أمنية

المشهد العسكرى الليبي: الواقع والتحديات

لواء ركن يوسف أحمد المنقوش

رئيس أركان الجيش الليبي السابق

مقدمة:

ليس بخاف الوضع الذي وصلت له ليبيا من إنقسام سياسي وصراع مسلح وتشظي للحالة الأمنية وتدخل خارجي، وتحديات اقتصادية، وتدهور في الكثير من الخدمات والمرافق العامة وضعف لمؤسسات الدولة، والجدير بالذكر أن بذور هذه الإشكاليات موجودة قبل اندلاع الثورة في فبرايرعام 2011 والكثير منها متأصل في البناء المؤسسي الهش والضعيف الموروث من النظام السابق، وكذلك هو متأصل في التفاعل الاجتماعي والسياسي بين الأطراف المختلفة في ليبيا، سواء كانت هذه الأطراف جهوية أو قبليةأو ذات فكر وتصور معين.

إن هذه الورقة تركز على تقديم مفهوم وتصور مبدئي حول أحد أهم هذه الإشكاليات، وهو المتعلق بــــــ:” المؤسسة العسكرية والتحديات التي تواجهها”،سواء من حيث توحيدها،أو في تحديد علاقاتها بمؤسسات الدولة المدنية، وكذلك إشكالية تنظيم السلاح ودمج المسلحين.

أولاً- تكوين وتوجهات المؤسسات العسكرية:

لمعرفة تكوين وتوجهات المؤسسات العسكرية لابد من استعراض مختصر لتاريخ المؤسسة العسكرية في ليبيا

و مراحل نشأتها وتطورها.

1- التأسيس قبل الاستقلال:

يعود تأسيس الجيش الليبي الحديث إلى بدايات الحرب العالمية الثانية حيث وقعت اتفاقية مع الحكومة البريطانية بتاريخ 9/8/1940، تم بموجبها تأسيس قوة عسكرية ليبية تحت مسمى جيش التحرير الوطني وذلك في مصر بغرض المشاركة مع قوات البريطانية في المعارك التي تهدف إلى دحر قوات المحور من شمال إفريقيا.

اعتمدت هذه القوة من حيث الأفراد على المهاجرين الليبيين الموجودين بمصر كما تم ضم عدد من الأسرى الليبيين الذين تم أسرهم من قبل القوات البريطانية أثناء حملة الجيش العاشر الإيطالي على مصر في سنة 1940، والذي كان يعتمد في قوته البشرية على المجندين الليبيين الذين تم تجنيدهم إجبارياً من قبل سلطات الاحتلال الإيطالي .

شارك الجيش التحرير في المعارك التي خاضها الجيش الثامن البريطاني ضد قوات المحور إلى أن تم دحرها من كامل الأراضي الليبية في يناير1943.

عد انتهاء المعارك تم حل هذا الجيش وشكلت على بعض أفراده قوة أمنية في برقة سميت قوة دفاع برقة،  وأخرى في طرابلس سميت القوة المتحركة .

2-المؤسسة العسكرية في دولة الاستقلال:

أعلن استقلال ليبيا في ديسمبر عام 1951 وفي أغسطس 1952 صدر مرسوم ملكي بإنشاء الجيش الليبي وعلى الفور افتتحت في عام 1953 مدرسة عسكرية بمدينة الزاوية لتخريج دفعات من الضباط للجيش كما تم إرسال عدد من الطلبة إلى الكليات العسكرية في كل من مصر والعراق وتركيا .

كما تم الاتفاق مع الحكومة التركية على استدعاء الجنرال “عمران الجاضرة” وهو ضابط تركي من أصول ليبية لتولي منصب رئيس أركان الجيش، تعاقب بعده ثلاثة ضباط عراقيين على رئاسة الأركان وفي عام 1958 تولى اللواء “السنوسي الأطيوش” رئاسة الأركان وهو أول ظابط ليبي يتولى هذا المنصب، وفي عام 1957 افتتحت الكلية العسكرية الملكية كما افتتح عدد من المدارس المتخصصة ومراكز التدريب لتزويد الجيش بالعناصر البشرية . وفي عام 1962 تم إنشاء سلاح البحرية، وفي عام 1963 أسس سلاح الجو الملكي،وبعدها في عام 1968 تم إنشاء سلاح الدفاع الجوي .

استمر هذا الجيش في التطور والنمو على أسس مهنية سليمة وبعقيدة واضحة وبالرغم الإمكانيات القليلة ولكنه كان على مستوى عالي من حيث التنظيم و الانضباط والتدريب ، حيث وصل حجم الجيش في عام 1969 ( قبل  الانقلاب ) إلى 10.000 فرد يقودهم 650 ضابط.

3- المؤسسة العسكرية في عهد القذافي:

 استخدمت المؤسسة العسكرية في تنفيذ انقلاب سبتمبر عام 1969، واستغلت هذه المؤسسة المنضبطة في السيطرة على البلاد . لقد اعتبر القذافي أن الانضباطية العالية في الجيش الليبي تشكل خطراً على نظامه ولهذا تبنى استراتيجية لتكوين قوات مسلحة كبيرة في الحجم لكنها مترهلة ولا تمتلك أي كفاءات عسكرية ولا قتالية .

وعمل القذافي على ضرب حالة الانضباط، ووحدة وتماسك قيادات الجيش، و سلسلة القيادة والسيطرة،الأمر الذي تسبب في انتشار التسيب والإهمال، وتدني الحالة العامة للمؤسسة العسكرية إلى مستويات دنيا.

في عام 1989 قام القذافي بحل “الجيش النظامي” واستبدله بما يسمى بــــــــــــــ “اللجنة العامة للدفاع” وتحول الجيش إلى الشعب المسلح وفي نفس الوقت أنشأ وحدات خاصة لحمايته هو وأفراد عائلته والمقربين منه وحظيت هذه الوحدات بالتمويل والتسليح والتدريب الأفضل، وكان منتسبوها يختارون بعناية من المناطق والقبائل الموالية له و ويقودها أبنائه والمقربين منه .

4- المؤسسة العسكرية في 17 فبراير :

عندما قامت الثورة كانت في بداياتها حركة سلمية شعبية تدعو لتحسين أوضاع البلاد وإعطاء الشعب شيء من الحرية، فواجهها  النظام بشراسة وقوة، مما تسبب في سقوط العديد من المتظاهرين قتلى، فاتجه الثوار إلى المعسكرات للحصول على الأسلحة، وانضم إليهم عدد كبير من العسكريين الذين انشقوا عن النظام، وقاموا بتدريب الثوار على السلاح وإصلاح المعدات والأسلحة لاستعمالها لصالح الثورة وشاركوا في المعارك، واستشهد منهم عدد كبير.

بعد إنتصار الثورة، انهار ما تبقى من المؤسسة العسكرية، وتشكلت مجالس عسكرية في كل المناطق المحررة، وانضم إليها الثوار من العسكريين والمدنيين.

حالياً وبعد مايقرب من 12 عاماً من انتصار الثورة، تعاني البلاد من حالة حادة من الانقسام في جميع المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وطال  هذا الانقسام المؤسسة العسكرية بدرجة واضحة، بحيث توجد  الآن مؤسستان منفصلتان تماماً، ففي غرب البلاد، توجد رئاسة الأركان العامة، وهي تابعة لوزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية، ويرأسها رئيس الأركان العامة للجيش الليبي، وهو مرؤوس مباشر لوزير الدفاع بحسب القانون رقم 11 لسنة 2012، وله  سلطة القيادة على القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي وحرس الحدود،مع ملاحظة أن المناطق العسكرية خارج سلطة رئيس الأركان العامة،كما تتبعها عدد من الهيئات والإدارات الداعمة.

أما في شرق البلاد فتوجد القيادة العامة للقوات المسلحة، والتي تم إنشائها بموجب القانون رقم 1 لسنة 2015 بتعديل القانون رقم 11 لسنة 2012 ، الصادر عن مجلس النواب والذي تم بموجبه إنشاء سلسلة قيادة جديدة  شملت منصب القائد العام  والذي لم يكن موجوداً  في القانون رقم 11 وتعديلاته . علماً بأن هذا القانون عرضة للطعن فيه كونه صدر عن مجلس النواب بعد صدور حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بعدم شرعية هذا المجلس . وهي بدورها تسيطر على القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي وحرس الحدود كما تتبعها رئاسة الأركان بالقيادة العامة .

ثانياً- التحديات التنظيمية والإدارية للمؤسسات العسكرية:

تواجه المؤسسات العسكرية في ليبيا جملة من التحديات التنظيمية والإدارية، من أهمها ما يلي:

– وجود نظامين للقيادة، ففي الغرب تعمل المؤسسة العسكرية بنظام رئاسة الأركان العامة،والتي يكون فيها رئيس الأركان مرؤوساً لوزير الدفاع، بينما في الشرق وبحسب نظام القيادة العامة، يكون القائد العام مرؤوس مباشرة للقائد الأعلى حسب القانون رقم واحد لسنة 2015. وبهذا الوضع، تكون وزارة الدفاع ليس لها أي سلطة على المؤسسة العسكرية.

-الإرث السيء لنظام القذافي والإجراءات التي اتخذها لتهميش الجيش لكي لايشكل خطراً على نظامه، بالإضافة إلى  ضعف، سلسلة القيادة والسيطرة.

– حالة الترهل في المؤسسات العسكرية، وضعف الخبرة والعجز في القدرات التدريبية والتعليمية، وحالة الهرم المقلوب في البنية العسكرية المتمثلة في وجود عدد كبير من الضباط ذوي الرتب العالية مقارنة بصغار الضباط.

ثالثاً- التشكيلات المسلحة الموازية وتحدياتها :

يمثل وجود التشكيلات المسلحة الموازية أحد العوامل المهمةالتي ساهمت في تأخر بناء مؤسسة عسكرية مبنية على أسس صحيحة، وعقيدة واضحة، وقادرة على تنفيذ المهام الموكلة إليها، ولكن يجب أن نحدد الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه التشكيلات المسلحة، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

-انهيار المنظومة العسكرية والأمنية والاستخباراتية للنظام السابق.

–  من قام بالعبء الأكبر في القتال على الأرض هم المسلحون المدنيون، سواء في أثناء الثورة أو فيما بعد، عند التصدي لتنظيم الدولة داعش في سرت أو في الدفاع عن العاصمة، عندما قام حفتر بمهاجمتها.

– لم تشارك وحدات متكاملة من الجيش في قتال الكتائب الخاصة لنظام القذافي أثناء الثورة، وإنما شارك العديد من العسكريين سواء ضباط أو ضباط الصف أو جنود كأفراد. ضمن التشكيلات المسلحة التي نشأت، وكذلك الأمر في عملية البنيان المرصوص، و عملية بركان الغضب، حيث كان العبء الأكبر في العمليات القتالية يقع على عاتق التشكيلات المسلحة. هذا الوضع نتج عنه الكثير من التحديات، من أهمها :

أ-عدم وجود سلطة واحدة تشرف على هذه التشكيلات المختلفة، وعدم وجود تراتبية وسلسلة قيادة و أوامر محددة.

ب- تعدد  التبعيات الإسمية للجهات التي تتبعها هذه التشكيلات، من  وزارة الدفاع إلى الداخلية والمجلس الرئاسي، وفي كل الأحوال، فإن هذه التشكيلات تتصرف في غالب الوقت من خلال أوامر قادتها، الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين عن أي سلطة عسكرية أو مدنية، بالرغم من التبعية الاسمية، ويتصرفون وفق ما يرونه مناسبا.

1-أسباب بقاء التشكيلات المسلحة وتمددها:

هناك عدد من العوامل والأسباب التي أدت إلى إستمرار وجود التشكيلات المسلحة بل وتمددها، ومن أهم هذه الأسباب ما يلي:

-غياب الرؤية الوطنية الجامعة، والقدرة على إدارة حوار وطني لمستقبل الدولة، يكون حل مشكلة السلاح والتشكيلات المسلحة جزء منه.

-غياب برنامج واضح للحكومات المتعاقبة في كل القطاعات، بما فيها قطاع الأمن والدفاع، حيث تم الاعتماد على معالجة المشاكل التي تحدث بصرف الأموال بسخاء، والاستجابة للمطالبات، مما ساعد على تقوية التشكيلات المسلحة.

-أغلب المشاريع والمبادرات التي نفذت عبارة عن حلول تلفيقية، ولم تصل إلى عمق المشكلة، وهو كيفية تفكيك هذه التشكيلات المسلحة، وكيفية تنظيم السلاح ضمن مؤسسة هرمية تعمل وفق رؤية لبناء مؤسسات الدولة، وكانت هذه الحلول هي مجرد غطاء تنظيمي للتشكيلات الحالية، و مجرد إعطاء شرعية معينة، أو إنشاء جهاز جديد، بينما في حقيقة الأمر، لم يتم إنشاء سلسلة قيادة حقيقية وتنظيم منظبط مبني على رؤية وعقيدة حقيقية.

-دعم هذه التشكيلات بالأموال والأسلحة بشكل شرعي وغير شرعي.

-الإستقطاب الكبير لقادة هذه التشكيلات من قبل التيارات السياسية ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى الطموح السياسي غير الناضج لهذه القيادات،

-غياب العدالة الانتقالية، والمصالحة الاجتماعية الحقيقية.

– توحيد المؤسسات العسكرية الجهود والتحديات

إن وجود مؤسستان عسكريتان، هو وجه من أوجه الانقسام السياسي، ولا يمكن توحيد المؤسسات في ظل استمرار هذا الانقسام، وفي المجال العسكري يظهر هذا الانقسام بصورة حادة، حيث تختلف هيكلية كل مؤسسة بصورة كبيرة عن الأخرى، سواء من حيث سلسلة القيادة أو التركيب البنيوي، أو التبعية للسلطة المدنية.فبينما تتبع رئاسة الأركان العامة في المنطقة الغربية وزارة الدفاع في الحكومة، نجد أن القيادة العامة في الشرق ترتبط مباشرة بالقائد الأعلى، متجاوزة الحكومة كما أن تبعية المناطق العسكرية في الغرب إلى القائد الأعلى تضعف من سلطة رئيس الأركان العامة والحكومة.

لقد جرت عدة محاولات لتوحيد المؤسسة العسكرية، كان على رأسها اجتماعات اللجان العسكرية التي رعتها القاهرة، والتي تم التوصل فيها إلى مشروع اتفاق لتوحيد المؤسسة، ولكن هذا الاتفاق شابه الكثير من العيوب، بحيث أصبح لايمكن تطبيقه .إذا تم التوقيع عليه،وقد انتهى هذا الاتفاق عمليا بالهجوم الذي شنه حفتر على العاصمة طرابلس.

الآن يتم التعويل على لجنة 5+5 برعاية الأمم المتحدة لتوحيد المؤسسة، ولكن هذه اللجنة لم تستطيع أن تتقدم في هذا الاتجاه، بالرغم من مرور زهاء ثلاث سنوات على بدء اجتماعاتها. وحتى اجتماعات رؤساء الأركان في المؤسستين لم ينتج عنها أي خطوات ملموسة في هذا الاتجاه.

2-التحديات التي تواجه عملية توحيد المؤسسة العسكرية:

تواجه عملية توحيد المؤسسة العسكرية جملة من التحديات، من أهمهاما يلي :

-اختلاف الهيكلية ونظام التسلسل القيادي في المؤسستين.

-تضخم الرتب، وكثرت عدد الضباط من ذوي الرتب الكبيرة.

-الترقيات الاستثنائية، والتي شملت أعداد كبيرة، تم ترقيتهم، إلي رتب كبيرة (جنرال،) سواء في الشرق أو الغرب، نتج عنها تغييرات كبيرة في تسلسل قدم الضباط وازدادت معها حالة تضخم الرتب سوءا.

-إصرار القيادة العامة في الشرق بأن يكون توحيد المؤسستين تحت نظام القيادة العامة، ورفض المكونات العسكرية في الغرب لهذا الاتجاه، وتمسكهم بأن يكون نظام القيادة برئاسة أركان تابعة لوزارة الدفاع في حكومةمدنية .

-الترهل الكبير في المؤسستين العسكريتين، وقلة الخبرات التنظيمية والإدارية.

– جمع السلاح ودمج المسلحين.

لا يمكن النظر إلى موضوع جمع السلاح ودمج المسلحين،إلا في إطار الصراع الدائر حول السلطة والنفوذ في ليبيا، ويمكن القول أن من يسيطر على السلاح يسيطر على الدولة، وأن ما يمنع الوصول إلى احتكار الدولة للعنف وتفكيك التشكيلات المسلحة، وتنظيم حمل السلاح، وجمع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة ضمن سلطة الدولة ومؤسساتها،هو عدم قدرة المجتمع والأطراف السياسية بالذات على الوصول إلى حل سياسي، وتفاقم عدم الثقة، وشعور كل طرف أن الطرف الآخر يتربص به، ويمكن القول أن هناك طرفين رئيسيين الآن في الساحة.

الطرف الأول الذي يصور أن الموضوع بسيط، والحل سهل وميسر، ويتمثل في سيطرة قوات مسلحة نظامية على السلاح، وإنهاء جميع المليشيات والتشكيلات المسلحة الأخرى..إن هذا التصور يحاول أن يضفي نوعا من النبل واالتبجيل  على الجيوش في المنطقة، وأنها المخلصةوالمنقذة .ولعل هذا واضح في الشعارات التي يتم ترديدها من مثل جيشنا طوق نجاتنا، وليس هذا الأمر مقتصرا على ليبيا، بل إننا نجد شعارات مماثلة مثلا في مصر في الفترة الحالية، ويتم التعامل مع أي انتقاد للسلطة الحاكمة والمؤسسة العسكرية على أنه خطر يمس الأمن القومي للدولة والتشكيك بأية مطالبات الإصلاح.

الطرف الثاني هم الثوار الذين انتفضوا ضد النظام السابق في سنة 2011، وكانت نقطة فاصلة أن امتلكو السلاح واستطاعوا إسقاط النظام بمساعدة خارجية، لكن هؤلاء الثوار لم ينتبهوا للإشكالية الأمنية والدفاعية التي نتجت والظواهر السلبية الكثيرة التي ربما تهدد كيان الدولة، وفي نفس الوقت، لم تستطيع المؤسسات التشريعية والتنفيذية ومنظمات المجتمع المدني والقوى المجتمعية والسياسية الموجودة على الساحة بعد الثورة، من الوصول إلى مشروع حقيقي يحل هذه الإشكالية. الأسواء من هذا، هو أن مجموعات مسلحة إجرامية وأخرى إرهابية استغلت هذه الأوضاع ووجدت فرصة داخل هذا الفراغ الأمني والدفاعي.

في نفس الوقت تمسكت التشكيلات المسلحة بسلاحها، ولم توجد حلول حقيقية أو حوار حقيقي، ولم يتم إطلاق مبادرات ناجعة. إن الحل يحتاج إلى الخروج من هذين  القالبين، والبحث عن أفكار خلاقة لحل الإشكالية من جذورها، وعدم تبسيط الأمر أو تركه على ما هو عليه.

ثالثاً-الخيارات المتاحة لجمع السلاح ودمج المسلحين:

عند الحديث الخيارات المتاحة.فإنه يمكن الحديث عن مسارين رئيسيين، تتفرق من كل منهم عدة خيارات:

المسار الأول: ويتلخص في قيام الدولة بفرض نزع السلاح وتفكيك التشكيلات المسلحة جميعها، وإدماج المسلحين الراغبين في الاستمرار في حمل السلاح ضمن المؤسسة العسكرية والأمنية، واستخدام العنف لتطبيق ذلك مع كل من يرفضه، وهذا المسار قد يؤدي إلى مواجهات مسلحة، وقد تقوم الدولة بذلك بواسطة مؤسساتها وأجهزتها أو يتم إضفاء الشرعية على مجموعات مسلحة قوية.

وفي حقيقة الأمر، فإن الكثير مما جرى في السابق يتبع هذا السيناريو، هذا السيناريو لا يمكن بواسطته حل الإشكالية، ولكن يتم دحرجة المشكلة للأمام، فإنه وحتى بعد تفكيك بعض المجموعات المسلحة بالقوة ودمجها في مجموعات أخرى، لا يضمن عدم ظهور صراعات أخرى بين التشكيلات التي تم إضفاء الشرعية عليها.

 المسار الثاني: هذا المسار قد يكون أكثر واقعيا، وفي صالح بناء الدولة، بأن يكون هناك إدراك عام، وخاصة من قبل التشكيلات المسلحة وقادتها، ومن القوى الفاعلة والمؤثرة في المجتمع بأنه من المستحيل الاستمرار بهذا الوضع المتشظي وغير المنضبط.وأنه لا بد من الحوار والاتفاق على مشروع من أجل تنظيم السلاح وإيجاد إطار تنظيمي جديد للمقاتلين والتشكيلات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة الرسمية، سواء الحالية أو المستحدثة لهذا الغرض، وأن يكون ذلك في إطار رؤية وإطار سياسي لصالح بناء الدولة، وتحقيق أهداف الثورة والتغيير .ويمكن أن تكون الخيارات في هذا المسار، كالتالي:

1-إدماج المسلحين بشكل عام في المؤسسات الرسمية الحالية، العسكرية والأمنية كأ فرد، وتفكيك التشكيلات المسلحة وتجميع السلاح في نفس المناطق التي تنتمي لها هذه التشكيلات كمرحلة أولى.

2-تكوين قوة احتياط بالمؤسسة العسكرية تستوعب جميع المقاتلين والتشكيلات المسلحة والسلاح.

3-تكوين جهاز جديد بشكل متميز، وبدراسات، وخطط وافية، وبتنفيذ محكم، وبناء على أسس وقواعد صحيحة، وبعقيدة واضحة، ورؤية متكاملة لاستيعاب كل المسلحين والتشكيلات المسلحة والسلاح.

إن وجود قوة أخرى غير قوة الجيش التابع لرئاسة الأركان العامة، وغير قوة الشرطة التابعة لوزارة الداخلية، ليس جديدا، ولا يعني بأي حالة من الأحوال فوضى أمنية أو مؤسساتية. ولابد أن يتم ذلك ضمن نظرية أمن ودفاع متكاملة، تحدد فيها الأجهزة العسكرية والأمنية التي تحتاجها الدولة.وحجم كل جهاز وخصائصه ومواصفاته، كما يتم فيها تحديد مهام كل جهاز وتبعيته، بالإضافة إلى منظومة سلطة إصدار القرارات العليا ذات العلاقة بمجال الأمن والدفاع.

حالة لأحد خيارات دمج المسلحين

يمكن أن نشير هنا إلى إمكانية إنشاء قوة نظامية شبه عسكرية، يكون تسليحها متوسط وبهيكلية واضحة ومنظمة جغرافيا، وتعتمد على نظام خاص بالاحتياط تقوم بمهام الحراسة والتأمين ودعم القوات المسلحة والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى عند الحاجة وفق القانون، وتستطيع استيعاب كافة التشكيلات المسلحه والمسلحين.

وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الدول لجأت لمثل هذا التنظيم وبمسميات مختلفة، ولكنها تشترك جميعها في الخصائص والمهام، فهناك دول أطلقت على هذه القوة اسم الحرس الوطني، مثل الولايات المتحدة وتونس والسعودية والكويت.ومنها ما أطلق عليه اسم الجندرمة مثل فرنسا وتركيا، كما أطلق عليها تسمية الدرك في كل من المغرب والجزائر والأردن ولبنان وسميت في إيطاليا كاربنياري وأطلق عليها في أسبانيا الحرس المدني وفي البرتغال الحرس الجمهوري الوطني.

الخاتمة:

لا شك أن الملف الأمني بمعناه الشامل الذي يشمل قطاع الدفاع والداخلية والمخابرات، هو من أهم الملفات التي تحتاج إلى بذل مجهودات كبيرة وحوارات معمقة للوصول إلى نتائج تؤدي إلى تجاوز مرحلة الانقسام والتشظي الحالية للوصول إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المؤسسات والقانون.

تطرح هذه الورقة أفكارا عاما يمكن اعتبارها وسيلة لإثراء النقاش والحوار حول المؤسسة العسكرية، وسبل توحيدها، وإدماج المسلحين وتنظيم السلاح واستيعاب التشكيلات المسلحة، ومن المهم في هذا المجال إدراك عامل الوقت والحاجة إلى جهد مكثف ومنظم، و وضع خطط عمل متقنة، وإدارة جيدة للوصول إلى الهدف المطلوب، ويبقى دائما العامل الأهم، وهو توفر الإرادة السياسية لدى جميع الفرقاء للخروج بالبلاد من أزمتها الحالية، والوصول بها إلى بر الأمان.

وأخيرا، لا بد من االتذكير  بالنقطة الجوهرية التي تدعو لها هذه الورقة، وهي الوصول إلى قناعات مشتركة ورؤية واضحة عبر الحوارات المعمقة بين الفاعليات المجتمعية والعسكرية، وقادة التشكيلات المسلحة، للوصول إلى وضع نظرية أمن ودفاع متوازنة وقادرة علي حفظ أمن ومقدرات الوطن والمواطن.

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى