أمنيةأوراق و دراساتسياسية

التداعيات الجيوستراتيجية للحرب الروسية الأوكرانية

د. محمد القايــدي

باحث تونسي، دكتوراه في الشريعة والقانون، جامعة الزيتونة، تونس، له العديد من الإصدارات والمشاركات في الندوات والمؤتمرات الدولية، من بين أهم إصداراته: النزاع الروسي – الاوكراني: بين حلم التاريخ وفخ الاستراتيجيات الدولية، دار أكوان للنشر والتوزيع، مصر 2022.

ملخص:

تُسلط هذه الورقة البحثية الضوء على تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا، ضمن إشكالية مركزية تتمحور حول مدى تأثير هذه الحرب على بنية النظام الدولي والتوازنات الاستراتيجية القائمة ومساراتها المستقبلية، خاصة في ظل تعقد المشهد الدولي وتعدد الفاعليين الدّوليين والمتدخلين.

ويتطلع الباحث من هذه الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف منها: توضيح خلفيات هذا الصراع، وأهم تداعياته، وقد اعتمد الباحث في دراسته لتحقيق الأهداف على المنهج التاريخي والتحليلي. وفي الخاتمة توصلت الدراسة لمجموعة من النتائج من أبرزها: أهمية فهم هذا الصراع وإعداد الرؤى الاستباقية في ظل تحولات دولية متسارعة تمهد لتغيرات كبرى. لذلك أوصى الباحث بضرورة تعميق البحث في دراسة مسائل الأحوال الشخصية وتطوير النظر في تفصيلاتها التي لها تداعيات على حياتنا الاجتماعية.

الكلمات المفتاحية: الحرب الروسية الأوكرانية – النظام الدولي – العلاقات الدولية -الجيوبولتيك – التوازنات الاستراتيجية

مقدمة:

مع مرور  أكثر من عام على التدخل الروسي في أوكرانيا، شهد العالم العديد من التّغيرات الكبرى التي قد تُؤثر على مستقبل النظام العالمي، وخريطة أوروبا بالقوة فضلا عمّا تسببت به من أزمات سياسية وعسكرية وإنسانية وطاقوية وغذائية، ومأساة لاجئين هي الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية صدمت الأوكرانيين والأوروبيين والعالم.

وعلى الرغم من السيطرة الروسية على عدد من المدن الأوكرانية، وبعيداً عن حسابات الاقتصاد، فإنّ الوضعية الحالية للحرب عسكرياً يصفها الكثير من المحللين بالحالة الوسطية لا رابح فيها ولا خاسر، فبعد هذه المدة لم يستطع بوتين حسم المعركة كما كان يتمنى، وفي المقابل فإنّ الدول الداعمة لأوكرانيا وعلى رأسها الولايات المتحدة وما تقدمه من دعم سخي قد يكبح التقدم الروسي، لكنه أيضاً لا يحسم نصراً صريحاً لكييف.وهو ما يجعل التفكير في ما يمكن أن تسببه هذه الحرب على البشرية من تداعيات و مخاطر قد تهدد المنجز الإنساني برمته أمراً مطلوباً وضروريّاً فضلاً عن الاستشراف المبكر لمسارات هذه الحرب المدمرة وما يمكن أن تفرزه من مآلات.

وتتأطر هذه الورقة ضمن هذا المسار، حيث تضمن المبحث الأول الخلفيات المحركة لهذا الصراع والأهداف التي من أجلها أعلنت الحرب، ثم تناول المبحث الثاني التداعيات المسجلة بعد الحرب، وأخيراً تضمن المبحث الثالث المسارات المستقبلية لهذا النزاع.

المبحث الأول: الخلفيات المحركة للصراع

مثّل سقوط المعسكر الشرقي الاشتراكي وتفكك الإتحاد السوفياتي زلزالاً سياسياً هزّ المنطقة والعالم، فسياسات ميخائيل غورباتشوف (القائد الأخير للاتحاد السوفيتي) أدّت إلى تسريع سقوط اتحاد الجمهوريات السوفياتية، فلم تفلح سياسات البيروسترويكا (إعادة الهيكلة) والغلاسنوست (سياسة الانفتاح والشفافية) التي انتهجها غورباتشوف في إحداث إصلاحات جذرية للنهوض بالاتحاد السوفياتي بقدر ما أنهت الحرب الباردة وتلك الدولة القوية التي كانت أحدثت توازناً في العلاقات الدولية لعقود عديدة.

وكان خيار كثير من دول الفضاء السوفياتي السّابق هو الاندماج في البنى الاقتصادية والأمنية الغربية، فقد سمحت روسيا لمعظم دول وسط وشرق أوروبا ودول البلطيق بالانخراط في تلك الأطر، إلّا أنّها تبنت مواقف متصلبة أمام مساعي انفلات دول أخرى بعينها، وتحديداً الثنائي السلافي: بيلاروسيا وأوكرانيا. وهو ما عدّه كثيرون تناقضاً في سياسات روسيا.[1]

فعلى عكس باقي الجمهوريات السوفياتية المكونة للاتحاد السوفياتي تميزت السّياسة الروسية تجاه أوكرانيا منذ استقلالها سنة 1991بالحرص الشّديد على ضمان بقاء العلاقات ما بين البلدين في مستوى من الثبات والشّراكة الاستراتيجية، غير أن الاهتمام الروسي بها لا يعبر فقط عن رغبة في تحقيق منافع اقتصادية متبادلة، بل أصبح يعكس تصوراً استراتيجياً روسيا ترسخ بشكل تدريجي، حيث أصبحت الجمهورية الأوكرانية تتمتع بموقع حيوي فيه ودعامة رئيسية في الجيوبولتيك الروسي الجديد الذي سيتعمق مع البوتينية[2] والاستراتيجية الأوراسية[3]، وحتى نتفهم هذا الموقف الروسي وجب الرجوع إلى معطيات التّاريخ والجغرافيا وحقيقة التوازنات الإقليمية والدّولية التي جعلت أوكرانيا تحظى باهتمام روسي خاص، فما الذي يفسر خصوصية مواقف وسلوك روسيا الاستراتيجي تجاه أوكرانيا منذ نهاية الحرب الباردة؟.

المطلب الأول: أوكرانيا بين الجيوبولتيك والجيواستراتيجيا

1-روسيا وأوكرانيا تاريخ مشترك ودين واحد: رسمت حقائق التاريخ والجغرافيا صفحات العلاقة بين الدولتين روسيا وأوكرانيا، فحقائق التاريخ تروي لنا وشائج القربى والماضي المشترك والمتداخل بين شعوب تلك المنطقة. وأمّا حقائق الجغرافيا فترسم لنا الحدود الطويلة والتداخل الديمغرافي والطبيعي التي تجمع بين البلدين.[4]

كما ينتمي الروس والأوكرانيون من الناحية العرقية إلى الفرع السلافي الشرقي، كما أن الديانة السائدة فيهما هي المسيحية الأرثوذكسية، والتي تعتبر موسكو مركزها الأساسي وحاملة رسالتها بين الشعوب السلافية، والوصية على الإرث البيزنطي منذ الانشقاق التاريخي الذي حصل بين روما والقسطنطينية في عام 1054م فهذه الوحدة المذهبية والتاريخ المشترك جعلت من أوكرانيا ذات أهمية كبيرة في المنظور الاستراتيجي الروسي ولذلك ففقدانها يعد خسارة مهمة لشعب سلافي أرثوذكسي يعتبر جزءاً مهماً من عالم روسيا التاريخي والحضاري.

2-روابط اللغة والعرق: لعل ما زاد من أهمية أوكرانيا في تصور النخب الروسية بعد الحرب الباردة تواجد أقلية عرقية ولغوية روسية معتبرة حوالي %17 ( إحصاء عام 2001م)[5]، حيث يتوزع هذا الشتات الروسي أساساً في المناطق الشرقية، أين تتواجد الصناعات الاستخراجية والصناعات الثقيلة التي أسسها السوفييت، وهو ما يفسر إلى حد كبير تركز الوجود الروسي في تلك المناطق.

3-أوكرانيا محور الجيوبولتيك الروسي: إن أوكرانيا وباعتبارها دولة تقع في شرق أوروبا فهي تشكل جزءاً أساسياً من منطقة أوراسيا التي فصّل فيها عالم الجيبوليتك الشهير (هالفورد ماكيندر، Halford John Mackinder) من خلال مفهوم المنطقة المحورية أو قلب الأرض “Heart hand”، والتي يرى فيها أحد محاور حركة التّاريخ فصاغ حولها مقولته الأساسية أن من يحكم شرق أوروبا، سيحكم قلب الأرض، ومن يحكم قلب الأرض سيحكم العالم.[6]

4-أوكرانيا الجدار العازل: يعتبر الفيلسوف الروسي (ألكسندر دوغين(  أنّ استقلال أوكرانيا هو بمثابة إعلان حرب جيوبوليتيكية على روسيا، كما يعتبرها المشكلة الأهم والأكثر جدية أمام موسكو، فأوكرانيا المستقلة تؤدي دور العميل والخادم الجيوبوليتيكي للاسترايتيحية الأورو -أطلسية في أوروبا، فهي بوعي منها أو بدون وعي تلعب دور النطاق الصحي الأطلسي[7] Cordon Sanitaire ” لقوى البحر ” Sea Powers ” من أجل تطويق روسيا جيبوليتيكياً ومنعها من تحقيق مشروعها الأوراسي.[8]

5-أوكرانيا مهد الصناعة العسكرية الروسية: تتركز كثير من الصناعات العسكرية في شرق وجنوب أوكرانيا الحالية، حيث كانت قطباً صناعياً مهماً في المجال العسكري وقطعة مهمة في سلسلة الإنتاج العسكري السوفيتي، وهو ما أورثها تركة عسكرية ضخمة نظراً لتوفر المواد الخام من حديد ونحاس، ومما زاد من أهميتها وقيمتها في الوقت الحاضر هو ارتباط كثير من الصناعات العسكرية في روسيا حالياً بها.

ومن أهم ما ضاعف من القيمة العسكرية والأمنية لأوكرانيا بالنسبة لروسيا بعد الحرب الباردة هو تواجد أحد أهم القواعد العسكرية البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم في مدينة (سيفاستبول) تحديداً، وهو ما يضمن ويعزز الانتشار العسكري الروسي في أحد أهم البحار القريبة من المياه الدافئة، وضمان بقاء هذه القاعدة وتواجد الأسطول الروسي بها يصب في إطار حماية المصالح الأمنية الروسية، بالنظر إلى الأهمية العسكرية والاقتصادية الكبيرة التي يتمتع بها البحر الأسود في الاستراتيجية الروسية، فهو الطريق البحري الوحيد لبلغاريا ورومانيا والطريق البحري الوحيد الناجي من التجمد في معظم أيام السنة فيما يتصل بروسيا الاتحادية وأوكرانيا، وبواسطته تتصل الدول المحيطة فيما بينها وتنفذ إلى دول أوروبا الشرقية، وتتصل بأسواق العالم.

المطلب الثاني: أوكرانيا: نقطة تقاطع مشاريع القوى العظمى

تبدو الحرب الروسية/ الأوكرانية من خلال ما تقدم ذكره من معطيات ليست أزمة عادية فقط ولا حرباً بسيطة بين طرفين اثنين (روسيا وأوكرانيا) بقدر ما “هي مجرد شجرة تخفي غابة المصالح المتقاطعة وامتدادات التاريخ وحسابات الجغرافيا، وتقاطع المصالح انعكس على تباين زوايا النظر إلى الأزمة.”[9] فهي أزمة معقدة يتداخل فيها الوطني بالإقليمي والدولي تتقاطع فيها المشاريع السّياسية والاستراتيجيات الدولية ويزيدها زخم التّاريخ وثقل الجغرافيا ليجعل منها حرباً دقيقة وهامة للعديد من الأطراف، لأجل ذلك وجب تفكيك هذه الرؤى لفهم ما يجري على الواقع.

فأهمية أوكرانيا لا تقف عند حقيقة أنها ثاني أكبر دولة في أوروبا، ويهيمن الجزء الأكبر منها على سهل أوروبا الشرقية، وبالتالي اكسبها موقعها الجيوسياسي أهمية خاصة وجعلها حلقة وصل من قوتين عظمتين هما القوة الشرقية أي روسيا من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى. وهو ما يفسر كون أحد المعاني التي تعزى لاسم أوكرانيا هو الحافة أو التخوم، ذلك أن هذه البلاد الممتدة على سهل فسيح، تصل إلى أكثر من 600ألف كيلومتر مربع، وبهذا تعتبر أوكرانيا بمثابة الجدار العازل بين روسيا والدول الأوروبية “[10]. وبالتّالي تحتل مكانة هامة في حسابات الفاعليين الدّوليين في المعسكرين الشرقي والغربي.

أولاً: أوكرانيا في المشروع الروسي: تقاطع البوتينية والأوراسية الجديدة

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتصاعد التوتر بين روسيا والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة تزايد اهتمام خبراء الاستراتيجيا والسياسة الخارجية بأوكرانيا التي تحولت إلى أولوية وجودية وعمق استراتيجي حاسم بالنسبة لأمن روسيا القومي، وهي أهمية تزداد كلما ازداد التوتر الدولي، وتنبع أهمية أوكرانيا من أنها تعطي روسيا القدرة على مد نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي إلى دول شرق أوروبا والقوقاز والبحر الأسود.

ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو والسقوط في الفك الغربي هو هدف رئيسي لروسيا الاتحادية والتي ترى أن أوكرانيا تقع في دائرة نفوذها الطبيعي”[11]. وازدادت الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها في 1991، وعلى الرغم من أن كونها تعني الكثير لروسيا بل للقومية الروسية لأن أوكرانيا في القرن العاشر الميلادي في المهد الأول للأرثودوكسية الروسية والعديد من الأوكرانيين هم من الناطقين باللغة الروسية، ولكن حينئذ لم تكن روسيا في وضع يسمح لها بتحدي هذا الاستقلال”.[12]

 1-البوتينية والانعطافة التاريخية لروسيا:

في كتابه «البوتينية: روسيا ومستقبلها مع الغرب” يَعرض المؤرّخ المخضرم وولتر لاكوير[13] توصيفاً دقيقاً حول الانعطافة المدوّية التي قامت بها روسيا في السنوات الأخيرة مع الرئيس فلاديمير بوتين تحديداً، نحو ما سمّاه نهج المحافظةConservatism، ومع أن الكاتب لا يخفي انحيازه للمنظومة الغربية (الفكرية -السياسية) المعادية لروسيا بالعموم، إلاّ أنه قدّم رؤية شاملة ودقيقة نسبيًا للواقع الروسي، قبل وبعد تسلّم بوتين لسدّة الرئاسة الروسية (2000/2012. ويطرح تفاصيل «المشروع الروسي» القادم الذي سيحلّ محلّ الشيوعية والآفاق المحتملة لمستقبل روسيا. فروسيا البوتينية حسب تحليل لاكوير تسير نحو استعادة مكانتها كقوّة عالمية، بمجرّد توافر الظروف لذلك فهي مشروع مؤجل. ويستطرد أن النهج العام للبحث الروسي عن عقيدة ورسالة جديدة سيتّجه نحو اليمين الاستبدادي، الذي سيحاول استعادة بعض ما تمّت خسارته بسقوط الاتحاد السوفياتي وما تلاه من انهيارات وتحوّلات روسية وعالمية.

وفي هذا السّياق يتحدّث لاكوير عن مكوّنات الإيديولوجية الروسية الحالية، وهي ثلاث:

الدين: إيمان راسخ بالكنيسة الأرثوذكسية، (رسالة روسيا المقدّسة، روما الثالثة والقدس الجديدة).

الأوراسية: إحساس بـ «قدرٍ أوراسي» بائن، يعبر عن الوطنية/ القومية (مع اصطفافات باتجاه الشوفينية)، النّمط الروسي من الجيوبولتيك.

شعور القلعة المحاصرة، والزابادوفوبيا (الخوف من الغرب)، الذي ابتدعه الفيلسوف والمنظّر الإيديولوجي نيقولاي دانيلفيسكي.

وحسب رأيه، فقد جرى إحضار الرسالة الجيوبوليتيكية إلى روسيا من قِبل (ألكسندر ديوغين) في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والذي يطرح فكرة بسط النفوذ والهيمنة الروسية على أوراسيا، بوصفها قارّة (ثالثة) جديدة، ولكن بما أن روسيا لم تكن قوية بما فيه الكفاية لوحدها حينها، لأسباب عسكرية واقتصادية وديمغرافية، فقد ظلت الفكرة تختمر وتنتظر اللّحظة المناسبة.

فبعد فشل عملية التّحول الديمقراطي الروسية في تسعينيات القرن الماضي والنتائج السلبية التي خلفتها نتيجة عوامل عدة يمكن أن نقول أنّ البوتينية تبلورت على مرحلتين:

– المرحلة الأولى من البوتينية: بوتين المخلص (2000-2013)

انطلقت من عام 2000 إلى غاية الصراع مع أوكرانيا وضم القرم في عام 2014، وكانت صورة بوتين حينئذ هي صورة منقذ روسيا وشعبها البائس، فهو الذي خلص البلاد من قوى الدّمار الدّاخلية والخارجية، ومن فساد حكم القلة (الأوليقارشيين) وهيمنتهم على شؤون الدولة، ومن الحركات الاستقلالية الإسلامية في شمال القوقاز وتأثير الغرب.

المرحلة الثانية من البوتينية: بوتين المحارب والزعيم القومي

تبدأ مع العام 2014، فبعد أن تدهور الوضع الاقتصادي في روسيا بسبب انخفاض أسعار النّفط والعقوبات الاقتصادية، تحول بوتين إلى “محارب”، وأصبح الزعيم الذي يناضل من أجل استعادة هيبة روسيا الدّولية من خلال التّدخلات العسكرية في أوكرانيا وسوريا. وإذا كان في الفترة الأولى (2000 /2013)، أقر ما بين 55٪ و63٪ من الشعب الروسي بدعمهم لإدارة الرئيس الروسي، فإنّه منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، حظي الرئيس الروسي بشعبية غير مسبوقة حتى ذلك الحين، إذ تراوح عدد مؤيديه بين 81٪ و83٪ من الشعب الروسي.

استخدم بوتين سلطته السياسية لإعادة توزيع عدد من أهم الممتلكات الروسية وتحويل قطاع الطاقة الذي يسيطر عليه رأس المال الخاص إلى قطاع تهيمن عليه الدولة. وأوضح الأمثلة على ذلك تأميم شركة يوكوس (شركة خاصة) وإعادة بيعها إلى شركة روزنيفت (شركة حكومية)، وتحت ضغوط، بيعت شركات البترول الخاصة Lukoil،(TNK-BP)  Surgutneftegas، إلى أشخاص يدينون بالولاء لبوتين.

هناك ثلاثة ملامح رئيسية للبوتينية الحالية:

المنقذ القومي: لم تعد مهمة الرئيس الروسي الآن إنقاذ الناس من القلة الفاسدة (الأوليجاركيين)، وإنما حماية الروس جميعاً، بما في ذلك الأوليقارشيين أنفسهم، لأن الجميع ​​لديهم عدو مشترك، ألا وهو الغرب.

المعركة خارج الحدود: لم يعد الضعف الاقتصادي في روسيا يعزى إلى عدم وجود إصلاحات هيكلية عميقة والاعتماد على أسعار المحروقات، وإنما هو نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب. استغلت هذه العقوبات في تبرير عملية التطهير التي بدأها الكرملين في عام 2017، والتي تتمثل في التدمير المنهجي للبنوك الخاصة في البلاد لتعزيز القوة المالية لمصارف الدولة (التي تأثرت بالعقوبات) وكذلك تعزيز الكرملين.

لاعب دولي وطموح: عبر إظهار رغبة صريحة لاستخدام القوة العسكرية التقليدية، ووسائل الحرب الهجين غير المتكافئة وحرب المعلومات لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية الخاصة باستعادة مناطق النفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي واستعادة وضعها كقوة عظمى على الساحة الدولية.

كانت مشاعر القومية والوطنية والفخر القومي التي أثارها نجاح ضم شبه جزيرة القرم والتدخل في سوريا، هي أدوات اللّحمة الاجتماعية والسياسية التي اشتغلت عليها الماكينات الإعلامية وسرديات الخطاب السياسي الروسي في المرحلة الثانية من البوتينية.

إذ أن مفهوم (الأمة المقسمة)، الذي سيستخدمه فلاديمير بوتين في خطاباته حيث يقول أن:”الملايين ذهبوا للنوم في بلد واستيقظوا في دول أخرى عديدة، ليتحولوا بذلك إلى أقليات عرقية في الجمهوريات السوفييتية السابقة”. وهكذا أصبحت الأمة الروسية واحدة من أكبر الأمم في العالم-إن لم تكن أكبرها على الإطلاق-التي تفصلها الحدود عن بعضها البعض”[14]. هذا الخطاب وهذه السردية ستصبح هي العنصر الأساسي في سياسة روسيا تجاه جيرانها وتجاه الجمهوريات السوفيتية السابقة، وفي سياسة روسيا للعودة لمسرح الساحة الدولية، في رحلة البحث عن دور أكبر وتموقع أعظم يعيد أمجاد الإرث الإمبراطوري القيصري لروسيا العظمى الحامية للشعوب السلافية والرافعة للواء الأرثوذكسية في العالم على أنقاذ النظام الدولي الحالي ذو القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي.

تناول المستشار ومساعد الرئيس بوتين سوركوف[15] موضوع «البوتينية» في مقالة نشرها في شهر فبراير 2019، في صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا «الصحيفة المستقلة»، وكانت بعنوان: «دولة بوتين طويلة الأمد». وصف سوركوف في هذه المقالة «البوتينية» بأنها أيديولوجيا المستقبل، وأكد بأنه من الضروري جدًّا لروسيا وضع توصيف أو تشريح لنظام حكم فلاديمير بوتين. فيقول: «من الضروري أن نعي، أن نفهم، وأن نقدم وصفًا لنظام الحكم البوتيني، وعمومًا لمجمل أفكار البوتينية ومعاييرها، بوصفها أيديولوجيا للمستقبل». ويضيف أن النظام السياسي الذي نشأ في عهد بوتين ما هو إلا نظام سياسي شامل لجعل الحياة أفضل (يستخدم المصطلح الإنجليزي، وإن بأحرف روسية). ويقول: «إن دراسة البوتينية، بوصفها أيديولوجيا فاعلة للحياة اليومية، بكل تحديثاتها الاجتماعية وتناقضاتها المثمرة، ما هي إلا بداية مفيدة جدًّا؛ لأن البوتينية تمثل لايف هايك سياسي شامل وطريقة جيدة لممارسة الحكم».

2-الأوراسية  الجديدة: أو الأبعاد الجيوبوليتيكية للصراع في أوكرانيا

انتعشت النظريات “الأوراسية” بقوة من جديد في أوساط صنّاع القرار والنّخب الفكرية والثّقافية الروسية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كردة فعل عن القطبية الأحادية التي طبعت النّظام الدّولي الجديد الذي أقصى روسيا من الزعامة الدّولية وافتك منها كثير من مناطق النّفوذ، فكانت هذه النظريات محاولات لبناء عقيدة حديثة قصد صياغة دور روسيا الاستراتيجي وسياستها الخارجية في المستقبل.

 وتسعى روسيا في استراتيجيتها الأوراسية إلى استخدام كل ما لديها من عناصر قوة، ابتداءً من موقعها الاستراتيجي الذي يغطي جزءًا من أوروبا وقسمًا كبيرًا من آسيا، وكذلك امتلاكها لثروات طائلة وقوة عسكرية جبارة ونفوذ سياسي ودبلوماسي، ولطاقة علمية كبيرة وتراث حضاري وحضور قوي على المساحة السوفييتية السابقة، من أجل بناء هيكلية تكاملية أوراسية بمشاركة دول أخرى، آسيوية بالدرجة الأولى. وللعقيدة الاستراتيجية الأوراسية التي تسير على نهجها روسيا أبعاد ثلاثة: جيوسياسي، وأمني، واقتصادي، وهي اتجاهات متداخلة ومتشابكة.

في البعد الجيوسياسي، تسعى روسيا إلى إعادة ترميم وتوطيد علاقاتها المتشعبة مع الجمهوريات السوفييتية السابقة واستعادتها إلى «الحضن» الروسي، مستفيدة من الروابط الشديدة والمتنوعة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، التي ربطت هذه الجمهوريات بالمركز الروسي طيلة العصرين الإمبراطوري والسوفييتي، ومن خيبة أمل بعضها من نتائج توجهها نحو الغرب عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، واقتناعها بأن الحضن الروسي أكثر «دفئًا» وفائدة.

وتذهب روسيا أبعد في توجهها الجيوسياسي، فتعمل على نسج علاقات وُدٍّ وتفاهم وتعاون مع دول مختلفة في القارة الآسيوية والشرقين الأوسط والأدنى (مع تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى وباكستان والهند…إلخ)، على الرغم من التناقضات، الحادة أحيانًا، وتضارب المصالح التي تشوب العلاقات بين بعضها بعضًا أحيانًا.

وفي البعد الأمني، تعمل روسيا على تعزيز قواها العسكرية ومواجهة التحديات الإستراتيجية التي يشكلها تقدم حلف الناتو شرقًا وصولًا إلى «باحتها الخلفية» في أوكرانيا وجورجيا والبحر الأسود (فكان إقدامها على ضمّ شبه جزيرة القرم وتدخلها الفاعل في منطقة الدونباس في شرق أوكرانيا بمنزلة خطوات جوابية ذات بعد إستراتيجي بهدف حماية أمنها القومي). وفي إطار البعد الأمني الاستراتيجي يندرج تدخلها المباشر في سوريا وغير المباشر في ليبيا ومناطق أخرى، وهي تضع ذلك ضمن مهمة مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي، فهي ترى أن هناك يقع خط الدفاع الأول عن أمنها الاستراتيجي.

على المستوى الاقتصادي، تعمل روسيا على بناء هياكل تكاملية أوراسية من ضمنها منظمة شانغهاي للتعاون الأوراسي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والتعاون المكثّف مع اثنين من أعضاء مجموعة بريكس الآسيويين هما الصين والهند، والعمل المشترك مع الصين في إنجاز مشروع «حزام واحد طريق واحد»، الذي تسعى الصين من خلاله إلى إحياء تقاليد «طريق الحرير العظيم» في ظل أوضاع العالم المعاصر.

وتشهد هذه المنظمات والبنى التحالفية جهودًا لصوغ أهداف ومهمات وخطط سير ومؤسسات، ووضع آليات لتحقيق الاتفاقيات ولتعزيز مواقع الدول الأعضاء ولتعزيز نفوذها في العمليات السياسية والاقتصادية على المستويين الإقليمي والدولي.

 إن موقع روسيا في وسط القارة الأوراسية، وهي التي تَعُدّ نفسها صلة الوصل الجامعة بين حضارتي الغرب والشرق، حدَّد لها دور المؤسس والمحرك لعملية التكامل ضمن الاتحاد الأوراسي الاستراتيجي. فروسيا، كما يفهمها الأوراسيون الروس، ليست مجرد دولة على قارتين، بل إنها في نظرهم، عبارة عن ملتقى للدروس والعبر التاريخية التي أسهمت في تذليل التناقضات وعدم الاستقرار التي شهدتها هذه المنطقة عبر التاريخ، وتتجسد فيها (أي في روسيا) إنجازات الشعوب والقوميات والإثنيات التي تقطن أرجاء المجال الأوراسي. وهذا ما يفسر ظهور النظرية الأوراسية في روسيا في أعمال مفكرين روس في القرنين الماضيين من أمثال سافيتسكي وتروبتسكوي وألكسييف وكراسافين وغيرهم.

انطلاقًا من إسهام روسيا في الحضارة العالمية والأوراسية عبر ألف عام من تطورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمعرفي، يمكن القول: أن قيام التكتل الاقتصادي والسياسي الأوراسي لن يكون مجرد استجابة للتحديات العولمية الراهنة، بل هو بالدرجة الأولى امتداد لمسار تاريخي وحضاري عميق الجذور؛ فالأيديولوجية الأوراسية تمثل لروسيا الفرصة الوحيدة للاستمرار وللارتقاء إلى مصافّ الدولة العظمى.

وضمن هذه الأجواء لمع مصطلح (الجيوبولتيك الدوغينية)[16] خلال العقدين الماضيين، بعد أن تقاطعت أفكارها مع طموحات الرئيس فلادمير بوتين الذي كان يطمح لإيجاد مكان له في روسيا وفي التاريخ، ومكان مرموق لروسيا في العالم. فالرئيس بوتين لم يجد أفضل من الفلسفة الدوغينية الرابعة تكون بديلاً عن منظومة الأفكار الاشتراكية – الشيوعية وتكون قادرة على مقارعة الليبرالية والعولمة الجديدة. حيث تقوم الرؤية الجديدة للأوراسية أو “الدوغينية” على الركائز الثّقافية والاجتماعية والتّاريخية والجغرافية والدّين المسيحي الأرثوذكسي، والجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية والركائز اللّغوية والفولكلور والتراث الإنساني.

وضمن هذا التماهي بين البوتينية والأوراسية الدوغينية أصبحت أوكرانيا تمثل خطراً على مستقبل الخيارات الاستراتيجية الروسية ولم يكن أمام القوات الروسية، كما أعلن بوتين عند إعلانه للعملية العسكرية، سوى التدخل بسرعة لتحقيق جملة من الأهداف العاجلة وهي:

– تحرير الدونباس وخورسون وزاباروجيا، أي استقلال هذه الجمهوريات وضمها إلى الاتحاد الروسي،

– رفض امتلاك أوكرانيا للأسلحة النووية،

– منع أوكرانيا من عضوية الناتو لأن ذلك يهدد الوطن الروسي ويجعله محاصرا من جهة الغرب.

– وهناك هدف رابع غير معلن يتمثل في السيطرة على أوكرانيا سياسياً بصفتها بوابته الغربية الرئيسية لمشروعه ومشروع دوغين لإنشاء أوراسيا الجديدة.

والذي يتابع حجم الدّعم الغربي الكبير لأوكرانيا وتزويدها بأحدث الأسلحة والحرص منقطع النّظير لهزم روسيا يُدرك جيدا أنّ الهدف من ذلك يتجاوز مهمة استنزاف القوات الروسية. فهناك أسباب استراتيجية أخرى باتت لا تخفى على الكثيرين تنضاف الى عملية الاستنزاف، وهي تتعلق بالمشروع الأطلسي العربي في المنطقة.

ثانيا: أوكرانيا في المشروع الغربي الأطلسي

يؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي الراحل، زبيغنيو بريجنسكي، في كتابه “رقعة الشطرنج”، أنّ مصير السيطرة الأمريكية المستقبلية مرتبط بمنع أي قوة أخرى من التمدد في منطقة أوراسيا، والمقصود بطبيعة الحال روسيا (وهو ما يؤكد محورية الصراع على أوراسيا) فبوضوح تام، يؤكد بريجنكسي أنه في حال “تمدد أي قوة في أوراسيا فإن أمريكا تخسر هيمنتها، ويصبح من الواجب ألا تكون أي قوة أوراسية منافسة قادرة على السيطرة على أوراسيا، وبالتالي منافسة الولايات المتحدة”.[17]

لقد شكل موقع أوكرانيا الاستراتيجي كجدار عازل بين الغرب وروسيا سبباً لازدياد الأهمية بها خاصة مع ميل غالبية الشعب الأوكراني بالنموذج الغربي الديمقراطي.

1-الحاجز السياسي والثقافي: كانت أوكرانيا من ضمن الدول التي اجتاحتها الموجة الثالثة للديمقراطية حسب تعبير صمويل هنتنغتون[18] خاصة مع الانتخابات الرئاسية لعام 2004 وما أعقبها من تحركات سميت بالثورة البرتقالية إعتراضاً على فوز يانوكوفيتش المدعوم روسيا.وقد اغتنم المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة هذه الفرصة للتدخل ودعم هذه التحركات لمد “موجة الدمقرطة” لاحقاً إلى ديار الروس وآسيا الوسطى وهو ما يعني نهاية الخطر الروسي. وربما فتح أفاق جديدة للعلاقات المتبادلة وهو ما قد يرفع من احتمالات التعاون وربما التحالف مع الغرب في مواجهة الصين آخر معاقل الشيوعية، ناهيك عن تمكن الغرب من الاستفادة من ثروات ضخمة من الغاز والبترول تقدر ب 34% من الطاقة العالمية.[19]

ومع إعلان الصين لمبادرة “الحزام والطريق” عام 2014، والذي يمر فرعها البري بأوكرانيا قبل الوصول إلى الأراضي الروسية تضاعفت أهمية أوكرانيا في الأجندة الغربية إذ تعتبر واشنطن خطوة صينية للسيطرة على الاقتصاد العالمي ومن ثم المنافسة على قمة النسق العالمي.[20] وبالتالي فإنّه من الضروري احباط تلك المبادرة الصينية وابعادها عن الأسواق الأوروبية من خلال أوكرانيا التي هي في المنظور الغربي مفتاح السيطرة على المبادرة.[21]

2-العازل الجيوبولتيكي: تتقاطع نظريات الجيوبولتيك أن من يسيطر على منطقة الهلال الداخلي التي تضم معظم قارة أوروبا والوطن العربي وإيران يسيطر على العالم ووفق هذا المنطق بنيت التحالفات زمن الحرب الباردة من أجل تطويق السوفيات ومنعه من الوصول إلى مناطق الموارد في الهلال الداخلي، من أجل ذلك سعى الغرب بمجرد سقوط الاتحاد السوفياتي للتمدد شرقاً في الدول المحيطة به وجذبها للمعسكر الغربي وعزلاً لروسيا عن محيطها الاستراتيجي.

3-المصالح الجيواستراتيجية: يحتل البترول والغاز أهمية استراتيجية لاقتصاديات العالم وتغطي روسيا نحو 40 % من احتياجات قارة أوروبا من الطاقة[22] و80%من تلك الطاقة تمر عبر أوكرانيا. كما تملك أوكرانيا حقول غاز ذات احتياطات كبيرة تصل إلى 39 ترليون قدم مكعب من الغاز. كما تعتبر أوكرانيا تاسع أكبر منتج للقمح في العالم فهي تعرف بسلة الغذاء بالنسبة لأوروبا حيث تصدر 29% من صادراتها الغذائية إلى دول الاتحاد الأوروبي، كما تشكل الزراعة نحو 10% من اجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإنّ السيطرة على أوكرانيا يهدد الأمن الطاقي في العالم والأمن الغذائي فضلا عن التهديد الأمني والاستراتيجي لأوروبا.

المبحث الثاني: تداعيات الحرب الروسية/ الأوكرانية

1-خسائر بشرية ومادية ضخمة:

رغم غياب الأرقام الحقيقية والدقيقة فإنّ بعض التقارير تفيد أنّ الحرب الروسية-الأوكرانية تسببت في خسائر بشرية كبيرة بلغت 240 ألف ما بين مدني وعسكري من كلا الطرفين قبل نهاية سنة 2022، بالإضافة إلى خسائر مادية بلغت 70% من مخزون روسيا من الصواريخ الصالحة للأهداف البرية، و60% من دباباتها القتالية، و20% من مدفعيتها.

لقد  دخلت روسيا الحرب بنحو 3 آلاف دبابة حديثة الطراز، وخسرت المئات منها في بداية الحرب بفضل الأسلحة المضادة للدبابات التي قدمتها الدول الغربية لأوكرانيا، فتكبدت القوات الروسية خسائر مادية فادحة تبلغ 70% من مخزونها من الصواريخ الصالحة للأهداف البرية، و60% من دباباتها القتالية، و20% من مدفعيتها.في المقابل خسرت أوكرانيا أكثر من 400 دبابة وأكثر من 1500 مركبة قتالية، بحسب تقرير نشره مطلع العام 2023 موقع “أوريكس” المتخصص في شؤون الدفاع.

أما الخسائر البشرية، فقد كشفت حصيلة لهيئة الأركان الأمريكية المشتركة أن عدد ضحايا حرب روسيا وأوكرانيا منذ اندلاع الحرب في فيفري 2022 وإلى ديسمبر 2022 تجاوز 240 ألف، وزعت على النحو التالي:

  • 100ألف جندي روسي بين قتيل وجريح.
  • 100 ألف قتيل من القوات العسكرية الأوكرانية.
  • 40ألف قتيل بين المدنيين الأوكرانيين.

التكلفة هائلة بالنسبة لأوكرانيا التي تقلّص ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 35% في عام 2022، وفقًا للبنك الدولي. وقدّرت أكاديمية كييف للاقتصاد في كانون الثاني/يناير الأضرار بنحو 138 مليار دولار، بالإضافة إلى 34.1 مليار دولار هي خسائر القطاع الزراعي. وأحصت منظمة يونسكو من جانبها تضرّر أكثر من 3000 مدرسة و239 موقعًا ثقافيًا.

تقول كييف أن هناك ألغاما مزروعة في 30% من الأراضي الأوكرانية، وتتهم منظمة “هيومان رايتس ووتش”  كييف أيضاً بأنها زرعت ألغاما في منطقة إيزيوم في الشرق، هذه الألغام، وإن كانت أقل فتكًا في الوقت الحالي، فهي خطيرة جدًا على المدى الطويل وتستغرق إزالتها عقودًا، وفق خبراء.

وحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في 17 مارس 2022، فإن الآثار السلبية لهذه الأزمة سوف تتدفق من خلال ثلاث قنوات:

– القناة الأولى: ارتفاع أسعار السلع الأولية، كالغذاء والطاقة، الذي سيدفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب.

– القناة الثانية: سوف تصارع الاقتصادات المجاورة بصفة خاصة الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد، وتحويلات العاملين في الخارج، كما ستشهد طفرة تاريخية في تدفقات اللاجئين.

– القناة الثالثة: تراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين، سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما التحفيز على خروج النفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.

وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر البلدان المُنتجة للسلع الأولية، فقد أدّت انقطاعات سلاسل الإمداد إلى ارتفاع الأسعار العالمية بصورة جنونية، ولا سيما أسعار النفط والغاز الطبيعي. كما شهدت تكاليف الغذاء قفزة في ظل المستوى التاريخي الذي بلغه سعر القمح، حيث تُسهم كل من أوكرانيا وروسيا بنسبة 30% من صادرات القمح العالمية، وأن أكثر البلدان تأثراً بهذه التداعيات، هي البلدان التي لديها علاقات تجارية وسياحية وانكشافات مالية. والارتفاع الحاد في أسعار الغذاء والطاقة، سيدفع بالطبع إلى حدوث قلاقل في بعض المناطق والبلدان، من إفريقيا – جنوب الصحراء، وأميركا اللاتينية، إلى القوقاز وآسيا الوسطى، بينما من المحتمل زيادة انعدام الأمن الغذائي في بعض أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط.[23]

2-التداعيات الجيواستراتيجية:

أ-نحو عالم متعدد الأقطاب:

تمثل الحرب أكثر العوامل التي ساهمت تاريخياً في إحداث تحولات في بنية النظام الدولي والعلاقات الدولية وما يترتب عن ذلك من إعادة توزيع لعناصر القوة وإعادة ترتيب الدول، وهو الحال بالنسبة للحرب في أوكرانيا فهي تنذر بولادة نظام دولي جديد.[24]

فقد أصبحت أوكرانيا مسرحا لخلق توازنات عالمية جديدة، ومجريات الأحداث بعد سنة من الحرب تتجه نحو سياسة المحاور: محور روسي/ صيني مقابل محور أطلسي/غربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو وهو ما يرشح التحولات الحاصلة في موازين القوى الدولية لترسيخ نظام دولي جديد متعدد الأقطاب على المدى المتوسط والبعيد، خاصة في حالة توسع نطاق الحرب وتمددها نحو آسيا وهو ما يعني تراجع الهيمنة الأمريكية (شرطي العالم الحالي) وفتح الباب لظهور أقطاب أخرى تلعب دوراً على الساحة الدولية بصياغة أدوار جديدة تسمح لها بفرض هيمنتها على مساحات جديدة ليتجه العالم نحو قدر أقل من الفجوة بين الأقاليم والدول في النظام الدولي الحالي.[25] وهذا الأمر سيمكن دولاً من الصعود الاقتصادي ويمكن دولاً أخرى من ولوج التسلح النووي والتسابق فيه، كما سيمكن دول الجنوب من هامش كبير للمناورة والانفتاح على خيارات استراتيجية جديدة.

ب-إحياء الكابوس الجيوبوليتيكي:

 دفعت مجريات الحرب وتعاظم العقوبات على روسيا تزامناً مع التحرش الأمريكي بالصين بعد أزمة مضيق تايوان (أوت 2022) إلى تقارب استراتيجي روسي/صيني عبر عنه ألكسندر دوغين بالإصطفاف الروسي الصيني. فروسيا والصين كقوتين تعديلتين تتقاطع مصالحهما الحالية في التقارب لتحجيم الضغط الأمريكي وعقوباتها خاصة وهما يسعيان لتحدي الهيمنة الغربية، فالأولى عملاق عسكري والثانية عملاق اقتصادي وكلتاهما تتكملان ولديهما أهداف مشتركة.

ويعتبر (هال براندز) بأنّ التقارب الروسي الصيني تحد للزعامة الأمريكية والأخطر أنّه يعيد إحياء “الكابوس الجيوبوليتيكي الأعظم) للعصر الحديث بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية المتمثل في بروز “قوة أو وفاق استبدادي” للسعي للهيمنة على أوراسيا كونها المسرح الاستراتيجي للعالم فالهدف الأساسي للتقارب بين القوتين هو إسقاط النظام الليبرالي القائم كونه يتعارض مع أنظمتها الداخلية غير الليبرالية.

ج-عسكرة العلاقات الدولية:

دفعت الحرب الروسية – الأوكرانية العديد من الدول إلى إعادة استراتيجياتها العسكرية مما ساهم في إشعال سباق تسلح جديد مع تنامي النزعة العسكرية لدى العديد من الدول خاصة بعد تلويح بوتين باستخدام القوة النووية، وهو ما أيقظ هاجس حرب عالمية ثالثة ممّا جعل الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” يطلق واحدا من أشهر تحذيراته خلال العام، عندما قال أن “العالم على بعد خطوة واحدة غير محسوبة من الإبادة النووية”، بعد احتدام المعارك في أوكرانيا وتبادلت فيه موسكو وكييف الاتهامات بخصوص قصف استهدف محطة زاباروجيا النووية جنوبي أوكرانيا في الخامس من أوت 2022، وسط تحذيرات من “كارثة نووية محتملة”.وهو الأمر الذي دفع عديد الدول الأوروبية لإعادة هندسة النظام الأمني الأوروبي. فقد جنحت ألمانيا لإعادة هيكلة الجيش الألماني وتزويده بأحدث المنظومات التسليحية، عبر استثمار 2.5 ٪من الناتج المحلى الإجمالي في التسلح، بزيادة قدرها 0.9 % ، تعادل 20 مليار يورو، ليتم توجيه 100 مليار يورو للإنفاق الدفاعي بميزانية 2022، كما أعلنت 23 دولة أوروبية تجمع بين عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي، رفع إنفاقها الدفاعي من1.5%. من ناتجها المحلي الإجمالي تعادل 200 مليار دولار سنوياً، إلى 2 %عام 2024.

كما أقدمت الحكومة الصينية على رفع ميزانيتها العسكرية بنسبة 7.1% وزيادة قدرها 6.8%لتلامس 230 مليار دولار وتغدو الأعلى منذ العام 2019، وتحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد نظيرتها الأمريكية البالغة 740 مليار دولار ليتخطى نمو الانفاق العسكري نمو الناتج المحلي، وجراء تفاقم المخاوف من استلهام بكين للسيناريو الروسي حيال أوكرانيا لغزو تايوان برمائيا وضمها للصين عنوة طالبت أوساط أمريكية بتكثيف الدعم العسكري الأمريكي النوعي لتايوان، مع رفع مستوى تأهيل قواتها. كما دعا رئيس الوزراء الياباني إلى مراجعة إملاءات الملف النووي لبلاده. وقد أجرت كوريا الشمالية بدورها العديد من التجارب لإختبار أحدث صواريخها استعراضاً للقدرات النووية.

د-تعاظم الدور الصيني:

كسبت الصين دوراً مهماً أكثر من ذي قبل في تحديد مسار الأحداث الحالية سواء بتقديم الدعم اللازم لبوتين لمواجهة العقوبات الغربية، أو من أجل العمل من جانب الغرب وخاصة الولايات المتحدة للحيلولة دون تقديم هذا الدعم. وظهور الصين كتهديد جدي إلى جانب التهديد الروسي والتخوف من تحقيق أي تحالف بينهما زاد من أهمية اليابان في حسابات الدول الغربية وذلك بتشجيع إحداث تغيرات في سياستها الدفاعية من أجل مساهمة أكبر في حماية مصالح الغرب في شرق آسيا خاصة وأنّها من القوى الاقتصادية التي تمتلك من الإمكانيات المادية والتكنولوجية والاقتصادية ما يؤهلها لبناء قوة عسكرية وتحمل أعباء عسكرية جديدة.[26]

هــ-إضعاف روسيا وجيشها الذي لا يُقهر:

التغير في مكانة روسيا يعد من أبرز تداعيات حرب أوكرانيا على العالم، فعشية الغزو الروسي ضد أوكرانيا في 24 فيفري 2022، بدا فلاديمير بوتين في قمة عنفوانه، حيث كان يقود قوة عظمى لديها أسلحة نووية وجيش لا يقهر يصنف الثاني على مستوى العالم، ولديه أكبر أسطول دبابات في العالم وثاني أقوى أسطول طائرات، إضافة لصواريخ متنوعة من بينها ترسانة من الصواريخ الفرط صوتية التي لا تمتلك الولايات المتحدة لها نظيراً.

وكان ينظر للجيش الروسي على أنه قادر على اختراق الجبهة الشرقية للناتو التي تضم دولاً متوسطة التقدم وضعيفة عسكرياً وقليلة السكان، وإذا لم يتدخل الأمريكيون البعيدون فإنه لا جيش سيوقف تقدم الجيش الروسي حتى حدود ألمانيا وحتى هذه الدولة الأوروبية الكبرى التي كانت تعتمد على موسكو في الطاقة، كان ينظر لها أن غير قادرة على وقفه وحده.

والآن تراجع الجيش الروسي في بضع معارك أمام أوكرانيا الدولة المتوسطة السكان التي يتغلغل فيها الفساد، وكان يعتقد أن نحو نصف سكانها وخاصة من المتحدثين بالروسية قد يكونون موالين لموسكو والنصف الآخر الكاره لها سوف يستسلم لها أو يفر للغرب، بعد أن تسحق موسكو جيشها المهلهل الذي يمتلك أقل من ربع أسطول روسيا من الطائرات والدبابات، وكلها أسلحة قديمة ورثتها كييف عن الاتحاد السوفييتي، بينما كان نصيب روسيا الجزء الأكبر والأكثر تقدماً من الترسانة السوفييتية .ولكن ثبت أن هذا غير صحيح، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين محاصر في حرب سارت على نحو خاطئ بصورة كارثية، بدون وجود استراتيجية خروج.

يقول مارك غاليوتي: “الحرب الروسية ضد أوكرانيا، التي تتعاظم صعوبة تبريرها، تقوض الشرعية الشعبية لبوتين، وكذلك مكانته لدى نخبة براغماتية بلا رحمة تتساءل إذا كان لا يزال الحاكم الذي يحتاجون إليه”. ويوضح غاليوتي: “لكن المفارقة أن هذا أيضاً يجعله أشد خطورة؛ لأن القمع لا بد له أن يحل محل السلطة الحقيقية”. ومع ذلك، لم تمض كل الأمور على نحو خاطئ بالنسبة لزعيم الكرملين. صحيحٌ أنه منبوذ لدى الغرب، لكنه وجد مكانة جديدة غير متوقعة في العالم النامي، بوصفه “محارباً مناهضاً للكولونيالية”، وذلك حسبما يعتقد غاليوتي، الذي يقول: “الدول التي لديها تجارب مع الإمبريالية الغربية تتأثر بادعاءات بوتين بأنه يتصدى للولايات المتحدة المغرورة، التي تستخدم أوكرانيا في حرب بالوكالة”.

والأهم بالنسبة للغرب أنه يتم استنزاف ترسانة الأسلحة الهائلة التي ورثها،الجيش الروسي الضخم عن الاتحاد السوفييتي، وكان يظن أنه تم تحديثها وأصبحت نظيراً لأسلحة الغرب أو أفضل.

و-المحرقة النووية أصبحت أقرب إلينا من أي وقت مضى:

لأول مرة منذ أزمة الصواريخ الكوبية خلال الستينيات، تدور أحاديث تنذر بالخطر في الأشهر الأخيرة حول احتمالية نشوب حرب نووية. ولكن هذه المرة، لا تتعلق التكهنات بسيناريو يوم القيامة الذي تتبادل فيه واشنطن وموسكو صواريخ بالستية عابرة للقارات مزودة برؤوس نووية، بل يتعلق بملابسات موقف يمكن أن يأمر فيه بوتين بضربة محدودة باستخدام سلاح نووي تكتيكي، ربما يحدث إذا حاولت أوكرانيا استرداد شبه جزيرة القرم، التي يعدها الرئيس الروسي أراضي روسية منذ الاستيلاء عليها في عام 2014، وينظر لها الروس حتى المعارضين على أنها أرض مقدسة.

ويقول أندرو موناغان، الأستاذ لدى المعهد الملكي للخدمات المتحدة: “بالتأكيد لسنا بعد في الموقف الذي ربما تُستخدم فيه هذه الأسلحة. ولكن أحد الأمور الأكثر درامية التي وجدناها على مدى العام، هي مدى قربنا المحتمل من نشوب حرب نووية”. ويُعتقد أن الخوف من مثل هذا التصعيد جعل الناتو يستبعد محاولة فرض حظر جوي فوق أوكرانيا، وهو ما كان من الممكن أن يؤدي إلى اشتباكات بين الطائرات الروسية والغربية.

ز-الحرب عززت من وحدة الناتو عكس ما توقع بوتين:

قبل سنوات قليلة، كان بعض الأطراف يشككون في جدوى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بمن فيهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن لم يعد هذا هو الحال الآن، أمدت الحرب هذا التحالف المستمر منذ 73 عاماً بالشعور بالهدف الذي افتقده بعد نهاية الحرب الباردة،  وتم تعزيز قوات الناتو المتمركزة في بولندا ودول البلطيق والبلاد الأخرى الواقعة على طول الجبهة الشرقية، كذلك طلبت السويد وفنلندا الانضمام إلى التحالف.

ح-عودة الروح للعسكرية الألمانية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية:

كشفت حرب أوكرانيا عن المدى المحرج لاعتماد نمو ألمانيا في السنوات الأخيرة على الغاز والنفط الرخيصين اللذين تستوردهما من روسيا، مما جعل البلاد رهينة لموسكو التي توقعت أن يكون موقف برلين ضعيفاً، كما حدث في أزمة القرم عام 2014، وفي الوقت ذاته فإن قدرات ألمانيا العسكرية بدت أقل من التحدي الذي شكلته الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

ولكن في غضون أيام من الغزو الروسي، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز عن إصلاحات رئيسية في سياسة الطاقة والدفاع، ووصفها باللحظة الفاصلة. أحد عناصر هذه الإصلاحات تمثل بتعهده بإنفاق 100 مليار يورو (106 مليارات دولار) لتحول الجيش.، وأصبحت ألمانيا من أهم الداعمين لأوكرانيا بالسلاح، بعد أن كانت تكتفي بإرسال خوذ ومعدات طبية.

3-التداعيات الجيواستراتيجية على أوروبا:

سيكون للحرب تداعيات على الوضع الجيوسياسي في أوروبا وما وراءها أيضاً، ولكن لا شك أن مسار هذا التأثير سيعتمد على عوامل مختلفة وربما أهمها المسار الذي ستنتهي به الحرب؛ فإن لم تستطع روسيا تحقيق أهدافها من خلال الحرب فلا يبدو أنها ستستطيع تحقيق ذلك من دونها، ولا شك أن أوروبا ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا لن تكون كما هي بعده.

أولاً – بداية حقبة جديدة لضفتي الأطلسي:

إن سيطرت روسيا على أوكرانيا، وتحقيق أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية، تعني بداية حقبة جديدة لأوروبا وحليفتها الولايات المتحدة، حيث سيواجه القادة في ضفتي الأطلسي تحدياً مزدوجاً: الأول يتمثل في إعادة التفكير في الأمن الأوروبي والثاني، عدم الانجرار إلى حرب أكبر مع روسيا قد تقود لحرب عالمية ثالثة، وهو ما يسعى الجميع إلى تجنبه، حيث ستكون نتائجها كارثية بالنظر إلى ما يمتلكه الأطراف من أسلحة نووية يمكنها أن تدمر الكرة الأرضية مرات – وتكفي بالطبع مرة واحدة لإنهاء الحياة عليها. هاذان الأمران – الدفاع بقوة عن الأمن الأوروبي وتجنب التصعيد العسكري مع روسيا – لا يبدو أنهما يسيران بشكل متوافق بالضرورة.

ثانياً – اعتماد أوروبا على الناتو يصبح محل شك :

قد تكون قدرة الاتحاد الأوروبي أو الناتو على حفظ الأمن والسلام في القارة محل شك بالفعل؛ حيث ينحصر الأمن في أوروبا في الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بينما يتوجب على الدول الأخرى من خارج الحلف أن تتدبر أمرها بنفسها، ربما باستثناء فنلندا والسويد اللتان تسيران على طريق الانضمام[27]. قد لا يكون هذا بالضرورة قراراً بإنهاء سياسة التوسع؛ لكن هذا سيحدث بحكم الأمر الواقع في ظل الحصار المتصور من قبل روسيا، لن يكون لدى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي القدرة على السياسات الطموحة خارج حدودهما.

كما ستبذل روسيا كل الجهد الممكن من أجل إضعاف الالتزام بحلف الناتو والعلاقة عبر الأطلسي، وقد تنشط من خلال أساليب اعتادت عليها من قبل، مثل التأثير على الرأي العام والانتخابات في الدول الأوروبية، ومن ثم ستسعى لزعزعة الاستقرار السياسي في أوروبا. فالسيادة الروسية على أوكرانيا ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار وانعدام الأمن في منطقة أورآسيا برمتها من إستونيا إلى بولندا ومن رومانيا وحتى تركيا[28]. وسيكون الوجود الروسي في أوكرانيا مصدر قلق دائم لكل جيران أوكرانيا واستمراره سيشكل تهديدًا حقيقياً لأمنهم.

بالمقابل فإن السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي الحالية – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها، وبالتالي ستكون مسألة طمأنة دول الاتحاد الأوروبي الشرقية من ناحية عسكرية أمراً أساسياً؛ بالطبع لن يكون الرد بالعقوبات والحديث المتكرر عن نظام دولي قائم على القواعد كافياً لردع روسيا أو وقف طموحاتها التوسعية.

ثالثاً – تغيير خارطة القوى العسكرية في أوروبا:

مع دخول الحرب عامها الثاني وعدم وجود بريق أمل لإنهاء هذه الأزمة الخطيرة، لا شك أن الخارطة العسكرية للقوى الأوروبية ستتغير، ولكن ليس بشكل فوري حيث توجد عقبات وتحديات.  فموقع ألمانيا في أوروبا سيتعرض لتحديات شديدة. ألمانيا أكبر دولة أوروبية سكانا واقتصاديا، ولكنها ليست كذلك عسكريا، حيث أسست هويتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية على رفض الحرب. ولا شك أن القرارات الأخيرة فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي مهمة وتمثل تحول غير مسبوق، ولكن سيمر وقت طويل قبل أن تظهر ألمانيا كقوة عسكرية كبرى. وهنا ستبقى فرنسا والمملكة المتحدة الأكثر قدرة على الاضطلاع بأدوار قيادية في الشؤون الأوروبية بفضل جيوشهما القوية نسبياً والتقاليد العريقة في التدخل العسكري. ومع ذلك، سيظل العامل الرئيسي في أوروبا هو الولايات المتحدة حيث سيعتمد الناتو بدرجة رئيسية على دعمها لسنوات أو عقود.

رابعاً– حرب اقتصادية دائمة وشاملة:

قد تظل حالة التصعيد الدائمة بين روسيا وأوروبا باردة من منظور عسكري سواء خلال الحرب أو حتى بعد انتهائها، ولكنها ستكون ساخنة اقتصادياً، حيث ستكون الولايات المتحدة وأوروبا في حالة حرب اقتصادية شاملة وربما دائمة مع روسيا؛ فسيواصل الغرب فرض عقوبات كاسحة، بينما ستسعى روسيا دون شك لتتجنبها بوسائل مختلفة، قد تقف الصين إلى جانب روسيا في هذا الجانب حيث من الطبيعي أن تتجه موسكو إلى تعزيز علاقاتها مع بكين ولاسيما أن كلاهما أصبح يمثل تحديا حقيقيا للغرب.

بالمقابل ورداً على ذلك، ستنتقم روسيا، في مجالات مختلفة منها على الأرجح المجال السيبراني[29]، وكذلك في قطاع الطاقة حيث بقدر ما تجتهد روسيا في استعماله كسلاح ضاغط على الدول الأوروبية وقد تلجأ إلى قطعه نهائيا في لحظة ما خاصة وأن عملية إيجاد البدائل ستأخذ وقتا طويلا وتحديات كثيرة. فإنّ الدول الأوروبية بالمقابل ستجعل من هذه الحرب فرصة للبحث عن حلول جذرية بديلة لا تجعلها رهينة للتهديدات والإملاءات الروسية وإن تطلب الأمر متسعا من الزمن. وهو ما بدى جليا في التوجه للاستثمار في الطاقة البديلة والبحث عن مزودين جدد.

خامساً – تعزيز الشعوبية مع تفاقم مشكلة اللاجئين:

ستؤدي التدفقات الهائلة للاجئين إلى أوروبا إلى تفاقم سياسة الاتحاد الأوروبي المتعلقة باللجوء وتوفير أرض خصبة للشعبويين واليمين المتطرف، وستنعكس بشكل واضح في الانتخابات الرئاسية لدول أوروبا مثل فرنسا التي ستجرى فيها انتخابات رئاسية قريباW، وكذلك الانتخابات الرئاسية لعام 2024 في الولايات المتحدة حيث يبدو ترامب والكثيرون من حوله متأهبين لاستغلال هذه الفرصة التاريخية. والحقيقة أن مستقبل أوروبا سيعتمد كثيرا على هذه الانتخابات المقبلة، فلو افترضنا أن دونالد ترامب أو مرشح يتبع له أو يدعمه تولى السلطة فإن هذا قد ينطوي على مخاطر كثيرة وربما تدمير للعلاقة عبر الأطلسي، مما يضع موقف الناتو وضماناته الأمنية لأوروبا موضع تساؤل حقيقي.

بالطبع لن يقف الأوروبيون مكتوفي الأيدي وهم يدركون إمكانية حدوث مثل هذه اللحظة الحاسمة؛ ولهذا من الطبيعي أن يفكروا في اليوم الذي عليهم أن يعتمدوا فيه على أنفسهم لضمان أمنهم وعدم الارتهان بالولايات المتحدة؛ فالمصالح تتبدل وتتغير بشكل غير مسبوق، وقد كان تحالف(أوكوس) بين أستراليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة أحد أهم المؤشرات التي حركت شيئاً من هذا القبيل لدى الأوروبيين.

سادساً – تغير استراتيجية الولايات المتحدة في أوروبا :

ستعمل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لتعطيل أي نصر روسي في أوكرانيا ولكن في صورة ما حدث هذا الأمر وإن كان مستبعدا بوقائع الميدان، فإنّ ذلك سيكون له آثاراً عميقة على استراتيجيتها الكبرى ليس فقط في أوروبا بل وفي مناطق أخرى من العالم ولاسيما الشرق الأوسط وآسيا. فسيتطلب النجاح الروسي في أوكرانيا من واشنطن أن تركز على أوروبا وتزيل أي غموض بشأن المادة 5 من الناتو[30]، وهذا ما تفعله إدارة بايدن وتعيد التأكيد عليها دائما؛ ففي ظل عدم وجود نظام أمني أوروبي، فإن التزاماً أمريكياً قوياً بأمن أوروبا هو ما سيمنع روسيا من تجاوز الحدود وتقسيم الدول الأوروبية مجدداً، وهذا بالطبع أمر حيوي لمصالح أمريكا؛ فالولايات المتحدة تمتلك أسهما تجارية كبيرة في أوروبا، وكلاهما أكبر شريك تجاري واستثماري للآخر، حيث بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات 1.1 تريليون دولار في عام 2019. ومن ثم ستعزز أوروبا المستقرة والآمنة مصالح أمريكا ليس فقط الاقتصادية وإنما أيضا السياسية؛ حيث يخدم هذا بشكل كبير سياستها الخارجية، هذا يعني أن زعزعة استقرار أوروبا، سيضع موقع أمريكا العالمي على المحك حيث ستكون الولايات المتحدة وحيدة في مواجهة التحديات العالمية المتشابكة.

والناتو سيكون الوسيلة الأهم التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها توفير الأمن لأوروبا وردع أي تهديدات خارجية. ولعل من أهم تأثيرات الحرب في أوكرانيا أنها أحيت الناتو باعتباره تحالفاً عسكرياً دفاعياً، وعلى الرغم من أن الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، إلا أن غزو روسياً لأوكرانيا سيدفع كل عضو في الناتو إلى زيادة إنفاقه الدفاعي، وقد بدأت بوادر ذلك واضحة، وتبدو الفرصة الآن سانحة للأوروبيين لتحسين قدراتهم الدفاعية ليس فقط لحماية أمنهم، ولكن أيضاً للقيام بدور مساعد أكبر لدعم استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع ما يمكن تسميته المعضلة الروسية الصينية التي يبدو أنها ستميز العلاقات الغربية مع العالم في السنوات وربما العقود القادمة.

4-كلفة الاستنزاف الباهضة قد تعجل بالحلول المجنونة:

بعد عام من الحرب سيكون التحدي الأكبر عام 2023 هو كلفة الاستنزاف في صالح من؟  هل سيقود ارتفاع كلفة الاستنزاف للطرفين الروسي والأوكراني، لكسب بوتين رهانه عندما تكون إطالة أمد الحرب سبباً لتصدع وتفكك موقف الغرب المتماسك باستنزاف قدراته المالية والعسكرية، ويتراجع دعم أوكرانيا؟! هذا فيما يستمر الرئيس الأوكراني بالمطالبة بالمزيد من الدعم وزيادته. إذ أنّ هناك خشية في السنة الثانية من الحرب من تنامي تحول دعم الغرب لأوكرانيا إلى عبء مالي، وإشغال الغرب عن قضايا مهمة متعلقة بالصراع مع روسيا حول الاتفاقيات النووية والعسكرية، ومواجهة الصين والإرهاب وقضايا الشرق الأوسط وغيرها. خاصة أنّ الجمهوريون بدأوا في مجلس النواب الأمريكي بعد استعادة الأغلبية، بالتحذير ووضع سقف للدعم المالي والعسكري المفتوح لأوكرانيا.

 كما بدأ الإعلام الأمريكي بتسليط الضوء على مقارنات بين مليارات الدولارات التي أنفقت من دافعي الضرائب لدعم أوكرانيا، وتزويدها بالسلاح عام 2022 بالانفاق على وكالات فيدرالية أمريكية. فقد خصصت إدارة بايدن مع الكونغرس منذ بدء الحرب 75 مليار دولار، قدمت منها 55 مليار دولار كحزم مساعدات، تشمل مساعدات مالية وإنسانية واقتصادية، أغلبها عسكرية لمواجهة القوات الروسية، وأبرزها أنظمة دفاعية وصاروخية ودفاعية، وصولاً إلى مطالبات بتزويد أوكرانيا بدبابات ومقاتلات، ومن ناحية أخرى بعد عام من الحرب وبعد الانفاق الأمريكي السخي، بدأنا نشهد تراجع الدعم والتضامن الشعبي الأمريكي بتقديم السلاح والعتاد والمساعدات الإنسانية لأوكرانيا، من 60 ٪ مؤيدين إلى 48٪ في نهاية عام 2022، مع نهاية العام الأول من الحرب، كما أن الحرب في أوكرانيا تسببت بارتفاع قياسي للتضخم هو الأعلى منذ 40 عاماً، وارتفعت أسعار السلع وعلى رأسها الوقود، الذي تجاوز في الصيف الماضي 5 دولارات لغالون البنزين وأزمة سلاسل التوريد.

المبحث الثالث: الحرب الروسية -الأوكرانية: المسارات المستقبلية

عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا فجر 24 فيفري 2022، كان تقدير الموقف السياسي الروسي يَعتبر (وفي أدنى الاحتمالات يرجح) أن خيار الحرب خيار خطير ومكلف ولكن لا مفر منه من أجل تحقيق المصالح الروسية وحماية عمقها الاستراتيجي، فضلاً عن إعادة التّموقع إقليمياً ودوليّاً من أجل احداث اختراق في النّظام الدولي الحالي يكون مدخلاً لبروز روسيا القوية. فبوتين كان يدرك منذ البداية أنّ الحرب ليست ضد دولة مجاورة بقدر ما هي حرب مشاريع إقليمية ودولية ستكون أوكرانيا هي مجرد ساحة للنزال فقط.

وكانت البداية أن شنّت القوات الروسية عمليات برية وجوية مُكثّفة في بداية الاجتياح بما مكنها من السيطرة على مساحات واسعة من مقاطعة خيرسون الاستراتيجية جنوبي أوكرانيا ووصل التهديد إلى العاصمة الأوكرانية “كييف”.

لكن سرعان ما كان رد الفعل الغربي سريعاً، حين أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون دعم كييف عسكرياً، إضافة إلى توقيع عقوبات اقتصادية سريعة على موسكو في محاولة لتعطيل الآلة العسكرية عن العمل. وهو ما أعطى زخماً جديداً للمعركة ودعم المقاتلين الأوكرانيين بمعدات وذخيرة مكنتهم مع معنوياتهم المرتفعة وصلابة مواقفهم في الميدان من صد الهجوم الروسي وعكس الهجوم مما مكنهم من استرجاع كثير من المناطق من روسيا وأعطاهم أملاً جديداً باسترجاع كامل أراضيهم بما فيها شبه جزيرة القرم المفتكة منذ 2014.

ويعتبر معهد توني بلير للتغيير العالمي، أن أوكرانيا قد اجتازت المرحلة الأولى من الحرب بنجاح أكبر مما كان يَعتقد كل من مؤيديها والمنتقدين لها، إذ فشلت الدولة الروسية في تحقيق طموحاتها العسكرية، وبدأ المد يتحول لصالح أوكرانيا خلال الأشهر القليلة الماضية.[31]

فالمعطيات الواقعية تقول أنّه لا يمكن لروسيا الآن أن تكسب الحرب وفقاً للشروط التي وضعت في الأصل لتحقيقها، وهي السيطرة الكاملة على أوكرانيا. فأوكرانيا مُجهزة بشكل جيد بما يكفي الآن لعدم خسارة الحرب، لكنها ليست مجهزة بشكل كاف حتى الآن للفوز في الحرب بشكل نهائي.

بعد عام من الحرب تبدو جبهات القتال في حالة هدنة غير معلنة فرضتها حالة الطقس (الشتاء) رغم المعارك الخفيفة من هنا وهناك فالجميع ينتظر في فصل الربيع لبداية الجولة جديدة من الصراع والحرب. وهو ما يؤكده مايكل كلارك، مدير معهد الدراسات الاستراتيجية في بريطانيا حين يقول: أنّ كل الذين سعوا إلى اجتياح دولة أخرى في سهوب أوراسيا الكبرى انتهى بهم الأمر إلى قضاء الشتاء فيها.

فقد كان على نابليون وهتلر وستالين التحرك المستمر بجيشوهم خلال الشتاء في السهوب، وما يحدث الآن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أن العملية التي يقودها في تراجع، وعليه فإن جيشه شرع في التخندق والانتظار لشن هجومه في فصل الربيع، ويحتاج الطرفان إلى الاستراحة، ولكن الأوكرانيين أفضل تجهيزاً وحماسة للمضي قدماً. ونتوقع منهم أن يستمروا في الضغط، في منطقة دونباس، على الأقل.

وليس هناك أي مؤشر إلا على المزيد من الحرب، حتى يعرف مصير هؤلاء المجندين الروس الجدد في ساحة المعركة.

والأمر الوحيد المتوقع هو هدنة قصيرة غير مستقرة،  فقد أكد بوتين، بما لا يجعل مجالاً للشك، أنه لن يتوقف. وأكدت أوكرانيا، من جهتها، أنها تقاتل من أجل بقائها.

فإذا علمنا جميع جهود المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا قد باءت بالفشل لوقف امتداد الصراع العسكري، إذ وضع كل من الطرفين اشتراطاته، وحددا سلسلة الأولويات، لكنها تعثرت فيها بعد ولم تصل حد التهدئة أو تجميد الصراع. فالرئيس الأوكراني يتحرك بسرعة بين العواصم الغربية لجمع المساعدات والمعونات والأسلحة الحديثة القادرة على قلب موازين القوى في ساحة العرب وتتجاوز منطق الدفاع السلبي بعد أن أكدت حقيقة الميدان أنه لا يمكن استرجاع ما سلب من الأراضي إلّا بضربات موجهة للجانب الروسي، ولذلك تتطلّع أوكرانيا لشن هجوم جديد في وقت قريب، فهي تستمر في تلقي التدريب والأسلحة المتطورة من الغرب، وإذا استلمت أوكرانيا أنظمة الباتريوت، فقد تكون تغييراً دفاعياً يسمح لها بإعادة تركيز بعض عملياتها من الدفاع إلى الهجوم.

وتقول باربارا زانتشيتا من دائرة الدراسات الحربية في كينغز كوليدج لندن: “كان فلاديمير بوتين يتوقع أن تتقبل أوكرانيا دون رد أفعال جارتها القوية، ودون تدخل ذي بال من الدول الأخرى”. وأدت هذه الحسابات الخاطئة إلى نزاع طويل، لا نهاية له في الأفق.

وسيكون الشتاء صعباً، إذ تسعى روسيا من خلال هجماتها على البنى التحتية إلى تحطيم معنويات الأوكرانيين وقدرتهم على التحمل، ولكن الأوكرانيين أثبتوا قدرة خارقة على التحمل، وسيثبتون على أرضهم، مهما طالت الحرب.

وتبقى احتمالات التفاوض ضئيلة، لأن التوصل إلى اتفاق سلام يتطلب تغييراً في مطالب جانب واحد، على الأقل. ولا دليل حتى الآن على حدوث هذا التغيير، أو على أنه سيحدث في وقت قريب.

فكيف ستنتهي الحرب إذن؟

يمكن لتكلفة الحرب المادية والبشرية أن تزعزع التزام النخبة السياسية الروسية، فالتغير سيحدث داخل روسي

فالحروب التي اندلعت بحسابات خاطئة، مثل حرب فيتنام للولايات المتحدة وحرب أفغانستان للاتحاد السوفييتي، انتهت كلها بهذه الطريقة. فقد تغيرت الظروف الداخلية في الدولة التي أخطأت في حساباتها، وهو ما جعل إنهاء الحرب إما خروجا «مشرفا”، أو المخرج الوحيد منها.

ولكن هذا سيحدث فقط إذا ثبت الغرب في مساندته لأوكرانيا، على الرغم من تزايد الضغط الداخلي بسبب ارتفاع تكاليف الحرب. ولسوء الحظ فإن المعركة السياسية والاقتصادية والعسكرية ستكون طويلة. ويتوقع أن تستمر إلى ما بعد نهاية 2023.

أمّا ديفيد جندلمان -الخبير العسكري[32] فيقول بدلاً من الحديث عن كيف ستنتهي الحرب، إليكم ما يريد كل طرف تحقيقه في المرحلة المقبلة، لم يدخل ساحة المعركة إلا نصف عدد القوات الروسية المجندة، وعددها 300 ألف جندي، ويمنح الباقي، فضلا عن القوات المنسحبة من خيرسون، لروسيا فرصة لشن حملة عسكرية.

وسيستمر احتلال لوهانسك ودونيتسك، ولكن من المستبعد أن تزحف القوات الروسية من الجنوب إلى بافلوغراد لمحاصرة القوات الأوكرانية في منطقة دونباس.

والمرجح هو الاستمرار في التكتيكات نفسها، وهي تقدم بطيء للقوات الأوكرانية، مثلما وقع في باخموت، وأفديفكا، وتكتيكات ممثالة محتملة في منطقة سفاتوف وكريمينا. وستستمر استراتيجية الاستنزاف باستهداف البنى التحتية الأوكرانية، والداخل الأوكراني طوال العام.

وتحرر عدد مهم من القوات الأوكرانية أيضاً بالانسحاب من خيرسون، والوجهة الاستراتيجية المهمة بالنسبة لهم هي الجنوب، إلى ميليتوبول وبيرديانسك، بهدف قطع الإمدادات الروسية إلى شبه جزيرة القرم،  وسيكون ذلك نصراً كبيرا للأوكرانيين، ولهذا يعمل الروس على تحصين ميليتوبول. والخيار الاستراتيجي الآخر بالنسبة لأوكرانيا هو في سفاتوفو. فالنجاح هناك يشكل خطراً على الخطوط الأمامية الروسية الشمالية كلها.

الحرب الروسية / الأوكرانية أمامها خيارين كبيرن وداخل كل خيار هناك سيناريوهات كثيرة ممكنة:

  • خيار مواصلة الحرب لعدم اقتناع طرفي النزاع بخلافها،
  • خيار البحث عن حل سلمي ينهي هذه الأزمة،

وهذه الورقة ترجح في الأمد القريب والمتوسط الخيار الأول وذلك لعدة اعتبارات نذكر منها:

-قناعة طرفي النزاع بأنّ الحل العسكري في الوضع الراهن هو الحل الأمثل لتحقيق الأهداف المرسومة ولغياب مؤمنين بجدوى خيار السلام.

-الطرف الروسي لازال يعتبر أن العملية الخاصة التي أطلقها صبيحة 24 فيفري 2022 لم تحقق كل أهدافها ولم تستكمل مراحلها وجولاتها ولذلك يتم الإعداد للجولة القادمة (هجوم الربيع).

– الطرف الأوكراني الذي أبدى صلابة وشجاعة في الميدان قد تحصل أخيرا على عديد الأسلحة المتطورة والنوعية وهو ما جعلته يؤمن بأنّه قادر على احداث المفاجأة في الأسابيع القادمة عبر ضربات مؤلمة للقوات الروسية يجعلها ترضخ لمطالبة وتمكنه من استرجاع أراضيه جميعا.

-قرار إيقاف الحرب ليس بيد طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا) بل إنّها أعقد بكثير من ذلك ومتشابكة بتشابك دوائر المصالح ولذلك تراهن الجبهة الأطلسية/ الغربية وخاصة الولايات المتحدة على استنزاف روسيا واضعافها وهذا لا يكون إلا بإطالة زمن الحرب.

-الولايات المتحدة الأمريكية هي المعنية الأولى بهذا الصراع والمعركة تدور بعيدا عن أرضها (عكس أوروبا) وهي حريصة على إطالة زمن قيادتها لهذا النظام العالمي لمدة أطول ولن يكون ذلك ممكنا إلّا بتصفية حساباتها مع روسيا المشاغبة واستنزافها وإضعافها وانهاكها حتى تتفرغ للتنين الصيني الصاعد ومنع تحالفه مع روسيا لخلق عالم جديد متعدد الأقطاب ولن يكون ذلك إلّا بإطالة هذه الحرب ولذلك يبدو أن الرئيس الأميركي بايدن، ليس في عجلة من أمره لتزويد أوكرانيا بالمعدات الكافية لإنهاء الحرب بشكل حاسم بانتصار سريع.[33]

يرى المحلل الروسي روزنبرغ أنه بعد شهور من القتال المرهق وتكبد الجانبين خسائر كارثية، لا توجد هناك أي إشارة على توقف الحرب، معتبرا أنه لن توجد أي حلول وسط تلوح في الأفق، ولا أغصان الزيتون التي ترمز للسلام، ولا حتى إشارة لفكرة “لنجد طريقة للخروج من هذه الفوضى”.[34].

وحول مساعي الوصول إلى حل من قبل أحد البلدين، تساءل المحلل السياسي وجيريمي بوين: “هل هناك أي علامات من أي نوع تدل على أن بوتين قد يجلس على طاولة المفاوضات؟ لا أعتقد ذلك، لأنه إما يعتقد أنه قادر على الفوز في هذه الحرب، أو أنه يجب عليه الاستمرار على أي حال.”[35]

بعد مرور عام على بدء “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا، هناك عدة احتمالات لمستقبل هذه الحرب، فهل سنشهد “صراعا طويل الأمد” أم تسوية قسرية أم “انهيارا روسيًّا يؤدي إلى هزيمة شاملة”؟ وهل ستساعد الدبابات الغربية الموعودة الجيش الأوكراني على شن “هجوم مضاد” أم تتحول الأمور إلى “حرب مواقع وتبادل دائم للقصف”؟.

وشكك كامي غراند، وهو باحث ورئيس قسم الدراسات الدفاعية في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية ونائب الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، في قدرات كلا الجانبين، ومن بين 3 احتمالات ممكنة من منظور عسكري، رجح الفرضية الأولى لديه وهي “الحرب الدائمة” التي لا يستطيع أي طرف الانتصار فيها، معتقدا أن كل طرف قد يظنها في مصلحته لاعتباراته الخاصة.[36]

وتقوم الفرضية الثانية -حسب الخبير-على أن الأوكرانيين الذين لا يذكرون خسائرهم قد يكونون مرهقين أكثر مما هو متصور، ومن ثم سينتهي الأمر بإجبارهم على قبول حل وسط، وإن كان هذا الاحتمال غير مقبول سياسيا وغير وارد، نظرا لتصميمهم ودعم الغرب الثابت لهم.

أما الفرضية الأخيرة فهي أن يستطيع الجيش الأوكراني الذي يتمتع بمعنويات أفضل وتدريب أفضل ومعدات ذات جودة أفضل أن يحدث اختراقا في نقطة ما من الجبهة، متسببا في انهيار روسي جديد يؤدي إلى هزيمة عامة تجبر موسكو على البحث عن مخرج من الحرب.

الخاتمة :

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهورياته تضاعفت أهمية أوكرانيا وأصبحت ساحة تقاطعت فيها الاستراتيجيات الدولية لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والجيوبوليتيك والتوازنات الدولية في عالم بعد الحرب الباردة.  وكان لإندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تداعيات خطيرة ومتعددة على البلدين المتحاربين وأوروبا وشعوب العالم. فإضافة لانعكاساتها السلبية على الأمن الغذائي والغذاء تفجرت أزمة لاجئين وأزمة طاقة وغذاء بل إن المنجز الإنساني أصبح مهدداً برمته خاصة إذا تدحرجت الأزمة لخيارات مجنونة واستعمل السلاح النووي القادر على إفناء البشرية.

وبعد أكثر من عام من الحرب تبدو الحصيلة ثقيلة في الأرواح فهي أثقل بكثير من حصيلة الاجتياح الروسي لأفغنستان الذي تجاوز عقداً من الزمن فضلاً عن الدمار الكبير في البنية التحتية لدولة أوكرانيا وتشريد الملايين من الأوكرانيين الفارين من نيران الحرب.


الهوامش:

[1] -بن قطيطة مراد، العمق الحيوي، مكانة أوكرانيا في المنظور الاستراتيجي الروسي، مجلة أفاق العلوم، العدد 11، مارس 2018، جامعة الجلفة، ص195.

[2] البوتينية: نسبة للرئيس الروسي فلادمير بوتين، من مواليد 1952، ضابط المحابرات السابق والرئيس الحالي ومنذ 2012 لروسيا الاتحادية يعتبر باني روسيا الجديدة

[3]الاستراتيجية الأوراسية: أو العقيدة الأوراسية: ظهرت أول الأمر كحركة سياسية بين المهاجرين الروس في عشرينيات القرن الماضي. وقامت على فكرة أن الحضارة الروسية ليست آسيوية ولا أوروبية، وفي العقود الأخيرة ظهرت (الأوراسية الجديدة) كمدرسة فكرية روسية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عُدت فيها روسيا أقرب ثقافيًّا إلى آسيا منها إلى العالم الغربي، ويعتبر ألكسندر دوغين من أبرز منظريها، للمزيد أنظر في:

-Shekhovtsov، Anton (2018) Russia and the Western Far Right : Tango Noir, Abingdon, Routledge, p. 43.

[4] – القايدي محمد، النزاع الروسي الأوكراني بين حلم التاريخ وفخ الاستراتيجيات الدولية، دار أكوان للنشر والتوزيع، القاهرة 2022، ص26.

[5] – David Teurtie, les enjeux de souveraineté entre la Russie et son étrange proche, thèse de doctorat en géographie physique، humaine، économique et régionale، université de Caen/basse Normandie, Aout 2006, p.396.

[6] – Halford J.Makinder, Democratic ideals and Reality, New York, Henry Olt and Company, 1921, 2d ed. p.150.

[7] – النطاق الصحي: يعرفه ألكسندر دوغين بأنه يتكون من أراضي دول وشعوب لتموضع بين تشكيلتين جيوليتيكين كبيرتين؛ يمكن لاتحادهما أو دخولهما المشترك في مدى كيم أن يشكل تنافسا خطيرا على الدولة المعنية.

[8]دوغين ألكسندر، أسس الجيوبولتيك: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، طرابلس: دار الكتاب الجديد للمتحدة، ط1، ص 433.

[9] الخميس عبد العزيز، أوكرانيا ومعركة السرد، مقال بموقع سكاي نيوز بالعربية بتاريخ 15 فيفري 2022، أنظر في:

https://www.skynewsarabia.com

[10]– مصطفي الطالب، الّلعنة الجيوبوليتيكية: عقدة الأزمة الأوكرانية والتدخل الروسي مركز رواق بغداد للسّياسات العامة، فيفري 2022، ص4،أنظر في:                   https://bit.ly/3J39XqS                                                                                                                                                  

[11] – Patrick Kingsley The Ukraine Crisis: What to Know About. Why Russia Attached, The New York Times, march 2022. https : //nyti.ms/3sZOnxP, Retrieved : 05/03/2022

[12]– نافع بشير، الأزمة الأوكرانية تفجر الصراع على أوروبا من جديد، مركز الجزيرة للدراسات، مارس 2014،أنظر في : https://studies.aljazeera.net/en/node/3662   

[13]– وولتر لاكوير(1921-2018) :صحفي ومؤرخ وعالم سياسة أمريكي درّس في عديد الجامعات الأمريكية.

[14]– خطاب بوتين يوم 18 مارس 2014 إثر عملية ضمّ جزيرة القرم .

[15]– فلاديسلاف سوركوف: رجل أعمال وسياسي روسي من أصول شيشانية ولد عام 1964 يشتهر بلقب راسبوتين بوتين، أو الكاردينال الرمادي، أو سيد مسرح الدمى، إنه المساعد الرئاسي الروسي فلاديسلاف سوركوف الذي يعتبر كبير منظري الكرملين والذي كتب مقالا أطلق فيه مصطلح “البوتينية”، حيث أشار سوركوف إلى أن “البوتينية” تمثل اختراقاً سياسياً عالمياً، وهي طريقة فعالة للحكم”.

[16] – نسبة إلى المفكر الروسي ألكسندر دوغين منظر الأوراسيا الجديدة.

[17] – بريجنسكي زبيغنيو، رقعة الشطرنج الكبرى، مركز الدراسات العسكرية، ط2، 1999.

[18]– بهاز حسين، التجربة الانتخابية والتحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية، دراسة حالة يوغسلافيا سابقا وأوكرانيا، مجلة دفاتر السياسة والقانون، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، أفريل 2011، ص132.

[19]– الشنواني أميرة، الأزمة الأوكرانية…والخطوط الحمراء الروسية، بوابة الأهرام، جانفي 2022، أنظر في:

https://gate.ahram.org.eg

[20]– سكاي نيوز عربية، ما هو طريق الحرير الجديد الصيني، أنظر في :

-http//: youtube/xxAILclOc6k

[21] – الشنواني أميرة، م س.

[22] -Logan Nick: “Who has economic interests in Ukraine? It’s not just Russia”, Global News 31 March 2014, https : //bit.ly/33XPkx1, Retrieved : 28/02/2022.

[23]– نعمت بيان،الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية، أنظر في :

[24] – العابد نايلة، تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على العلاقات الدولية، مجلة المعيار، مج 27، عدد01، سنة 2023.

[25]– عبد الحي وليد، ” انعكاسات الأزمة الأوكرانية على العالم العربي والقضية الفلسطينية “، ورقة علمية صادرة عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات،) أفريل 2022،) ص8.

– الحديدي علاء، تداعيات مباشرة: الحرب الروسية الأوكرانية على العلاقات بين القوى(22/05/2022) .   [26]

[27] – Anna Wieslander and Christopher Skaluba، Will Finland and Sweden join NATO now? Atlantic Council, 3 March 2022 :  https://bit.ly/3IKKlhq

[28] – Robert Kagan، What we can expect after Putin’s conquest of Ukraine، The Washington Post, 21 February 2022:  https://wapo.st/3iP9dtM

[29] – Joe Tidy، The three Russian Cyber-attacks the West Most Fears، BBC, 22 March 2022: https://bbc.in/3tOQEMC

[30] –  تنص المادة 5 من ميثاق منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أن الهجوم على أحد أعضاء الناتو هو هجوم على جميع أعضائه، وهي تمثل حجر الزاوية في الحلف. ورغم أهميتها فلم يتم تفعيلها من قبل إلا مرة واحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001. أنظر في :

-North Atlantic Treaty Organization, Collective Defence – Article 5, 24 March 2022: https://bit.ly/3qHHpMr

[31]  – توقّعات بشتاء صعب، ما مستقبل حرب أوكرانيا في 2023؟، أنظر في:

https://mustaqbalweb.com

[32] – روسيا وأوكرانيا: 5 سيناريوهات محتملة للحرب خلال 2023،أنظر في:

https://www.bbc.com/arabic/world

[33]  – توقّعات بشتاء صعب، م.س.

[34] – تحليل يستعرض مسارات الحرب الروسية الأوكرانية في 2023،أنظر في :

https://arabi21.com/story

[35] – روسيا وأوكرانيا: خمسة أسئلة رئيسية لتحليل ما قد يحدث هذا العام،أنظر في:

https://www.bbc.com/arabic/world

[36] – مستقبل الحرب في أوكرانيا. خبراء يستعرضون احتمالات كلها قاتمة، أنظر في:

https://www.aljazeera.net/politics

Admin

مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية: مؤسسة فكر وتخطيط استراتيجي تقوم على إعداد التقديرات وتقديم الاستشارات وإدارة المشروعات البحثية حول المتوسط وتفاعلاته الإقليمية والدولية. لا يتبنى المركز أية توجهات مؤسسية حول كل القضايا محل الاهتمام، والآراء المنشورة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى