثاره على استراتيجيات القوى الكبرى؟.
منهجية الدراسة:
تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي في تحليل الظاهرة المدروسة. يُعد هذا المنهج مناسباً لأن الصراع السيبراني يمثل موضوعًا معقدًا يتطلب استعراضًا دقيقًا لجميع جوانب الظاهرة، وتحديد أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية. كما يساعد المنهج في تقديم عرض شامل للأبعاد المختلفة للصراع السيبراني من خلال جمع المعلومات والبيانات المتوفرة من مختلف المصادر. كما يسمح المنهج التحليلي بتفسير العلاقات المعقدة بين القوى الفاعلة في الفضاء السيبراني وشرح تأثيراتها على النظام الدولي.
الإطار النظري:
يعتمد الإطار النظري لهذه الدراسة على المفاهيم والتوجهات الأساسية في نظرية العلاقات الدولية، مع التركيز على مداخل الواقعية والليبرالية. يتمحور منظور الواقعية حول دراسة دور القوة العسكرية والأمن في النظام الدولي، وكيف يمكن أن يكون الفضاء السيبراني ساحة جديدة لهذا الصراع. في المقابل، يُركّز المنظور الليبرالي على التعاون بين الفاعلين الدوليين وتطوير مؤسسات عالمية لتعزيز الأمن السيبراني. كما سيتم استعراض نظرية الأمن السيبراني كأساس لفهم التهديدات الأمنية الجديدة التي تطرأ نتيجة لهذه الظاهرة.
الإطار المفاهيمي:
الإطار المفاهيمي لهذه الدراسة يتضمن العديد من المفاهيم الرئيسية التي تساهم في تفسير وتحليل الصراع السيبراني، ومن أبرز هذه المفاهيم:
–الفضاء السيبراني: البيئة الافتراضية التي يتم فيها التفاعل بين الأفراد، المؤسسات، والدول عبر شبكة الإنترنت وأدوات الاتصال الرقمية. يتسم الفضاء السيبراني بكونه ساحة غير مادية ومفتوحة، مما يوفر للفاعلين في هذا المجال فرصاً كبيرة لتحقيق أهدافهم السياسية، الاقتصادية، والعسكرية. لكنه في الوقت نفسه يعرض هؤلاء الفاعلين لتهديدات متعددة على مستوى الأمن.
–الصراع السيبراني: المواجهات التي تتم عبر الفضاء السيبراني بين الدول أو الكيانات غير الحكومية، حيث تُستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كأداة لاستهداف أنظمة أخرى، سواء كان ذلك لتعطيل العمليات أو سرقة البيانات أو التأثير على القرارات السياسية. يتميز الصراع السيبراني بطبيعته المستمرة وغير المحددة، مما يختلف عن الحروب التقليدية.
–الأمن السيبراني: مجموعة من الممارسات والتقنيات المصممة لحماية الأنظمة الإلكترونية، والشبكات، والبيانات من الهجمات والاختراقات التي يمكن أن تهدد سلامة المعلومات وأمن الأفراد والدول. في سياق الصراع السيبراني، يُعتبر الأمن السيبراني عنصراً أساسياً في ضمان حماية الفضاء السيبراني من التهديدات والهجمات المختلفة.
–النظرية الواقعية: تُعد النظرية الواقعية في العلاقات الدولية من النظريات الرئيسية التي تركز على القوة والصراع كعناصر أساسية في السياسة الدولية. ترى الواقعية أن الدول تتنافس على النفوذ والموارد في النظام الدولي، وأن الأمن القومي يُعتبر الأولوية القصوى. في سياق الصراع السيبراني، تبرز الواقعية في تفسير التنافس بين الدول للهيمنة على الفضاء السيبراني وحماية مصالحها الوطنية.
–النظرية الليبرالية: تركز النظرية الليبرالية على التعاون بين الدول والمؤسسات الدولية من أجل معالجة التحديات المشتركة وتعزيز الأمن الجماعي. في سياق الصراع السيبراني، تُبرز الليبرالية أهمية التعاون بين الدول والمنظمات الدولية لتطوير قواعد وتنظيمات مشتركة تساهم في مواجهة التهديدات السيبرانية وتعزيز استقرار الفضاء السيبراني على مستوى عالمي.
–الهجمات السيبرانية: هي محاولات متعمدة لاختراق الأنظمة والشبكات الحاسوبية بهدف إلحاق الضرر بها أو الوصول غير المصرح به إلى البيانات أو الأنظمة. تتنوع الهجمات السيبرانية من حيث الأساليب المستخدمة، بدءًا من الفيروسات والبرمجيات الخبيثة، مروراً بالهجمات الموزعة عبر الشبكات، وصولًا إلى الهجمات على البنية التحتية الحيوية مثل: شبكات الطاقة والمرافق العامة. تهدف هذه الهجمات إلى التأثير على الأمن المعلوماتي والاقتصادي، وقد تكون مدفوعة بأسباب سياسية، اقتصادية، أو حتى شخصية.
– الواقعية والليبرالية في تفسير الصراع السيبراني: تحليلات تفاعلية ضمن إطار العلاقات الدولية
بعد استعراض المفاهيم الأساسية المتعلقة بالصراع السيبراني وتحديد أبعاد الفضاء السيبراني والأمن السيبراني، يصبح من الضروري استكشاف النظريات المختلفة التي تفسر هذه الظاهرة في سياق العلاقات الدولية. في هذا الإطار، تبرز النظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية كإطارات تحليلية رئيسية لفهم التفاعلات التي تحدث في الفضاء السيبراني. تسلط كل من الواقعية والليبرالية الضوء على أبعاد مختلفة من الصراع السيبراني، حيث تقدم الواقعية تفسيراً يعتمد على القوة والصراع بين الدول، بينما تركز الليبرالية على التعاون والمبادرات المشتركة لمواجهة التحديات السيبرانية.
نتناول في هذه الدراسة أولًا المنظور الواقعي الذي يركز على التنافس بين الدول والتهديدات الأمنية السيبرانية كأداة للمكاسب السياسية والاقتصادية. ثم سنستعرض ثانياً المنظور الليبرالي الذي يشدد على أهمية التعاون بين الفاعلين الدوليين في تحقيق الأمن السيبراني وتطوير آليات وقواعد مشتركة للتعامل مع هذا الصراع المتزايد.
أولاً- المنظور الواقعي في تفسير الصراع السيبراني
تعدّ النظرية الواقعية إحدى المدارس السياسية التي تنظر إلى العلاقات الدولية من منظور يعتمد على القوى والمصالح الوطنية والتفاعلات بين الدول بوصفها محورًا أساسيًا لفهم السياسة الدولية، تنظر الواقعية إلى الصراع السيبراني من خلال عدسة توازنات القوى، وتشدد على أن الدول تسعى دائماً إلى حماية مصالحها وأمنها القومي، وهي تلجأ إلى استخدام القوة والتكنولوجيا السيبرانية بصفتها وسيلة لتحقيق هذه الأهداف.
لقد قامت فكرة النظرية الواقعية على مجموعة من الافتراضات الأساسية، منها: أنها الدولة تعدّ العامل الرئيسي في العلاقات الدولية، وأن الدولة تتميز بعقلانيتها، ما يجعلها قادرة على تحديد مصالحها استجابةً لهيكل القوى في النظام الدولي، الذي يكون غالبًا مزيجًا من التوازن والفوضى. وهذا يفرض على الدول ضرورة الاعتماد على مواردها الذاتية لتحقيق أمنها القومي، وخاصة القوة العسكرية. كما يعد مبدأ البقاء واستدامة الدولة أحد أهم مبادئ المدرسة الواقعية، ويُعدّ الأمن شرطًا أساسيًّا لتحقيق الأهداف الوطنية جميعًا، بغض النظر عما إذا كانت تلك الأهداف تشمل الغزو أو تحقيق الاستقلال. كما أشار “كينث والتز Kenneth N. Waltz “، فإن دافع البقاء هو أبرز أهداف الدول[1].
لقد أثّر المشهد السيبراني في الاتجاه الواقعي سواء ببعده التقليدي أو الهيكلي، فلم تعد الدولة هي اللاعب الوحيد بعد ظهور فواعل من غير الدول، ما حدّ من قدرة الدولة على صنع السياسة الخارجية، وأصبح المنظور الواقعي، الذي كان يميل إلى تهميش دور الفواعل من غير الدول، يشهد تحولًا ملحوظًا. بينما كانت الواقعية تركز تقليدياً على دور الدولة بصفتها ممثلًا للقوة في النظام الدولي. أما اليوم فهي تواجه تحديات جديدة مفادها تراجع دور الدولة التقليدي وبروز لاعبين جدد في الساحة العالمية[2].
إن تطبيق مفاهيم الواقعية على السياق السيبراني يُظهر تحديات، مثل الفوضى الطبيعية في الفضاء السيبراني، إذ يتميز هذا النظام بعدم وجود هيكل مركزي ولا سلطة تدير التفاعلات فيه. وفي هذا السياق، يرى “جيمس آدم”[3]، أن الفضاء السيبراني أصبح ساحة قتال جديدة للدول، وكلما زاد اعتماد الدول على التكنولوجيا زادت قابليتها للاختراق، وهذا ما يفرض على الدول الاعتماد على مواردها الذاتية لحماية أمنها في هذا السياق التكنولوجي المتقدم[4].
هناك العديد من التحديات التحليلية في مجال الظواهر السيبرانية التي تجعل النظريات الواقعية عاجزة عن تقديم تفسير شامل. هذه التحديات لا تقتصر على السياقات القتالية فقط، بل تتعلق أيضاً بالفاعلين في هذه النزاعات والقضايا المحيطة بها[5]. يمكن تلخيص بعض هذه التحديات على النحو الآتي[6]:
-إذا كانت النظريات الواقعية تُسلِط الضوء على دور الدولة بصفتها فاعلًا رئيسياً في الصراعات الدولية، فإن هذا التصوُّر لا ينطبق على نحو كامل على الصراع السيبراني (حيث تراجع دور الدولة بوصفها فاعلًا رئيسًا في العلاقات الدولية) مع دخول جهات أخرى غير دولية لها تأثير كبير في الصراع السيبراني. على سبيل المثال، يُمثِّل الإرهاب السيبراني وسيلة للحركات الإرهابية لتحقيق أهدافها، وتتعاون بعض المجموعات الإجرامية المنظَّمة في القرصنة السيبرانية. إضافة إلى ذلك، تؤدي شركات التكنولوجيا العملاقة دوراً حاسمًا في إدارة التقنيات السيبرانية، وتوجد منظمات دولية مثل الاتحاد الدولي للاتصالات التي تقوم بإدارة الأمور المتعلقة بالإنترنت والاتصالات[7].كذلك يشمل الصراع السيبراني مجموعة متنوعة من الفواعل، وليس الدولة فحسب.
–صعوبة تحليل مراحل الصراع السيبراني: تعدّ صعوبة تفسير مراحل الصراع السيبراني الأقل حدة إحدى التحديات الرئيسة للنظريات الواقعية؛ إذ يكون التصاعد والتراجع في هذه الصراعات أمورًا غامضة ومعقدة.
–صعوبة تقدير القوة السيبرانية للخصم: في الفضاء السيبراني، من الصعب قياس القوة السيبرانية وتقديرها للدولة المنافسة. وهذا يعني أنه من الصعب على الدولة تحديد ما إذا كانت قادرة على تحقيق الردع بفاعليّة أم لا.
–تحدي الردع السيبراني: على الرغم من أن مفهوم الردع يأخذ مكانة محورية في الواقعية، فإنَّ تحقيقه صعباً في سياق الصراع السيبراني. فالتهديدات والردود في الفضاء السيبراني تكون أصعب في التحكم بها وفهمها على نحو كامل.
–زيادة القدرات الدفاعية: يتطلب التعامل مع التهديدات السيبرانية تطوير قدرات دفاعية قوية للدول، إذ يتعيَّنُ على الدول النظر في أهمية زيادة القدرات الدفاعية إلى جانب زيادة القدرات الهجومية بصفتهما وسيلتين من وسائل البقاء والاستدامة في النظام السيبراني المعقد.
تؤكد الواقعية على أهمية الموقع الجغرافي للدول وهو الأمر الذي اصطدم بما فرضته الظاهرة السيبرانية من تحول العالم إلى قرية صغيرة متجاوزة الحدود. هذا يعني أن موقع الدولة الجغرافي ومواردها الطبيعية كانا عاملين محوريين في تشكيل استراتيجيتها وتوجهاتها في العلاقات الدولية. ومع ذلك، فإنّ ظهور الفضاء السيبراني بوصفه مجالًا للصراع والتفاعل، غيَّر بعض هذه الاعتبارات التقليدية. فقد أصبح في إمكان الدول والجهات الأخرى التي تمتلك قدرات سيبرانية قوية أن تتدخل في الشؤون الدولية وتؤثر في المصالح الوطنية من دون حاجة إلى وجود جغرافي في المكان الذي يجري فيه هذا التدخل[8].
النظرية الواقعية بمختلف فروعها معنية بحالة الحرب والبقاء، وتعتمد على مصطلحات رئيسة، مثل القوة والصراع والردع، وهي حالات تمثّل منحنى الصراع الدولي، وقد تصلح الواقعية في تفسير الحالات التي تسعى فيها الدولة نحو تدمير خصمها نهائيًا للتخلص من “المعضلة الأمنية” كمفهوم أساسي في الصراع السيبراني والذي يشير إلى حالة من التوتر والتهديد المستمر الذي يواجه الدول نتيجة للتطور التكنولوجي المتسارع والاعتماد المتزايد على الفضاء السيبراني في شتى مجالات الحياة.
فوفقًا لنظرية الواقعية، تُعتبر المعضلة الأمنية جزءًا أساسيًا من استراتيجيات البقاء للدول، حيث يسعى كل فاعل دولي إلى حماية أمنه الوطني من التهديدات التي قد تنشأ من الهجمات السيبرانية[9].
وتمثل الهجمات السيبرانية تهديدًا غير مرئي لكنه بالغ الخطورة، حيث قد تؤدي إلى تعطيل البنية التحتية الحيوية للدولة، أو سرقة المعلومات الحساسة، أو إحداث تأثيرات اقتصادية وأمنية على المدى الطويل. وعليه تعتمد المعضلة الأمنية في الصراع السيبراني على مبدأ أن الدول لا يمكنها أن تشعر بالأمان الكامل ما لم تضمن أن خصومها لا يمتلكون القدرة على استهداف بنيتها التحتية أو هويتها الرقمية. هذا يشكل دافعًا دائمًا لتحسين القدرات السيبرانية، ما يؤدي إلى سباق تسلح سيبراني بين الدول[10].
وبالتالي، يعكس الصراع السيبراني انعكاسًا للمعضلة الأمنية التي تواجهها الدول في عالم مترابط حيث يصبح أي ضعف في الجبهة السيبرانية تهديدًا قد يمس الأمن القومي بأبعاده المختلفة. لكن يبقى التساؤل حول قدرة النظرية الواقعية على تفسير حالات أقل حدة من الصراع السيبراني، غير حالة الحرب التي تنطبق على حالات الصراع السيبراني الذي لا يمكن فيه سحق الخصم أو تدميره كليًا، ويبقى جليًا أنه حتى الآن لم يشهد العالم حالة “حرب سيبرانية” كاملة أو واضحة، يمكن قياسها، بل مستويات أقل من ذلك مثل الهجمات السيبرانية[11].
تأسيساً على ما سبق، فإن ثمة إشكالية جوهرية تواجه الواقعية التقليدية في تفسير الصراع السيبراني ضمن سياق العلاقات الدولية. فالواقعية، بنهجها الذي يركز على مركزية الدولة والقوة المادية، تواجه قيودًا أمام التحولات التي أدخلها الفضاء السيبراني على مفهوم الصراع. وهذه التحولات تشمل بروز الفواعل غير الدوليين، وتعقيد الهجمات السيبرانية، وتسارع التقدم التكنولوجي.
1– قُصور الواقعية أمام التحولات السيبرانية:
تعتمد الواقعية على افتراض أن الدولة هي الفاعل الأساسي، وأن القوة المادية (العسكرية والاقتصادية) هي المحدد الرئيسي لعلاقات القوة. ومع ذلك، أضاف الفضاء السيبراني أبعادًا جديدة تتجاوز هذا المنظور التقليدي:
–تراجع مركزية الدولة: أصبحت الفواعل غير الدوليين، مثل الشركات التكنولوجية، والقراصنة الإلكترونيين، والجماعات العابرة للحدود، مؤثرين رئيسيين في الصراع السيبراني. هؤلاء الفواعل غالبًا ما يتجاوزون سيطرة الدول التقليدية، ما يجعل من الصعب على الواقعية تفسير ديناميات هذا الصراع.
–تعقيد الهجمات: الهجمات السيبرانية تتميز بعدم وضوح مصدرها، حيث يمكن لأي فاعل استخدام أدوات سيبرانية لإلحاق الضرر دون ترك أدلة مادية واضحة. هذا الغموض يضعف قدرة الواقعية على ربط الصراعات بالدول بشكل مباشر.
–التكنولوجيا المتقدمة: السرعة الفائقة لتطور التكنولوجيا تجعل من الصعب تحديد موازين القوة التقليدية أو حتى تعريف القوة السيبرانية بشكل واضح.
2– إشكالية قياس القوة في الفضاء السيبراني:
تؤكد الواقعية على ضرورة قياس القوة لفهم الديناميكيات الدولية وتحقيق توازن القوى بين الدول. ومع ذلك، فإن تطبيق هذا المفهوم في الفضاء السيبراني يطرح تحديات معقدة تتجاوز القياس التقليدي للقوة (القياس التقليدي للقوة يعتمد على الجوانب المادية مثل القوة العسكرية، والقدرة الاقتصادية، والنفوذ السياسي، والتأثير الثقافي) ويصعب التعامل معها ضمن إطار العلاقات الدولية التقليدي:
–غياب البعد الملموس: على عكس القوة العسكرية التقليدية التي يمكن قياسها من خلال العتاد العسكري والجنود المنتشرين على الأرض، تفتقر القوة السيبرانية إلى مظاهر مادية محسوسة وواضحة، مثل عدد الهجمات الناجحة أو حجم البنية التحتية الرقمية المتطورة. لذلك، فإن التقييم التقليدي للقوة يصبح غير كافٍ عند التعامل مع الفضاء السيبراني الذي يفتقر إلى الملموسيات الملموسة التي تسهل التحليل الكمي.
–الغموض حول القدرات الهجومية: من أبرز التحديات التي تواجه قياس القوة في الفضاء السيبراني هو الغموض المحيط بالقدرات الهجومية للدول. فعلى الرغم من أهمية هذه القدرات في الصراع السيبراني، نادراً ما تعلن الدول عن قوتها السيبرانية الهجومية، سواء لأسباب تتعلق بالسرية أو دور هذه القدرات في استراتيجيات الردع. هذا الغموض يخلق فجوة في القدرة على تقدير القوة الحقيقية للدول في المجال السيبراني، مما يصعب تحليله ضمن أطر الواقعية التقليدية التي تعتمد على قياسات واضحة للقوة العسكرية.
–التأثير غير المتكافئ: تعد القدرة على استخدام الفضاء السيبراني أداة قوية يمكن أن تحدث تأثيرات كبيرة بغض النظر عن حجم الدولة أو الموارد المتاحة. فالدول الصغيرة أو الجماعات غير الحكومية قد تتمكن من إحداث تأثيرات كبيرة على الأمن السيبراني العالمي باستخدام موارد محدودة وبتكلفة منخفضة مقارنة بالقوة العسكرية التقليدية. هذا يعيد تعريف مفهوم القوة في العلاقات الدولية، حيث لم تعد القوة محصورة في عدد القوات أو المعدات العسكرية، بل أصبحت تعتمد بشكل متزايد على المهارات السيبرانية والقدرة على التأثير في الفضاء الرقمي.
إن هذه الإشكاليات تثير الحاجة لإعادة صياغة كيفية قياس القوة في السياق السيبراني، بحيث يتجاوز التركيز على الجوانب المادية التقليدية إلى مقاربة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التقنية والقدرات غير الملموسة التي تشكل قوة الدول في الفضاء السيبراني.
3– تكييف الواقعية لمواجهة التحديات:
رغم أن النظرية الواقعية تواجه قصوراً في تفسير بعض الأبعاد الحديثة للصراع السيبراني، يمكن تطويعها لتتكيف مع هذه التحديات المتجددة، بحيث يمكن للواقعية أن تتطور من خلال تعديل مفاهيمها الأساسية بما يتناسب مع الواقع الجديد الذي يفرضه الفضاء السيبراني. من أبرز هذه التطورات:
–إعادة النظر في مفهوم القوة: يجب توسيع تعريف القوة في الفكر الواقعي ليشمل الأبعاد غير المادية التي أصبحت أكثر تأثيرًا في العالم المعاصر، مثل القدرات السيبرانية والكفاءة التكنولوجية. ففي صراعات العصر الرقمي، لا تعد القوة العسكرية التقليدية العامل الحاسم فقط، بل باتت القدرة على السيطرة على المعلومات والتأثير في الأنظمة التكنولوجية ذات أهمية متزايدة.
–التكيف مع التعددية: تفرض البيئة السيبرانية حضور فواعل غير دولية مؤثرة، مثل الشركات التكنولوجية والمؤسسات الخاصة، التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل موازين القوة. لذا، يتعين على الواقعية أن تعترف بهذه الأطراف وتوسيع نطاق تحليلها ليشمل تفاعل هذه الفواعل مع الدول في الصراع السيبراني، بدلاً من التركيز حصريًا على العلاقات بين الدول فقط.
–النظر في الغموض: من خصائص الصراع السيبراني أنه يتسم بالغموض وعدم الوضوح، حيث يصعب تحديد مصدر الهجوم السيبراني أو تحديد مسؤوليات الفاعلين في بعض الأحيان. لهذا، يجب على الواقعية تطوير أدوات تحليلية قادرة على التعامل مع هذا الغموض، وربما إعادة النظر في مفاهيم مثل الردع والسيادة في سياق الرقمنة.
إن هذه التحديات تطرح حاجة ملحة لمنظري الواقعية لإعادة النظر في الأسس النظرية التي قامت عليها هذه المدرسة، والتي لطالما اعتبرت الدولة العنصر المركزي في ساحة الصراع الدولي. ففي ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، أصبح من الضروري أن تتبنى الواقعية رؤية أكثر تطوراً ومرونة، تأخذ في الحسبان الأبعاد السيبرانية الحديثة التي تحدد بشكل متزايد ملامح القوة والصراع في العالم المعاصر.
يتطلب ذلك تجاوز الفهم التقليدي للقوة، التي كانت تركز على الجوانب المادية والعسكرية، لصالح مفهوم أوسع يأخذ في الاعتبار التأثيرات العميقة للتكنولوجيا، وتداخل الفواعل الدولية، والشبكات السيبرانية، التي قد تكون أكثر تأثيراً في تشكيل موازين القوى اليوم. على الواقعية أن تتطور لتواكب هذا التحول الكبير، وأن تتعامل مع الأبعاد غير الملموسة والمتشابكة للصراع السيبراني، بما يساهم في تقديم تحليل أعمق وأكثر دقة للعلاقات الدولية في العصر الرقمي.
ثانياً- المنظور الليبرالي في تفسير الصراع السيبراني
ينظر المدافعون عن النظرية الليبرالية إلى العالم على أنه نظام مترابط يمكن تفسيره من خلال مفاهيم، مثل التعاون الدولي، والقوانين والمؤسسات الدولية، وحقوق الإنسان، والحرية، والشفافية. ومن منظور الليبرالية، يعكس الصراع السيبراني تفاعلاً معقداً بين الدول والفواعل من غير الدول في الفضاء السيبراني. كما يؤمن المنظرون الليبراليون بأهمية القوانين والمؤسسات الدولية في تنظيم هذا الفضاء وحل النزاعات بطرق سلمية[12].
يركّز المنظرون الليبراليون على أهمية حماية الخصوصية في الفضاء السيبراني، ويرون أن التحديات المتعلقة بالأمن السيبراني يمكن معالجتها من خلال التعاون الدولي وتطوير قوانين دولية وطنية تحمي الأفراد وتنظم استخدام البيانات والمعلومات[13].
تشدد الليبرالية بوصفها تيارًا في علم العلاقات الدولية على القيم والمؤسسات الليبرالية والتعاون الدولي بوصفه وسيلةً لتحقيق السلام الدولي. وعلى الرغم من أن الليبرالية تركز على نحو رئيس على الأبعاد الاقتصادية والسياسية للعلاقات الدولية، فإنّها تقدر أيضًا أهمية التكنولوجيا والاتصالات في تشكيل هذه العلاقات، وتعتمد الليبرالية على تعددية الفواعل في النظام العالمي، وأهمية العوامل الداخلية في السلوك الخارجي للدولة[14].
تعتقد النظرية الليبرالية أن العلاقات الدولية ليست مقتصرة على دور الدول فحسب، كما هو الحال عند الواقعيين، بل تشمل مجموعة من الفواعل الأخرى التي تشكل الديناميات الدولية. ورغم أهمية هذه الفواعل، فإنّ الليبرالية تعترف بأن الدولة تظل الفاعل الأشدّ تأثيراً في العلاقات الدولية[15].
يؤمن الليبراليون بأن التبادلات التجارية غير المقيدة تشجع قيام صلات عبر الحدود وتحمل الولاءات بعيدًا عن الدولة/ الأمة، وأن منافع التجارة الحرة ستتغلب على تكاليف الغزو الإقليمي والتوسع الكولونيالي، وستصاب بالوهن جاذبية الذهاب للحرب من أجل تحقيق المصالح عندما تتعلم المجتمعات أن الحرب ستحدث انقطاعًا في التجارة، وهكذا سيحل الاعتماد المتبادل محل التنافس القومي، وسينخفض خطر أعمال العدوان من جانب واحد، وكذلك الانتقام المتبادل[16].
وهم يؤمنون بأن تطور التكنولوجيا والاتصالات، بما في ذلك الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أسهم على نحو كبير في تقريب العالم وتوجيه الانتباه نحو القضايا العالمية المشتركة. هذا يمكن أن يسهم في توجيه الاهتمام نحو القضايا السيبرانية ومشاركة متعددة الأطراف في مناقشتها[17].
في سياق الفضاء السيبراني والصراع السيبراني، يمكن الاستفادة من النظرية الليبرالية في تحليل الأبعاد غير العسكرية للقوة ودور الفواعل من غير الدول في تشكيل هذا الفضاء. إضافة إلى ذلك، يمكنها التركيز على أهمية التعاون الدولي ومشاركة المعلومات بصفتها وسيلةً لمواجهة التهديدات السيبرانية التي تتجاوز حدود الدول.
لا تزال هناك عدة إشكاليات تحتاج إلى مزيد من التفسير والتحليل، مثل كيفية تطبيق مفاهيم الليبرالية، التي تركز على التعاون والتعددية، في مواجهة التحديات الفنية والأمنية الفريدة التي يطرحها الصراع السيبراني. كما يبرز سؤال آخر حول كيفية تحقيق تعاون دولي فعّال في هذا السياق، في ظل الفروقات التكنولوجية بين الدول، والقيود القانونية والسياسية، وتباين المصالح بين الفاعلين الدوليين في مجال الأمن السيبراني.
تطبيق مفاهيم الليبرالية على الصراع السيبراني يتطلب إعادة تقييم شاملة للطريقة التي يتم بها تعريف التعاون الدولي في هذا السياق. الليبرالية تؤكد على دور المؤسسات الدولية، التعاون بين الدول، والتفاعل بين الفاعلين الدوليين، وهو ما يتطلب توافر بيئة من الثقة المتبادلة والشفافية التي يصعب تحقيقها في فضاء سيبراني مشبع بالتحديات التقنية والأمنية.
فيما يخص التعاون الدولي، من المهم أن نأخذ في الحسبان تفاوت القدرات التكنولوجية بين الدول واختلاف المصالح الأمنية. تحقيق التعاون الفعّال قد يتطلب تطوير آليات منسقة لمكافحة التهديدات السيبرانية، مثل إنشاء أطر قانونية مرنة ومتجددة، بالإضافة إلى تشجيع تبادل المعلومات والخبرات التقنية بين الدول. لكن، هذا سيواجه تحديات مرتبطة بالسيادة الوطنية وحماية البيانات والخصوصية. بالتالي، رغم أن الليبرالية تدعو إلى التعاون والتعددية، فإن السياق السيبراني يعيد تحديد أطر هذا التعاون بناءًا على التحديات التقنية والآنية التي تطرأ على الساحة العالمية.
هنا يتفق الباحث مع تفسير إيهاب خليفة، حيث يعتقد أن هناك بعض الإشكاليات التي ما زالت تحتاج إلى مزيد من التفسير، مثل[18]:
تتجنب الليبرالية إلى حد كبير تقديم تفسير واضح للعلاقة بين الدولة والفواعل من غير الدول. على سبيل المثال، 1-
الشركات التكنولوجية العملاقة التي أصبحت جزءًا أساسياً في إدارة الصراعات الدولية لامتلاكها تكنولوجيا متقدمة وخدمات رقمية متعددة، إضافة إلى حيازتها كميات هائلة من المعلومات الاستراتيجية. وهناك تساؤلات كبيرة حول مدى مشاركة هذه الشركات في تبادل هذه المعلومات مع حكومات معينة، وهذا يمكن أن يمنح هذه الدول ميزة تكتيكية وقوة دبلوماسية أكبر على حساب الدول الأخرى التي لا تشارك في هذا التبادل.
1-عجزت الليبرالية عن تقديم تفسير شامل لتحديات الفوضى في الفضاء السيبراني، وخصوصاً بالنسبة إلى العلاقة بين الدول والفواعل من غير الدول. وتعتمد هذه النظرية عادة على دور المؤسسات الدولية في حل النزاعات وتحقيق الأمن والاستقرار في العلاقات الدولية. ومع ذلك، فإن واقع الفوضى في الفضاء السيبراني يظهر تحديات أكبر.
على سبيل المثال، لم تكن المنظمات الدولية المعنية بإدارة الإنترنت مثل منظمة الأيكان (ICANN) والاتحاد الدولي للاتصالات قادرة على محو حالة الفوضى في الفضاء السيبراني. هذا يعود جزئياً إلى صعوبة تحديد مصدر الهجمات السيبرانية ومعرفة من يقف وراءها، فهجمات الفضاء السيبراني غالباً ما تكون مجهولة المصدر.
2-وتتمثل صعوبة أخرى بتفسير مفهوم الأمن الجماعي في سياق الصراعات السيبراني. وتؤدي الفوضى والتحديات التقنية في الفضاء السيبراني إلى صعوبة تحقيق الأمن الجماعي، وتحديد الجهة المعتدية والتعامل معها بموجب قوانين دولية معترف بها. علاوة على ذلك، تتسم الأسلحة السيبرانية بإمكانية تطويرها واستخدامها بسهولة من طرف فواعل من غير الدول.
-3-صعوبة توفير إطار مناسب لفهم الأمن الجماعي في سياق الصراعات السيبرانية، ويعود ذلك جزئياً إلى التحديات الفنية التي تطرحها هذه الصراعات، وصعوبة تحديد الجهة المعتدية وتحديد نوع الهجمات السيبرانية، مع وجود فواعل من غير الدول يمكن أن يكونوا مسؤولين عن الهجمات وصعوبة تطبيق القانون الدولي في الفضاء السيبراني نتيجة غياب الحدود الجغرافية الواضحة، وعدم تحقيق العدالة وتطبيق العقوبات على الجهات المسؤولة عن الهجمات السيبرانية.
-العلاقة الجدلية بين الأمن والخصوصية تظل قضية محيّرة للمنظور الليبرالي، وهذا ما يطرح تساؤلات مثل: هل يجوز للدولة التجسس على الأفراد داخل حدودها ومراقبة مكالماتهم واتصالاتهم عبر الإنترنت تحت مظلّة الأمن القومي؟، وهل يجوز للشركات التكنولوجية العملاقة التي تعمل عبر الحدود أن تجمع المعلومات الشخصية للأفراد من مختلف دول العالم، تجاوزًا للحدود الوطنية والإقليمية، بهدف تحسين خدماتها أو جودة الإعلانات التي تعرضها لزبائنها؟، تلك التساؤلات تتطلب بحثاً مستمراً عن أطُر وآليات جديدة، قادرة على فهم هذه الإشكاليات الحديثة ومعالجتها.
وفقًا لما سبق، يمكن أن تكون الليبرالية أداة قيمة لفهم التحديات السيبرانية المعاصرة ومعالجتها، بما يساهم في توجيه العمل الدولي نحو حلول أكثر فاعلية في هذا المجال. فبالنسبة إلى الليبراليين، يعد الفضاء السيبراني أحد الأدوات التي تعزز مقولاتهم، إذ يسهم في خلق تعددية الفاعلين ويعزز من دور العوامل السياسية في العلاقات الدولية.
من خلال ثورة المعلومات والاتصالات، أصبح للفاعلين غير الدوليين دور متزايد في الساحة العالمية، حيث أتاحت لهم هذه الثورة القدرة على الاتصال والتعاون عبر الحدود، سواء من خلال المنظمات غير الحكومية أو المجموعات الأخرى. وبينما كان لهذا التطور أثر إيجابي يتمثل في التداخل والتعاون بين مختلف الأطراف، فإنه في الوقت ذاته أفرز سلبيات كثيرة، مثل الإرهاب والجريمة السيبرانية العابرة للحدود، مما يهدد استقرار الدول.
وفي هذا السياق، يشدد الليبراليون على أهمية التعددية كآلية أساسية لتعزيز الأمن والاستقرار في العصر الرقمي، بما يضمن تكامل الجهود الدولية لمواجهة التحديات السيبرانية.
الخاتمة:
ما نخلص إليه من هذه الدراسة هو أن النظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية، رغم توفيرها لإطار عمل مهم لفهم العلاقات الدولية والأمن الدولي، قد أظهرت محدوديتها في مواجهة التحديات الجديدة التي يطرحها الصراع السيبراني. فالصراع السيبراني يتجاوز التهديدات التقليدية التي تعتمد على القوة العسكرية المادية، ويشمل تفاعلات مع فواعل غير دولية لا تملك تمثيلًا رسمياً في النظام الدولي، مثل الجماعات السيبرانية والشركات التكنولوجية الكبرى وحتى الأفراد. وبالتالي، لم تعد هذه النظريات كافية لتفسير التغيرات العميقة التي نشهدها في النظام الدولي، خاصة مع التطور التكنولوجي السريع والتحولات في أساليب الصراع.
وبناءًا على ما سبق، كانت إحدى التساؤلات الأساسية لهذه الدراسة هي: كيف يمكن بناء نظريات شاملة قادرة على تفسير هذه التحولات المتسارعة في مجال الصراع السيبراني؟، وكيف يمكن توسيع إطار التحليل ليشمل الأبعاد التكنولوجية والاجتماعية والسياسية التي أصبحت جزءاً أساسياً من السياق الدولي؟، الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي ضرورة تطوير أدوات وأطر تحليلية جديدة تتجاوز النظريات التقليدية، لتشمل مقاربات أكثر مرونة وشمولًا تأخذ في اعتبارها تعقيدات الفضاء السيبراني.
في ضوء هذه التحولات، يتطلب الأمر من الباحثين وصانعي القرار إعادة التفكير في مفاهيم الأمن الدولي والردع والسيادة من منظور متعدد الأبعاد، يتماشى مع طبيعة الفضاء السيبراني. ينبغي أيضًا التعامل مع التهديدات غير التقليدية، مثل الهجمات السيبرانية، التي يصعب تتبعها أو حصرها، فضلاً عن فهم كيفية التفاعل مع الفواعل غير الدوليين، التي أصبح لها دور فاعل في التأثير على التوازنات السياسية والاقتصادية العالمية.
وأخيرًا، بما أن التهديدات السيبرانية تتسم بتعقيدات فنية وتقنية غير مسبوقة، فإن محاولة فهم هذه الظاهرة تتطلب تحليلاً متعدد التخصصات. من هنا، فإن التفسير الشامل للصراع السيبراني يقتضي الجمع بين عدة نظريات ومقاربات، بحيث تتمكن من الإحاطة بكافة أبعاد هذه الظاهرة المعقدة والمتغيرة، بما يتناسب مع مستجدات العصر الرقمي.
[1]– Kenneth N. Waltz, Political Realism in International Relations, Stanford Encyclopedia of Philosophy, Routledge, 1st Edition,2008, https://bit.ly/41BIsPj, Accessed: )3/9/2023(.
[2]– Charles W. Kegley, Gregory A. Raymond, Realism in the Age of Cyber Warfare, 04/26/2021, Ethics & International Affairs, Accessed: )3/9/2023 (.
[3] -James Adams, “Virtual Defense” Foreign Affairs Vol. 80, No. 3 (May – Jun, 2001), p.98, https://urlr.me/NY9Unu, Accessed:) 3/9/2023(.
[4]– James Adams, Virtual Defense, Foreign Affairs, vol. 80, No. 3, May – June, 2001, p. 98.
[5]-Yuichiro Mitsutomi, Continuity and Change: Structural Realism and International Stability in the Information Age, The George Washington University ProQuest Dissertations Publishing, ProQuest LLC, USA, 2011, https://urlr.me/jS7Csc, Accessed: )3/9/2023(.
[6]– Anthony Craig and Brandon Valeriano, op.cit., Accessed: )20/9/2023(
إن تقدير قوة الدولة السيبرانية لا يتوقف بالضرورة على حجم القدرات الهجومية أو الدفاعية التي تمتلكها الدولة، بل يتوقف أيضًا على الأهداف الحيوية والاستراتيجية المرتبطة بالفضاء السيبراني، للمزيد أنظر في :
Lucas Kello, the meaning of the Cyber Revolution, Quarterly Journal: International Security, 2013, https://bit.ly/3REm4QA, Accessed: )6/9/2023(
[7]– Jennifer A. Chandler, Technological Self-Help and Equality in Cyberspace, Revue de Droit de McGill, Vol. 56, No. 1, Dec 2010, pp. 39-75.
[8] – Ryan C. Maness and Brandon Valeriano, The Impact of Cyber Conflict on International Interactions, Sage Publications, Inc., Vol. 42, No. 2, 2016.
https://urlr.me/Yv8RkK, Accessed:) 03/09/2023(
[9] – Libicki, M. C, Conquest in Cyberspace: National Security and Information Warfare. Cambridge: Cambridge University Press, 2007, P.45.
[10] – Nye, J. S, Cyber Power. Harvard University Press, 2010, p. 60.
[11] -Constantine J Petalites, Cyber Terrorism, and IR Theory; Realism, Liberalism, and Constructivism in the New Security Theart, inquiries journal, VOL. 4 NO. 03, 2012, https://cutt.us/ztDNM, Accessed:) 06/09/2023(
[12]– Simon Handler, The Cyber conflict in international relations: A policymaker’s perspective, Atlantic Council, August 3, 2023, https://urlz.fr/tN5U, Accessed:) 20/9/2023(
[13]– Brandon Valeriano and Ryan Maness, International Relations Theory and Cyber Security, April 2018, See: discussions, stats, and author profiles for this publication at: https://urlz.fr/tN5W, Accessed: )20/9/2023(
[14] – سماح عبد الصبور، الصرع السيبراني: طبيعة المفهوم وتعدد الفاعلين، مرجع سبق ذكره، ص 8.
[15]– عبد الناصر جندلي، مرجع سبق ذكره، ص. 122.
[16] -جون بيليس وستيف سميث، مرجع سبق ذكره، ص. 103.
[17] -المرجع نفسه.
[18] -إيهاب خليفة، الحالة السيبرانية في نظريات العلاقات الدولية: الحاجة إلى مراجعة جديدة، مرجع سبق ذكره، ص 12.