تداعيات شعار “أميركا أولاً” على القيم والمصالح الأوروبية ــــ الأميركية

د. مجيد عز الدين مطر (دكتوراه في العلوم السياسية، جامعة بيروت العربية، لبنان).
ملخص
على الرغم من تجذر العلاقات الأوروبية ــــ الأميركية انطلاقاً من قيم الحضارة الغربية، التي فرضت تعاوناً مشتركاً على الصعد كافة السياسية، الثقافية، الاقتصادية، والعسكرية، لمجابهة التحديات الدولية، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما برز نظام ثنائي القطبية، بدت فيه أوروبا وأميركا كتلة واحدة بنهج اقتصادي رأسمالي يؤمن بالحريات الفردية قوامها دول جعلت من الديمقراطية أداة من أدوات سياستها الخارجية، ما أتاح لها التدخل العسكري لإسقاط انظمة استبدادية، فساد انطباع بأن تلك العلاقات من الثوابت التي لا تتبدل.
بالاضافة إلى ذلك سيطرت القوى الغربية على مجلس الامن التابع للامم المتحدة فهناك ثلاثة اعضاء من اصل خمسة هم أميركا، بريطانيا، وفرنسا بما لهم من قوة التأثير بالتكافل والتضامن في كثير من القرارات الدولية، وان برزت بعض التباينات بين تلك الدول لناحية هذه القضية أو تلك، وقد بدا التنافر بينهما إلى حدٍّ سافر، بدايةً مع الرئيس الاسبق جورج بوش الابن، حيث بدأ الحديث عن ضرورة التفريق بين التضامن الاطلسي والتضامن الأوروبي، فوصفت حينها أوروبا بالقارة العجوز.
إنما استمر التحالف مع الولايات المتحدة حتى مجيء الرئيس ترامب في ولايته الاولى وولايته الثانية ليعطي انطباعاً بأن ثمة تغيرات جذرية بين الطرفين، لا يمكن وصفها بمجرد الخلاف بوجهات النظر، إنما هي سياسة واضحة ينتهجها الرئيس الأميركي، قوامها تقديم مصالح بلاده على الحلف التاريخي الذي يجمع بين ضفتي الاطلسي، رافضاً الدفاع عن أوروبا من دون أن تتحمل التكلفة المادية عبر المزيد من الانفاق العسكري، ومتجاهلاً في الوقت نفسه مخاوف أوروبا من نتائج الحرب في اوكرانيا، ورافعاً في وجه العالم شعار “أميركا أولًا”.
كلمات مفتاحية: الاتحاد الأوروبي، الحضارة الغربية، الديمقراطية، الحرب الاقتصادية، السياسة الحمائية.
المقدمة
تشهد العلاقات الأوروبية ــــــ الأميركية في ظل إدارة ترامب تصدعاً سياسياً خطيراً، لم تشهده منذ استقلال أميركا في 4 تموز/ يوليو 1776، حيث جمعتها مع أوروبا مجموعة من القيم، بلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي الحر في مواجهة الاتحاد السوفييتي الذي اطلق “نظرية زادانوف” مقسماً العالم إلى كتلتين: كتلة اشتراكية وكتلة رأسمالية.
ومع أن تلك العلاقات كانت تشهد صعوداً وهبوطاً، لكنها بقيت مستقرة في ظل القيادة الأميركية للغرب، وبعد وصول ترامب إلى السلطة مجدداً بعد انتخابات 2024، تحققت المخاوف الأوروبية من تصريحاته بأن بلاده لن تدافع عن أوروبا وأن “الحلف الاطلسي” قد مات.
إن رفع دونالد ترامب “شعار أميركا أولاً” وسط تأييدٍ شعبي، قد شكل تحولاً اسراتيجياً في السياسة الأميركية، تجاوز منظومة المبادئ والقيم الاطلسية الجامعة مع أوروبا، وهذا ما أكدته مواقفه تجاه الحرب الروسية ـــ الاوكرانية، علاوة على نيته فرض الكثير من الضرائب على الحلفاء قبل الخصوم.
من نافل القول أن القيم تشكل أحد محددات العلاقات الدولية، فالقيم ترتبط مباشرة بالأمن القومي والحفاظ عليها يعتبر أمرًا ضروريًا للحفاظ على العقيدة الدينية أو السياسية والاقتصادية. فهي مؤثر في السلوك الانساني، ولها علاقة بالممارسة السياسية، على “اعتبار أن النظام السياسي والنظام الأخلاقي يعملان في سبيل تحقيق وجود الانسان من حيث معناه وقيمته اجتماعياً وسياسياً”.[1]
وعدم أخذ القيم الغربية المشتركة في الاعتبار أثار حفيظة الشعوب الأوروبية، إذ لم يكن لأحد أن يتوقع بأن نصف الفرنسيين والبريطانيين والبولنديين ينظرون للرئيس ترامب على أنه دكتاتور. كما طالب أحد البرلمانيين الفرنسيين باسترداد تمثال الحرية من الولايات المتحدة لأنها لم تعد تمثل القيم التي دفعت فرنسا إلى تقديم التمثال لها.
أولاً: أهمية البحث
تأتي أهمية هذا البحث عبر دراسة العلاقات الأوروبية الأميركية في حقبة الرئيس دونالد ترامب، لتحليل مضمون شعار “أميركا أولا” الذي يقدم المصالح الأميركية باعتبارها أولوية مطلقة لسياسته الخارجية، والذي يضع تلك العلاقات التاريخية على محك الحروب السياسية والاقتصادية، لذا فإن لهذا البحث أهمية علمية لمساهمته في زيادة المعرفة البحثية في تحولات العلاقة بين القطبين الغربيين الكبيرين المؤثرين، كما أن لهذا البحث أهمية عملية لكل باحث ومهتم أو لكل مؤسسة بحثية تعنى بالسياسات الدولية خصوصاً الأوروبية الأميركية.
ثانياً: هدف البحث
يهدف هذا البحث إلى تحليل تداعيات السياسة الأميركية الراهنة تجاه الاتحاد الأوروبي والكشف عن المقومات الأوروبية للرد عليها حمايةً للمصالح الأوروبية.
ثالثاُ: إشكالية البحث
لطالما شكلت العلاقات الأوروبية الأميركية أحد المفاصل الاساسية للنظام الدولي، وجوهر للسياسات الدولية منذ الحرب العالمية الاولى التي أدت نتائجها السياسية والعسكرية إلى بروز دور الولايات المتحدة بتأثيره المباشر في مصير القارة الأوروبية المنقسمة بدورها انقساماً حاداً على مستوى السياسة والايديولوجية، وقد تعاظم ذلك الدور مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
حيث ساهمت القوة العسكرية الأميركية في حسم الحرب لصالح الحلفاء، وفرض توازن مع الاتحاد السوفيتي من خلال تشكيل كتلة دولية غربية عرفت بالكتلة الرأسمالية، تجمعها مجموعة من القيم السياسية والفكرية والاقتصادية استطاعت في نهاية المطاف تفكيك المنظومة الاشتراكية بتفكك قطبها الأبرز أي الاتحاد السوفيتي، ما عزز تلك العلاقات بين أميركا وأوروبا.
صحيح أن تلك العلاقات قد شهدت صعوداً وهبوطًا، إنما بقيت محكومة بمجموعة من القيم المشتركة التي تتعرض راهناً إلى تحديات وجودية بعد وصول دونالد ترامب لسدة الرئاسة رافعا شعار “أميركا أولا” ما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل تلك العلاقات: فإلى أي مدى سيؤثر “شعار أميركا أولا” في العلاقات بين الطرفين؟
وهذه الاشكالية تطرح بدورها مجموعة من التساؤلات أهمها: كيف تشكلت العلاقات الأوروبية الأميركية عبر الزمن؟ ما هي القيم والسياسات المشتركة بين القطبيين الرأسماليين الدوليين؟ ما هو مضمون شعار “أميركا أولاً” وما هي نتائجه على تلك العلاقات؟ ما هي الوسائل الأوروبية المتاحة للرد على التحديات المستجدة في العلاقة مع أميركا في زمن الرئيس دونالد ترامب؟ وما هو مستقبل تلك العلاقات؟
تقسيم البحث
للإجابة عن أشكالية البحث وتساؤلاتها، سيتم تقسيم البحث إلى مقدمة ومطلبين مع خاتمة واستنتاجات، ووفقاً للآتي: المطلب الاول: الإطار التاريخي للعلاقات الأوروبية ــــ الأميركية، المطلب الثاني: مآلات العلاقات الأوروبية ـــ الأوروبية وسط التحديات المتصاعدة.
المطلب الاول: الاطار التاريخي للعلاقات الأوروبية ـــ الأميركية
يعود التاريخ المشترك للعلاقات الأميركية الأوروبية لحقبة ما قبل استقلال الولايات المتحدة، أي إلى زمن البعثات الاستكشافية التي موّلتها الممالك الأوروبية لاكتشاف العالم الجديد، فتحولت بنتيجتها الجغرافية الأميركية إلى مستعمرات إسبانية وإنجليزية وفرنسية، وبعد اكتشاف أميركا، بدأ ارسال المستعمرين بهدف الحصول على أراض جديدة يملكها سكان أصليون يعرفون بالهنود الحمر.
وبعد الهجرات المتتالية إلى أميركا الشمالية تكونت المستعمرات التي ازدادت أهميتها مع توسع الاستعمار البريطاني الذي أصبح يسيطر على 13 مستعمرة نامية سكانيًا واقتصاديًا، لتبدأ بعدها معاناة السكان الأصليين وذوبان قوتهم الديمغرافية إلى حد الاضمحلال نتيجة التطهير العرقي الممنهج الذي مورس ضدهم.
ولأن المستعمرات البريطانية في البلاد المستكشفة بعيدة عن المركز في بريطانيا تكونت حكومات ذاتية من السكان الجدد قادت لاحقًا إلى حرب استقلال تحت شعار “لا ضرائب دون تمثيل” ردًا على فرض المزيد من الضرائب التي كانت يفرضها التاج البريطاني. فاشتد نزاع المستعمرات مع بريطانيا، بعد تبني الكونغرس القاري اعلان الاستقلال في الرابع من تموز/ يوليو 1776 وبعد معركة “بورك تاون” اعترفت بريطانيا باستقلال الولايات 13.[2]
الفرع الاول: تشكل القيم والمصالح قبل حقبة دونالد ترامب
أولاً: على المستوى السياسي
بعد أن استقلت المستعمرات الأميركية بدأت تتبلور للولايات المستقلة حديثاً عن التاج البريطاني هوية خاصة وشعور بالتمايز عن المركز الأوروبي المستعمر، وزاد الاصرار لاكتساب المزيد من عناصر القوة لضمان استقلالها وسيطرتها، وتحقيق اهدافها بالتوسع صوب المحيط الهادئ، وقد أسفر توسّع الأميركيين نحو الغرب عن صدامات مع السكان الاصليين الذين تعرضوا للسلب والاجلاء عن أراضيهم فتوسعت مساحة المستعمرات المستقلة بعد شراء لويزيانا من فرنسا التي ادعت الولايات المتحدة ملكيتها في العام 1803.
وقد كانت تلك البلاد منقسمة إلى قسمين الولايات الشمالية (الاتحاد) والولايات الجنوبية (الكونفدرالية) ورغم أن هذه الولايات الجنوبية والشمالية تخضع بولائها للولايات المتحدة إلا أنها نتيجة لعدة عوامل اقتصادية ودينية وأيديولوجية دخلت في حرب أهلية طاحنة على خلفية الرق 1861، انتصر فيها الشمال على الجنوب بعد أن راح ضحيتها آلاف القتلى.
بعدها توحّدت الولايات المتحدة الأميركية، وأصدرت تشريعات تمنع الرق بضغط من الرئيس الأميركي ابراهام لينكولن الذي كان من أشد المعارضين له، فتحول الأفارقة العبيد إلى مواطنين أميركيين، إلا أن هذا الأمر لم يدم، إذ أن قوانين “جيم كرو”[3]، وبعد اغتيال الراهام لينكولن، عادت لتحرم الكثيرين من السود وبعض الفقراء البيض من حقوق المواطنة كحق الاقتراع، فساد عهد من التفرقة العنصرية التي أدت إلى قيام حركات اعتراض تناضل من أجل تكريس المساواة على أساس المواطنة.
ومن خلال حركات الاستعمار وإرسال المستعمرين الأوروبيين بدأت علاقات أوروبية أميركية تمثلت بداية في استيطان أروربي لأراضي السكان الأصليين، ثم تطورت بعد صراع الدول الأوروبية المستعمرة فيما بينها لتحقيق المزيد من المكاسب، ليستتب الأمر لبريطانيا التي منحت الولايات 13 استقلالها كأول فعل سياسي قاد لاحقا إلى قيام الولايات المتحدة كما نعرفها راهناً.
غني عن القول إن ملامح العلاقات السياسية بين أوروبا وأميركا، القائمة بداية على تحقيق المصالح عبر انقسام الرؤى والسياسات بين الطرفين بدأت من خلال “مبدأ مونرو” الهادف إلى حماية القارة الأميركية من التدخل الأوروبي، وضمان استقلالها عبر منع قيام مستعمرات جديدة أو التعاطي مع الأميركيين من أصل أوروبي، وكأنهم امتداد للاستعمار الأوروبي أو رعايا تابعين له. فقد صرح الرئيس مونرو أمام الكونغرس “بأن كل محاولة تقوم بها دولة أوروبية لفرض نهجها السياسي على نصف الكرة الأميركي تشكل خطرًا على سلم وأمن الولايات المتحدة”.[4]
وقد كرّسَ هذا المبدأ انقساماً بين الأوروبيين أنفسهم، تحديداً بين فرنسا التي رفضته، وبين بريطانيا التي أيدته لكونه يفرض قيوداً بوجه التمدد الفرنسي في القارة الأميركية. فأسس ذلك المبدأ لفكرة العزلة الأميركية عن أوروبا وعن مشاكلها وتناقضاتها.
هكذا تكرّست العزلة الأميركية وأصبحت جزءاً من السياسة الخارجية الأميركية التي كانت تخضع لمراقبة الكونغرس الأميركي ما أدى إلى عدم مشاركة الولايات المتحدة بفعالية في العلاقات الدولية[5]، إلى أن قامت الحرب العالمية الاولى، رغم ذلك ظلت الولايات المتحدة في بدايتها ضمن خانة الحياد عن الخلافات الأوروبية إلى أن وقعت جملة من أحداث سياسية وعسكرية خطيرة، أدرك عبرها صانع القرار الأميركي خطورة الوقوف على الحياد.
وكي لا تتحول العزلة الإرادية إلى حصار يضر بالمصالح الأميركية، فيما لو انتصرت ألمانيا وحلفاؤها في الحرب، تلك الأحداث سرّعت من دخول الولايات المتحدة، أهمها قيام الغواصات الألمانية باستهداف السفن التجارية وتلك التي تنقل الركاب عبر المحيط ما أدى إلى موت العديد من المواطنين الأميركيين فجاء إغراق السفينة “فيجيلنتيا” الأميركية سنة 1917، ليغير مجرى الأحداث، كما علمت الولايات المتحدة ببرقية زيمرمان المشفرة التي تضمنت تحريضًا ألمانيًا للمكسيك لمحاربة الولايات المتحدة مقابل استعادة أراضيها السليبة.[6]
أما أهم ما شجع الولايات المتحدة للدخول في الحرب، فهو سبب اقتصادي، وذلك حماية لديون البنوك الأميركية الواجبة على بريطانيا وفرنسا، فأعلن على أثرها الرئيس وودرو ولسون الحرب على ألمانيا قائلاً: “إن دخولنا الحرب لا يعني فحسب أن ألمانيا ستهزم إنما يعني كذلك أن هزيمة ألمانيا ستكون ساحقة”.
كل تلك التطورات أكدت للأميركيين أن عزلتهم عن قضايا العالم، ستؤدي إلى أضرارٍ سياسية وعسكرية واقتصادية، فدخلت الحرب مكرسة بذلك دورها السياسي على المسرح الدولي وتحديداً الأوروبي، ما خلق تياراً أميركيا داخلياً يدعو لأن يكون للولايات المتحدة دوراً مؤثراً يوازي حجمها وقوتها بعد أن غيّر دخولها الحرب مجريات الأمور تغييراً جذرياً ملحقة الهزيمة بألمانيا وحلفائها، حيث تبدل وجه العالم، ومنطقة الشرق الاوسط على وجه التحديد بعد هزيمة تركيا حليفة ألمانيا، ما أدى إلى تقسيم إمبراطوريتها المترامية الأطراف وفرض انتداب بريطاني وفرنسي إلزامي عليها.
ثانيًا: على المستوى الأيديولوجي
بعد انتصار الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة، وخسارة ألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، وقيام عصبة الأمم وتوقيع اتفاقية فرساي التي اعتبرها الألمان ظالمة بحقهم، وبعد حصول الكساد العالمي سنة 1929، استطاعت الاحزاب النازية والفاشية إقناع المواطنين الألمان، بصوابية خياراتهم للتخلص من الأزمات الاقتصادية وإعادة الاعتبار لتاريخهم وأمجادهم عبر بناء الدولة القومية القادرة على تخليصهم من الاتفاقيات المجحفة والتي تسببت بفقرهم، وخضوعهم لعقوبات قاسية على الشعب الألماني وسط ارتفاع كبير في الاسعار وفقدان التوازن بين الانتاج والاستهلاك.
عندها تعاظمت قوة أدولف هتلر ووصل الحزب النازي إلى حكم ألمانيا بوسائل ديمقراطية، والذي رفض شروط الاذلال، فقام ببناء جيش قوي واشعال سباق تسلح قاد إلى إشعال الحرب العالمية الثانية[7]، ما شجع الولايات المتحدة بدخولها إلى جانب الحلفاء لهزيمة الفاشية والنازية، أدى ذلك إلى خلق قيم غربية مشتركة تقوم على الديمقراطية والليبرالية وحقوق الانسان، وقيام فكرة العدالة الانتقالية بعد تأسيس محكمة نورنبرغ لمحاكمة القادة النازيين الذين تورطوا في جرائم الابادة والجرائم ضد الانسانية، فتعزز القانون الدولي على المستوى العالمي، بعد أن كان يعتبر قانونًا يخص أوروبا فقط، على أثرها أُسست منظمة الامم المتحدة من قبل القوى المنتصرة في الحرب بميثاق جديد يتلافى ما وقعت به عصبة الامم من عجز، فأصبحت أووربا الغربية والولايات المتحدة تجمعهما شراكة أيديولوجية رأسمالية في مقابل أيديولوجية اشتراكية يمثلها الاتحاد السوفييتي آنذاك، لتسود ثقافة حقوق الفرد والمجتمع في الغرب بما هو تعبير جيوسياسي.[8]
ثالثًا: على المستوى الاقتصادي
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت أميركا بمساعدة أوروبا من خلال خطة مارشال لمساعدة اقتصادها المنهك والمدمر، فتأسس نظام اقتصادي جديد عبر دعوة الولايات المتحدة اكثر من 44 دولة للاجتماع في تموز/ يوليو 1944 بمدينة “بريتون وودز” للاتفاق على نظام نقدي جديد لتأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي، ثم أُسس صندوق النقد الدولي لتشجيع التعاون النقدي الدولي والعمل على النمو المتوازن للتجارة الدولية، وتم تأسيس البنك الدولي للانشاء والتعمير والهدف منه المساعدة في إعادة تعمير ما دمرته الحرب ومساعدة البلاد النامية لاستخدام مواردها لتحقيق التنمية. ثم إنشاء “اتفاقية الغات” الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية التي تم توقيعها عام 1948 وتطورت فيما بعد لتصبح منظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1995.[9]
رابعاً: على المستوى العسكري
انتهت الحرب العالمية الثانية بتقسيم أوروبا إلى قسمين غربي وشرقي، واصبحت ألمانيا دولتين ألمانيا الشرقية تابعة للكتلة الاشتراكية، وألمانيا الغربية التابعة للكتلة الراسمالية يفصل بينهما جدار برلين، اما القسم الشرقي من أوروبا فيسيطر عليه حلف وارسو، والقسم الغربي تُسيطر عليه أميركا من خلال سياسة الأحلاف[10] التي تكرست عبر حلف شمالي الاطلسي لاحتواء الاتحاد السوفييتي وتهديداته، وحفظ أمن أوروبا ضمن منظومة “أمن جماعي” مؤلفة من دول أوروبا الغربية، ومن يدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية.
ومن أهم التدخلات الأميركية في تلك الحقبة بدأت في الحرب اليونانية 1946- 1949 التي جرت بين الجيش اليوناني المدعوم من الولايات المتحدة ودول أوروبية غربية في مواجهة الحزب الشيوعي و”الجيش الديمقراطي اليوناني” المدعوم من دول أوروبا الشرقية بلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا. على إثر ذلك الصراع الذي عرف بالحرب الباردة، تنامى بناء القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا التي أصبحت ركيزة السيطرة الأميركية في أوروبا والعالم.[11]
الفرع الثاني: مرتكزات سياسة ترامب الخارجية
اعتبر هانز مورغنثاو، وهو أحد أبرز منظري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، أن إدارة المصالح الوطنية جوهر السياسة. والحديث عن مفهوم المصلحة الوطنية لا يتم إلا في إطار الدول ذات السيادة، التي تدرك وجودياً حاجاتها في عالم قلق، الصراع فيه هو القاعدة، والتعاون السلمي يشكل الاستثناء.
لا ينفصل التأصيل النظري لمصالح الدول عن واقعها العملي تحديداً في لحظات الازمات الكبرى، ودور صنّاع القرار في التعامل مع تلك الازمات، سواء تطورت الاوضاع أم لم تتطور. هنا اعتبارات الدولة وبقائها يجب أن تلاقي جميع الاحتمالات، فحيث المصالح الوطنية، ينتفي الارتجال ويضمحل تأثير الصدفة، وما يقوم به الرئيس دونالد ترامب لا يأتي من فراغ بل هناك خطة اقتصادية وسياسية مدروسة تعبر عن استراتيجيته لحماية مصالح بلاده بحسب ما يمنحه الدستور من سلطات.
أولاً: المدلول السياسي لشعار ” أميركا أولا”
في الاساس استخدم شعار “أميركا أولاً” من قبل الرئيس الأميركي وودرو ولسون للتأكيد على أن تركيز حكمه سينصب على السياسة الداخلية كمصلحة وطنية لها الاولوية، والابتعاد عن التورط بمشاكل العالم المكلفة على الصعد كافة، وإذا كان هذا الشعار قد رفع في حقبة زمنية قريبة لاستقلال الولايات المتحدة، حيث لم يكن هناك تشابك مصالح وقيم مع حلفائها الأوروبيين، وقبل ان يتشكل العالم وفق مصالح وايديوجيات وبروز قوى عالمية فاعلة تريد ان تنافس أميركا على قيادة العالم.
فإذا كان رفع ذلك الشعار في البدايات لا يثير الكثير من الاشكاليات، بيد أن استخدامه راهناً في هذا الوقت، وفي ظل حقبة ما بعد العولمة التي جعلت من العالم قرية كونية متصلة ومتشابكة في التواصل ومتضاربة في المصالح، تجعل من مدلول “شعار أميركا أولًا” لا يقتصر على الداخل الأميركي فقط، بل يمتد إلى خارج الولايات المتحدة التي تتشارك مع أوروبا في علاقات متنوعة سياسية وعسكرية وثقافية واقتصادية، تجعل من تداعيات ذلك الشعار مؤثرة في أكثر من اتجاه.
وتعبيرًا عن مخاوف الكثيرين، قال الرئيس الأميركي جو بايدن في إحدى مقابلاته “لقد حضرت كثيراً من الاجتماعات الدولية، أكثر مما يحضره معظم الرؤساء خلال ثلاث سنوات ونصف السنة، ولا يوحد اجتماع دولي كبير حضرته إلا وتحدّث معي خلاله زعيم عالمي وأنا أغادر، وقال لي: لا يمكن لترامب الفوز، لا يمكنك السماح له بالفوز”.[12]
مرّ الخبر حينها من دون ضجة تذكر، حيث نقلته وسائل الاعلام العلمية، فقط لكونه صادر عن رئيس أكبر دولة في العالم، من دون التركيز على مضمونه اللافت، الذي كان من المفترض أن تقام على خلفيته الحلقات التحليلية والاستشرافية للوصول إلى خلاصة سياسية واضحة التي تجيب على السؤال التالي: “لماذا يخافون من دونالد ترامب؟”
لا خلاف، بأن شخصية دونالد ترامب تلعب دوراً في زيادة مخاوف زعماء العالم، فهو شخصية تفكر خارج الصندوق، ولديه رؤيته الخاصة لدور الولايات المتحدة وكلفة تحملها قيادة العالم، بحيث يرى أنها تكلفة مجحفة بحق الشعب الأميركي الذي يتحمل الثقل الأكبر في أكثر من قضية من قضايا العالم، كدعم منظمة دولية كالأمم المتحدة بكافة فروعها، أو حلف شمال الاطلسي (الناتو) حيث ما إن تم انتخابه حتى بدأ بمطالبة دول ذلك الحلف بزيادة انفاقها العسكري إلى حدود 5% من إجمالي الناتج المحلي، وسط مخاوف من تقليل الدعم لأكرانيا.
لقد أثبتت التجارب أن هذا الرئيس يمثل فعلياً صورة الولايات المتحدة العقائدية والاجتماعية، فهو ليبرالي رأسمالي لا يعرف سوى لغة الاقتصاد والاكلاف التي يجب الدول الاخرى تقاسمها مع بلاده، ويؤمن بتفوق أميركا التكنولوجي كدولة استهلاك، ويدرك كخبير بأن الاقتصاد العالمي يرتبط بمؤشرات الاقتصاد الأميركي، فعلى الرغم من فرض احتكارات تؤدي إلى تدني أسعار المواد الأولية التي يحتاجها الاقتصاد الأميركي إلا أنها حتماً تساعد اقتصاد الدول المصدرة لتلك المواد التي هي بحاجة للعملات الصعبة. من دون أن ننسى خلافه كصاحب رؤية مع المجمع الصناعي ــ العسكري، الذي اعتبره الرئيس أيزنهاور يشكل تهديداً للأمن والاستقرار.[13]
كما أن ترامب في أثناء حملته الانتخابية أعاد التركيز على مسألة الأيديولوجية الليبرالية النقية التي تحكم الأمة الأميركية، والمقصود بـ”النقية” أن المجتمع الأميركي لم يختبر الانقسام الطبقي والصراع الأيديولوجي أو فكرة اليمين واليسار كما حدث في أوروبا، فقد قال: “لدينا بعض الاشخاص السيئين للغاية، ولدينا الأشخاص المضطربين، مجانين اليسار، وأعتقد أنه إذا لزم الأمر يجب التعامل معهم ببساطة، من قبل الحرس الوطني”. إلى هذا الحد يؤمن بأن بلاده لا يمكن أن تختبر الانقسام الأيديولوجي التقليدي، الذي لا مكان له داخل المجتمع الأميركي.
أما الأمر الأكثر أهمية والذي عبّر عنه دون تكلّف أو تصنّع، ودفع الرجل الأميركي العادي، أو رجل الشارع البسيط ليتفاعل مع خطابه هو مسألة الدين الذي جعله في صلب خطابه الانتخابي وحواراته الأخرى، حيث من نافل القول إن الأميركيين يشكلون مجتمعاً متديناً، والدين يبرز في معتقد ترامب ببعده اليومي أي الفردي لا المؤسساتي باعتباره العنصر الأبرز من العناصر المكونة للهوية الأميركية، وهذا ما جزم به المؤرخ والسياسي الفرنسي الكسيس دو توكفيل بقوله “إن الأميركيين يعتقدون أن الدين أساسي وضروري لبقاء جمهوريتهم”.
وبناء على تلك الوقائع استطاع دونالد ترامب بناء خطاب سياسي أيديولوجي اقتصادي، متماسك هزم به منافسته كامالا هاريس التي بدت مرتبكة بخطاب أشبه بمجموعة جزر متناثرة غير منضبطة، وفشلت في إعطاء الإجابات الشافية حول الكثير من المسائل خصوصاً قضية التحول الجنسي الذي كان ترامب أكثر وضوحاً وحزماً في هذا الموضوع لناحية أنه لا يعترف سوى بذكر وأنثى، وأنه بصدد منع خدمات الرعاية الجنسية المتعلقة بالتحول الجنسي للقاصرين كما وعد حال فوزه.[14]
يأتي دونالد ترامب إلى زعامة العالم من النظام الرئاسي الفريد من نوعه في العالم، فالرئيس يُمثل كلّ السلطة التنفيذية، بمعاونة مجموعة من الافراد يُسمون تجاوزاً وزراء، إذ لا حكومة بالمعنى الفعلي البرلماني، فالرئيس يحتكر كل السلطة في ظل فصل جامد للسلطات. وتعطي سيطرة الحزب الجمهوري على الكونغرس قوة إضافية لترامب القادر على قيادة الجمهوريين وتوحيدهم، للوقوف خلفه في رحلة تنفيذ برنامجه السياسي القائم داخلياً على التصدي للهجرة غير الشرعية التي يعتبرها التحدي الأكبر الذي يواجه الامن القومي الأميركي، وقد بدأ ولايته بأمر تنفيذي يمنع من خلاله الجنسية بالولادة، فلا أحد غير الرئيس ترامب يصدر هذه النوعية من القرارات التي تعتبرها المنظمات الحقوقية مخالفة لحقوق الإنسان وغير دستورية، ولولا استناده إلى كتلة شعبية جارفة تدعمه وتقبل بقرارته لما تجرأ على المبادرة بهذا الخصوص.
ثانيًا: سياسة ترامب تجاه الحرب الروسية ـــ الاوكرانية
يُشكل موقف الرئيس دونالد ترامب من الحرب الروسية ـــــ الاوكرانية احد التداعيات المباشرة لشعاره “أميركا أولاً”، فقد وتّر علاقات الولايات المتحدة مع حلفائه الطبيعيين، فلطالما تناغم الموقف الغربي الأوروبي الأميركي تجاه روسيا، باعتبارها أحد الخصوم الدوليين الذين يشكلون تهديداً مباشراً لأوروبا وللقيم الغربية المشتركة، فروسيا هي وريثة الاتحاد السوفييتي العدو الأيديولوجي الأبرز والأقرب لأوروبا، وهي دولة نووية قريبة من المجال الأوروبي، فضلاً عن أن لها تاريخ جيوسياسي مع أوروبا خاضت فيه الكثير من الحروب في القارة الأوروبية، تكرست فيها روسيا عبر الزمن إمبراطورية، شكلت في نظر الأوروبيين تهديداً دائما بغض النظر عن مجمل التحولات التي طرأت على روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، مرورًا بحكم بوريس يلتسين، وصولا للرئيس الحالي فلاديمير بوتين الذي يسعى لقيامة روسيا مجددًا ومعتبرًا ان بوابة ذلك هو الانتصار في حربه ضد أوكرانيا ومن يقف خلفها حتى لو أدى ذلك إلى استخدام اسلحة غير تقليدية.[15]
بيد أن ترامب وبخلاف الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، لا يشارك الأوروبيين رؤيتهم تجاه اوكرانيا، فهو يعتبر تلك الحرب حرباً أوروبية ــــ أوروبية لا تخص أميركا بالمباشر، وأن بوتين لا يشكل تهديدًا للولايات المتحدة، وأن بلاده لا يمكنها تحمل تكلفة الحرب اقتصادياً عبر مد الجيش الاوكراني بالسلاح وأن الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي قد تجاوز طيلة سنوات الحرب ما يوازي 350 مليار دولار[16]، وهذا رقم كبير في ظل وجود منافس اقتصادي قوي هو الصين، حيث يجب على الولايات المتحدة إن أرادت أن تحافظ على تفوقها الاقتصادي أن تواجه المارد الصيني صاحب ثاني أكبر اقتصادي عالمي بحسب ترامب نفسه.
ثالثًا: سياسة ترامب الاقتصادية تجاه الحلفاء
ليس لدى الرئيس دونالد ترامب سياسة اقتصادية جديدة، بل عقيدة سياسية يسعى من خلالها بحسب تعبيره جعل أميركا عظيمة مجدداً، وهو في سبيل تحقيق هذا الشعار ينتهج مجموعة من السياسات تجاه الحلفاء والخصوم على السواء، ولا يعبأ بأي التزامات تاريخية لبلاده تجاه أوروبا أو القضايا التي كانت تشغل صانع القرار الأميركي، فعلى الرغم من اللقاء العاصف والمهين مع الرئيس الاوكراني الذي طلب منه الموافقة على وقف النار والا فالولايات المتحدة ستنسحب من دعم أوكرانيا، بيد أن الرئيس دونالد ترامب عاد وتحدث عن استثمار الثروات الاوكرانية، إذ بحسب صحيفة الاكونوميست البريطانية قد وضع أوكرانيا أمام خيارين: إما الاتفاق على أرباح التعدين والموانيء مقابل دعم الولايات المتحدة، أو وقف الدعم العسكري وقطع خدمات الانترنت عبر ستار لينك.[17]
ـما بالنسبة لفرض الرسوم الجمركية على غاليبة دول العالم ومن ضمنها أوروبا فقد أكدت أن سياسة ترامب الاقتصادية تقدم المصالح الأميركية على باقي الاعتبارات التاريخية التي تربط بلاده مع أوروبا، فهو لم يسلك سلوكاً متدرجاً في فرض الضرائب، كأن يبدأ بالصين كمنافس رئيس للاقتصاد الأميركي، إنما فرض تلك الرسوم جملة واحدا دون تمييز بين حليف أو عدو. وقد شملت الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب ما نسبته 70% من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى أميركا، حيث بلغت قيمتها حوالي 585 مليار دولار في العام 2024.[18]
رابعاً: سياسة ترامب تجاه حلف الناتو
يُعتبر حلف شمال الأطلسي “الناتو” درة التعاون الغربي العسكري الذي رسم طيلة العقود الماضية طبيعة العلاقات الأوروبية ـــــ الأميركية العسكرية وضمان مصالحهما المشتركة بوجه الخطر الشيوعي، وباقي المخاطر المحتملة في اي مكان في العالم. وفي الرابع من أبريل/ نيسان 1949، وقع وزراء خارجية 12 دولة على معاهدة شمال الأطلسي في العاصمة الأميركية واشنطن، وقد شارك في تأسيسه إضافة إلى الولايات المتحدة دول كندا، فرنسا، بريطانيا، بلجيكا، ايطاليا، لوكسمبورغ، البرتغال، النرويج، الدانمارك.[19]
لاحقاً أعلنت الولايات المتحدة في 24 آب/ أغسطس 1949 انضمام اليونان وتركيا، تلاه انضمام ألمانيا الاتحادية بموجب بروتوكول في 23 تشرين أول/ أكتوبر 1954. وقد نصت المادة 5 من معاهدة الحلف بأن يتفق الأطراف، على أن أي هجوم، أو عدوان مسلح، ضد طرف منهم، أو عدة أطراف، في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يعتبر عدوانًا عليهم جميعا.[20]
وإذا كان ترامب يهدف من بعض الرسوم الجمركية فرض سياسة حمائية للقطاعات الانتاجية الأميركية، وإن اعتبر محقًا لسبب أو لآخر، انما موقفه من حلف “الناتو” بات يحمل إشارات لطي صفحة التعاون الأميركي الأوروبي الاستراتيجي، باعتبار أن “الناتو” يشكل أداة عسكرية فاعلة عالمياً تجعل من ميزان القوى يميل على الدوام لصالح دول ضفتي الأطلسي مجتمعة، لا تمييز بين دولة وأخرى. لذا اعتبرت سياسته تجاه “الناتو” تتناقض مع المادة الخامسة من المعاهدة التي اعتبرت أن أي تهديد يطال دولة من دول المعاهدة يعتبر استهدافا للجميع، تستوي في ذلك اليونان مع تركيا، أو بريطانيا مع ألمانيا، أو فرنسا مع الولايات المتحدة.
لقد كشفت شبكة “إن بي سي نيوز” الأميركية، أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يدرس إجراء تغيير كبير في مشاركة الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (“الناتو”)، وفق 3 مسؤولين أميركيين كبار حاليين وسابقين ومسؤول في الكونغرس. وقال المسؤولون إنّ “ترامب ناقش مع مساعديه إمكان ضبط مشاركة الولايات المتحدة في حلف الناتو، وفق طريقةٍ تخدم مصالح أعضاء التحالف، الذين ينفقون نسبة محددة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع”، وفق الشبكة. وأشارت إلى أنّه، كجزءٍ من التحوّل المحتمل في السياسة، قد لا تدافع الولايات المتحدة عن دولة عضو في “الناتو” تتعرض للهجوم، إذا لم تلبِّ عتبة الإنفاق الدفاعي.[21]
المطلب الثاني: مآلات العلاقات الأوروبية ـــ الأوروبية وسط التحديات المتصاعدة
تحققت مخاوف الأوروبيين من عودة دونالد ترامب إلى السلطة مجدداً، فمن خلال تجربته الرئاسية الاولى أظهر الرئيس الأميركي ملامح سياسة خارجية غير تقليدية تخالف السياق التاريخي لتلك العلاقات، التي ظلت مستمرة طيلة عقود في ظل قيادة الولايات المتحدة للغرب عموماً، بما تمثل من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي متماسك في حقبة الحرب الباردة، التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، ما واعتبر وقتها انتصاراً للنموذج الغربي الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة حليفة أوروبا الغربية، ومنذ ذلك الحين ظلت علاقات أوروبا بأميركا راسخة وسط تسليم أوروبي بالدور القيادي الأميركي للنظام الاحادي القطبية المتمثلة بأميركا ونموذجها الرأسمالي، وإن برزت بين الحين والآخر بعض الاختلافات في المواقف تجاه بعض القضايا بين القطبين الغربيين، إنما ظلت تلك العلاقات منضبطة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لا بل أخذت بالتوسع صوب أوروبا الشرقية بعد تفكك حلف وارسو، بعد أن أصبحت الكثير من تلك الدول بما فيها دول الاتحاد السوفييتي السابق تدور في فلك النفوذ الأميركي ما شكل تهديداً جيوساسياً لروسيا. فالقيم الغربية وتحديدا الديمقراطية ببعدها العالمي ساهمت بتقسيم العالم جيوسياسياً.[22]
ففي ظل حكم الرئيس الروسي بوريس يلتسين الضعيف وُضعت “روسيا العظمى” تحت ضغوط سياسية واقتصادية بدت معها دولة ضعيفة على الرغم من امتلاكها امكانات اقتصادية وعسكرية تقليدية وغير تلقيدية، برز تفوق القيم الغربية المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا، ليتحدث البعض عن نظرية نهاية التاريخ كفرنسيس فوكوياما، التي قال عنها كريس هيوز Chris Hughes : بأنه “ترتكز نظرية فوكوياما على الحجة القائلة بأن الديمقراطية الليبرالية هي النظام الاجتماعي/ السياسي الذي يرضي القوى العالمية وراء حركة التاريخ”.[23] ففي مقاربة أولية لبنية الحضارة الغربية فهي التي يعبر عنها بمفهوم دول القانون، والحرية الفردية، والعلم والاقتصاد، والعقلانية النقدية وهي نتاج جهد طويل الامد.[24]
فتلك القيم قد ترسخت القيم الغربية طيلة عقود مستقرة، بتعبيرها عن البعد الليبرالي وحقوق الانسان لناحية قضايا الهجرة والدعم الاغاثي للاجئين والمنظمات الحكومية وغير الحكومية التي تقوم بمهام الاغاثة الدولية. وبمجرد وصول دونالك ترامب للرئاسة برزت سريعًا تحولات الجذرية لا تختلف عن ولايته السابقة التي قام فيها بانتهاج سياسة شبيهة بما يقوم به راهناً، وان كانت أقل حدة تجاه أوروبا، وقد كرّس ذلك التمايز عن أوروبا من خلال انسحابه في العام 2017 من اتفاقية باريس للمناخ، باعتبارها تشكل تهديدا للسيادة الأميركية، ثم انسحب من الاتفاق العالمي من أجل الهجرة المنظمة والنظامية، تبعه انسحاب في العام 2018 من مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، وفي العام نفسه انسحب من الميثاق العالمي للاجئين، كما انسحب بشكل رسمي من منظمة اليونيسكو، بيد أن جو بايدن اعادة عضوية بلاده للمنظمة في العام 2023.
وردًا على قيام السلطة الفلسطينية بالاعتراض على مشروعية قرار الرئيس دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، أعلن مستشار الامن القومي جون بولتون انسحاب الولاويات المتحدة من البروتوكول الملحق باتفاقية فيينا لحل النزاعات بالطرق السلمية. كما انسحبت أحاديًا من الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة ( 5+1).[25]
الفرع الأول: أدوات الضغط الأوروبية تجاه السياسة الأميركية
بما أن أوروبا تُشكل قطبا دوليا مهماً، ولها تأثيرها المباشر على السياسات الدولية، بحيث تتداخل سياساتها في الكثير من القضايا العالمية، حيث تختلف في بعض الاحيان مع الولايات المتحدة، كما وتتمثل الدول الأوروبية في العديد من المنظمات الدولية الإقليمية والثقافية والعسكرية، فهي قارة مترامية الأطراف وتعتبر السادسة من حيث المساحة التي تبلغ 9.9 مليون كيلو متر مربع، كما أن أوروبا تتمثل في مجلس الامن بدولتين هما المملكة المتحدة، وفرنسا، ما يجعل منها قارة مؤثرة بمصير الامم المتحدة قاطبة، كما تشارك بعض الدول الأوروبية في قوات حفظ السلام المنتشرة في العديد من مناطق التوترو النزاعات الدولية.
أولاً: الأدوات السياسية
تعتبر أوروبا قارة غنية ومتنوعة على مستوى الدول والشعوب، وقد تطلعت دول هذه القارة منذ عقود إلى الانتظام في كيان سياسي موحد يدير شؤونهم ويرعى مصالحهم وقد ساهمت الحروب الأوروبية في تسريع فكرة الاتحاد لتأمين حضور أوروبي فاعل في العالم[26]، فأسس الاتحاد الأوروبي فعليا سنة 1992 “كمنظمة دولية وليس إتحاداً فيدرالياً كالولايات المتحدة. ” فهو يشبه منظمة الأمم المتحدة الأميركية، كونه يتميز بنظام سياسي فريد من نوعه في العالم، له سوق اقتصادية واحدة (السوق الأوروبية المشتركة) وعملة موحدة (اليورو).
وهو يتمتع بمقدار من السلطات والصلاحيات التي منحتها دوله لمؤسسات الاتحاد المشتركة، لكن هذه الدول لم تصل في ذلك إلى حد تخليها عن سيادتها لمصلحة الإتحاد، بل تنازلت عن بعض مصالحها بهدف تحقيق المصالح المشتركة في إتحاد يوفر لها القوة والتأثير في العالم”.
قدر عدد سكان دول الإتحاد بحوالى 500 مليون نسمة (تقديرات العام 2008)، وهو ثالث مجموعة بشرية بعد الصين والهند. تقدر مساحة دول الإتحاد بما يزيد قليلا عن أربعة ملايين كلم2 وهذه المساحة هي أقل من2\7 من مساحة العالم العربي، وأقل من 1\4 من مساحة روسيا، وأقل من 1\2 من مساحة كل من الولايات المتحدة، والصين”.[27]
من أهداف الاتحاد “تعزيز السلام ورفاهية مواطني الاتحاد الأوروبي وتسهيل حركة انتقالهم بين الدول الأعضاء دون قيود. منح مواطني الاتحاد الأوروبي الحرية والأمن والعدالة من دون حدود داخلية، مع التحكم بالحدود الخارجية.العمل من أجل التنمية المستدامة لأوروبا. تعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية والسلام وأمن الأرض.إنشاء اتحاد اقتصادي عملته اليورو. أما القيم فتتمثل في: الكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية والمساواة وسيادة القانون وحقوق الانسان”.[28]
أولاً: الأدوات الاقتصادية
تمتلك بلدان القارة الأوروبية وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي اقتصادات قوية تحتل فيها المراتب المتقدمة عالميا بناتج محلي يقاس بتريليونات من الدولارات، فعلى سبيل المثال تحتل ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا والثالث على مستوى العالم بناتج محلي يبلغ 4.7 تريليونات دولار. بينما تحتل المملكة المتحدة المركز الثاني أوروبيا والسادس عالميًا بناتج محلي يبلغ 3.5 تريليونات دولار، أما فرنسا فهي الثالثة أوروبيًا والسابعة على مستوى العالم بناتج محلي يبلغ 3.1 تريليونات دولارـ
في حين تعتبر إيطاليا التاسعة عالميًا وفي المرتبة الرابعة على مستوى أوروبا بناتج محلي يبلغ 2.3 تريليونات دولار، يليها إسبانيا بمركز 13 عالميًا والسادس أوربيًا بناتج محلي يبلغ 1.6 تريليون دولار.[29]
و”يُعد الاتحاد الأوروبي أحد أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، حيث بلغ إجمالي التبادل التجاري بينهما 975.9 مليار دولار في عام 2024، وفقًا لمكتب الممثل التجاري الأمريكي. وتشمل هذه الأرقام صادرات أمريكية إلى أوروبا بقيمة 370.2 مليار دولار (أبرزها: الطائرات، الأدوية، الغاز الطبيعي المسال، والمنتجات التكنولوجية)؛ بينما بلغت الواردات الأمريكية من أوروبا 605.8 مليار دولار (أبرزها: السيارات الألمانية، الأدوية الأيرلندية، النبيذ الفرنسي، والسلع الفاخرة الإيطالية)؛ مما يعني ان العجز التجاري الأمريكي بلغ 235.6 مليار دولار، بزيادة 12.9% عن عام 2023″.[30] فهذا الحجم من الاقتصاد يشكل اداة اقتصادية مهمة بيد دول الاتحاد الأوروبي تجعل منه قطبا اقتصاديا مؤثرا في العلاقات الدولية.
وفد صرح المستشار الألماني أولاف شولتس إن “الاتحاد الأوروبي يمكنه أن يرد بسرعة وسيفعل ذلك وأكد أن الاتحاد الأوروبي يعد منطقة اقتصادية قوية للغاية ولديه وسائل خاصة به لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
وأضاف شولتس: «لكن يجب أن يكون الهدف هو عدم الإبقاء على الرسوم الجمركية في نهاية المطاف، سواء على هذا الجانب أو على الجانب الآخر. ومع ذلك، إذا لزم الأمر، يمكننا أيضاً فرض رسوم جمركية بأنفسنا. وأوضح شولتس أن الرد الأوروبي يمكن أن يكون سريعا، وتابع: «نحن على تواصل وثيق مع المفوضية الأوروبية بهذا الخصوص”.[31]
ثانيًا: الأدوات العسكرية:
في محاولة لبناء قدرات عسكرية قادرة على الدفاع عن أوروبا اتفقت الحكومات الأوروبية في طليعتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في مدينة سان مالو الفرنسية سنة 1998 على انتهاج سياسة أوروبية موحدة لللامن والدفاع وبناء القدرات العسكرية اللازمة. بعدها وافق المجلس الأوروبي الذي انعقد في العاصمة الفلندية هلسنكي لوضع الخطط لانشاء جيش أوروبي صغير يقوم بعمليات إدارة الازمات وحفظ السلام. وقد تشكل هذا الجيش على شكل قوة عسكرية مؤلفة من ستين الف جندي اختيرت من جيوش اسبانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا ولكسمبورغ.[32]
وفي تحديث قريب زمنيا قدرت مجموع القوات النشطة لدول الاتحاد الأوروبي بحوالي 1.3 مليون جندي، يرفده احتياطي يصل إلى 2.8 مليون عسكري، وفي ترسانتها 2500 طائرة حربية، و5000 دبابة، و200 سفينة رئيسة. تعد جيوش فرنسا وبريطانيا وألمانيا الأقوى بين دول الاتحاد الأوروبي . فرنسا تمتلك قوات برية يصل عددها إلى 112000 شخص، علاوة على وحدة خاصة هي الفيلق الأجنبي وبه 9000 مجند من مواطني دول أخرى.
القوات البريطانية توصف بأنها قوة متوسطة الحجم وعالية التقنية تضم حوالي 80000 جندي عامل، وهي تعاني من صعوبات في التجنيد وفي الاحتفاظ بالكوادر. سلاح بريطانيا التقليدي يتمثل في القوات البحرية وتضم 80 قطعة متنوعة ويعمل بها 45000 شخص.
الجيش الألماني كان يضم بنهاية 2016 حوالي 177000 شخص، ينتمي منهم 61000 إلى القوات البرية، و18000 إلى القوات البحرية، و28000 إلى القوات الجوية، علاوة على 20000 شخص تابعية للخدمات الطبية.[33]
الفرع الثاني: خيارات أوروبا للرد على سياسة ترامب
وضعت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية أوروبا أمام تحديات سياسية واقتصادية أربكت من خلالها صانع القرار الأوروبي إن على مستوى الدول الأوروبية على نحو منفرد، أو على مستوى السياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي، بحيث أصبح من الضروري الرد على تلك التحديات حماية للمصالح الأوروبية إذ إن المسألة بالنسبة للشعوب الأوروبية تجاوزت مجرد فرض رسوم حمركية انما أصحب قضية تفتح تداعياتها على صورة الولايات المتحدة في ذهن المواطن العادي الذي بات يعتقد بأن ثمة ممارسة هيمنة وتفوق أميركي لا يميز بين صديق وعدو، الامر الذي دفع بالاحزاب الأوروبية داخل السلطة وخارجها بالمطالبة بالرد على تلك السياسات ووضع المصالح الأوروبية اولا، فقد قال زعيم تكتل المحافظين في ألمانيا فريدريش ميريتس في أول تعليق له بعد الفوز ” إن الاولوية المطلقة بالنسبة له ستكون تعزيز قوة أوروبا الدفاعية، موضحا ذلك يأتي استجابة للمتغيرات الدولية والتوترات المستمرة بين الولايات المتحدة وأروبا” وأضاف “إن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب أظهرت أن واشنطن غير مبالية إلى حد كبير بمصير أوروبا وهو ما يستدعي تحركا أوروبيا اكثر استقلالية في المسائل الامنية.[34]
أولاً: تصعيد المواجهة والمعاملة بالمثل
بمعزل عن أي قرار قد يصدر من الرئيس الأميركي لناحية تجميد تنفيذ الرسوم الجمركية المتعلقة بالجانب الأميركي، فإن أوروبا مجبرة على اعادة النظر في سياستها الاقتصادية والعسكرية عموما، وسياستها تجاه الولايات المتحدة خصوصا، واخد قرارات ادارة ترامب على محمل الجد نظرا لتعلق ذلك بالمصالح الأوروبية المباشرة وضربة للاقتصاد العالمي . وقد اكد لاتحاد الأوروبي بأن لديه أوراق للضغط على أميركا بسبب رسوم ترامب.
وقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية ” ان الاتحاد الأوروبي لدية القدرة على التصدي للرسوم الجمركية الأميركية مضيفة ان جميع الخيارات مطروحة على الطاولة لاتخاذ تدابير مضادة، وأضافت في كلمة امام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ ” هدفنا التوصل إلى حل عبر التفاوض، لكننا سنحمي مصالحنا وشعوبنا وشركائنا بالتأكيد اذا لزم الامر. وذكرت ان التكتكل سيقيم الرسوم الأميركية بعناية للرد بطريقة محسومة فلا نسعى بالضرورة إلى الرد بالمثل ولكن اذا كان الامر ضرورياً فلدينا خطة قوية للرد وسنستخدمها”.[35]
مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحّدت بين الاحزاب الأوروبية يساراً ويميناً، وذلك من خلال طبيعة الردود الرافضة للسياسة الأميركية تجاه مصالح بلادهم فقد قال بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الاسباني اليساري “بان سياسات ترامب هي هجوم احادي الجانب على أوروبا وتشكل عودة إلى جمائية القرن التاسع عشر وليست نمطا ذكيا لمواجهة تحديات القرن العشرين”.[36]
بينما قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك بأن الصداقة تعني الشراكة. الشراكة تعني تعرفات متبادلة، مضيفاً أنه “من الضروري اتخاذ قرارات مناسبة”. أما وزير الخارجية الدنماركي لارس لوك راسموسن فلفت إلى أنّ “الجميع استفادوا من التجارة العالمية (…) وأن لا أحد ينتصر من حرب تجارية، الجميع خاسرون”.
وكان لافتا كلام رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وهي مقربة من الرئيس ترامب حيث اعتبرت فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية على الاتحاد الأوروبي إجراء خاطئ ولا يصبّ في مصلحة أيّ من الطرفين، مرجحة بذل قصارى جهدنا للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لتجنب حرب تجارية ستؤدّي حتما لإضعاف الغرب لصالح جهات فاعلة عالمية أخرى”.
كما وافقتها في ذلك الرئيسة السويسرية كارين كيلر-سوتر التي اعتبرت “أن قرار ترامب “إجراء سيّئ، محذّرة من أنّ اندلاع حرب تجارية لن يؤدّي إلا إلى إضعاف الغرب”.
بينما برز الموقف البريطاني كحالة خاصة من خلال اعتماد خطاب حسّاس تراوح ما بين التحفّظ وعدم التصعيد بالنظر إلى تطلّع لندن لإبرام اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة. أقر رئيس الوزراء كير ستارمر بأن الرسوم الجمركية الأمريكية سيكون لها “تأثير على الاقتصاد البريطاني، واعدا بالتصرّف بما يخدم مصالح بريطانيا بموجب التفويض المعطى لي، مضيفا أن المفاوضات التجارية ستستمر مع إدارة دونالد ترامب وسنناضل من أجل أفضل اتفاق لبريطانيا. وأكد أن لا أحد ينتصر في حرب تجارية، متعهدًا الرد بعقلانية وهدوء ورزانة.[37]
ويمكن فرض تعرفات جمركية مضادة (في حال فشل المفاوضات) على صادرات الولايات المتحدة إلى دول الاتحاد الـ 27، وبالفعل فقد وافقت غالبية دول الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات اقتصادية ردا على الرسوم التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي سيبدأ البعض منها في منتصف نيسان. وستستهدف الرسوم ولايات أميركية حساسة سياسيا، وتشمل منتجات مثل فول الصويا من ولاية لويزيانا، موطن رئيس مجلس النواب مايك جونسون، بالإضافة إلى الماس والمنتجات الزراعية والدواجن والدراجات النارية.[38]
وقد توقع بعض الخبراء أن تفرض ضرائب ورسوم على الشركات التكنولوجيا الرقمية الأميركية العملاقة العاملة في أوروبا، ما يمكن أن يسبب خسائر وازنة لهذا القطاع الذي أعلن رؤساء شركاته الكبرى مواقف مؤيدة مع ترامب في ولايته الثانية، وذلك بخلاف سلوكهم الرافض له في ولايته الاولى.[39]
ثانيًا: السعي لبناء قوة عسكرية وتحالفات جديدة
بعد أن لمس القادة الأوروبيون أن اعتمادهم على قدرات الولايات المتحدة لحمايتهم وضمان امن دولهم، قد تحوّل إلى تبعية قاتلة، وقد شكلت مواقف الرئيس الأميركي التي اعتبر فيها أن على الأوروبيين حماية انفسهم أو عليهم الدفع الاموال بنسب متساوية للتخفيف عن كاهل بلاده ما تنفقه في سبيل حماية الحلفاء، نوعاً من التحدي الوجودي لامنهم واقتصادهم، ما زاد من قناعاتهم، للمبادرة في بناء قدراتهم العسكرية الخاصة بهم، إنما من دون أن يشكل ذلك قطيعة تامة مع الولايات المتحدة، ومنذ اللحظات الاولى لاعلان موقف الرئيس دونالد ترامب من أوكرانيا، بدأت دول الاتحاد الأوروبي بالتعهد بتزويد أوكرانيا بالمال والسلاح، فأعلنت هولندا عن تقديم ملياري يورو إضافية لتسليح الجيش الاوكراني.
وقد أعلن وزير الاقتصاد الفرنسي اربك لومبارد في اذار/ مارس “ان بنك الاستثمار الفرنسي العام بي بي اي فرانس سينشئ صندوقاً جديداً بقيمة تصل إلى 450 يورو للافراد لاستثمار أموالهم في شركات للدفاع على المدى الطويل”.[40] كما أعلن الاتحاد الأوروبي 1.3 مليار يورو في الذكاء الاصطناعي والامن السيبراني.
كما أكد الزعماء الاروربيون على ضرورة الاستعداد، هنا تقول مفوضة ادارة الازمات في الاتحاد الأوروبي حاجة لحبيب ” نحن بحاجة إلى التفكير بشكل كبير لأن التهديدات أكبر”. من جانبها اعلنت ألمانيا ان الجيش الألماني سيدخل منطقة عسكرية جديدة ومن المتوقع أن تتمركز الوحدة القتالية بحلول عام 2027 حيث تم تكليف لواء الجيش الألماني في ليتوانيا بتوفير حماية متزايدة للجناح الشرقي لحلف شمال الاطلسي.[41]، وبرز موقف الدانمارك التي قالت ان ستعزز ترسانتها العسكرية بمئات صواريخ مسترال 3 الفرنسية الصنع.[42]
وقد أشارت تقارير إلى أنه سيتم استبعاد شركات الأسلحة الأميركية من مبادرة الإنفاق الدفاعي البالغة 150 مليار يورو (165 مليار دولار) التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن أن زيادة الانفاق الدفاعي ستعطي الاولوية للتصنيع الأوروبي العسكري، بعد أن كانت الولايات المتحدة تحتكر تصدير التكنولوجيا العسكرية لأوروبا. وأوضح مسؤول أوروبي أن هناك تردد في الابتعاد تمامًا عن شراء الأسلحة الأميركية لكن هناك رغبة في شراء البدائل الأوروبية كلما أمكن ذلك.
وقد مارس الرئيس ماكرون ضغوطًا قوية على الدول الأوروبية لاختيار مشتريات قارية، إذ صرح لوسائل اعلام فرنسية في مارس 2025 “هدفي هو الذهاب وإقناع الدول الأوروبية التي اعتادت شراء المنتجات الأميركية. كشفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن خطة لإنفاق ما يصل إلى 870 مليار دولار على الدفاع في الاتحاد الأوروبي، الذي يرى في تصرفات روسيا في أوكرانيا إشارة إلى طموحاتها الأكبر في القارة، وبالتالي تشكل تهديداً أمنيا كبيراً”.[43]
ثالثًا: الرضوخ وقبول الامر الواقع
من السيناريوهات المحتملة رضوخ الاتحاد الأوروبي للأمر الواقع للعسكري والاقتصادي الذي فرضه الرئيس دونالد ترامب، حيث يتأكد تبعية أوروبا للولايات المتحدة الأميركية، ويثبت عجزها عن التصرف كدول قوية وقادرة على أن تحمي مصالحها، انطلاقا مما تتمتع به من إمكانات اقتصادية وبشرية وديمغرافية وعسكرية، سواء على مستوى كل دولة بمفردها، أو على مستوى كيان الاتحاد الأوروبي مجتمعاً.
وهذا السيناريو يفترض ان تدخل الدول الأوروبية في حالة انتظارية إلى نهاية ولايه الرئيس دونالد ترامب وقدوم رئيس اخر ينتهج سياسة مغايرة للسياسة الأميركية الراهنة.
خاتمة
يمكن القول إن العلاقات الأوروبية ـــ الأميركية قد دخلت مرحلة من عدم اليقين، وقد تبين أنها لم تبنَ على ثوابت سياسية واستراتيجية، بقدر ما بُينت على متغيرات واولويات المصالح الوطنية التي عبر عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، برفعه شعار “أميركا أولاً “. فكل ما جمع الولايات المتحدة مع أوروبا من قيم مشتركة عبر التاريخ لم يكن قادراً على تفادي ما وصلت اليه تلك العلاقات من توترات وتضاد في الرؤى والاخذ في الاعتبار من من هو الصديق ومن هو العدو.
وبالرغم من أن الصين وروسيا يشكلان الخصمان الاكبران للمصالح الغربية، لم يشفع هذا للاتحاد الأوروبي امام الادارة الأميركية التي قامت بفرض رسوم جمركية أُعتبرت قاسية بحقه، بحيث وُضع الاتحاد الأوروبي في الخانة نفسها مع الصين، التي نالت نصيبها من الرسوم الجمركية. اما على الصعيد السياسي، فإننا نجد ان سياسة دونالد ترامب تسير بعكس التقاليد الأميركية الأوروبية، لدرجة أنه قد اعتبر ان حرب اوكرانيا لاتخص بلاده التي تكبدت المليارات في سبيل دعم حرب كان يمكن تجنبها، لا بل وصل به الحد إلى وصف أن “الناتو” بأنه هو الذي يستفز روسيا التي يعتبرها انها لا تشكل تهديداً للولايات المتحدة.
تلك السياسة الترامبية وضعت أوروبا امام تحدٍ وجودي، كما ووضعتها امام سياريوهات متعددة، منها قبول التحدي واتخاذ خطوات اقتصادية تفرض من خلالها رسوما مماثلة للرسوم الجمركية الأميركية، والبدء في بناء قدرات عسكرية منفردة تحسبا لتنفيذ تهديد الرئيس دونالد ترامب بعدم الدفاع عن أوروبا في حال تعرصها لمخاطر جدية، بحيث تسقط معها الغاية ومن وجود الولايات المتحدة في معاهدة حلف شمال الاطلسي ” الناتو”.
وقد خلص البحث إلى عدد من الاستنتاجات أهمها:
- ترتبط أوروبا وأميركا بعلاقات يعود تاريخها إلى ما قبل استقلال الولايات المتحدة، وقد تكوّنت عبر الزمن قيم حضارية مشتركة.
_ العلاقات الأوروبية ـــ الأميركية في ظل عهد ترامب قد سقطت من الناحية القيمية المشتركة امام تقديم المصالح الوطنية الخاصة على ما عداها.
– “شعار أميركا أولاً” هو سياسة خارجية تعبر عن رؤية استراتيجية، وليس سياسة تكتيكية مرحلية.
– أصبح اعتماد أوروبا على نفسها تحديداً من الناحية العسكرية أمراً واقعاً، حتى وإن تراجع ترامب عن بعض الرسوم التي فرضت.
– باتت العلاقات الأوروبية ـــــ الأميركية مفتوحة على عدة احتمالات سياسة وعسكرية.
[1] محمد عدار، علم العلاقات الدولية والقيم.. أيه علاقة؟، مجلة معيار، مجلد 23، العدد 46، ص 712. متوفر على الانترنت.
[2] نضال فواز العبود، الانتخابات الرئاسية الاميركية، الأبعاد التاريخية والسياسية والدستورية، ط أولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2017، ص 33-34.
[3] هي مجموعة قوانين أقامت نظاماً من الفصل العنصري بين البيض والسود في الولايات المتحدة على مختلف المستويات، إذ لا يحق بموجبها اختلاط السود مع البيض في الأماكن العامة والمدارس وغيرها.
[4] ممدوح نصار، احمد وهبان، التاريخ الدبلوماسي، العلاقات السياسية بين الدول الكبرى 1815- 1991، جامعة الاسكندرية، قسم العلوم السياسية. ص163.
[5] زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري، الجزء الأول، القانون الدستوري والمؤسسات الدستوري، النظرية العامة والدول الكبرى، ط ثالثة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 1987، ص 360.
[6] ممدوح نصار، احمد وهبان، مرجع سابق، ص 170.
[7] كيف وصل هتلر الى الحكم ؟ موسوعة تارخ العالم، https://www.worldhistory.org/ دخول 13/4/ 2025.
[8] ليلى نقولا، العلاقات الدولية من تأثير القوة إلى قوة التأثير، مقاربة لفهم تطور مضامين العلاقات الدولية منذ وستفاليا حتى اليوم، ط أولى، مكتبة جوزف عون الحقوقية، لبنان، 2019، ص 51-52.
[9] المرجع نفسه، ص 53 وما بعدها.
[10] في اواخر الاربعييات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي شجعت الولايات المتحدة بهدف احتواء الاتحاد السوفياتي قيام سلسة من الاحلاف اهمها حلف بغداد وحلف سياتو (SEATO)واحلاف اخرى في اميركا اللاتينية والشرق الاقصى.
[11] ليلى نقولا، مرجع سابق، ص 65 وما بعدها.
[12] https://arabic.rt.com/world، بايدن زعماء العالم ” مرعوبون” من احتمالية عودة ترامب للبيت الابيض، دخول 10/ 4/2025.
[13] زهير شكر، مرجع سابق، ص 353.
[14] من مقال للباحث نُشر بعنوان ترامب رئيساً: انا الزعيم، نشر في موقع جنوبية اللبناني.
[15] جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الاوسط، ط اولى، دار ابعاد، لبنان، 2016، ص 161 وما بعدها.
[16] برفض الكثيرون هذا الرقم ويعتبرونه مبالغ فيه، ووفقا لمصادر الحكومة الفيدرالية الأمريكية، مرر الكونغرس خمسة قوانين تسمى “قوانين الاعتمادات التكميلية” منذ غزو عام 2022، حيث خصص 174.2 مليار دولار أمريكي من الأموال لأوكرانيا. https://arabic.euronews.com/ هل ارقام ترامب حول الدعم المالي لاوكرنايا حقيقية؟ دخول 11/4/2025.
[17] ترامب يضع اوكرانيا اما خيارين احلاهما مر، https://www.aljazeera.net/politics/2025/2/24 دخول 6/4/2025.
[18] https://www.alhurra.com/arabic-and-i، بعد الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، مساع اوروبية لتحديد رد موحد، تاريخ الدخول، 6/4/ 2025.
[19] https://www.aljazeera.net/encyclopediaحلف شمالي الاطلسي (الناتو) تحالف عسكري لاحتواء الخطر الشيوعي، دخول 11/4/2025.
[20] https://political-encyclopedia.org/dictionary، حلف شمالي الاطلسي، دخول 11/ 4/ 2025.
[21] https://asharq.com/politics، ترامب يدرس تغييرات جذرية في سياسة واشنطن تجاه الناتو، دخول 11/4/2025.
[22] نور نبيه جميل، بحث بعنوان: دور القيم في العلاقات الدولية، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية. https://www.hcrsiraq.net/wp-conten، دخول 13/4/2025.
[23] https://political-encyclopedia.org نظرية نهاية التاريخ، الدخول9/4/2025.
[24] جورج قرم، تاريخ أوروبا وبناء الأسطورة الغرب، ترجمة رلى ذبيان، ط اولى ، دار الفارابي، لبنان، 2011، ص 46.
[25] https://futureuae.com/ar-AE/FutureFile/Item/52 سنوات من العزلة ما وراء انسحاب ادارة ترامب من الاتفاقيات الدولية؟ الدخول 9/ 4/ 2025.
[26] مصطفى أديب، آلية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، مجلة الغدير، العدد 44، ص 59.
[27] احمد علو، للاتحاد الأوروبي فوة اقتصاد لا تترجمها السياسة، مجلة الدفاع الوطني، لبنان ، العدد 313. متوفر على شبكة الانترنت.
[28] https://www.aljazeera.net/encyclopedia، الاتحاد الأوروبي.. تكتل قاري فرضته ظروف ما بعد الحرب العالمية. دخول 11/4/2025.
[29] https://almashhad.com/article/ ترتيب أقوى اقتصاد في اوروبا 2024، الماكينات الالمانية في الصدارة، دخول 12/4/2025.
[30] مركز قيجن للدراسات الاستراتيجية، ” https://visioncntr.com/ الصراع التجاري بين الولايات المتحدة واوربا، دخول 12/4/2025.
[31] https://www.aletihad.ae/news، شولتس الاتحاد الأوروبي سيرد على الرسوم الجمركية الأميركية، دخول 11/4/2025.
[32] https://www.aljazeera.net/news، القوة العسكرية الأوروبية، دخول /4/2025.12
[33] https://www.sawtbeirut.com/world-news/ بالأرقام القدرات العسكرية لأوروبا وروسيا.. من الأقوى في المواجهة، دخول 10/4/2025.
[34] arabi21.com، “اوروبا اولا” ميرتس يتحدى الهمينة الاميركية، دخول 10/4/ 2025.
[35] https://www.alquds.co.uk/ فون دير لاين: الاتحاد الأوروبي لديه خطة للرد على الرسوم الجمركية، دخول 10/4/2025.
[36] محمد قواص، أوروبا والصين في مواجهة رسوم ترامب الجمركية: السيناريوهات المحتملة، www.arabprogress.org، دخول 4/10/2025.
[37] المرجع نفسه.
[38] https://www.aljazeera.net/ebusiness، الاتحاد الاوربي يرد على رسوم بحزمة اولية على سلع بـ 3.2 مليارات دولار، دخول 12/4/2025.
[39] محمد قواص مرجع سابق.
[40] https://www.alarabiya.net/، فرنسا تؤسس صندوقا للدفاع بـ 450 مليون يورو وسط تصاعد المخاوف الأمنية، دخول 12/4/2025.
[41] https://www.aljazeera.net/news، ألمانيا تنشر قوات دائمة في ليتوانيا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، دخول 12/4/2025.
[42] https://www.alaraby.co.uk/politics،الدانمارك تشتري مئات الصواريخ ميسترال الفرنسية، دخول 12/ 4/ 2025.
[43] https://www.europarabct.com/، المركز الاوربي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، لماذا استبعدت اوروبا الولايات المتحدة من مشروع اعادة التسليح؟ دخول 12/4/ 2025.