أوراق و دراساتسياسية

التدخل التركي في ليبيا: الدوافع والتداعيات

د. توفيق بوستي

أستاذ محاضر (أ) مخبر الدراسات القانونية البيئية، جامعة 8 ماي 1945 قالمة، الجزائر.        

ملخص:

تهدف هذه الدراسة إلى إبراز دوافع وتداعيات التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي، من خلال التركيز على الدوافع الاقتصادية والطاقوية والعسكرية إلى جانب الدوافع الجيوسياسية والتاريخية والإيديولوجية، فضلاً عن إبراز ملامح وركائز هذا التدخل ومختلف تداعياته على الدولة الليبية.

تم الاعتماد على المنهج التاريخي والنظمي ما مكننا من الوصول إلى عدة نتائج تتعلق برصد وتحليل دوافع وتداعيات التدخل التركي المتمثلة أساساً، في ضمان استمرار عقود البناء وإعادة الإعمار، فضلاً عن تعزيز العلاقات الطاقوية بين البلدين خصوصاً بعد الاكتشافات الغازية في شرق المتوسط، إلى جانب الدوافع العسكرية والجيوسياسية والتاريخية والإيديولوجية بغية تأمين مصالحها وإثبات وجودها وتوسيع نفوذها في منطقة شمال وشرق إفريقيا، بالمقابل هناك عدة تداعيات تتعدد ما بين تعقيد الوضع الليبي، وزيادة حدة وتيرة الصراع وتعثر بناء الدولة الليبية.

الكلمات المفتاحية: التدخل التركي، الأزمة الليبية، ما بعد القذافي، الدوافع، التداعيات.

مقدمة:

تُعد الأزمة الليبية أزمة متعددة المستويات عابرة للحدود الوطنية، فهي أزمة حكم تتقاطع فيها الصراعات القبلية مع مصالح المليشيات المسلحة، إلى جانب تقاطعها مع منطقة الساحل الإفريقي التي تنشط فيها مختلف تنظيمات الجريمة المنظمة، وتنتشر على أراضيها عدة حركات إرهابية ذات طابع محلي وإقليمي ودولي، فليبيا دولة مفككة من الناحية الجغرافية تشتمل على ثلاثة أقاليم (برقة وفزان وطرابلس) قائمة على مصالح وولاءات قبلية وجهوية، حيث يبرز النفط كأحد محفزات عدم الاستقرار القائمة أساساً على عدم الاتفاق على كيفية توزيع مخصصاته على أبناء البلاد كافة، وهو ما بات يلقي بظلاله على دول الجوار كمصر والجزائر ودول حوض المتوسط.

كما شكل التدخل العسكري التركي في ليبيا بداية عام 2020 الحدث الأبرز في تطورات الأزمة الليبية في العقد الذي تلى سقوط نظام معمر القذافي كونه جاء بطلب من الحكومة المؤقتة بقيادة فايز السراج، وهو التدخل الذي أثار الكثير من ردود الفعل والجدل من القوى الكبرى حول طبيعة وهوية التدخل العسكري التركي، فضلاً عن إمكانية إثارة جدلية التدخل ومدى نجاعة الحل العسكري وتأثيره على موازين القوى، إلى جانب سُؤال مستقبل الدولة الوطنية في ظل التضارب المصلحي للدول المتدخلة إقليمياً ودولياً، وتعدد الولاءات والانتماءات بالنسبة للقبائل الليبية، وهذا ما يقودنا إلى طرح الإشكالية التالية: فيما تكمن دوافع وتداعيات التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي؟.

أولاً:دوافع التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي

تقف مجموعة من الدوافع متعددة الأبعاد وراء التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي يُمكن إجمالها فيما يلي:

1:الدوافع الاقتصادية والطاقوية

 يُمثل الاقتصاد العامل الأهم في توجهات صانع القرار التركي  منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، فقد اعتبر الحزب عملية التنمية والتحديث الاقتصادي مدخلاً للنجاح الداخلي، وكذا لعب دور فعّال على المستوى الخارجي، وهو ما يُعد سبباً للتواجد التركي في ليبيا، ذلك أن تركيا تمتلك مصالح مهمّة في ليبيا منذ فترة حكم الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، بعد إبرامها العديد من الاتفاقيات الاقتصادية وبالأخص في مجال البناء سنة 2010، فضلاً عن امتلاك شركات الأعمال التركية نحو 304 عقداً تجارياً في مجال الإعمار والبناء قبل ثورة فبراير 2011[1].

كما تركزت اهتمامات تركيا في ليبيا قبل اندلاع ثورة فبراير على تعزيز مصالحها الاقتصادية التي كانت تطغى على العلاقات بين الجانبين ـــ لاسيما الجانب التركي ـــ وبدا واضحاً من خلال العلاقة التفضيلية التي كانت تحظى بها تركيا، والامتيازات التي كانت تتمتع بها إبان حكم القذافي، إذ أوكل لشركاتها جزءاً أساسياً من عقود البناء ومشاريع البنى التحتية، كما ناهز عدد العمال الأتراك في ليبيا 25 ألف عامل[2].

وقُدرت قيمة التبادل التجاري بين البلدين قبل عام 2011 بـ 10 مليار دولار، وبلغت قيمة الاستثمارات التركية في ليبيا حتى عام 2013 بـ 100 مليار دولار[3]، ومنذ العام 2018 أطلق الجانب التركي العديد من المشاريع والنشاطات الاقتصادية في ليبيا بوصفها جزءاً من الاستراتيجية التركية الاقتصادية والسياسية في إفريقيا، حيث بلغ حجم المشاريع الاقتصادية التركية في ليبيا حوالي 2.3 مليار دولار، فضلاً عن العديد من المشاريع الاستثمارية في القطاعات المختلفة[4].

كما تُعد مسألة اكتشاف مصادر الطاقة في شرق المتوسط، بعدما أكدت عمليات مسح جيولوجية من مركز “المسح الجيولوجي الأمريكي، USGS” سنة 2010 وجود مخزونات هائلة من النفط والغاز اللذين يمكن استخراجهما تقنياً من حوض شرق المتوسط الذي يحتوي على 122 تريليون قدم مكعبة للغاز و7,1 بليون برميل من النفط، ويؤدي هذا المخزون إلى انتعاش اقتصادي لكل الدول المطلة على هذه المنطقة[5].

وبالمقابل، فإن العمل على تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط ومحاولات استبعاد تركيا وعدم إعطائها دوراً أساسياً فيها، مع أنها جغرافياً وسياسياً تُعد فاعلاً رئيسياً ومهماً في منطقة شرق المتوسط، من أهم الأسباب الذي دفعت بالطرف التركي للتدخل، والذي يُعتبر بمثابة محاولة لتثبيت حقوق تركيا ودورها ومكانتها في المتوسط، كما تُعد بمثابة تصريح واضح من قبل صانع القرار التركي بأن أية محاولة للمساس بالمصالح التركية يمكن أن تُجابه بكل الطرق المتاحة وحتى وإن كانت الطرق العسكرية[6].

لذلك يبدو الموقف التركي أشبه برد فعل لعرقلة خطط دول منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تأسس في 14 يناير 2019، وضم كل من: اليونان وإيطاليا وإسرائيل وقبرص اليونانية ومصر والأردن وفلسطين.

وفي تغيير لقواعد اللعبة في منطقة شرق المتوسط للحيلولة دون تجاهل تركيا، أو تبني حلول لها تؤثر على مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي، حيث تُحاول تركيا التذكير بأَّنها دولة إقليمية مركزية تُقرر ما تقوم به ولا تخضع لأجندة الآخرين والأهم من ذلك التوظيف الأمثل لمواردها الاقتصادية والبشرية ولموقعها الجيوــ استراتيجي، وإلى قدراتها كقوة محورية، لأن ما تملكه تركيا من خصائص تاريخية وحضارية وجغرافية لإقامة روابط لغوية دينية وإثنية وحتى عائلية يُؤهلها للارتباط بدول المنطقة لأجل تعزيز مكانتها في جنوب المتوسط[7].

كما تأمل تركيا من خلال تدخلها في ليبيا إلى الظفر بعقود التنقيب عن النفط والغاز الليبي، والذي يُشكل حسب بعض التقديرات واحداً من أكبر الاحتياطيات في القارة الإفريقية، فضلاً عن الحصول على عقود تطوير البنى التحتية وإعادة الإعمار واتخاذ السوق الليبية كبوابة عبور باتجاه أسواق القارة الإفريقية[8]، بالمقابل تسعى تركيا جاهدة عبر مسارات مختلفة للاستفادة من أجواء الحرب الليبية للخروج بحزمة مكاسب تُمكنها من تأمين مصدر دائم للطاقة.

حيث ظلت على مدى العشرين عاماً الماضية تستورد حوالي 95% من احتياجاتها النفطية من ليبيا، بل تسعى لأن تلعب دور الموزع للنفط الليبي إلى أوروبا بدلاً عن المؤسسة الوطنية الليبية للنفط[9]، لذلك تتجه إستراتيجية تركيا القومية نحو العمل على نقل وتأمين مرور مسارات الطاقة إلى الأسواق العالمية عبر أراضيها لما تتمتع به من خصوصيات جغرافية، وتسعى إلى استغلال موارد الطاقة الموجودة قبالة سواحلها شرق المتوسط لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبما يخفف من اعتمادها على روسيا وإيران في تأمين احتياجاتها الطاقوية، حيث تقدر وارداتها منها بحوالي 45 مليار دولار[10].

فحسب إحصائيات منظمة الأوبك لعام 2017 تحتل ليبيا المركز الخامس عربياً في احتياطي النفط الخام المؤكد الذي يصل إلى 48.5 مليار برميل وهو ما يعادل 3.76 % من الاحتياطي العام، كما تحتل ليبيا المركز الثامن عربياً بالنسبة للاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي باحتياطي يقدر بـ 1.5 تريليون م[11].

بالمقابل يمكن القول بأن التدخل التركي في ليبيا جاء انعكاساً لحدة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، وعليها في هذا الإطار أن تنجح في ليبيا ولا تعيد السيناريو السوري إذا ما أرادت تحقيق مصالحها الوطنية الاقتصادية، حيث تكشف المؤشرات عن تراجع سعر صرف الليرة التركية وزيادة عجز الميزان التجاري وتفاقم الديون الخارجية وارتفاع معدلات البطالة[12].

2– الدوافع العسكرية للتواجد العسكري التركي في ليبيا:

يَعي الرئيس التركي أردوغان بأنه لن يكون بمقدوره تحقيق حلم العُثمانية الجديدة، والمساهمة في تقرير مصير ليبيا وشرق المتوسط، إلاّ إذا نجح في وضع موطئ قدم عسكري هناك، من خلال قوله بأنه: “لا يمكنك أن تكون على الطاولة إلاّ إذا كنت في الميدان”[13]، لذلك قام بدعم حكومة الوفاق لتغيير موازين القوى على الأرض لمصلحتها، ويأمل في ذلك بأن يعيد تكرار النموذج السوري في ليبيا من حيث تنسيق المواقف وتفاهم المصالح المتناقضة مع روسيا والولايات المتحدة.

وتعتبر تركيا بأن هدف دعمها العسكري لحكومة الوفاق يكمن في تحقيق توازن قوي على الأرض بما يقنع طرفي الأزمة باللجوء إلى المفاوضات ويهيئ الأجواء لتسوية سلمية تتناغم والمصالح التركية، حيث لا ترى في دعمها العسكري لحكومة الوفاق الليبية خرقاً للقوانين والأعراف الدولية، فمن جهة تستند في مسعاها إلى تشبث حكومة الوفاق باعتراف دولي، كما يعتبر الرئيس التركي أردوغان بأن مذكرة التفاهم الموقعة بينه وبين السراج في 27 نوفمبر 2019 تمنح تركيا الحق في استخدام المجال الجوي الليبي والمياه الإقليمية الليبية، إضافة إلى بناء قواعد عسكرية على أراضيها، علاوة على نشر قوات في ليبيا إذا طلبت حكومة طرابلس ذلك.

ومن ناحية أخرى تعتبر تركيا بأن القرار الأممي “رقم 1970” يحظر تقديم السلاح إلى ليبيا لكنه لا يمنع إرسال قوات عسكرية إليها، رغم أن القرار يطالب جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة منع بيع أو توريد الأسلحة وما يتعلق بها إلى ليبيا، ويشمل ذلك الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية وشبه العسكرية وقطع الغيار، كما يحظر القرار أيضا على الدول شراء أي أسلحة وما يتعلق بها من ليبيا.

كما تعتبر بأن الاتفاق السياسي الليبي عام 2015 اتفاق الصخيرات وكذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2259 يهدفان إلى دعم حكومة الوفاق وتقويتها، عبر دعوة جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لدعم حكومة الوفاق[14].

بالمقابل، نشرت المواقع التركية بنوداً للاتفاق تضمنت نقلاً للخبرات والدعم والمعدات من تركيا لليبيا، والمشاركة في المناورات العسكرية، وتقديم الخدمات العسكرية، وتبادل الذخائر وأنظمة الأسلحة والآليات العسكرية، إضافة إلى تبادل الخبراء والتعاون الاستخباراتي، والمساهمة في إنشاء قوات التدخل السريع، والعمل العسكري المشترك، حيث تدوم المذكرة الأمنية ثلاثة أعوام من تاريخ دخولها حيز التنفيذ على أن تمدد تلقائياً مدة سنة، ما لم يقم أحد الطرفين بالتعبير عن رغبته في إنهائها، وشملت إمكانية إنشاء مكتب مشترك للتعاون الأمني، كما لا يعتبر هذا الاتفاق الأمني الأوّل بين تركيا وليبيا، فقد عقدت عدّة اتفاقيات منذ عام 2013 شملت تدريباً عسكرياً لأكثر من 900 عسكري ليبي منذ ذلك الحين[15].

وافق أغلبية أعضاء البرلمان التركي بتاريخ 2/01/2020 على تدخل مسلح لمدة عام في ليبيا، وعلى تركيا أن تقدم الأسلحة والتدريب العسكري والقوة الجوية لدعم الجيش الوطني الليبي ضد قوات الجنرال خليفة حفتر، كما يعطي الاتفاق تركيا موطئ قدم قوي في شمال إفريقيا مع إمكانية تشغيل قواعد عسكرية من ليبيا، وقد حصل الاتفاق على أكثر من 85 % من التأييد الشعبي، الذي ينص أنه في مقابل ضمان دعم تركيا لحكومة الوفاق الوطني يجب ضمان بقاء حصص تركيا في ليبيا، فضلاً عن استمرار الاتفاق على الحدود البحرية[16].

من الناحية الاستراتيجية، يمكن القول بأن التدخل العسكري في ليبيا هو عمل عسكري “إستباقي وقائي” للحفاظ على “المصالح التركية في ليبيا وفي المتوسط، فبعد تحرك الجيش الليبي (حفتر) لشن عمليات عسكرية على طرابلس، حيث توجد حكومة الوفاق الشرعية والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والحليف الإستراتيجي لتركيا في ليبيا، لأن إسقاط حكومة الوفاق وتشكيل حكومة جديدة من قبل خليفة حفتر والدول الداعمة له يعتبر بمثابة حصار سياسي على تركيا في المتوسط خاصة من طرف الدول التي تعمل على إخراج تركيا من جميع الاتفاقيات الخاصة بالتنقيب والاستثمار في منطقة شرق المتوسط وبالتالي محاولة تطويق تركيا وإخضاعها[17].

كما يمكن القول بأن التدخل العسكري التركي في ليبيا يُعتبر بمثابة وسيلة أو إجراء لفرض تطبيق الاتفاقيتين الأمنية والبحرية التي وقعها الجانب التركي مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر 2019 والتي من خلالها تم التوقيع على مذكرة تنص على السماح للجانب التركي بالمطالبة المباشرة بالحقوق التركية في مساحات واسعة في شرق البحر المتوسط، وهي المنطقة الغنية بالموارد الطاقوية المهمة والتي تعد بمثابة ورقة ضغط مهمة للجانب التركي في مواجهة الدول المتوسطية الأخرى التي لها علاقات غير ودية مع تركيا ونقصد هنا كل من اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل[18].

3-الدوافع الإيديولوجية والتاريخية:

وتعتبر القوى الإسلامية الليبية امتدادا لتيارات إيديولوجية إقليمية، وهو الأمر الذي جعل اللواء خليفة حفتر المحسوب على التيار الليبيرالي يمنع أخونة المنطقة، ومن ثم منع أي تجربة للإسلام السياسي في ليبيا على شاكلة الحكومات الإخوانية في المنطقة[19].

أما تاريخياً، فقد طوّر حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم في تركيا عام 2002 عقيدة “العثمانية الجديدة” كمقاربة سياسية تُحاول التوفيق بين قيم الجمهورية الأتاتوركية والمجد الإمبراطوري العثماني خدمة لمصالح الحزب الداخلية والخارجية، فسخر الحزب كل أدوات البروباغندا للتعريف بها وإقناع الأتراك باحتضانها كمشروع استراتيجي يصل حاضرهم بماضي إمبراطوريتهم[22].  

وفي إطار تحقيق حلم العثمانية الجديدة، فقد كانت ليبيا واحدة من أهم المستعمرات العثمانية منذ العام 1551، لذلك يتطلع أردوغان إلى توظيف تموضع بلده في ليبيا لتوسيع نفوذ تركيا، واستعادة الحضور العثماني في شمال إفريقيا، ويستند في تدخله العسكري على ما كان يعرف بالميثاق الوطني أو “الميثاق الملي” للعام 1920، والذي رسمت بناء عليه خريطة تركيا عقب الحرب العالمية الأولى، وهو الميثاق الذي رفضه الأوربيون وألغته اتفاقيتا سيفر 1920، ولوزان 1923، واللتان رسمتا الخريطة الحالية لـتركيا، وطوتا صفحة “الميثاق الملي”.

وقد اعتبر أردوغان حالة الفوضى التي اجتاحت العديد من الدول العربية عام 2011 ، فرصة مواتية لإحياء ذلك الميثاق الملي، وفي سبيل ذلك شرعت وسائل الإعلام التركية الموجهة في نشر خريطة تركيا بحدودها التي رفضتها الدول المنتصرة في الحرب العالية الأولى، كما لوح الرئيس التركي بضرورة العودة إليها، بعد التخلص من معاهدة لوزان، وعقب توقيعه مذكرتي التفاهم مع حكومة السراج في 27 نوفمبر 2019 ، أعلن أن معاهدة “سيفر” تمثل ظلماً للدولة التركية، كونها أجبرتها على التنازل عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت واقعة تحت نفوذها.

وقال: “أن تركيا بصدد اتخاذ خطوة جديدة في ليبيا وشرق المتوسط، وسيواصل جنودها تحقيق ملاحم بطولية هناك كتلك التي حققها أمير البحارة العثمانيين خير الدين بربروس 1478- 1546″، وأضاف: “إن ليبيا هي حدودنا الجنوبية وهي إرث من العثمانيين، والغازي مصطفى كمال أتاتورك، من الذين أدوا خدمات مهمة هناك كضابط عثماني”[23]

 تشمل المحددات السياسية سعي تركيا إلى تأمين مصالحها وإثبات وجودها وزيادة قوتها في منطقة شمال وشرق إفريقيا وتوسيع نفوذها، وذلك ضمن استراتيجيتها الشاملة التي تتضمن تطوير التصنيع العسكري وامتلاك القوة التكنولوجية والمنظومات الدفاعية المتطورة وغيرها، كما تسعى من خلال الانخراط في ليبيا إلى كسب أوراق ضغط تساعدها في قضايا إقليمية أخرى كسوريا والعراق من أجل المساومة مع الأطراف الفاعلة في تلك الدول، وكذلك محاولتها كسر العزلة جراء توتر علاقاتها مع مصر ودول الخليج وذلك من خلال كسب حليف لها في ليبيا[24].

أما في السياق الأوروبي فإن الحضور التركي في ليبيا يكسبها أوراق قوة في مواجهة الاتحاد الأوروبي خاصة في ملفات الهجرة والطاقة والأمن، وهو ما تجلى من خلال ظهورها كمنافس لفرنسا في البحر المتوسط وحضورها الفاعل في مؤتمر برلين 2020 الخاص بالشأن الليبي[25].

أما من الناحية الجيوسياسية فليبيا تقع في موقع استراتيجي مهم للغاية، فهي نقطة التقاء بين أوروبا والوطن العربي وإفريقيا، وكان التنافس الدولي على ليبيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية هو الدافع نحو استقلالها للحيلولة دون استئثار قوة ما للسيطرة عليها، وأن من يُسيطر على ليبيا يمكن أن يُهدد أمن هذه الأقاليم مجتمعة واستقرارها، يُضاف إلى ذلك أنها من الدول الغنية بالمحروقات، حيث تحتل ليبيا المركز الخامس عالمياً في احتياطات النفط الصخري بعد روسيا وأمريكا والصين والأرجنتين.

 فضلاً عن ذلك توافر ليبيا على مصادر الطاقة البديلة عبر استغلال الطاقة الشمسية – طاقة الرياح- والحرارة الكامنة بالصحراء الليبية التي يمكن الاعتماد عليها، حيث اعتبرت في هذا الإطار وزارة الطاقة الأمريكية بأن المناخ الليبي يُعد مكاناً مناسباً لتطوير تقنية الطاقة البديلة، لذلك تُعتبر ليبيا أحد أهم مصادر الطاقة المتعددة في المستقبل المنظور[26].

كما أن رغبة تركيا في ترسيخ وجودها في البحر المتوسط ومنحها طابعاً شرعياً، وهو ما تجسد في الاتفاق البحري الذي تم توقيعه في نوفمبر 2019 والذي يرسم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا وذلك بعد الرفض الأوروبي لعمليات التنقيب التي تقوم بها السفن التركية قبالة السواحل القبرصية في البحر المتوسط[27]، ما أتاح لها التمركز في البحر الأبيض المتوسط بمقتضى ذلك الاتفاق عبر توسيع حدودها البحرية وإعاقة المشاريع الإقليمية المضادة كمنتدى غاز شرق المتوسط الذي أعلن عنه في جانفي2019[28].

ثانياً: ملامح وركائز التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي:

توسَّع الحضور العسكري التركي في ليبيا بعد أن طلبت “حكومة الوفاق” تدخلاً تركيًّا واسعَ النطاق استطاعَ تغيير مسار الحرب لصالح حكومة السراج، فمذكرةُ التعاون الأمني والعسكري المُبرمة بين ليبيا وتركيا ومذكرةُ التفويض التي صادق عليها البرلمان التركي تُتيحان لأنقرة إمكانيةَ تقديم كلِّ أنواع الدعم العسكري والأمني لـ “حكومة الوفاق” بما فيه بناءُ قواعدَ عسكرية فوقَ الأراضي الليبية، خاصة وأن مذكرة التعاون العسكري بين السراج وأردوغان تشمل إنشاء قوة الاستجابة السريعة ضمن مسؤوليات الأمن والجيش في حكومة السراج.

فضلاً عن نقل الخبرات والتدريب والاستشارات والتخطيط العسكري المشترك والتعليم العسكري والدعم المادي والمعدات من قِبل تركيا، وتبادُل المعلومات الاستخباراتية والتعاون العملياتي، وأنظمة الأسلحة واستخدام المعدات التي تغطي مجالات نشاط القوات البرية والبحرية والجوية، وإنشاء مكتب مشترك للتعاون الأمني والدفاعي في تركيا وليبيا مع عددٍ كافٍ من الخبراء والموظفين، إلى جانب إمكانيةَ استخدام تركيا قاعدةَ مصراتة البحرية وقاعدة الوطية الجوية في ليبيا[30].

ثالثا-تداعيات التدخل الأجنبي في ليبيا ما بعد القذافي

لقد أفضى التدخل الأجنبي في ليبيا ما بعد القذافي إلى عدة تداعيات يمكن إجمالها فيما يلي:

لقد كان للتدخل الأجنبي الأثر السلبي في عرقلة التسوية السياسية، بحيث ساهم في ليبيا في تعقيد الأوضاع بدلاً من حلها، وغلّب الحلول العسكرية بدلاً من الحلول السياسية والسلمية، كما أدخل البلاد في حرب أهلية أفضت إلى تعقيد الأوضاع خاصة الوضع الإنساني هناك، واستنزفت مواردها الاقتصادية والمالية، وأصبحت بذلك ليبيا تصنف ضمن خانة الدول الفاشلة.

2– التأثيرات على قطاع النفط :

تطمحُ تركيا في أن تكون هي المؤثر الأكبر على صناعة القرار السياسي في ليبيا، وتسعى لإصدار تراخيص للتنقيب في المناطق البحرية المشمولة في الاتفاق مع ليبيا، وبموجب الاتفاق التركي – الليبي لم يعُد ممكنًا القيام بأعمال تنقيب أو تمرير أنابيب في المناطق البحرية المشمولة في الاتفاق دونَ موافقة الدولتين، مما أدى إلى رفض حكومة الشرق الليبي والبرلمان الليبي الاتفاقين، لكونهما تفتقدان للشرعية[31].

أصبحت الرغبة في إنهاء الطرف الآخر وعدم تقبله هي المهيمنة على ذهني طرفي الصراع الليبي، كما وفر الوقود لمزيد من تنامي الجماعات المتطرفة ممّا فاقم الأزمة بدلًا من حلها، لكن تبقى المشكلة الأكبر وهي أنَّ الإرهاب واللجوء والهجرة غير الشرعية ستعود بقوة، وستكون أوراق تركيا الرابحة أمام منافسيها وخاصة الطرف الأوروبي الرافض لانضمامها لعضوية الاتحاد الأوربي، مما يمكن أن ينعكس سلباً على الشعب الليبي وأمنه واستقراره وتنمية بناه المؤسسية[32].

خاتمة:

تُشكل الأزمة الليبية أزمة متعددة الأوجه والتأثيرات بسبب الانقسام الداخلي المرتكز على الانتماءات القبلية والعشائرية، زد على ذلك التدخلات الدولية الإقليمية (العربية وغير العربية) والدولية (الأوروبية والأمريكية والروسية) مما يؤثر على أمن وسيادة دولة ليبيا، ليأتي التدخل التركي في هذا الإطار مدفوعاً بعدة دوافع وأسباب على الرغم من طلب الحكومة الليبية الشرعية والمعترف بها دولياً لهذا التدخل لحمايتها من هجومات خليفة حفتر والحكومات التابعة له.

لذلك فقد ارتكز التدخل التركي في ليبيا على دوافع اقتصادية تمتد منذ حكم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بفعل حصولها على عقود البناء وإعادة الإعمار، إلى جانب العلاقات الاقتصادية القوية بين الجانبين، لتأتي الاكتشافات الغازية في شرق المتوسط لتزيد من هذا الاهتمام، خاصة في ظل ما تحوزه ليبيا من موارد طاقوية هائلة متمثلة في الغاز والبترول، ناهيك عن الدوافع العسكرية والسياسية والجيوسياسية المرتكزة أساساً على الرغبة في الحصول على مناطق النفوذ في شمال إفريقيا وشرق المتوسط.

كما حاولت تركيا إيديولوجيا استغلال ثورات الربيع العربي وما تلاها من تحولات سياسية في المنطقة لتمكين حركات الإسلام السياسي للوصول إلى سدة الحكم في دول المنطقة، وذلك بهدف تعزيز النفوذ وتوسيع رقعة الانتشار ومن ثم تعزيز الحكومات الصديقة والمتناغمة لها إيديولوجياً.

فضلا عن تأكيد الدور التركي في قيادة العالم الإسلامي وتعزيز السياسة العثمانية الجديدة، وكذا محاولتها تعويض الإخفاق في تحقيق مسعاها نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التراخي الأمريكي والأممي والانقسام الأوروبي، في ظل التنافس الإستراتيجي بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في المنطقة، وهو ما دفع بالطرف الأمريكي للسماح لتركيا بمزاحمة روسيا في المنطقة بهدف التخفيف من نفوذها في المنطقة.

أما فيما يتعلق بتداعيات التدخل التركي في ليبيا ما بعد القذافي فقد ساهم بشكل كبير إلى جانب عوامل أخرى في تعثر بناء الدولة والمساس بسيادة ليبيا، وعرقلة التسوية السياسية، فضلا عن تعقيد الأوضاع بدلا من حلها، وتغليب الحلول العسكرية بدلاً من الحلول السياسية والسلمية، بما ساهم في تعقيد الوضع الليبي وزيادة حدة الصراع، مع تعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في المشهد الليبي، مما أدخل البلاد في حرب أهلية أفضت إلى تعقيد الأوضاع الأمنية والعسكرية والاجتماعية الليبية.

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)


[23] أردوغان استشهد باسمه بإشارة إلى خطوات تركيا في ليبيا.. من هو العثماني خيرالدين بربروس؟، موقع سي إن إن عربي، 2 يناير 2020، تم الاطلاع عليه بتاريخ 31 ديسمبر 2023، الرابط: https://2u.pw/8ZPL6vw

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى